١
تبدأ فترة جديدة بثراسوماخوس الخالكيدوني
Thrasymachus of Chalcedon الذي اتخذ أثينا موطنًا
له. ويضعه أرسطو، بين تيسياس
Tisias أحد مؤسسي علم
البلاغة وثيودوروس
Theodorus البيزنطي
١ الذي عاصر لوسياس
Lysias. وتبعًا لتاريخ
فايدروس
Phaedrus لأفلاطون، كان ثراسوماخوس في أوج
عظمته عندما كان إيسوكراتيس في ريعان شبابه.
٢ وحيث إن التاريخ الدرامي للديالوج هو عام ٤١٠ق.م. فيمكننا افتراض أنه وُلد
فيما بين عام ٤٦٠، ٤٥٠ق.م. وإن لم يكن هناك دليل قاطع يؤيد ذلك.
ويبدو أنه نهج منهج سابقيه فوضع
τέχνη أي كُتيبًا في علم البلاغة، وألَّف أو صنَّف مجموعة من
المواضيع تصلح كنماذج لتلاميذه، وقد سمَّاها سويداس
Suidas άφοϱμαί ϱητοϱικαί «مصادر بلاغية»، وربما كانت تشمل
المقدمات والخاتمات التي ذكرها أثينيوس
Athenaeus.
٣ ويذكر أرسطو عملًا يسمَّى
Ẽλεοι (استدرار العطف)
٤ وكتابًا بالعنوان الغريب
ύπεϱβάλλοντες أتمَّ إنتاجه العلمي.
٥
وقد ألَّف كذلك بعض خطَب التظاهر التي يحتمل — كما يسمِّيها سويداس … — أن تكون من
النوع الميثولوجي الذي لدينا منه أمثلة في هيلين وبالاميديس لجورجياس. ويقول ديونوسيوس
إنه لم يترك خطبًا نيابية أو قضائية. ويتفق هذا التصريح والحقيقة المعروفة من أنه كان
أجنبيًّا؛ ولذا لم يستطع الظهور في المحاكم أو المجلس،
٦ ومن ناحية أخرى يذكر له سويداس خطبًا عامة، كما أن ديونوسيوس قد احتفظ
بكسرة مما يبدو أن تكون خطبة نيابية.
٧ ومن المحتمل أن تكون هذه قد أعِدَّت لتكون نموذجًا لتلاميذه ليس إلا، كما
أنها في الواقع ذات غموض يتفق وأي ظرف أو احتمال.
امتاز ثراسوماخوس بالأسلوب العاطفي، ويقول سقراط: «لا يفوق أحد هذا العملاق
الخالكيدوني في قضية «أشجان العجوز الفقير»، أو أي قضية أخرى مثيرة للعواطف؛ ففي مقدوره
أن يثير عواطف حشد كامل من الناس ثم يهدِّئها ثانية بقواه السحرية، كما أنه من الطراز
الأول في ابتكار أو دفع أي نوع من الوشاية والسعايات سواء وجدت دواعيها أم لم توجد.»
٨ ويظهر أن هذه المزايا كانت تفسيرًا طبيعيًّا لخُلقه المتهور والعاطفي
الممثَّل في «الجمهورية».
٩
وإن ضياع مؤلَّفاته لَخسارة عظمى يؤسف لها؛ حيث إنه مبتكر «الأسلوب المهدِّئ» — كما
يسمِّيه ديونوسيوس — الذي هو وسط بين صرامة أنتيفون وثوكوديديس، وبساطة لوسياس المتقنة؛
فقد جمع خير صفات النوعين، وبذا تقدَّم على إيسوكراتيس.
ولا نجد في الكسرة المحفوظة أي أثر لكلمات غريبة أو نادرة أو شعرية، أو مركبات بذيئة
كالتي كان يستعملها جورجياس، ولا أي عبارات كعبارات ثوكوديديس المعقَّدة، ولا طباقًا
متكلِّفًا، بل أسلوبًا سلسًا وتعبيرًا ظاهرًا. ويبدو أنه كان أول كاتب قام بدراسة معينة
للأثر الوزني، ويذكره أرسطو لاستعماله الدائم للبيون
Paeon، ويضعه في مصافِّ الكتَّاب الذين يهتمون
بالأسلوب أكثر من الأفكار.
١٠ ويستدل من الكسرة السابق ذكرها، على أنها كانت ديباجة خطبة سياسية.
«كنت أودُّ، يا رجال أثينا، أن يكون حظي بين تلك العصور والظروف القديمة، عندما كان
يسرُّ الشبان أن يلتزموا الصمت؛ حيث لم تضطرهم الظروف إلى الحديث أمام الشعب، كما أن
شيوخهم كانوا أكفاءً لإدارة سياسة الدولة.»
هذه ديباجة تقليدية. ويبدأ أنتيفون خطبته عن مقتل هيروديس
١١ بعبارة مماثلة تتضمن أسفًا
(εβουλόμην) وقد أتقن أيسخينيس
Aeschines نفس نظرية تفوُّق الحياة السياسية في عصر
سولون
Solon بطريقة تسُوقنا إلى الشك في أنه كان يحمل
في ذهنه مقدمة ثراسوماخوس.
١٢
ولم يتبقَّ لنا عبارة واحدة من أعمال ثيودوروس البيزنطي الذي عاصر لوسياس وعلم
البلاغة وألَّف فيها بعض الكتب،
١٣ وخصَّ نفسه ببحث الأقسام الصحيحة للخطبة، وأضاف فصلًا جديدًا إلى الرواية
العادية «رواية إضافية»
“έπιδιήγησις”، كما أضاف إلى الدليل «دليلًا إضافيًّا»
١٤ “έπιπίστωσις”، ومن أجل
دهائه هذا سخر أرسطو من «مؤلف الخطب الماكر» البيزنطي.
١٥
٢
وُلد أندوكيديس
Andocides حوالي عام ٤٤٠ق.م. من عائلة اشتهرت مدة
ثلاثة أجيال.
حارب جَده الأكبر، كما يقول لنا، ضد آل بسيستراتوس
Pisistratidae، وكان جده أندوكيديس أحد المفوضين
لعقد الصلح مع إسبرطة عام ٤٤٥ق.م. وبذا تسلَّم القيادة الحربية مرتين. ويذكر أرسطوفانيس
أن أباه ليوجوراس
Leogoras كان يشتغل بتربية نوع من
الطيور
pheasants.
١٦ أما الخطيب نفسه فكان عضوًا في
έταιϱεία أي النادي، وربما كان ناديًا اجتماعيًّا أكثر منه
سياسيًّا؛ لأن الاجتماع الوحيد الذي ذُكر لهذا النادي كان للمعايدة فقط.
وفي ليلة إبحار الحملة الصقلية عام ٤١٥ق.م. روِّعت أثينا وتولَّاها الذعر والفزع
بسبب
عمل دنِس مشهور، فقد شُوِّهت في ليلة واحدة جميع تماثيل هرميس
Hermes التي كانت قائمة في كل مكان بالمدينة ما عدا
واحدًا. فتطيَّر الشعب الذي كان يعتقد في الخرافات، ودبَّ في أفراده إحساس بأن الدولة
بأسرها ستلقى جزاء هذا الجرم الذي اقترفه بعضهم، واعتبروه نذيرًا بسوء نتيجة الحملة
السيراكوزية، ومن كان منهم أكثر نباهة وأرجح عقلًا عدَّه دليلًا على ثورة وشيكة الوقوع
ومحاولة لقلب الديمقراطية. ومما زاد في قلق الشعب وبلبلة أفكاره، سريان إشاعات بحدوث
ظواهر غريبة في بعض المنازل الخاصة تمسُّ كرامة الأسرار الإليوسينية
Eleusinian mysteries.
وخليق بمثل هذه الأعمال الدالَّة على عدم التقوى، أن تجرَّ على أثينا غضب الآلهة
الذين كانوا حُماتها حتى ذلك الوقت.
ولسوف يذكر كيف اتُّهم ألكيبياديس Alcibiades أحد
قوَّاد الحملة، بالاشتراك في المؤامرة، وما نتج عن هذا الاتهام من استدعائه من صقلية
وإبعاده عن مسقط رأسه؛ ففشل مشروع الغزو العظيم أيَّما فشل، وأدَّى فقدُ خيرة الجيوش
والأساطيل إلى سقوط أثينا نفسها.
اتُّهم أندوكيديس بالاشتراك في كلٍّ من انتهاك حرمة الأسرار، وتشويه تماثيل هرميس،
فأفلح في إثبات براءته من التهمة الأولى، ولكنه اعترف أن لديه معلومات عن موضوع تشويه
التماثيل.
اتَّهم رجل يُدعى تيوكروس Teucrus ثمانية عشر شخصًا
بتحطيم التماثيل؛ فأعدِم بعضهم ونُفي البعض الآخر، وتضمَّنت القائمة بعض أعضاء النادي
الذي كان ينتمي إليه أندوكيديس. وقال مبلغ آخر يدعى ديوكليديس
Dioclides إنه قد ثبت اشتراك ما يربو على ثلاثمائة
رجل في تلك الجريمة، وذكر اسم اثنين وأربعين منهم، من بينهم أندوكيديس واثنا عشر من
أقرب أقربائه. وكانت تجتاح أثينا بأسرها في ذلك الوقت موجة ذعر وهلع، وكان جلُّ همِّ
الشعب موجَّهًا إلى معرفة الجناة والانتقام منهم؛ فسجن من سمَّاهم المبلغ في الحال
وأصبحوا في مركز حرج. ولكي ينقذ أندوكيديس أباه وغيره من الأبرياء، صمَّم في النهاية
على الاعتراف بما يعلمه بعد أن حصل على وعد بعدم معاقبته، فأدلى بمعلوماته، بَيدَ أنه
وفقًا لقرار تالٍ، عوقب بالحرمان من دخول السوق والمعابد. ولمَّا حيل بذلك بينه وبين
الأعمال العامة، عزم على الرحيل إلى الخارج.
ويذكر أندوكيديس في خطبته «عن العودة de Reditu»،
التي ألقاها عام ٤١٠ق.م. بعد الثورة بخمس سنوات، أنه اشترك شخصيًّا في تلك الجريمة،
ويطلب العفو عن «طيش شبابه» (فصل ٧).
وتتضمَّن أقوال ثوكوديديس
١٧ أنه اتَّهم نفسه مع آخرين. وعلى أيَّة حال فليست لغة خطبته «عن العودة»
واضحةً تمامًا، وليس من الضروري عدم مطابقتها للبيان الذي أدلى به بعد اثني عشر عامًا
في خطبته «عن الأسرار»
de Mysteriis.
يؤكَّد أندوكيديس في تلك الخطبة أنه كان على علم بالخطة وعارض في تنفيذها، ولكنها
نُفذت دون علمه. ويبرهن على صدق أقواله بأن تمثال هرميس القائم أمام منزله، هو التمثال
الوحيد الذي لم يمسَّه سوء.
«إذَن فقد أخبرتُ المجلس أنني كنت أعرف الجناة وأدليت بالحقائق، وهي أن يوفيليتوس
Euphiletus اقترح الخطة بينما كنا نحتسي الخمر، وقد
عارضته فيها مانعًا تنفيذها في ذلك الوقت، غير أنه بعد مدة بينما كنت راكبًا مهري في
كونوسارجيس Cynosarges، سقطت من فوقه فانكسرت عظمة
ترقوتي وجُرح رأسي؛ فحُملت إلى منزلي على نقَّالة. فلما علم يوفيليتوس خبري، قال
للآخرين إنني قد اقتنعت بفكرة الانضمام إليهم موافقًا على الاشتراك في تشويه تماثيل
هرميس ومحراب فورباس Phorbas. وعلى ذلك خدعهم بهذا
البيان؛ وهذا هو السبب في عدم تشويه التمثال الذي ترونه أمام منزلي؛ ذلك التمثال الذي
شيَّدته قبيلة إيجيد Aegeid، وهو التمثال الوحيد الذي
سلِم من التشويه؛ لأنه كان مفروضًا أن أقوم أنا بتشويهه كما أخبرهم يوفيليتوس. فلما علم
المتآمرون بذلك استشاطوا غضبًا، وظنوا أنني علمت بتنفيذ الجريمة ولم أشترك فيها، فجاءني
ميليتوس ويوفيليتوس في اليوم التالي وقالا لي:
«لقد قمنا بالمهمة يا أندوكيديديس وانتهى كل شيء؛ فإذا لزمت الصمت وجدتنا أصدقاء
أوفياء كما كنَّا، وإلا فسوف يكلِّفك عداؤنا أكثر مما ترجوه من خيانتنا.»
فأجبتهم أنه بالنظر إلى فداحة ما حدث، ظهر أن يوفيليتوس وغد دنيء، وأن عليهم أن يخشوا
حقيقة جرمهم أكثر من خشيتهم معرفتي له.»
١٨
هذه قصة تستحق الإعجاب على أقل تقدير، والنقطة الوحيدة التي تحوطها الريبة هي اعتراف
الخطيب بأن جميع من اتهمهم ما عدا أربعة، قد سمَّاهم تيوكروس قبله وعُوقبوا؛ البعض
بالإعدام والبعض الآخر بالنفي. وعلى هذا فلم يضرَّهم اعتراف الخطيب في قليل أو كثير.
أما الأربعة الآخرون الذين ذكرهم فلم يُقبَض عليهم وإن كان معروفًا اشتراكهم مع
الآخرين؛ فقد كان أمامهم متَّسع من الوقت فتمكَّنوا من الهروب إلى المنفى (الفقرة
٦٨).
ولنا أن نشكَّ في احتمال إنذار أندوكيديس لهؤلاء الأربعة في الوقت المناسب، وبذا يكون
قد اضطر أربعة، ربما كانوا مذنبين، إلى الفرار للمنفى، في نظير إنقاذ حياته وحياة والده
وشقيق زوجته وباقي الاثنين والأربعين سجينًا.
عندئذٍ عدَّل المُبلغ ديوكليديس أقواله قائلًا إن ألكيبياديس وأميانتوس
Amiantus اضطراه إلى الإدلاء بمعلومات كاذبة، وعلى
ذلك حُوكم هذا المُبلغ الكاذب وأُعدِم (الفقرة ٦٦).
ولما حُرم أندوكيديس من امتيازاته وحقوقه المدنية، وكان بعيدًا عن أثينا عدة سنوات؛
فقد اشتغل بالتجارة في عدة أمصار وكوَّن ثروة طائلة؛ بعضها بطرق غير مشروعة. وتعامل مع
صقلية وإيطاليا والبلوبونيس
Peloponnese وتساليا
Thessaly وإيونيا
Ioinia وهيليسبونت
Hellespont، وأخيرًا مع قبرص؛ حيث منحه إيفاجوراس
Evagoras، ملك سالاميس، ضيعة قيِّمة.
١٩
وقد قام في سنة ٤١١ق.م. بمحاولة لاستعادة حقوقه، فزوَّد الأسطول الأثيني المرابط
في
ساموس Samos بالمجاديف، وعاد إلى أثينا ليدافع عن
قضيته، ولسوء الحظ كان الأربعمائة قد اغتصبوا الحكومة في نفس ذلك الوقت ورفضوا دفاعه؛
لأنه كان قد ساعد أعداءهم. ثم قام بمحاولة أخرى بعد ذلك حوالي عام ٤١٠ أو ٤٠٨ق.م. وألقى
خطبته «عن العودة»، غير أنه فشل عودًا على بدء.
لم يسترجع أندوكيديس جميع حقوقه كمواطن إلا بعد أن منحه ثراسوبولوس
Thrasybulus عفوًا شاملًا كاملًا سنة ٤٠٣ق.م. ومن
ثم قام بدور فعَّال في الحياة العامة كديمقراطي غيور، يخطب في المجالس ويؤدِّي الطقوس
الدينية. إلا أن بذور الضغائن القديمة بدأت تدبُّ فيها الحياة من جديد، فاتُّهم بعدم
التقوى لسببين: الأول اشتراكه في الأسرار الإليوسينية في وقت حرم عليه شرعًا الاشتراك
فيها. والثاني أنه وضع غصن المتوسل فوق المذبح الموجود في إليوسيس
Eleusis — في موسم الأسرار — وكان يُعَد مثل هذا
العمل إلحادًا.
وقد كان الإعدام عقوبة كلٍّ من هاتَين الخطيئتَين، ولكن خطبته «عن الأسرار» جاءت
ردًّا مقنعًا ناجحًا في درء كلتا التهمتين.
أوفد أندوكيديس عام ۳۹۱ق.م. لعقد الصلح مع إسبرطة، وألقى خطبته «عن السلم
de Pace» ولكن الصلح لم يعقد. وكان هذا آخر ذكر
لهذا الخطيب المغامر، ولو أن بلوتارخوس الكاذب يؤكِّد ذهابه ثانيةً إلى المنفى. فإن كان
هذا صحيحًا؛ فإننا نعلم أنه كانت لديه أماكن مريحة للإقامة في قبرص وغيرها.
۳
تناول النقَّاد القدامى شخصية أندوكيديس بالنقد اللاذع، وبالرغم من أن النقد
الإسكندري قد وضعه في قائمة الخطباء النموذجيين العشرة؛ فإن ديونوسيوس لم يذكره إلا نادرًا.
٢٠ أما كونتليانوس
Quintilianus فيستخف بعمله،
٢١ ويرى هيروديس أتيكوس
Herodes atticus في
تواضع أنه كان يفوق شخصيًّا أندوكيديس
٢٢ على الأقل. ويلخِّص هيرموجينيس
Hermogenes
عيوبه كخطيب فيما يأتي:
«إنه يهدف إلى أن يكون رجلًا سياسيًّا فلا ينجح ألبتة، ويفتقر إلى النطق الفصيح ووضوح
الاستعارات، كما يحتاج إلى النظام في ربط عباراته وصوغها؛ إذ يفقد جلاء المعنى باستعمال
الجمل الاعتراضية التي تزيد الجمل غموضًا دون داعٍ. وكذلك نجده لا يجيد ختم خطبه وترتيب
عناصرها، علاوة على ضعف قوتها وحيويتها. وكانت مهارته في الحوار المفصَّل قليلةً جدًّا،
ومعدومة تمامًا في أي نوع آخر.»
٢٣
وإني لأتردد قليلًا في تقديم هذه الترجمة الحرفية لتلك الفترة الصعبة، ويبدو من
معناها أن أندوكيديس رغم استعماله للمحسِّنات البلاغية من طباق ومقابلة وتورية، لم يصل
بها إلى حد الإتقان، ولم يجعلها واضحة جليَّة، كما نجد عباراته مشوَّهة أحيانًا؛ فنعثر
على جملة اعتراضية أشد قوة من جملة رئيسية. كذلك نجد عباراته غير مصقولة وغير مقنعة.
وكل ما يستحق عليه الثناء هو طريقته μέϑοδος؛ أي طريقة سرده لوقائع القضية. وقد فكَّر هيرموجينيس في
الطريقة التي كان يرتِّب بها هذا الخطيب مادته، من تناوله جزءًا من الرواية ويعلِّق
عليه أولًا بأول، بدلًا من تناول الرواية كلها ثم مناقشتها. ويقرظ الخطباء المتأخرون،
وهم أكثر خبرة، هذه الطريقة، وربما كان يقصد هيرموجينيس بالمهارة العامة؛ المهارة في
استعمال السفسطة العادية لرجال البلاغة.
أما بلوتارخوس الكاذب فأقل قسوة على هذا الخطيب؛ إذ يقول عنه:
«إنه يسرد رواياته بعبارات بسيطة خالية من التكلُّف، مراعيًا الصدق وعدم استعمال
الاستعارات.»
٢٤
ومن المسلَّم به أن كثيرًا من النقد الذي وُجِّه إلى أندوكيديس قد أصاب هدفه، ولكن
من
المشكوك فيه هل أمكن لهذا النقد أن يتغلغل فيصيب سمعته بلطمة شديدة؟ لقد كان قدامى
النقَّاد أكاديميين؛ فلم يهتموا بالتفاصيل العملية، وكان جلُّ اهتمامهم منصبًّا على ما
تحدثه الخطابة من أثر في نفسية القارئ، أكثر من تأثيرها على السامعين. كما كانوا يهتمون
كثيرًا بالناحية الفنية؛ فعندما كانوا يفحصون إحدى خطبه كانوا يراعون الدقة في تتبُّع
استعمال هذا الخطيب لقواعد البلاغة الفنية.
بَيدَ أن هذا النوع من التقدير قد يسوق إلى عدم الإنصاف؛ إذ ليس على الناقد أن يتناول
فقط مستوًى فنيًّا قائمًا على العرف، وربما لم يلاحظ معاصروه هذا المستوى، ولكن حتى مع
التسليم بأنه يجب عادة مراعاة بعض قواعد البلاغة، ينبغي أن نفهم أن ظروفًا خاصةً تعطي
للخطيب عذرًا في أن يحيد عنها. فالبلاغة، كما يقول أفلاطون، فن عملي هدفه استنهاض
الهمم، ورغم أن أغلب من يزاولها يُحسن صنعًا باتباع قواعدها، إلا أن بعضهم يستطيع
النجاح دون اتباعها.
ولا يمكن مقارنة أندوكيديس بسابقه أنتيفون من حيث مميزاته الرئيسية، من جمال الأسلوب
وتوازن العبارات والطباقات اللفظية، غير أن أندوكيديس يسيطر على أسلوب واضح معتدل، وله
موهبة سرد الحوادث في قصة مسترسلة. وزيادة على ذلك فهناك ميزة واضحة لأندوكيديس، وهي
أنه إذا ما قرأنا تترالوجات أنتيفون ملاحظين روعتها في إظهار سيطرة الكاتب على
الاصطلاحات الفنية لمهنته، ثم تناولنا إحدى الخطب الحقيقية، كهيروديس مثلًا، نشعر في
الحال بعظمة مراعاة الصالح الإنساني؛ فإن خطبة تتناول أشخاصًا حقيقيين لجديرة بالتفوق
على التمرينات الخيالية. بَيدَ أننا مع ذلك لا نفتأ نشعر بعدم ظهور العنصر الشخصي كما
يجب، وذلك لسبب بسيط؛ وهو أن الخطيب لا يدلي بأفكاره الشخصية في مناسبات تتفق كثيرًا
ومصلحته؛ بل يربط عبارات لو قرأها أي شاب ميتيليني غامض، لتعثر فيها دون أن يدرك على
الأقل مهارة صوغها.
ولكن أندوكيديس رجل حقيقي حي، يتكلم بشخصه مدافعًا عن نفسه، ليدرأ عنه تهمة غاية في
الخطورة. لقد كان في خطر جسيم أوجب عليه أن يبذل قصارى جهده، ويرتفع إلى أقصى ما يمكنه
في الدفاع، وإلا دفع الثمن غاليًا، وربما كان هذا الثمن حياته، وهذه مناسبة لا يمكن أن
تُتاح للخطيب مناسبة أعظم منها؛ حيث يجعل الأسلوب في المرتبة الثانية، ويوجِّه اهتمامه
أولًا إلى المادة ويوليها أهمية أكثر من الأسلوب؛ إذ لا اعتبار للطرق ما لم يمكن الوصول
إلى الهدف. فلا تستطيع التورية أن تخفف من جرعة كأس الحمام، وقوانين أثينا أقوى من
قواعد الخطابة.
كان من طبيعة أنتيفون الاهتمام بتفاصيل الأسلوب، كما أن أسلوبه كان أرخى اللهجة.
أما
أندوكيديس فلم يكن خطيبًا محنَّكًا إلا بقدر الخطابة التي تدرَّب عليها كل أثيني في
صغره، ولم يكن محاميًا محترفًا أو خطيبًا دائم الظهور أمام الجمهور؛ إذ قضى مدة طويلة
في منفاه فلم تسنح له فرص كثيرة للظهور أمام المحاكم أو المجلس. ولما كان طلق اللسان،
مسيطرًا تمامًا على اللغة العامية؛ فقد وجد فيها سبلًا كافية للتعبير، ويبدو في أغلب
القضايا أنه كان يتمتَّع بسليقته، بما كان يصل إليه لوسياس عن طريق الفن، فكانت طريقته
في التعبير واضحة جلية، تنمُّ مباشرة عن أفكاره وآرائه بلغة سهلة بسيطة ليس فيها ما هو
غير مألوف أو ثقيل على السمع. إلا أن في أسلوبه أحيانًا عدم تجانس؛ فتأتي مناسبات
يستعمل فيها عن غير قصد ألفاظًا وعبارات غريبة بعض الشيء على الكلام الدارج. وإنا لنشعر
أن هذا حدث دون تخيُّل؛ لأنه في أثناء سرده الطليق السريع كان يستعمل الألفاظ التي تبدو
بالطبع له لائقة.
٢٥
وفي هذا يختلف عن لوسياس الذي تناول الحديث العام وصاغه في أسلوب أدبي، أكسبه
بالدراسة بساطة وصفاءً خالصَين لا يصل إليهما غير الخبير الدقيق.
وبالجملة فإن أثر أندوكيديس يبلغ أشده عندما يكون في غاية البساطة، وعندما يستعمل
الكلمات العامة غير لاجئ إلى التكلُّف البلاغي الذي لا يأتيه طبيعيًّا. وتؤكِّد الرواية
التالية وجهة نظري:
«عندما أُخِذنا جميعًا إلى الأَسر، وكان الوقت ليلًا وأبواب السجن موصدة، وجاءت أم
أحد الرجال وأخت آخر، وزوجة ثالث وأولاده، وعلا نحيبهم باكين حالنا التعسة، خاطبني
خارميديس Charmides، وهو خالي ومن نفس عمري وكان قد درج
في بيتنا منذ نعومة أظفاره، قائلًا:
إنك ترى يا أندوكيديس، حرج موقفنا، ورغم أنني لم أرغب في التفوُّه بشيء من قبل، ولم
يسبق لي أن سبَّبت لك أية مضايقة، بَيدَ أنني أراني مضطرًّا إلى ذلك الآن من جراء تلك
المصيبة التي حلَّت بنا.
لقد أعدم بعض أصدقائك وشركائك الآخرين، سوانا، الذين هم من ذوي قرباك، بسبب التُّهم
التي نساق للموت من أجلها الآن، بينما اعترف آخرون بجريمتهم بفرارهم من البلاد.
فإذا كنت تعلم شيئًا عن هذا الأمر، فقل الصدق لتُنجي نفسك ووالدك الذي تعزُّه، وزوج
أختك الوحيدة، ثم باقي أفراد عائلتك وأصدقائك، باستثنائي منهم؛ حيث إنني لم أسبِّب لك
أيَّة مضايقة طوال حياتي، بل كنت مخلصًا ومحبًّا لك، وإني لعلى أتم استعداد لأبذل ما
وسعني لمساعدتك.»
٢٦
وتعرُّضه لديوكليديس Dioclides بسيط ومؤثِّر؛ فيكرِّر
أقوال المبلغ، ويعلِّق عليها ببضع كلمات فيظهرها في صورة مضحكة:
«لقد تَشجع ديوكليديس بمحنة بلده، فأدلى بمعلومات إلى المجلس، مؤكِّدًا أنه يعلم
شخصية من شوَّهوا تماثيل هرميس، وأنهم يبلغون الثلاثمائة، ثم انتقل يروي كيف علم بالأمر
فقال:
إن عبدًا له كان يشتغل في لاوريون Laureion، وبذا صار
هو مضطرًّا إلى الذهاب إلى هناك ليحصل على أتعاب العبد؛ فاستيقظ من نومه مبكرًا؛ إذ قد
أخطأ في معرفة الوقت، وبدأ يسير في طريقه، وكان القمر بدرًا يسطع بنوره، وما إن مرَّ
من
بوابة ديونوسوس حتى رأي عددًا من الرجال قادمين من جهة الأوديوم
Odeum يتجهون نحو الجوقة
Orchestra؛ فذعر منهم واختبأ جالسًا بين العمود
والقاعدة التي يقوم عليها تمثال القائد البرنزي.
وقدَّر عدد من شاهدهم من الرجال بنحو ثلاثمائة؛ وقد وقفوا في جماعات كلٍّ منها خمسة
أو عشرة أو عشرون في بعض الحالات؛ فاستطاع التعرُّف على أغلبهم إذ كان القمر يسطع بضوئه
على وجوههم.
لقد أسرع بالإدلاء بهذا البيان الوحشي ليكون في طوقه أن يتهم من يشاء من مواطنيه،
بأنه كان من هؤلاء القوم.
ثم قال إنه بعد أن شاهد كل ذلك ذهب إلى لاوريون، ثم سمع في اليوم التالي عن تشويه
تماثيل هرميس، فعرف لتوِّه أنه عمل أولئك الرجال الذين رآهم.»
٢٧
وتوضح بداية الخطبة استخدامًا معقولًا لنوع الأقوال العامة التي جرت العادة أن
تتطلَّبها مقدمة النقاش؛ من حقد ومهارة أعداء الخطيب، والارتباك الناجم من عديد
اتهاماتهم مما يجعل من الصعب معرفة من أين يبدأ.
«تعرفون كلكم أيها السادة، بأيِّ تعنُّت قد تكاتف أعدائي على أذاي منذ وطئت قدماي
أرض
أثينا، بكل طريقة مشروعة وغير مشروعة، ولست محتاجًا إلى الاستمرار في هذا الموضوع،
ولكني أطلب منكم فقط أن تعاملوني معاملة عادلة، وهذا جميل من اليسير عليكم منحه، فله
أهمية في إظهار براءتي.
وأحب قبل كل شيء، أن تعلموا جيدًا أني قد مثُلت الآن أمامكم دون أن أكون مجبرًا بأي
حال على انتظار محاكمتي، ولم أرغب في دفع كفالة أو مقاومة الأسر، ولكني مثلت أمامكم
لثقتي التامة أولًا في عدالة قضيتي، وثانيا في خلقكم، شاعرًا أنكم ستصدرون قرارًا
عادلًا، ولن تسمحوا بأن يصيبني الخراب على يد أعدائي بوساطة حيادكم عن الحق، بل ستعملون
على إنقاذي بجعل العدالة تأخذ مجراها وفق قوانين المدينة، واليمين التي أقسمتموها كخطوة
أولى للقرار الذي توشكون تسجيله.
من المعقول أيها السادة، في حالة من يواجهون المحاكمة مختارين، أن تأخذوا عنهم الفكرة
نفسها التي يأخذونها هم عن أنفسهم؛ فإن من لا يقبلون انتظار محاكمتهم يتهمون أنفسهم
عمليًّا، ويصبح من الحكمة أن تصدروا عليهم الحكم نفسه الذي أصدروه هم على أنفسهم، أما
الذين ينتظرون محاكمتهم واثقين من عدم اقترافهم إثمًا، فلكم الحق في أن تأخذوا عنهم
الفكرة التي أخذوها عن أنفسهم، ولا تصدروا حكمكم بإدانتهم دون سماع أقوالهم.
لذا تجدونني أفكِّر في أي النقط أبدأ بها دفاعي؛ هل أبدأ بالنقطة التي ذكرتها أخيرًا،
وهي أن اتهامي غير شرعي؟ أم بالحقيقة القائمة على عدم سلامة قرار إيسوتيميديس
lsotimides؟ أم أستنجد بالقوانين والأيمان التي
أقسمتموها؟ أم هل أبدأ بسرد الوقائع من بدايتها؟
وأعظم صعوبة تقابلني هي أن نقط الاتهام المختلفة لا تثير استياءكم جميعًا بدرجة
واحدة، وكل واحد منكم لديه نقطة يريدني أجيب عنها أولًا. ومن المستحيل أن أتناول جميع
هذه النقط دفعة واحدة؛ ولذا يخيَّل إليَّ أن خير ما أفعله، هو أن أسرد القصة كلها منذ
بدئها غير تارك منها شيئًا؛ لأنكم لو درستم ما حدث فعلًا لأصبح من السهل ملاحظة
الأكاذيب التي اختلقها المدَّعون ضدي.»
٢٨
إن المغزى بسيط وقوي في استقامته:
«لا تتخلوا عن الأمل في مساعدتكم لي، كما لا تحرموني الأمل في أن أساعدكم؛
فإني أطلب ممن أثبتوا شعورهم النبيل نحو الديمقراطية، أن يعتلوا المنصة ويدلوا
إليكم بما يعرفونه عن أخلاقي. تقدَّم يا أنوتوس
anytes وكذلك أنت يا كيفالوس
Cephalus، وأنتم يا أفراد عشيرتي يا من وقع
عليكم الاختيار في الدفاع عني؛ ثراسولوس
Thrasyllus وغيره من الباقين.»
٢٩
لقد سبقت الإشارة إلى حيوية خطبته، وإذا ما قورنت بنشاطه الحي، تصبح خشونة أنتيفون
عقيمة جعجاعة. وأهم ما تمتاز به أعماله، سهولة إعادة أقوال الأصلية نفسها عند سرده
للمحادثات وشرحه للدوافع؛ فيتذكر أقواله بالنَّص وأقوال غيره كما تفوَّهوا بها شخصيًّا
أو فكروا فيها. ونلاحظ في ذلك طابعًا هوميريًّا، ويمكن مقارنته بالاستعمال الملحمي
Epic للعبارتين:
καὶ ποτέ τις εἴπῃσι, ὧδε δέ τις
εἴπεσκε.
وتبيِّن الفقرة التالية كيف يضيع الهدف الأصلي للعبارة خلال شبكة الأقوال الأصلية
الموضوعة بين شولتين:
«فمنذ البداية، رغم أن كثيرين أخبروني أن أعدائي كانوا يقولون إنه لا يصحُّ
لي أن أنتظر محاكمتي؛ «ما الذي يدفع أندوكيديس لينتظر محاكمته في حين أنه كان
في طوقه ترك المدينة فينجو؟ فلو أبحر إلى قبرص التي أتى منها لوجد في انتظاره
هناك ضيعة واسعة عظيمة الخيرات؛ فيصبح سيدها المطلق. أيفضِّل وضع عنقه في
المشنقة؟ وما غرضه من ذلك؟ ألم يعرف اتجاه
الريح هناك؟» إنني أخالف هذا الرأي كليةً أيها السادة، فلا أفضِّل حياة النعيم
والبذخ في مكان آخر مقابل أن أخسر وطني، حتى ولو هبَّت الريح هنا ضدي كما يقول
أعدائي، فلأكوننَّ مواطنًا في أثينا أحب إلى نفسي من الحياة في مدينة أخرى
وافرة الرخاء الآن كما تبدو لي المدن الأخرى. ولمَّا كنت متشبِّعًا بمثل هذه
العقيدة؛ فقد تقدَّمت إليكم وتركت لكم أمر البتِّ في مصير حياتي.»
٣٠
سبق أن ذكرنا أن أندوكيديس لم يكن مغرمًا باستعمال الطباق اللفظي، كما جعل كلٌّ من
ثوكوديديس وأنتيفون استعماله أمرًا عاديًّا جدًّا. فنجده لا يهتم بالمقارنات بين «القول
والعمل» و«ما يكون وما يبدو» بمثل هذا الإطراء على وتيرة واحدة.
على أن هناك نوعًا من الطباق يميل إليه بعض الشيء؛ وهو طباق الفكر أكثر من اللغة،
فهو
مغرم بشرح صعوبة من التخيُّر بوساطة وضعها في صورة معضلة.
أما فيما يتعلق بسلوكه الشخصي؛ فكان دائمًا يواجه المعضلات؛ فمنذ الدور الذي لعبه
في
انتهاك حرمة الدين، والمواقف الحرجة التي ترتبت عليه؛ وجد أن من الخطر عليه أن يكذب،
ومن الخير له أن يقول الصدق؛ لذا كان من غير المستغرب أن تجد دائمًا عبارات
كهذه:
«كيف كان يتصرف كلٌّ منكم أيها السادة لو خُيِّرتم بين أن تموتوا ميتة شريفة أو أن
تنقذوا حياتكم بإتيانكم عملًا مشينًا؟ قد يقول البعض إن ما أتيته عمل وضيع، ولكن أكثركم
كان يختار ما اخترته أنا.»
٣١
فهذه الاستغاثة بالمشاعر الفردية، ولا سيما ذلك الالتماس المصدَّر بأن يحكموا ﺑ
«مقاييس بشرية» αυϑϱωπίνως، ذات تأثير
عظيم في جرأته. فلا بد أن كان الخطيب واثقًا من مستمعيه قبل أن يجرؤ على الاستغاثة في
هذا الموقف بالطبيعة السفلى التي يميل إلى نبذها كل فرد.
ومن الفوارق الظاهرة بينه وبين هيبة أنتيفون، أن أندوكيديس كان يهبط بين آونة وأخرى
إلى البذاءة والسفاهة، واضعًا في خطبته قصصًا مشينة عن خصومه، لا تمتُّ إلى الموضوع
الأصلي بصلةٍ ما، وإنما تساعد فقط على إثارة الضحك في حينه، فليس لبيانه الطويل عن حياة
كالياس Callias المنزلية (فصل ۱۲۳–۱۳) أي علاقة
بالمحاكمة إطلاقًا.
فرجل تزوج والده ثلاث مرات، لسوء حظه، يمكن اعتباره شاهدًا موثوقًا منه، وليست إذَن
مقدمة القصة الخارجة عن الموضوع على شيء من الإنصاف بالمرة، بَيدَ أنه لما كانت مثل هذه
الأمثلة ذات الذوق الرديء، مباحة بحُرية في أثينا، كان من الممكن انتهاز هذه الفرصة
وتسديد ضربة مشينة كهذه، ولا سيما لو أمكن تسديدها بمهارة كما في الفقرة
التالية:
«وتبعا لطلب الأم، حمل الأقارب الطفل إلى المذبح في وقت الأباتوريا
Apaturia. لقد أحضروا الذبيحة وطلبوا من كالياس أن
يذبحها؛ فسأل عن والد هذا الطفل؛ فقالوا: «هو كالياس بن هيبونيكوس
Hipponicus.» فأجابهم: «ولكني أنا كالياس.» فقالوا:
«نعم وهو ابنك.».»
٣٢
وهناك أقوال أكثر من ذلك لتبرير مهاجمة إبيخاريس
Epichares، فلكي يبرهن أو يؤكِّد على أن متَّهمه
كان عدوًّا للديمقراطية وسيئ الأخلاق، كوَّن مزاعم في صالح المدَّعى عليه. وقد اعتاد
ديموسثينيس نفسه مثل هذا العمل، ولم يكن في شططه أو عدم دقته بأقل من أندوكيديس:
«بَيدَ أن إبيخاريس، الذي هو أسوءُهم جميعًا، وكان يريد المحافظة على سمعته،
فعمد الخطيب إلى الانتقام منه، لا بد أن كان عضوًا في المجلس إبان حكومة
الثلاثين، وما هي مواد القانون المكتوب على العمود أمام قاعدة المجلس؟» «كل من
يحتلُّ وظيفة في المدينة، عندما تسقط الديمقراطية، سيُقتَل دون أن يُعاقَب
قاتله الذي سيكون بريئًا من دمه ويغنم كل ممتلكاته.» «إذَن يا إبيخاريس، إذا
فُرِض وقتَلك الآن امرؤ، يصبح بريئًا من دمك تبعًا لقانون صولون. وإني لأطلب
قراءة هذا القانون المكتوب على العمود بصوت مرتفع.»
٣٣
ولكن أندوكيديس كان يخالف قوانين الذوق السليم في مثل هذه الأحوال، وكان في مثل موضوع
هذا الحقد الشخصي قدوة أولى لأعاظم الخطباء، ولو أن مفردات ألفاظه كانت أقل متانة. ومن
النادر تبرير سفاهته بعدم إتقان تورياته.
«أيها الوحش، يا ابن آوى، أيها المبلغ العام، أيُسمَح لك بالحياة والتجول بين ربوع
هذه المدينة؟ لست مستحقًّا لذلك؛ لأنك عشتَ من تجارة
التبليغ في عصر الديمقراطية، ولكنك في العصر الأوليجاركي، خشية أن تجبَر على تسليم
الأموال التي جمعتها بوساطة التبليغ، أصبحت أدنأ شخص في حكومة الثلاثين.»
٣٤
«ونتيجة لقرارك، بملاحظة القوانين الحالية، قد استرجع من المنفى ليصير مواطنًا، ومن
الحرمان من التكسُّب شرعًا إلى ممارسة تجارة التبليغ بحُرية».
٣٥
كان أندوكيديس يستعمل الجمل الاعتراضية أحيانًا
إلى حد الإفراط، وقد اقتبس لذلك مَثل يختلُّ فيه التركيب النحوي؛ لأنه قدَّم في وسط
محادثة خيالية.
٣٦ وقد يكون الأسلوب مفكَّكًا وملتويًا، لدرجة لا يتعذَّر معها متابعة التركيب
فحسب؛ بل ويكون الحوار غامضًا كذلك.
ومن عيوب هذا الكاتب، عدم استطاعته الاستمرار في الكلام على نقطة واحدة؛ فنراه يحاول
تفسير عدة أشياء دفعة واحدة، فتكون النتيجة أنه لا يوضح شيئًا. ويمكن العثور على مَثل
واضح لذلك في الفصل ٥٧ … إلخ. من خطبته «عن الأسرار»؛ حيث تنساب أفكاره على لسانه بسرعة
عظيمة، في حين أنه لا يملك المهارة الفنية التي تمكِّنه من وضعها في مواضعها الصحيحة.
وتزوِّدنا مثل هذه العبارات بتعليق عملي على مقدمة تلك الخطبة نفسها التي يقول فيها إنه
لا يعرف من أين يبدأ.
٣٧
ومن ناحية أخرى يمكن العثور على فقرات بها مجموعات من عبارات قصيرة لا رباط بينها،
يشوِّهها التغيير المفاجئ في الأفكار فتفقد تأثيرها؛ إذ تنتقل المشاعر فجأةً من ناحية
إلى أخرى. ومثال ذلك ما يأتي:
«وبعدئذٍ سأل الرسول عمَّن وضع «غصن المتضرِّع»؛ فلم يجبه أحد. وكنا نقف في
تلك الآونة متجاورين، وكان يستطيع كالياس رؤيتي، فلما لم يجِب أحد عاد إلى
المعبد. حينئذٍ تقدَّم يوكليس
Eucles قائلًا:
«أتسمح لي بأن أستدعيه؟» إذَن الآن، تقدَّم يا يوكليس واشهد بأنني أقول الصدق.»
٣٨
٤
تناولتُ حتى الآن خطبة أندوكيديس «عن الأسرار»، وهي خير أعماله، والآن يجب أن أقول
كلمة قصيرة عن خطبه الأخرى.
تختلف خطبته «عن العودة» اختلافًا بيِّنًا عن خطبته «عن الأسرار»، ولو أن التغيير
كله
في اللهجة؛ فالأسلوب اللفظي هو أسلوبه نفسه، وإن كان هناك ميل أكثر إلى الطباق، واللغة
سهلة، والعبارات أقل ازدحامًا بالجمل الاعتراضية. ولكن أندوكيديس يتواضع هنا فيبدو
شابًّا عديم الأصدقاء يتحدَّث أمام هيئة ناقدة معادية؛ فنراه معتدلًا في لغته، يعتذر
في
لهجة الحريص على ألا يغضب أحدًا بأي لفظ تهكُّمي أو كلمة بذيئة.
فيتكلم في خطبته «عن الأسرار» واضعًا نصب عينيه، لا الغرض الأحسن فحسب؛ بل والقوى
الزائدة والمركز المضمون في الدولة كذلك. إنه واثق من نفسه، وغالبًا ما يكون متعجرفًا.
وإنه لقاسٍ وعنيف في مهاجمة خصومه.
ويشبه أسلوب خطبته «عن السلم» أسلوبه في الخطب الأخرى مع بعض استثناءات نحوية، وقد
أعلن ديونوسيوس أنها زائفة، ولكن أغلب النقَّاد المحدثين يعتبرها صحيحة.
وأهم أسس الشك عدم دقة الرواية التاريخية (فصل ۳–۹)، والحقيقة الغريبة من أن هناك
فقرة مشابهة تمام الشبه في أيسخينيس (عن البعثة الزائفة، فصل ۱۷۲–۱۷۹)؛ حيث تظهر من
جديد بعض شواذ التركيب.
٣٩ أما عن التاريخ؛ فقد كان الخطباء دائمًا عديمي الدقة فيما يختص بالتاريخ
الماضي لوطنهم؛ فترد بيانات غير دقيقة حتى في خطبة «عن الأسرار».
إن ديموسثينيس حجة موثوق به حتى في الحوادث التي تكاد تكون معاصرة له. أما عن الموضوع
الآخر؛ فهناك عذر عظيم في الاعتقاد بأن أيسخينيس قد انتحل مؤلَّفات أندوكيديس، بدليل
أن
الإشارة إلى أندوكيديس — جد الخطيب — الواردة في كلتا الخطبتَين، قد وردت في مكانٍ ما
بخطبة لأندوكيديس؛ فلو كان أيسخينيس هو مؤلفها ما كان هناك داعٍ إلى ذكره، وفي نقطة أقل
أهمية، كما أظهر جِب Jebb، أن أندوكيديس أكثر دقة من
أيسخينيس.
ومن العسير الأخذ بالاقتراح القائل بأن خطبته «عن السلام» زائفة، وضعها بليغ متأخر
انتحل مؤلفات أيسخينيس؛ فيبقى بعد ذلك احتمال ثالث، وهو أن كلًّا من أيسخينيس
وأندوكيديس قد نقل من نفس المجموعة نصف التاريخية، التي قد تكون تمرينات بلاغية
مفقودة.
ولم تنتعش خطبتاه «عن السلم» و«عن العودة» بالميل إلى القصص التاريخي أو الاقتباس
المباشر للحديث الذي يميِّز خطبته «عن الأسرار»؛ فإن الحوار التاريخي السابق الذكر عقيم
في حد ذاته، ولكنه يتخلَّص أحيانًا من الملل من خطبته «عن السلم» بعدم تكرار العبارات
البلاغية.
«ماذا يتبقى لنا للمناقشة؟ موضوع كورنثة Corinth،
ودعوة أرجوس Argos. فأودُّ أولًا أن أعلم شيئًا عن
كورنثة؛ فما قيمة كورنثة لنا إذا لم يشترك البويوتيون
Boeotians معنا في الحرب وعقدوا صلحًا مع إسبرطة؟
تذكروا يا رجال أثينا، ذلك اليوم الذي اتحدنا فيه مع البويوتيين، وماذا كان شعورنا نحو
هذا الاتحاد؟ ألم نكن نحن والبويوتيون من القوة بحيث نستطيع الوقوف في وجه العالم كله؟
ولكن مشكلتنا الآن هي كيف يمكننا مقاتلة إسبرطة دون مساعدة البويوتيين، لو عقد هؤلاء
الصلح مع إسبرطة؟ يقول البعض إنه يمكننا مقاتلتهم لو أمكننا حماية كورنثة وتحالفنا مع
أرجوس.
وهل نساعد أرجوس أو نتخلَّى عن معاونتها عندما يهاجمها الإسبرطيون؟ لا بد لنا أن
نقرِّر أي السبيلين نختار.»
٤٠
لا يعطي طلب الصلح فرصة للخطابة كالنداء لحمل السلاح مثلًا، ومع ذلك يستطيع الخطيب
العظيم أن يزيد من أهمية الموضوع.
ولا شك أن الخطبة «ضد ألكيبياديس» زائفة، وتاريخها متأخِّر كثيرًا؛ فهي تقوم على
سوء
فهم تامٍّ لطبيعة قانون الحرمان من حقوق المواطنين. وفيها يمثل الخطيب ويناقش الموضوع
على أن المحروم من حقوق المواطنين هو إما الخطيب نفسه أو نيكياس
Nicias أو ألكيبياديس. وهذا موقف جد عسير، وهذه
الخطبة عبارة عن مجموعة أو أكثر قليلًا من القصص المحفوظ عن ألكيبياديس كالتي توجد في
بلوتارخوس.
وأسماء الخطب المفقودة محفوظة:
πϱὸς ἑταίϱους, συμβουλευτικός, πεϱὶ τῆς
ἐνδείξεως, ἀπολογία πϱὸς Φαίακα.
ولا يوجد غير شذرات — عبارة عن بضعة أسطر — من خطبتَين مجهولتَي الاسم، تشير إحداهما
إلى أن هوبربولوس Hyperbolus لا يزال في أثينا، وعلى
ذلك يجب ألا توضع في تاريخ أبعد من عام ٤٠٧ق.م. أي العام الذي طرد فيه هوبربولوس. وهي
جديرة بالاقتباس؛ لأنها صورة طبق الأصل لكبرياء ذلك الأرستوقراطي الصغير الذي لم
تحنِّكه نوائب الدهر.
«إني لأخجل إذ أذكر اسم هوبربولوس، فوالده عبد موصوم، يعمل حتى الآن في المصنع العام
لسكِّ النقود، وهو نفسه أجنبي، بربري وصانع مصابيح.»
٤١