أنتيفون
١
وفي فترة محاكمة ذلك الخطيب الذي قضى خير سنيِّ حياته مدافعًا بألسنة الآخرين، في قضايا لا يميل إليها ولا تهمه في قليل أو كثير، ذاع صيته فوق ما كان ينتظر؛ فقد ألقى خطبة يعتقد ثوكوديديس أنها أروع خطبة من نوعها سمعت حتى ذلك الوقت.
٢
في الوقت الذي كتب فيه أنتيفون خطبه، لم يكن النثر الآتيكي قد اتخذ بعد صورة نهائية. وعلى ذلك كان أول الخطباء بمثابة مكتشف للغة لم تعرقل مسعاه التقاليد؛ فكانت حريته هذه ميزة له، غير أنه من ناحية أخرى، دفع به عدم وجود نماذج كافية إلى الاعتماد على مصادره الخاصة.
أما عن أسلافه في الكتابة النثرية؛ فلم يكن للمؤرخين المبكرين قيمةً ما ككتَّاب. فقد كتب هيرودوت بلهجة أجنبية وبأسلوب عامي لا يتفق وأغراض الخطابة وحاجتها.
حقيقة إن جورجياس استخدم اللهجة الآتيكية، ولكنه حال دون نمو النثر بالإكثار من التعابير الشعرية البديعة، ونقلها كما هي. لذلك لم يكن أمام أنتيفون سوى النزر اليسير ليسترشد به، ومن الضروري أن نتوقَّع العثور في عمله على تلك العيوب التي تُعَد طبيعية في أي فن في طور التجربة.
ولم يبقَ من أعماله إلا القليل جدًّا، حتى تعذَّر علينا تتبُّع أي تطوُّر في أسلوبه، وغاية ما نستطيعه هو تخمين بعض المؤثرات التي ساعدت على تكوينه.
٣
أما فيما يتعلَّق بالمفردات، فأمامنا حقيقة سافرة، وهي أن أنتيفون كان يستعمل كلمات كثيرة، تعتبر فيما عدا وجودها في هذه الخطب، من الألفاظ النادرة أو الشعرية؛ أي كلمات لا يقبلها أسلوب نثريٌّ ناضج. ويعزى هذا، بعض الشيء إلى الظروف، فكما قدَّمنا لم يكن هناك أي قانون عام للأسلوب أو المفردات، كما أن أثر جورجياس كان اختلاط الأساليب الشعرية والنثرية بدلًا من التفرقة بينهما، وعلاوةً على ذلك فإن الاهتمام العظيم بالشعر في التعاليم السفسطائية في ذلك العصر، زاد الصعاب أمام أي كاتب خبير لا يميل إلى استعمال اللغة العامية.
وليس أنتيفون هو الوحيد بين كتَّاب النثر، الذي يستعمل الألفاظ الشعرية؛ فإن أفلاطون، أعظم أئمة النثر الآتيكي، كان في بعض الحالات أكثر شاعرية من الشعراء أنفسهم، مع أن عبقريته كانت كافية لاجتناب أي معنًى صارم أو غير ملائم. ومثل هذه الصرامة قد تكون ذات فائدة إيجابية للخطيب للحصول على أثر خاص؛ إذ إن أية كلمة غير عادية، على أسوأ الفروض، لا بد أن تجتذب الانتباه، وعلى خير الفروض، ترفع من قيمة جملة عادية.
وقد وضع ديونوسيوس، أنتيفون وأيسخولوس معًا كأستاذَين في الأسلوب الصارم، كما أن في بعض كلمات الخطيب وعباراته، فيما عدا معالجته لمواضيعه، سمةً من عظمة أيسخولوس.
ومن المميزات البارزة في لغة أنتيفون، كثرة استعماله التعقيد في كلٍّ من الأفعال والأسماء؛ فمثلًا كان يستخدم اسم فاعل أو اسم مفعول لجماد، أو صفة مع أداة تعريف، بدلًا من اسم، كما كان يستعمل المصدر مع فعل مساعد، بدلًا من الفعل.
وبوساطة المهارة التي أصبحت عادة عند الكتَّاب المتأخرين، استعمل لفظ «الجميل» كمرداف للاسم المعنوي «جمال»، وأن «تكونوا قضاة الحقيقة» بدلًا من «احكم على الحقيقة».
٤
يجب البحث عن أقوى أمثلة الأسلوب المرسل في شذرات المؤرخين الأوائل، ولكن هيرودوت يقرب منهم؛ بحيث إنه يمكننا أن نأخذ عنه الدرس المراد؛ فمثلًا:
فهذه الميزات، من تركيز للفكر ودقة في التعبير، ضرورية للمترافع في دور القضاء؛ ولذلك لم يكن غير طبيعي أن يطابق الأسلوب السجعي في أثينا نهضة الخطابة القضائية. وإن أنتيفون أول من ترافع بصفة خاصة على أسس علمية، وهو أيضًا أول الكتَّاب الذين وصلَنا عنهم شيء، وقد عُرف أنه تخصص في الاعتناء بالتعبير السجعي.
والواقع أن طريقة هيرودوت هي خير ما يصلح لسرد قضية مباشرة من وجهة نظر واحد فقط، في حين أن السجع يأتي من تلقاء نفسه في أغراض النقد، أو في مقارنة الحاضر بالمستقبل، أو في المناقشة عندما يأتي بالألفاظ المتضادة، لفظًا تلو الآخر، ثم نتخير منها ما يناسب المقام.
إن الغرض الأول للتاريخ، حسب رأي هيرودوت، هو سرد قصة، وكثيرًا ما يهدف هيرودوت إلى تحقيق هذه الفكرة. ويقوم ثوكوديديس في بعض أجزاء روايته بنفس الشيء، ولكنه بينما يميل إلى جعل كل حادثة غير مستقلة، وإنما مرتبطة بظروف الحوادث الأخرى كدوافعها وتأثيراتها ونتائجها؛ نراه غالبًا ما يستعمل السجع في روايته، وهو كذلك، بل وأكثر في خطَبه؛ فليس الغرض من خطبة حازمة هو سرد قصة بسيطة فحسب؛ بل وجعلها راقية تذكر الحقائق وتهدف إلى نقدها والاتعاظ بها.
والأمر الشديد الصلة بالرغبة في السجع، هو الميل إلى كثرة استعمال الطباق والمقابلة، وهذا مجاز فني يسهِّل إتمام السجع والمعنى، وهو ذو فائدة في أن الجزء الثاني من الطباق والمقابلة يمد القارئ أو السامع بما كان يتوقعه؛ فهو إذَن تطبيق عملي لقانون نفساني مألوف للمشاركة بوساطة استخدام آراء مضادة.
ويعبِّر عن هذه المقارنة في اللغة الإغريقية باستخدام الأدوات … وكثيرًا ما نراها في الكتَّاب الأثينيين لغير ما ضرورة. وسيذكر جميع قرَّاء ثوكوديديس ذلك المؤلف الشغوف بالمقارنة بين «القول والعمل». ولا مناص من كثرة استخدام هذا النوع من التضاد في البلاغة القضائية. ومن طبيعة الأشياء أن كل خطيب يصرُّ على أمانته الشخصية وعدم أمانة خصومه، ولمَّا كان صدق أقواله يتعارض وكذب منافسيه؛ فإنه يقارن بين الظواهر التي تبدو ضده غامضة «حالكة»، بينما تكون في صالحه واضحة، جليَّة شفافة ناصعة البياض بسبب طبيعة الصدق في سرد القضية.
ويغالي أنتيفون، كما يفعل خطباء ثوكوديديس، في استخدام هذا الطباق؛ لأنه من الصعب متابعة الجملة التي تحوي أفكارًا كثيرةً متضاربة؛ وبذا تفقد قوَّتها.
«أنا الذي لم أقترف إثمًا قط، بل عانيت الشدة والقسوة، وما زلت حتى الآن أعاني قسوة أشد، لا من أقوال خصمي بل من أعماله، ألقي بنفسي تحت رحمتكم أيها السادة، يا من تقتضون ممن لا يتمسَّكون بالتقوى، وممن يعاكسون الأتقياء، وأتوسَّل إليكم بهذه الحقائق السافرة، ألا تؤثر عليكم بلاغة خطبة خبيثة فتجعلكم تتصوَّرون الصدق كذبًا وبهتانًا؛ لأنه قد حسَّن مظاهر خداعه حتى طغى على الصدق، أما أنا فسأروي بياني دون خداع ولا مواربة، وإن كنت في نفس الوقت لا أستخدم المحسِّنات اللفظية، فيبدو بدون قوة.»
فهذا الطعن جزء من محاكمة، يوضح فيها المدعي تذمره من أن خصمه المتَّهم بالقتل، تجرَّأ على الدفاع عن نفسه في شيء من الإطناب.
وهذا مثال آخر من خطبة في قضية تسمُّم، ويكاد يكون هذا المثال مثيرًا للضِّحك:
«إن أولئك الذين كان يجب أن ينتقموا للموتى ويكونوا أعوانًا لي، قد سفكوا دماء الموتى ونافسوني.»
٥
يجدر بالخطباء جميعًا أن يراعوا نبرات صوتهم في أثناء الإلقاء إلى جانب التركيب النحوي والبياني للعبارات، ويوجِّه جميع الكتَّاب المدققين جلَّ اهتمامهم إلى توازن العبارات، ويذهب بعض الخطباء إلى ما وراء ذلك، فيعنون بالمقارنات والموازنات بتكرار الألفاظ ذات الأوزان المتشابهة، وقد يفضِّلون بعض أوزان معيَّنة. ومن الأمثال الجارية بين رجال البلاغة المتأخِّرين: «ولو أن النثر غير موزون مقفًّى كالشعر، إلا أنه يجب أن يكون ذا نغمة ترتاح إليها الأذن.»
ويزيد بعض المؤلفين على ذلك، بتغيير النظام العادي للكلمات منعًا لإطالة المد الذي يعوق نغمة الوزن في الحديث السريع. وهذا مألوف في صفحات ديموسثينيس. ويبدو أن أنتيفون، وحتى ثوكوديديس نفسه، قد فعلا بسليقتهما نفس ما فعله الكتَّاب المتأخرون.
حيث تلاحَظ المطابقة بين جملتَين متتاليتَين متماثلتَين في عدد المقاطع، وتظهر المطابقة في العبارة الثانية وإن لم تكن بدقة الأولى، ولكن التركيب هنا أكثر إتقانًا؛ حيث يوجد لدينا عبارتان كل منهما يتألف من جزء من متماثلَين في مجموعهما وفي أجزائهما.
وفي أية لغة قابلة للتصريف، لا بد من استخدام شيءٍ من اللباقة في تجنب السجع، عندما يكون هناك عامل قوي يضطرنا إلى استعماله، كما هو الحال في استعمال صفة تلائم اسمًا، أو وجود فعلَين يتفقان في نفس الزمن وحالة الفاعل، على أن أنتيفون لم يفضِّل تجنُّبه.
والمد شائع الحدوث في أنتيفون، ولا تمكن الإشارة إلى مثل معين يحاول فيه تجنبه بتغيير الترتيب العادي للألفاظ.
ويُسمح للخطيب بشيءٍ من المبالغة في القول؛ فمثلًا في أول تترالوج يطلب المدَّعى عليه الرحمة قائلًا: «إني رجل هرِم منفي طريد، وسأمد يدي للسؤال في أرض أجنبية لأكسب قوتي.»
كانت الخطابة الإغريقية مقيدة بتقاليد لم يستطع تحاشيها حتى أعظم الخطباء، ويمكن إلى حدٍّ ما أن يُعزى ذلك إلى الأثر السيئ لمدرس البلاغة، بَيدَ أنه يجب أن يقع أغلب اللوم على جمهور المستمعين الأثينيين.
ويُظهر أنتيفون بعض البراعة عند تقديم هذه العبارات؛ فإن في خطبته مقتل هيروديس، لمهارة ودهاء في بعض المواضيع؛ ففيها إطراء للمحلفين ولو أن التملق غير ظاهر بشكل واضح، وكان يصل إليه أحيانًا عن طريق الاقتراح أكثر من الإقرار؛ فمثلًا يقول المدَّعى عليه: «لم أرغب في تجنُّب المحاكمة بوساطة ديمقراطيتكم،» وكذلك: «من المؤكد أن ثقتي بكم عظيمة دون أي اعتبار للقسم الذي أقسمتموه.» وأحيانًا في عبارة اعتراضية: «لو سلَّمنا جدلًا بأنه لا يوجد عندي أي اعتراض على ترك هذه الأرض إلى ما شاء الله، لكنت هجرت هذه المحكمة.»
وفي هذه الأمثلة وغيرها يوجد أكثر من تلميح يستطيع إدراكه أي محلف ذكي.
وأهم المواضيع التي كان يستعملها أنتيفون هي الاستناد إلى القانون السماوي الذي به يلقى المخادع جزاءه؛ فإذا قُتل شخص ولم تنتقم له العدالة الإنسانية، سوف يجد أبطالًا مقدسين لا يناقشون القاتل حساب ما صنعت يداه فحسب، بل ويعاقبون المدينة التي تدنست بإيواء هذا القاتل. ويهتم أنتيفون بهذه العدالة المقدسة اهتمامًا زائدًا، حتى اعتقد بعض الكتَّاب أن لأنتيفون عقائد دينية راسخة لا يسعه إلا التعبير عنها بهذه الصورة. ويمكن أخذ هذه الفكرة عنه بشرط عدم التمسك بها؛ فنحن نعرف من مصادر خارجية أن أنتيفون لم يشارك الحكومة القائمة عواطفها، ولكن الخطباء الذين استخدموا خطَبه أظهروا إعجابًا بالديمقراطية.
٦
«يتضح من سلوك خصمي، أكثر مما تستطيع توضيحه أية نظرية، أن الحاجة تلجئ المرء أن يتكلم ويفعل عكس ما تقضي به طبيعته؛ فحتى الآن لم ينطق بغير خجل أو يتصرف بأس؛ بل دفعته نوائبه إلى استعمال لغة ما كنت، أنا الذي أعرفة حق المعرفة، أنتظر منه أن يتفوَّه بها.»
وما خطب التترالوجات (الرباعيات) إلا صيغ جوفاء وضعت للتمرين فقط، أو لتكون نماذج دراسية، وتتكون فقط من تصدير وحوار وخاتمة، ولا تحتوي على أيَّة وقائع حقيقية للمعالجة أو مقدمة أو قصة.
قد يكون موقف المدَّعى عليه ضعيفًا جدًّا في هذه الحالة، وأنه اضطر إلى الاستناد إلى الوقائع العامة، ولكن التترالوج الأول يحوي قضية مشابهة جديرة بالدرس، وفيها يؤكِّد المترافع في خطبته الثانية التي هي آخر خطبة في المحاكمة، ما قد نسي أن يذكره من قبل، وهو عدم تركه منزله مطلقًا في الليلة التي حدث فيها القتل.
ولا يلتمس أنتيفون من المحلفين عدم التحيُّز طالما هو يثق فيهم تمام الثقة، وهذا ضرب من الكلام العام ذي التأثير القوي (١–٧).
أما موقف خصومه فإنه مزرٍ بقدر ما هو على غير حق (٨-۹) ولا حرج في تسميته منتهكًا لحرمة الدفاع (۱٠–۱۲)؛ حتى إنهم يستحقون الاحتقار، في حين أن المدَّعى عليه، الذي يحترم القوانين الإلهية والبشرية بقدر محبته لوطنه، جدير بكل عطف (۱۳–١٥). ويمكن إدراك وحشية المدَّعين من عدم ثقتهم في عدالة قضيتهم وعدم استقامة المحلفين (١٦-۱۷)، وأخيرًا فقد كان لديهم الوقت الكافي لإعداد قضيتهم، بينما يُستدعَى المدَّعى عليه، ضحية دسائسهم، في لحظة، ليجيب على أخطر التُّهم (١٨-١٩).
(۱) كنت أودُّ أيها السادة أن تكون لي القدرة على الحديث والخبرة بطباع الدنيا على نطاق يتفق وما حلَّ بي من نوائب وكوارث؛ حيث إن خبرتي بالأمر الأخير أقلُّ مما كان يجب أن أُلمَّ به، بقدر افتقاري إلى الأمر الأول؛ فكانا دون ما أحتاج في هذا الموقف.
(۲) فعندما ابتُليتُ بتلك التهمة الباطلة التي أقضَّت مضجعي دون أيِّ مسوِّغ، لم يكن عندي من الخبرة ما يشدُّ أزري على درئها عن نفسي، ولا أجد منجاةً منها إلا بذكر بيان صريح للوقائع كما حدثَت تمامًا؛ حيث تعوقني عدم القدرة على الحديث.
(۳) ففي حالات عدة، اعتُبِر أناس عديمو القدرة على الكلام كاذبين؛ لأنهم لم يذكروا غير الحق، وكان ذلك سببًا في خرابهم لعدم قدرتهم على إظهار الحق. بينما اعتُبِر صادقين من كانت لهم القدرة على الحديث، رغم أكاذيبهم، ففازوا بالنجاة نتيجة إجادتهم الكذب. ولذلك لا مفرَّ للشخص الذي ليست له الخبرة الضرورية للتصرف في دُور القضاء، من أن يكون تحت رحمة خطاب الاتهام؛ فيظل غير آمن، معتمدًا على سرد صادق لوقائع القضية.
(٤) والآن يطلب أغلب المتخاصمين في مثل هذه القضايا، استماعًا عادلًا، مما يدلُّ على عدم ثقتهم بأنفسهم واعتقادهم في نزاهتكم. ولكني لن ألتمس هذا الطلب؛ لأن المعقول أن أشراف القوم يستمعون إلى المدَّعى عليه بصدر رحب حتى ولو لم يطلب ذلك منهم، كما سمعتُ أقوال المدَّعي دون أن يطلب سماعها.
(٥) وإني لأتوسل أولًا، إذا خانني لساني ونطق خطأً، أن تعطفوا عليَّ وتعتبرون خطئي نتيجةً لعدم الخبرة أكثر من الإجرام. ثانيًا، إذا ما أجدتُ التعبير في نقطةٍ ما، ألا تنسبوا هذا إلى مهارتي بل إلى قوة الحق لذاته؛ لأن العدالة تتطلَّب أن المذنب في أعماله لا يجب أن يحظى بالنجاة ببلاغة خطَبه. كذلك لا ينبغي أن يلحق الخراب رجلًا عادلًا في أعماله بسبب أخطاء خطبته؛ فإن الخطأ في الخطبة زلَّة من اللسان، أما الخطأ في الأعمال فزلَّة من القلب.
(٦) فمن يشعر بأن سلامته الشخصية معرَّضة للخطر، عرضةً لأن يخطئ أحيانًا، فلا يفكِّر في الدفاع الذي يدلي به فحسب، بل وفي نتائجه المحتملة أيضًا؛ إذ تتوقف عاقبة الأمور التي لم يفصل فيها بعد، على الحظ أكثر من ثاقب الرأي.
(۷) وخليق بمثل هذه الاعتبارات أن تُقلق بال من كانت حياته في خطر. والحقيقة أنني قد لاحظت أن من كانت لهم الخبرة التامة بالمحاكم، يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم إذا ما تعرَّضوا هم للخطر، بينما يكونون أكثر نجاحًا في القضايا التي لا تتضمن أي خطر لشخصهم؛ لذا ترون أيها السادة أن طلبي هذا عادل وشرعي، وإنه لَمن الإنصاف أن تمنحوني إياه، كما هو من الإنصاف لي أن أقنع به. فأتقدم إليكم الآن للإجابة بالتفصيل عما وُجِّه إليَّ من اتهامات.
(۸) وإني لألفت نظر المحكمة أولًا إلى عدم شرعية الطرق التي دفعت بوساطتها دفعًا إلى هذه المحاكمة، ليس لأني أريد اجتناب المحاكمة بوساطة هذه المحكمة الديمقراطية — فإني مستعد أن أكِل إليكم أمر الفصل في حياتي واثقًا، كما أنا دائمًا، أنني لست مُدانًا في هذه القضية، ولم أقترف أي إثم، وأن حكمكم سيكون عادلًا، حتى ولو كنتم لم ترتبطوا بأي قسم أو تتقيَّدوا بأي قانون — ولكن لكي يساعدكم تعسُّف أعدائي وتصرُّفهم غير الشرعي ضدي في هذه القضية، على ملاحظة مسلكهم ضدي في مناسبات أُخر.
(٩) وأُولى ملاحظاتي، هي أنه خلافًا لما سبق من الأمثلة في أثينا، فعلى الرغم من كوني أحاكَم على تهمة القتل؛ فقد اتُّهمت باستعمال «العنف الإجرامي»، أو «العنف في الإجرام»، مع أن أعدائي أنفسهم قد شهدوا الآن بأني لست من طبقة «المجرمين العنيفين»، ولا يسري عليَّ قانون مثل هذه الحالات؛ فهذا القانون يسري على السرقة بالإكراه وعلى قطَّاع الطرق. وقد بيَّنوا عدم إمكان اتهامي بمثل هذه التهمة.
وعلى هذا فإن مسلكهم في موضوع القبض عليَّ، قد جعل من الشرعي جدًّا أن تطلقوا سراحي.
(۱۰) وإنهم ليقولون: «حقيقةً إن القتل أو إزهاق الروح في حدِّ ذاته صورة فظيعة للعنف الإجرامي.» وأنا نفسي أعترف بأنه نوع من الإجرام الخطِر، كتدنيس الأشياء المقدَّسة وانتهاك حرمة المعابد وخيانة الوطن، بَيدَ أنه لديكم قوانين تتناول كلًّا من هذه التُّهم على حدة.
وليس هذا مراعاة لصالحي، بل لأغراضهم الشخصية، وقد فشلوا في ذلك أيضًا؛ إذ ينصُّ القانون على الإعدام.
(۱۱) زيادةً على ذلك، أظنُّ أنكم تعلمون جميعًا، أن سائر المحاكم التي تفصل في قضايا القتل، تعقد في الخلاء؛ حتى لا يُضطر المحلفون إلى الدخول مع من تلطَّخت أيديهم بالدماء في بناء واحد، وحتى لا يجد المدَّعي في قضية قتل نفسه تحت سقف واحد مع القاتل.
ولكنك أيها السيد، قد تصرفت مخالفًا كل سابقة في كسر هذا القانون، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل قد كان لزامًا عليك أن تقسم أغلظ الأيمان التي تجرُّ الخراب عليك وعلى عائلتك وبيتك إن فشلت في ظروف هذه القضية؛ أعني أنك لا تنسب إليَّ أي تهمة إلا ما يختص بالقتل واشتراكي فيه.
فلو لوحظ هذا الواجب، لما كان يمكن إثبات إدانتي، مهما عظُم جرمي، إلا من وجهة نظر واحدة، وهي جريمة القتل. ومن جهة أخرى، مهما كانت تنسب إليَّ أعمال مجيدة كثيرة؛ فإن هذه الأعمال المجيدة لا تستطيع إنقاذي.
(۱۲) لقد تخطيتم هذه الإجراءات العادية، وابتكرتم قوانين لصالحكم الشخصي، ولم تحلفوا أيَّ ق.م. أنتم يا من تتهمونني، كما أن شهودكم الذين شهِدوا ضدي، لم يقسموا أيَّ يمين، رغم أنه كان يجب أن يقسموا اليمين أولًا كما تقسمونها أنتم، وكان يجب أن يضعوا أيديهم على الذبيحة في أثناء الإدلاء بالشهادة ضدي.
وزيادةً على ذلك فإنكم تطلبون من المحكمة أن تستغني عن القسم وتثق في شهودكم، فتصدر حكمًا بالإدانة؛ رغم أنكم أنفسكم أبعدتم ثقة المحكمة فيكم بكسركم القوانين القائمة، وبزعمكم أن مسلككم هذا غير الشرعي، يجب أن تعتبره المحكمة سابقة وتفضِّله على القانون ذاته.
(۱۳) كذلك تقولون إنه لو أطلق سراحي لما بقيت هنا بل كنت أفرُّ وأختفي — كما لو كنتم قد أجبرتموني على دخول هذه المحكمة رغم إرادتي — وإني لأجيب على فرضكم أني ما كنت أهتمُّ بتوديع أثينا؛ فأقول إنه قد كان في إمكاني إمَّا عدم الخضوع لطلب الحضور إلى هذه المحكمة وأحاكم غيابيًّا، وإمَّا الرحيل بعد ردِّي على خطبة الاتهام الصريحة هذه؛ لأن هذا حقٌّ مباح للجميع. ولكنكم بسَنِّكم قوانين تتفق وهواكم تحاولون، في حالتي هذه فقط، إبطال العمل بهذا الحق المخوَّل لكل شخص إغريقي الجنسية.
(١٤) ومع ذلك، فإني أعتقد أنه يجب علينا جميعًا أن نوافق على أن القوانين التي تسيطر على مثل هذا المسلك هي خير القوانين في العالم، وأكثرها مطابقةً للقدسية الإلهية، وهي جديرة باحترامنا لسببَين:
إنها أقدم القوانين في هذه البلاد، وإنها غير قابلة للتغيير كالجرائم التي تتناولها؛ وهذا أقوى دليل على أن القانون قد أجيد تشريعه؛ لأن الزمن والخبرة يعلِّمان المرء كيف يميِّز ما لم يشرَّع جيدًّا.
لذلك، لستم في حاجة إلى أن تعرفوا من خطَب المدَّعي أن القوانين قد أجيد تشريعها أم لا، كما يعني هو. ولكنكم في حاجة إلى أن تعلموا بمساعدة القوانين؛ هل تنصُّ خطب المدَّعي على عمل شرعي أو العكس، كما أؤكد أنا.
(١٥) إذَن فالقوانين التي سُنَّت لتهمة القتل قد أُجيدَ سنُّها، طالما لا يجرؤ امرؤ على تغيير شيء منها، ولكنك أنت فقط قد تجاسرت على تشريع قوانين جديدة، ويا ليتها خير منها بل أسوأ. إنك تُبعد العدالة عن نصابها بكسرك القوانين في محاولتك جرَّ الخراب عليَّ. بَيدَ أن مسلكك غير الشرعي هذا، أصبح نفسه أقوى دليل في صالحي؛ لأنك تدري تمامًا أنه ما من شخص أقسم هذه الأيمان المغلَّظة، يستطيع أن يشهد ضدي.
(١٦) وإنك لم تستند على الوقائع استنادًا كافيًا حتى كان يمكن البتُّ في موضوعها في محاكمة واحدة؛ فقد احتفظتَ لنفسك بحق مناقشة المحكمة وإعادة عرض القضيَّة من جديد، مُظهِرًا عدم الثقة بقرار هذه المحكمة الحاضرة. ونتيجةً لذلك؛ فإذا فُرِض وأُفرِج عني، فلا تكون حالي خيرًا بهذا الإفراج ما دمتَ تستطيع القول بأنه قد أُخلِي سبيلي في تهمة العنف لإجرامي وليس في تهمة القتل، بينما لو حصلتَ على حكم بإدانتي لطلبتَ إعدامي على أساس أني وُجدتُ مدانًا في تهمة القتل.
وهل بعد قسوة حيلتكَ هذه ظلم؟ فإنك إن استطعت إقناع القاضي نلتَ بغيتك، وإن نجوتُ أنا من براثنك أجد الخطر نفسه ينتظرني عودًا على بدء.
(۱۷) كذلك كان سجني وحشية غير مشروعة؛ فقد قبلتُ إحضار ثلاث ضمانات كما يطلب القانون، ولكنهم لم يسمحوا لي بذلك. وليس في السجلَّات سابقةٌ واحدة حُبس فيها رجل أثيني قبل تقديم الضمانات.
ومع ذلك فإن الضباط الذين يُعهَد إليهم حراسة المجرمين، خاضعون لنفس هذا القانون؛ إذَن فهذا حق عام للجميع حُرمتُ منه أنا وحدي.
(۱۸) وطبعًا قد صادف هذا هوى المدَّعي عليَّ، أولًا لأكون على غير استعداد بقدر الإمكان؛ بسبب عدم إشرافي على شئوني بنفسي. وثانيًا، لأعاني سوء المعاملة الشخصية، وتبعًا لسوء المعاملة الشخصية هذه أجد أصدقائي أشد ميلًا إلى الشهادة ضدي زورًا مؤيِّدين المدَّعي، عن الشهادة صدقًا في صالحي. وبذا يُنزِلون بي وبعائلتي عارًا يلازمنا إلى ما شاء الله.
(۱۹) هكذا استُدعِيتُ للمحاكمة مغلول اليدين من عدة نواحٍ تتعلَّق بقوانينكم وبالعدالة، ولكني رغم هذه الأضرار سأحاول إثبات براءتي.
وإنه لَمن الصعب جدًّا أن أستطيع في لحظة قصيرة، تفنيد عدد من الأكاذيب الصارخة التي استغرق إعدادها وتحضيرها وقتًا طويلًا؛ لأنه من المحال أن يتسلَّح المرء من قبلُ ضد هجمات غير منتظرة.
وبعد هذه الديباجة الطويلة، يناقش المتكلم التهمة أخيرًا (۱٩ … إلخ)، وإلى حدٍّ ما يناقش الأدلة — وهذا يتوقف كليةً على الظروف — التي وجِّهت ضده.
وقد لوحظ أنه يهمل أمر إمكانه إثبات وجوده في مكان آخر وقت ارتكاب الجريمة، ولا يلقي اهتمامًا بالغًا إلى التأكد من استطاعته ذلك، وإنما يهتمُّ بإظهار أنه يستحيل أن يكون قاتلًا. والمناقشة الأخيرة ذات الأهمية العظمى تستند على عدم وجود العلاقات الإلهية التي قد تشير إلى جريرة المتكلم.
إنه، كالمدَّعى عليه في التترالوج الأول، لا يحاول اقتراح تفسيرات أخرى للجريمة؛ فيقول إن عدَّة جرائم سابقة قد خدعت التحريات، وإن واجبه يقضي عليه فقط بإنكار التهمة المنسوبة إليه.
۷
وتتألف كلٍّ من التترالوجات من أربع خطب قصيرة عن قضية خيالية واحدة، اثنتان منها للاتهام واثنتان للدفاع، ولهذه الخطب ميزة خاصة في أنها تقف حدًّا فاصلًا بين العلم النظري والعملي.
وتختلف هذه التترالوجات عن التمرينات التي وضعها رجال البلاغة الآخرون المبكِّرون، وعن خطَب الإمبراطورية الرومانية الحماسية، في أنها لا تتناول شخصيات تاريخية أو أسطورية في مواقف محتملة أو خيالية، بل تتناول قضايا على الرغم من كونها خرافية؛ فإنها من النوع الذي قد يقابل الخطيب في الحياة اليومية في أثينا. وبذلك تعطي هذه الخطب فكرة واضحة عن النقط التي يمكن لكل جانب أن يترافع عنها في أية قضية حقيقية في محاكمة فعلية؛ إذ يجب على المحامي المحترف أن يكون على استعداد للمرافعة عن كلا الجانبين في أية قضية. وهنا نجد أنتيفون يؤلف خطبًا تناسب الطرفين، وكما سبق أن ذكرنا تشمل الخطبة سردًا بسيطًا للتفاصيل، ولا تشمل رواية لأمور واقعية، ويمكن فقط جمع الظروف الواقعية المفروضة من مناقشات الخطبة، ونتيجة لذلك تكون عناصر الخطبة لكلٍّ من الاتهام والدفاع ظاهرة تمامًا.
وما يلي، موضوع مناقشة التترالوج الأول:
-
(أ)
يجادل المدَّعي في أن القتل لا يمكن أن يكون بوساطة لصوص؛ حيث لم يُسرَق من المقتول شيء، ولا في مشاجرة سكارى لاستحاله ذلك بمراعاة الزمان والمكان. إذَن فالجريمة كانت عن عمد مع سبق الإصرار لدافع الانتقام أو الخوف، وكان للمتَّهم كلا هذَين الدافعَين؛ فضلًا عن أن العبد قد تعرَّف عليه.
-
(ب)
ويجادل المدَّعى عليه في احتمال حدوث القتل بوساطة لصوص بُوغتوا قبل التمكُّن من السرقة، فركنوا إلى الفرار، أو بواسطة مجرمٍ ما، كان يخشى شهادة المقتول ضده، أو بِيد عدوٍّ آخر فعل فعلته وهو مطمئن، لعلمه أن الشبهة ستحوم حول المدَّعى عليه. وقد يكون العبد مخطئًا أو محرَّضًا. ولو ناقشنا القضية من باب الاحتمال؛ فإنه من المحتمل أكثر أن يكون المدَّعى عليه قد استخدم شخصًا لتنفيذ القتل لا يستطيع العبد التعرُّف عليه. وليس الخوف من خسارة قضية عادية بأخطر من فقدان الحياة في موقف كهذا.
-
(جـ)
يفنِّد المدَّعي في خطبته الثانية مناقشات (ب) نقطة نقطة بمهارة.
-
(د)
ينتقد المدَّعى عليه ويقضي على حجج (ﺟ)، ويذكر عرضًا أنه يستطيع إثبات وجوده في مكان آخر وقت ارتكاب الجريمة، رغم إظهاره عدم الاهتمام بهذا الأمر.
وباستثناء دليل العبد الذي أصبح الآن في عداد الأموات، تقوم القضية كلها على مناقشة الاحتمالات.
أما التترالوج الثالث فيفرض أن شابًّا اعتدى على رجل عجوز فضربه بوحشية، ثم مات العجوز متأثرًا بجراحه بعد ذلك ببضعة أيام، وفيه حاول المدَّعى عليه توجيه اللوم أولًا إلى الميت؛ لأنه كان البادئ بالضرب، وثانيًا إلى الجراح، ولمَّا وجد ضعف حجَّتيه هاتَين، ذهب إلى المنفى. وكانت خطبة الدفاع الثانية على لسان صديق للمتَّهم.
ولمَّا كانت الخطب الباقية قد وضعت لقضايا حقيقية؛ فيمكن تناولها حسب أهميتها:
حول مقتل هيروديس
خطبته عن الخوريوتيس Choreutes
والخطبة الباقية هي الثانية للدفاع، ويرجع تاريخها إلى حوالي عام ٤۱۲ق.م. وفيها يعلِّق الخطيب على خداع خصومه الذين رفضوا تفتيش العبيد، وقدَّموا كثيرًا من المواضيع التي لا تمتُّ إلى القضية بأيَّة صلة، ويقارن ذلك التمويه بمسلكه الصريح في القضية. أما الخاتمة فقد ضاعت.
خطبته عن قضية التسمُّم التي اتُّهمت فيها زوجة الأب
تُعتبر هذه القضية أحيانًا مجرد تمرين، وبمقارنتها بالتترالوجات نرى أنها تحوي رواية كاملة التفاصيل. وكانت صحتها موضع سؤال، وليس لدينا منها إلا مادة ضئيلة جدًّا لا تمكِّننا من الحكم عما إذا كانت من أسلوب أنتيفون؛ ولذا يستحيل الجزم بأن هذه الخطبة من تأليفه. وقد تكون عملًا مبكِّرًا. ومن المؤكَّد أنها أقل قوة من الخطبتين الحقيقيتين الأُخريين.
المحاورة
ومن الخطب المعروفة لنا بالاسم أو الكسر القصيرة، يحتمل على أية حال أن يكون بعضها من عمل أنتيفون السفسطائي الذي كثيرًا ما يُخلَط بينه وبين أنتيفون الخطيب.
ومن المتداول أيضًا باسم هذا الخطيب، مؤلَّف عن البلاغة، ومجموعة من المقدمات والخواتيم.