الفصل الرابع
لوسياس
١
عندما نحاول ترتيب الخطباء ترتيبًا زمنيًّا،
نجد هذا الأمر مضللًا؛ إذ تتفاوت حياتهم وأزمنة نشاطهم تفاوتًا بيِّنًا. فحوالي سنة
٣٩٠ق.م. كان أندوكيديس لا يزال يؤلِّف خطبًا، بينما كان لوسياس
Lysias في مهده. أما إيسوكراتيس فكان قد كوَّن
لنفسه شهرة، وبدأ إيسيوس Isaeus يكون معروفًا؛ لذا قد
يكون تهورًا إن حاولنا في أعمال أحدهم تتبُّع أثر أي خطيب غيره؛ فمن حيث الكلام
والكتابة، كان لكل المعاصرين شيء يُعلمونه وشيء يتعلمونه، بَيدَ أننا لا نستطيع الجزم
بأن هذا بالذات كان سابقًا أو تلميذًا لغيره بالمعنى الحرفي.
كان لوسياس من أصل سيراكوزي، وكان والده كيفالوس
Cephalus، الذي يعطينا أفلاطون صورة رائعة عنه في
الفصول الأولى من «الجمهورية»، قد أغراه بركليس بالإقامة في أثينا حيث ولد لوسياس.
ويقول بلوتارخوس الكاذب إنه ولد عام ٤٥٩ق.م. وهو نفس العام الذي يذكره لنا ديونوسيوس،
غير أن هذا التاريخ قائم على الحدس والتخمين؛ فمن المعروف أنه ذهب إلى ثوريي
Thurii في الخامسة عشرة من عمره، وثوريي هذه أسِّست
عام ٤٤٣ق.م. إلا أنه ليس هناك ما يثبت أن لوسياس ذهب إليها في سنة تأسيسها، ولكننا نعلم
فقط أنه لا يمكن أن يكون قد وُلد قبل سنة ٤٥٩ق.م. وتذكر الروايات المتناقلة أنه عاش حتى
الثمانين أو الثالثة والثمانين، كما أن آخر خطبة له معروفة، مؤرَّخة حوالي ۳۸۰ق.م. فإذا
فُرِض أنه مات بعد عام ۳۸۰ق.م. فقد اتفقنا.
١ والرأي الحديث الذي يؤيده بلاس، من أن لوسياس لم يولد قبل عام ٤٤٤ق.م.
يفتقر إلى دليل يعززه؛ فهو قائم قبل كل شيء على بيان
لبلوتارخوس الكاذب يقول إن لوسياس لم يذهب إلى ثوريي إلا بعد أن مات والده، والاعتقاد
بأن كيفالوس كان على قيد الحياة سنة ٤٣٠ق.م. ذلك التاريخ الذي يفترض أن رواية
«الجمهورية» وُضعت فيه، غير أن بلاس قد جمع بنفسه أمثلة تدلُّ على عدم دقة أفلاطون في
تقدير التواريخ، كما أن كاتب حياة مشاهير الرجال في حد ذاته حجة ضعيفة.
إذَن فقد ذهب لوسياس مع أخويه بوليمارخوس Polemarchus
ويوثوديموس Euthydemus، ويقال إنه درس على البليغ
تيسياس Tisias السيراكوزي. وبعد ضياع الجيوش الأثينية
في صقلية سنة ٤١٣ق.م. كان لوسياس وشقيقاه ضمن ثلاثمائة رجل متهمين بالتحيُّز إلى أثينا،
فطُردوا من ثوريي وعادوا إلى أثينا عام ٤١٢ق.م. ومن هذه السنة حتى سنة ٤٠٤ق.م. عاش
الإخوة في رغد من العيش وسعادة، وكوَّنوا ثروة عظيمة؛ إذ كانوا يملكون مصنعًا للدروع
يشتغل به ١٢٠ عبدًا.
لقد كان لهم أصدقاء عديدون، وكانوا ينتمون إلى الطبقة الراقية من الأجانب المعروفة
باسم isoteleis، ويثبت دليل أفلاطون وديونوسيوس أنهم
اختلطوا بالطبقة المثقفة جدًّا، وكانوا يفخرون بجميع الخدمات العامة التي قاموا
بها.
ولكن الدهر بالناس قلب، فقد قلب لهم ظهر المجنِّ، فتغيَّر حظهم بقيام حكومة الثلاثين
عقب ثورة حدثت عام ٤٠٤ق.م. ويصف الخطيب الطريقة التي تم بها خرابهم وصفًا دقيقًا فيقول:
أقسمت حكومة الثلاثين بأن تطهِّر المدينة من الأشرار الآثمين، وتجعل الفضيلة والعدل
رائد باقي المواطنين، وأشار اثنان من القادة إلى أن بعض الأشراف
metoecio غير راضٍ عن الدستور الجديد؛ لأنهم كانوا
أثرياء، وبذا لا يكون إعدامهم فرضًا أدبيًّا فحسب، بل وحركة مالية سليمة. وقد تغلَّب
هذان على زملائهما الذين يصفهم لوسياس بدقة فيقول: «إنهم لم يفكِّروا مطلقًا في التمتع
بالحياة، بل كان كل همِّهم منصرفًا إلى جمع ثروة.» وكان اسم الخطيب في القائمة فقبض
عليه في داره في أثناء حفل عشاء، ويصف هو ما أعقب ذلك:
«توسَّلت إلى بيزو
Piso أن ينقذ حياتي نظير
مبلغ من المال، فأجابني: إنه يفعل ذلك لو كان المبلغ كبيرًا، فأخبرته بأنه
يمكنني أن أدفع له وزن تالنت
Talent،
٢ فوافق على هذا العرض. وكنت على يقين من أنه لا يهتم بالله أو بأي
إنسان ولا يُوثَق في ذمته، ولكن مع ذلك كنت أعلم أن فرصتي الوحيدة هي في ثقتي
به، ولذلك عندما أقسم بحياته وحياة أولاده أنه ينقذني لو أخذ التالنت، صحبته
إلى خزانة أموالي وفتحتها أمامه.»
«وإن رؤية ٦ تالنت من الذهب والفضة خلاف بعض السبائك، لأكثر مما تتحمَّله ذمة بيزو؛
فطمع فيها كلها، ولما طلبت منه أن يسمح لي بما يكفيني في رحلتي، أجابني بأنه يجب عليَّ
أن أقنع بإنقاذ حياتي.»
ترك بيزو السجين في حراسة دامنيبوس
Damnippus
وثيوجنيس
Theognis في منزل الأول، وقد وافق دامنيبوس
الذي يظهر أنه كان أرقَّ قلبًا من الباقين على أن يحادث ثيوجنس في أمر لوسياس؛ إذ كان
يعلم أنه يأتي أي أمر من أجل الأصفر الرنَّان. وبينما كانا يتساومان أفلت لوسياس من
الباب الخلفي دون أن يلاحظه أحد، وأقلع في اليوم التالي في سفينة إلى ميجارا
Megara؛ فقبض إيراتوسثينيس
Eratosthenes على أخيه بوليمارخوس وأُعدِم.
٣
وفي أثناء نفيه الذي دام أقل من سنة، أثبت لوسياس أنه صديق حقٌّ للديمقراطية؛ فقد
تبرَّع للجيش بمائتي درع، وتمكَّن من تجنيد المتطوعين، وجمع التبرعات؛ فلما انهارت
الأوليجاركية في سنة ٤٠٣ق.م. أصدر مجلس الإكليسيا
Ecclesia قرارًا، عقب حركة ثراسيبولوس، بمنح لوسياس
جميع حقوق المواطن، بَيدَ أنه نتيجةً لبعض الأخطاء، اعتبر القرار غير شرعي؛ ففقد لوسياس
تلك الحقوق. ومنذ ذلك الحين حتى عام ۳۸۰ق.م. ولوسياس يجدُّ في كتابة الخطب، وقد ألقى
بعضها بنفسه. ولا بد أن كان نشاطه هذا أمرًا ذا بال؛ إذ ينسب إليه ديونوسيوس ما لا
يقلُّ عن مائتي خطبة قضائية.
وتدلُّ محاكمة إيراتوسثينيس Eratosthenes سنة ٤٠٣ق.م.
على اتصال لوسياس الشخصي بالسياسة الأثينية، وفي فرص الأولميبياكوس
Olympiacus نرى لوسياس يترافع أمام جمع غفير من
المستمعين في العيد الأوليمبي سنة ۳۸٨ق.م. وتبعًا لحساب القدامى، يكون قد مات عقب عام
۳۸۰ق.م. مباشرة، وقد بلغ من العمر ما يقرب من الثمانين عامًا.
٢
نجد في الأدب، كما هو الحال في السياسة، أننا نملُّ سماع تلقيب أرستيديس
Aristides بالعادل، تلك سنَّة الكتَّاب الكاملين،
لا نوفيهم ما يستحقون من إعجاب القارئين؛ ففي اللاتينية نرى أن تيرنس
Terence، الذي يقرظ أسلوبه الجميع، أقل قراءة من
بلاوتوس
Plautus ذي الأسلوب الخشن، ونجد في الإغريقية
أن لوسياس، الذي يعتبره النقَّاد القدامى المثل الأعلى لكتَّاب النثر الآتيكي،
٤ يحظى بتقدير أقل من ديموسثينيس.
وباستخدام اللغة الدارجة كوسيط أدبي، استطاع لوسياس، بمهارته الفريدة، وسيطرته على
مصطلحاتها، أن يرفع من شأنها إلى البساطة ودقة التعبير اللتين لم يبذه فيهما كاتب آخر،
وهذه البساطة خدَّاعة كما نرى:
‘ut sibi quivis |
Speret idem, sudet multum |
frustraque laborct |
Ausus idem’ |
ولا يمكننا أن نلمس عظم الدور الذي لعبه الفن في صوغ هذا التركيب الذي يبدو طبيعيًّا،
إلا إذا حللنا فقرة أو حاولنا محاكاة الأسلوب.
يبدو لنا اللين بعد حين على وتيرة واحدة، فيتحوَّل كثير من القُراء بارتياح من كمال
لوسياس إلى خشونة أنتيفون الزائدة، أو إلى طلاوة أفلاطون المتباينة. وايم الحق إن
لوسياس يمدُّنا بمَثل رائع لأنقى أنواع النثر، بَيدَ أن الخشونة النسبية للذوق المتوسط
تفضِّل ما هو أقل إتقانًا، وما هو أقل عناية بإصلاح الشوائب الطبيعية التي تحول دون
التلذذ والاستمتاع، وما هو أقل خلوًّا من الألفاظ الجوفاء التي تعطي الأسلوب صفةً
ما.
وإلى هنا أكون قد ناقشت فقط أثر اللغة العظيم في الأسلوب، دون النظر إلى أي عنصر
شخصي.
أما لوسياس كخطيب فيبدو لأول وهلة أنه ميئوس منه، مفتقر إلى الحميَّة وقوة
الدقة.
ونظرًا لهذا الضعف الواضح، يجب علينا أن نتسامح بعض الشيء، ونتذكر أننا نحكم عليه
بوساطة خطب كتبها لغيره، وخطب لقضايا غير هامة في حد ذاتها، قليلة المتعة في
تفاصيلها.
وليس معقولًا أن نطلب صفات أكثر من تقرير واضح للواقع في خطبة عن محاكمة وصي اختلس
(ضد ديوجيتون Diogiton)، أو عن تهمة نيكوماخوس
Nicomachus الوالي الذي لم يقدِّم حساباته في الوقت
المناسب؛ فمثل هذه القضايا ذات أهمية عظمى بطريق غير مباشر، للفقيه لأنها تحمل على شذوذ
القانون الآتيكي، وللقارئ العام لأنها تعطي تفاصيل تساعد على تصوير الحياة العامة
والخاصة في أثينا. ولا يحق لنا أن نصدر حكمًا سريعًا على الكاتب لأن خطبه، باعتبارها
أمثلة من الخطابة، أقل جاذبية وأثرًا من بعض النماذج الأكثر شهرة.
وسأحتفظ للمناقشة فيما بعد بالخطبة الوحيدة التي تتضمَّن صورة عميقة لمشاعر لوسياس
الشخصية، وهي اتهام إيراتوسثينيس. ولا توجد خطبة واحدة من باقي خطبه، لو أخذت بأجمعها،
يمكن مقارنتها بأروع خطب ديموسثينيس العامة أو مقالاته. ولو أن لوسياس كان يضطر كثيرًا
إلى تناول محاكمات لعامة الشعب؛ فإن هذه المحاكمات لم تكن في الحقيقة ذات أهمية عامة،
ولم تكن مهمة لوسياس أن يضع طريقًا محدودًا في السياسة لتسير عليه مدينته، ولم يكُن من
شأنه أن يوقظ أمة فاترة ويحثُّها على ضرورة البتِّ السريع في أمورها. ولا يمكننا أن
نصدِّق أن أيَّة خطبة من خطبه كانت للمرافعة أو كان يقصد بها المرافعة في أثينا
عمومًا.
وحتى عندما كان يتناول الحوادث التي وقعت إبان دكتاتورية الثلاثين، تتسلط علينا فكرة،
أن تلك الفئة من الشعب، التي كان يهمها مباشرة تقدُّم الثورة أو عرقلتها، هي التي كانت
تهتم بمعاقبة أو مكافأة من لعبوا فيها أدوارًا قليلة الأهمية، في حين أن الأغلبية لم
تهتم بالحوادث الجارية إبان فترة الانقلاب في كثير أو قليل، والآن وقد انتهت الفوضى،
تلهَّفت هذه الأغلبية إلى أن تفيد من الحالة الراهنة بأقصى ما يمكن؛ فقد كانت الذاكرة
السياسية ضعيفة في أثينا.
كان موقف ديموسثينيس يختلف عن ذلك تمامًا؛ فلم يكن أعظم نشاط له عقب أزمة، بل كان
إبان خطر قومي، فوجد فرصة بل فرصًا عظيمة وتحيَّنها.
وإن تكوين عظماء الرجال السياسيين أو الخطباء، ليتطلَّب حماسة بالغة، وإن رجلًا
موهوبًا متشبِّعًا بفكرة إقامة صرح الوطنية، لو صادفته فرص خاصة، لأصبح بركليس آخر، ولو
أتيح اجتماع ملائم لمثل هذه الظروف لأمكن أن يولد لنا إسكندر آخر.
وفي الأزمنة الحديثة تتمتع المعارضة عادة بأعظم نصيب من الفصاحة، وكان الفشل في جميع
العصور سببًا في خلق رجال عظماء.
يدين ديموسثينيس بشهرته العظيمة بعض الشيء إلى مقدرته الخارقة، ولكنه يدين بمعظمها
إلى الفرص التي أتيحت له، وإلى محاربته الفتور القوي والعدوان الأجنبي ليصل إلى غرض
سامٍ؛ هو تحرير أثينا. وإن المواهب التي تقلُّ عن مواهب ديموسثينيس لتتألَّق في مثل هذه
الظروف؛ فما بالك بمواهبه النادرة؟ ومن ناحية أخرى؛ فلو لم تُتح له فرصة الخطابة ضد
فيليب Philip، لأصبح تقريبًا في مرتبة الخطباء أمثال
لوسياس.
٣
لا يقلُّ لوسياس بساطة في ترتيب عناصر موضوعه، عنه في أسلوبه، ويمكن عمليًّا تحليل
كل
خطبة وصلت إلينا كاملة إلى أربعة عناصر؛ التصدير، والسرد، البرهان، والخاتمة. وقد تكون
المقدمة والخاتمة بسيطتَين جدًّا، وقد يكون السرد مقنعًا لدرجة إمكان الاستغناء عمليًّا
عن البرهان، وقد لا تكون هناك وقائع يمكن سردها، حتى إنه لا يحتاج زيادة على عبارات
الاتهام إلا إلى جمع الأدلة؛ بحيث لا يحدث أي تغيير في ترتيب العناصر.
رأينا أن أندوكيديس كان يقسم روايته بسليقته، إذا كانت هناك قصة طويلة، خالطًا
عناصرها مع أدلة التفاصيل، وأن إيسوكراتيس الذي يتمسَّك بضرورة التقسيم الذي استعمله
لوسياس، يحيد أحيانًا عن قواعده هو شخصيًّا، بينما كان إيسيوس يقسِّم أجزاء العناصر
تقسيمًا فقهيًّا ويرتِّبها؛ وبذا يحاول، كما يقول ديونوسيوس «أن يتغلَّب على مناورات
القضاة.»
٥
هدف لوسياس في حدود هذا النطاق إلى المرونة، ولمَّا كان ترتيب الخطبة يحتَّم البتُّ
الدقيق؛ فإن ذوقه الفني كان يتطلَّب عدة تفاصيل متباينة. ويلاحظ ديونوسيوس أنه على
الرغم من كون لوسياس قد ألَّف مائتي خطبة؛ فإنه لم يستعمل قط المقدمة الواحدة مرتين،
وقد اعتاد بعض الخطباء استعمال بعض الجمل الاستفتاحية التي استخدمت في مقدمات خطب
سابقة، وأحيانًا كانوا يستعيرون مقدمات كاملة من خطب أسلافهم.
أما لوسياس، فبإدراك فطري صحيح لما يناسب المقام، قد ألَّف مقدمة
Proem لكل خطبة يتفق وما تتطلَّبه ظروفها، وإن
مقدرته على التنويع في هذا المضمار لممَّا يثير عظيم الإعجاب.
ويجب أن نلاحظ كذلك أن هناك كثيرًا من التنويع في طرق ختم خطَبه، فعلى الرغم من أن
خاتماته تذكر الشيء نفسه في ألفاظ مختلفة؛ فإنها تنجح كلها تقريبًا في ذكره بطريقة تجعل
كلًّا منها يناسب خطبة معينة دون غيرها.
وكما أن هناك تنويعًا في هذه الصور؛ فهناك كذلك تنويع عظيم في تفاصيل التعبير؛ فنجد
تكلُّفات شكلية قليلة يمكننا التشبث بها إذا ما أردنا قلب الأسلوب الجدِّي إلى هزلي،
فهناك — والحق يقال — عبارة أو عبارتان من العبارات الضرورية الشائعة كان يستخدمهما
دائمًا، ولكن حتى هذه كان يغيِّر من صورتها بين آونة وأخرى.
٦
٤
يغيِّر لوسياس كثيرًا في تركيب عباراته، فتارة نجد عبارات ذات سجع متقن موزونة الجمل،
وطورًا يسترسل في كتابته دون أي سجع، وتارة أخرى يخلط بين الطريقتَين واضعًا في وسط
عبارات السجع جملًا اعتراضية أو جملًا بها أسماء موصولة تظل معلَّقةً دون صلات، أو يأتي
في آخر السجع بحشو يشوِّه الوزن فنيًّا، ومن العسير إثبات ذلك بالتفصيل دون ذكر عدد
عظيم من الأمثلة، غير أننا نستطيع القول بأن أسلوبه أكثر سجعًا في المواضيع الجدِّية
ذات المنفعة العامة، ويكون أبسط وأسلس في خطبه الخاصة عن المواضيع التافهة
نسبيًّا.
وغالبًا ما يكون هناك تغيير في نفس الخطبة الواحدة، وكما أشار بلاس وآخرون، تُروى
القصة عادةً في أسلوب سهل،
٧ بينما يستخدم أروع عبارات السجع في الحوار والبرهان. وكما سبق أن أشرنا في
باب سابق،
٨ يختلف عادةً أسلوب السرد عن أسلوب الحوار. ويجوز الظن بأن القضاة وهم
يعالجون القضايا الخطيرة؛ كانوا يهتمون بأسلوب
الخطبة الأكثر كمالًا أكثر من اهتمامهم بالأسلوب البسيط الدارج الذي قد يسمح به في
القضايا التي تنظرها محاكم الشرطة الصغرى. بَيدَ أن لوسياس كان يستعمل أكثر من طريقة
واحدة حتى في خطبه الخاصة القليلة الأهمية، ونُحس بأنه كان ينوِّع من أسلوبه في تركيب
العبارات، ليلائم طابع المتحدث الذي كتب له؛ فنرى الشاب مانتيثيوس
Mantitheus بسيطًا في حديثه بقدر براعته في أفكاره،
بينما نرى المقعد الذي نشعر بأنه وغد يستحق الثناء، يأتي بطباقات سلسة رائعة،
مثل:
«يستطيع الأغنياء بأموالهم شراء نجاتهم من الخطر، أما المعدمون فمضطرون بسبب عوزهم
إلى التعوُّد على الاعتدال، ويطلب الصغار التساهل من الكبار، غير أن كلًّا من الصغار
والكبار لا يصفح عن زلَّات غيره.
ويجد الأقوياء فرصًا للإساءة إلى من يشاءون ولا حرج، بينما لا يستطيع الضِّعاف الدفاع
عن أنفسهم ضد من يعتدي عليهم، كما لا يمكنهم التغلُّب على من يريدون الاعتداء عليه.»
٩
٥
ليس تنوُّع التراكيب سوى سبيل بسيط يساعد على تصوير الطابع، وهذا جزء ضروري من مهمة
محترف كتابة الخطب الذي يريد توخِّي الحقيقة والواقع. ولكي تبدو الخطبة مناسبة لمن
يلقيها، لا يكفي أن تطابق عباراتها وألفاظها طابعه وأخلاقه، بل ويجب أن تطابق نبرات
صوته ومشاعره هذا الطابع أيضًا، وقد حاول لوسياس الحصول على هذا الأثر، ويعتقد أنه نال
نجاحًا باهرًا.
ويمكننا إلى حدٍّ ما أن نكشف عن طبيعة الخطباء من خطبهم، ولا نقول عن طبائعهم كلها؛
إذ ليس لدينا ما ينبئنا عن لهجاتهم وطرق إلقائهم.
ونستطيع من فروض مختلفة تكوين وجهات نظر عن
كثير من الخطباء؛ فإن المدَّعى عليه في قضية الرشوة (الخطبة الحادية والعشرون) يلقي
بيانًا مستفيضًا مفصَّلًا عن خدماته للدولة في نثر كله سجع، مبيِّنًا حساب الأموال التي
أنفقها في الطقوس الدينية (الباب ۱۰-۱)، ويستنتج من كل ذلك أنه كان ذلك الشخص الذي يقنع
بالقليل، منفقًا جلَّ ثروته في صالح بلاده، وبذا لا يمكن أن يكون لديه أي باعث على أخذ
رشوة فيضر بلاده.
ومن مانتيثيوس يمكننا أن نكوِّن صورة حية ممتعة عن شاب أثيني عريق النسب حسن التربية،
يعترف صراحة بأن عنده عاطفة مهذبة، وأنه طموح وقوي إلى حد إبراز نفسه كخطيب في
الإكليسيا (مجلس الأثينيين الأحرار)؛ حيث قد أدى خدمات طيبة في هذا المضمار.
فالخطبة في مجموعها صريحة وتدلُّ على الثقة التامة بالنفس؛ بَيدَ أنه ليس فيها ما
يشير إلى الفخر والمباهاة.
«فمن مثل هذه البيانات، يجب عليكم إنصاف الرجل الطموح في حد الاعتدال في حياته
العامة؛ فلا ينبغي أن تمقتوا رجلًا لأنه يصفِّف شعره على الطراز الحديث؛ إذ مثل هذه
العادات شخصية بحتة لا تؤذي أي فرد بالذات، ولا تسبِّب أي ضرر للمجتمع، كما أنكم جميعًا
تفيدون ممن يواجهون أعداءكم بمحض إرادتهم؛ لذا ليس من العدل في شيء أن تحبوا أو تكرهوا
شخصًا ما بسبب مظاهره الخارجية، بل يجب الحكم عليه بأعماله. فكم من فئة قليلة الكلام،
تلبس في هدوء، كانت مصدر متاعب وأضرار بالغة، بينما كانت فئة أخرى على عكس تلك السجايا
وقامت بخدمات جليلة.
كذلك قد لاحظت أن البعض حانق عليَّ لأني تجرَّأت على الحديث أمام الجمهور؛ كنت في
اعتقادهم لا أزال غضَّ الإهاب، ولكنني قد أُجبرت أولًا على الكلام أمام الجمهور عن أمور
تخصُّني، وعلاوة على ذلك فإني أعتقد أنني طموح بالفطرة لدرجة بالغة.
وإني لأتذكَّر أن أجدادي لم يكفُّوا أبدًا عن خدمة الدولة، وصراحة أرى أن مثل هؤلاء
وحدهم يجب أن يكونوا موضع تقديركم.
وطالما كانت هذه عقيدتكم، فمن ذا الذي تكون عنده الشجاعة إذَن للدفاع عن الدولة
بالقول والعمل؟ ولمَ تغضبون على من يفعل ذلك؟ وليس لأحد سواكم أن يحكم عليهم؛ فأنتم
وحدكم تملكون هذا الحق.»
١٠
والخطبة الرابعة والعشرون على لسان المقعد تختلف عن ذلك كل الاختلاف، فهو يدافع عن
نفسه عن تهمة الحصول على معاش من الحكومة بادعاءات كاذبة، ويبدو أنه كان كثير الاحتجاج
بعاهته وفقره وعجزه العام، في نغمة دائمة التهكُّم، ولا يحاول إخفاء حقده إلا
نادرًا.
«شكرًا للمدَّعي على إقامة هذه المحاكمة؛ فلم أكن أجد حتى الساعة دافعًا لأعطي بيانًا
عن حياتي، وقد أتاح لي المدَّعي هذا الدافع الآن، وسأحاول تكذيبه في خطبتي، وأدلي
بالبرهان على أن حياتي كانت حتى اليوم تستحق كل عطف وثناء وإعجاب، بدلًا من الغيرة
والحسد، ولا يمكنني الاعتقاد بأنه قدَّمني للمحاكمة إلا لدافع الحسد. وما ظنكم بالخسَّة
التي يهوي إليها من يحسد شخصًا يشفق عليه ويرثي لحاله الجميع؟
طبيعي، أنه لم يقُم بالتبليغ عني ليجني من وراء ذلك أموالًا، ولم يقصد معاقبة عدو،
بل
قام بالتبليغ لسوء خلقه، ولم يسبق لي أيَّة معاملة مع ذلك الذميم الطباع في عداء أو
صداقة. ومن هذا يتضح لكم أيها السادة أنه يغار مني؛ فإنني على الرغم من عاهتي هذه،
مواطن أحسن منه، وأعتقد أن المرء يعوَّض دائمًا عن نكباته الجسدية بسجايا عقلية حميدة،
ولو أبديت عقلية تتناسب وجسدي المنكود الحظ، وصغت حياتي تبعًا لذلك، لصرت سيئًا مثله.
١١
ليس هناك كثير أقوله عن ركوبي الذي تجرَّأ على ذكره، غير هيَّاب من الدهر ولا محترمًا
لكم؛ فإني أعلم أن جميع من يشتغلون تحت أي ضغط أو يعملون أعمالًا فوق طاقتهم، يتلمَّسون
وقتًا للاستجمام، ويتخيَّرون أحسن سبل التمتُّع بالراحة من عناء التعب، وأنا أحد أولئك،
وقد وجدت كما ترون، في الركوب لأي مسافة متعة وراحة بالغتَين.
ولو تيسَّرت لي المادة لركبت في راحة على بغل بدلًا من جواد مستعار، ولكن ما الحيلة
وليس عندي ما أشتري به دابة؟ إذَن كنت مضطرًّا غالبًا إلى استعارة جواد.
وإني لأعجب كيف لم يتخذ من استعمالي عصوين
للسير، بينما يستعمل غيري عصًا واحدة، موضوعًا لاتهامي، متذرِّعًا بأن الأغنياء وحدهم
هم الذين يستطيعون شراء عصوين.
١٢
ويقول أيضًا: إنني أسير مع كثير من الأشرار الذين أنفقوا كل أموالهم ويتآمرون على
من
يريدون الاحتفاظ بما يملكون، ألا تلاحظون أن هذا الاتهام لا يمسُّني أكثر مما يمسُّ أي
شخص آخر يشتغل بالتجارة؟ كما أنه لا ينطبق على زائري أكثر من انطباقه على بقية الطبقة
العاملة؛ فكلٌّ منكم يزور بائع العطور والحلَّاق والحذَّاء وكل ذي مهنة، ويذهب أغلب
الناس إلى المحالِّ القريبة من السوق، ولا يقصد البعيدة إلا قليلون.
فإذا ما حكمتم بأن زوَّاري أوغاد، وجب عليكم أن تتهموا كذلك كل من يقضون أوقاتًا
في
حوانيت غيرهم، وإن أذنب زوَّاري، أصبح كل سكان أثينا مذنبين؛ لأن من عادتكم جميعًا
التزاور وتمضية أوقاتكم هنا أو هناك.»
١٣
ومن الأمثلة الجيدة الأخرى لهذا المذهب الواقعي في تصوير الأخلاق خطبة «عن مقتل
إيراتوسثينيس
de Caede Eratosthenes»، ويبدو أن لوسياس
قد أعطانا نوع الخطبة الذي يلائم شخصًا أحمق من الطبقات الوسطى الوضيعة، الذي مهما بالغ
في الظهور لا يكون خيرًا ولا أسوأ من جيرانه. وبالصدفة، تزيد هذه الخطبة في معلوماتنا
عن الحياة المنزلية في البيت الأثيني:
«وهكذا سارت الأمور حتى رجعت يومًا من الريف على غير انتظار، وبعد الغذاء أخذ
الطفل يصرخ ويتململ فقد كان الخادم يعاكسه قصدًا حتى يصرخ؛ لأن إيراتوسثينيس
كان بالمنزل. لقد علمت كل ذلك فيما بعد، فطلبت من زوجتي أن تذهب وتطعم الطفل
وتمنع بكاءه؛ فرفضت في بادئ الأمر متظاهرة باغتباطها بعودتي بعد طول الغياب،
ولكن عندما تملَّكني الغضب وأمرتها ثانيةً بالذهاب، قالت: «نعم سأذهب، وأترككما
أنت والخادم وحدكما؛ فإني أعرف سلوكك ذات ليلة وأنت سكران.» فضحكت، ولكنها نهضت
وذهبت وهي تتظاهر بالمزاح في غلق الباب، فأوصدَته بالمزلاج من الخارج.
لم أكن أفكر في ذلك ولم يساورني أي شك قط، وسررت بالذهاب إلى مضجعي بعد العمل
المضني في الريف ذلك اليوم. وفي الصباح الباكر عادت وفتحت الباب، فلما سألتها
لماذا اصطفقت الأبواب في الليل، أجابت بأن المصباح المجاور لسرير الطفل انطفأ،
فذهبَت لتبحث عن مصباح عند جارة لها.
لم أعلِّق على هذا ظانًّا أنه عين الحقيقة، وإني لأتذكر أنه كان على وجهها
مسحوق رغم موت أخيها منذ أقل من شهر، ولم أقل شيئًا عن ذلك أيضًا، ثم غادرتُ
المنزل وقصدتُ إلى عملي دون تعليق.»
١٤
٦
على الرغم من أن لوسياس يظهر غريزة درامية في عرضه للأخلاق، فهو نادرًا ما يلجأ إلى
المؤثِّرات المسرحية ليتغلَّب على مشاعر المحكمة؛ فهو يثق بالمنطق أكثر من وثوقه بعناصر
الحنو والفزع، ويظهر اعتدالًا في اللغة بالقياس إلى التحفُّظ الذي يميِّز أسلوبه عامة،
ويتجنب أنواع المبالغة، حتى في قصة القبض عليه؛ إذ يرويها بأسلوب هادئ وغير شخصي تقريبًا.
١٥ ومما لا شك فيه أن لوسياس كان يجني من وراء ذلك تقديرًا وإجلالًا عظيمَين.
ويوافق مشهد السجن كما يصفه أندوكيديس
١٦ مشاعرنا كثيرًا، بَيدَ أنه من المؤكد أن ما هو أكثر تأثيرًا من ذلك، هو
هيبة مثل ذلك المنظر في لوسياس:
«فلما أُدِينوا بالقتل واقتربت نهايتهم، أرسلوا يطلبون قريباتهم — من أخت وأمٍّ
وزوجة، كلٌّ حسب حالته — ليزرنهم في السجن حتى يودِّعوهن الوداع الأخير. وقد استدعى
ديونوسودوروس
Dionysodorus أختي، وكانت زوجته؛ فلما
علمَت بالدعوة جاءت في ثياب الحداد، كما يجب، حزنًا على حالة زوجها.»
١٧
وبعد أن تصرَّف السجين في ممتلكاته، أوصى زوجته في خشوع بأنها إذا أنجبت ولدًا، تخبره
بأن أجوراتوس قد قتل أباه، وتأمره بالانتقام من القاتل.»
لا نجد هنا أية إشارة للبكاء والعويل كما يصف أندوكيديس، لا شيء سوى الشجن الصامت
للقصة نفسها، الذي يأتي بأثره المرجو في تحريك المشاعر. وإن لمثل هذا الأسلوب لأثرًا
أكثر استدرارًا للعطف عند طبقة خاصة من المستمعين، أكثر من أي مبالغة في الحزن. ومثل
هذه الفقرات كافٍ لدرء التهمة عن لوسياس إذ ينقصه الحنان.
۷
لم تنقص لوسياس روح الفكاهة والمداعبة؛ فقد كان في بعض الأحايين يستعمل التهكُّم،
الذي يكون تارة رقيقًا مرحًا، وطورًا لاذعًا قاسيًا
إلى حد الوحشية حسب ما تقضي به الظروف، فنراه في الإبيتافيوس
Epitaphios يشير إلى كيف كان يعتقد الفرس أن خير
فرصة لنجاحهم هي غزو بلاد الإغريق، بينما كانت بلاد الإغريق نفسها تتنازع فيما بينها
على خير السبل للدفاع ضد الغزو.
١٨
ويمكن العثور على عبارات أخرى في خطبته «لأجل المقعد».
١٩ وأحيانًا يقدِّم إشارة تهكمية بوساطة التلاعب بالألفاظ مثل
βουλευειν-δουλευειν في فيلو
Philo (فصل ۲٦)، «إنه يرغب في مركز خادم عام، ولكن
ما يستحقه هو مركز عبد عام.» ونذكر مثلًا من بين الأمثلة العديدة في النيكوماخوس
Nicomachus للمقارنة بينه وبين فقرة مشابهة بعض
المشابهة في أندوكيديس: «لقد أصبح الآن مواطنًا بدلًا من أن يكون عبدًا، وثريًّا بدلًا
من أن يكون معدمًا، ومشرِّعًا بدلًا من مساعد كاتب.» ويقلُّ هذا كثيرًا في تأثيره عن
الدور غير المنتظر الذي يعطيه أندوكيديس لفقرة مشابهة.
٢٠
وأخيرًا تحتوى شذرة الخطبة ضد أيسخينيس السقراطي Aeschines the
Socratic على فقرة فكاهية طويلة، وكان لدى أيسخينيس شغف باقتراض
المال دون أن يردَّه «لقد عامل جيرانه معاملة سيئة لدرجة أنهم كانوا يهجرون مساكنهم
بأسرع ما في طاقتهم ويسكنون بعيدًا جدًّا عنه … ويخيَّل إلى من يرى جموع الدائنين
المتزاحمين إلى باب داره في الصباح الباكر، أنهم مجتمعون لتشييع جنازة.»
وهكذا يستمر في أسلوب هزلي حتى يختم أقواله بتعليق كله حقد على معشوقة أيسخينيس «لأن
تَعُد أسنانها أيسر بكثير من أن تَعُد أصابع يدها.»
۸
لقد ألَّف لوسياس عددًا خارقًا من الخطب؛ فمن بين الأربعمائة والخمس والعشرين خطبة
المنسوبة إليه، يصرِّح ديونوسيوس بأن مائتين وثلاثًا وثلاثين صحيحة،
٢١ ولدينا الآن أربع وثلاثون خطبة إما تامة وإما تنقصها أجزاء في بعض الحالات،
وتُعرف مائة وسبع وعشرون خطبة ببقاء عناوينها أو قطع صغيرة منها.
وحيث إننا لا نستطيع أن نتتبَّع بالدقة تطوُّر أسلوبه حسب الزمن، إذَن فخير تقسيم
للخطب هو بحسب مواضيعها.
الخطب البليغة
لا شك في أن شذرة الخطبة «الأوليمبية»
حقيقية، وهي مثل رائع لمؤلفات هذه الطبقة.
لقد عرف السفسطائيون Sophists قبلًا قيمة الفرص
التي أعطاها مجلس الحكومة الإغريقية العظيم للتعبير عن الشعور القومي، ورغم أن
صناعة الخطابة ربما كانت لإظهار الخطابة نفسها؛ فقد نمت العادة بجعلها فرصة لمناقشة
المشاكل السياسية الواسعة. وعلى ذلك قام جورجياس يخطب عن ضرورة الاتحاد بين
الإغريقيين، وبعد ذلك بمدة ألقى إيسوكراتيس خطبته في المدح، فحثَّ فيها على وجوب
ترك المنازعات بين المدن لصالح الأمة الإغريقية.
وفي عام ۳۸٨ق.م. أرسل ديونوسيوس وفدًا عظيمًا إلى العيد الأوليمبي، ولما أحسَّ
لوسياس بأن طاغية الغرب الذي استرجع بعض المدن الهامة في صقلية، وهزم قرطاجنة
Carthage، وأضحى الآن يهدِّد مدن بلاد اليونان
العظمى Magna Graecia، قد يصبح خطرًا داهمًا على
استقلال المدن الإغريقية نفسها، ولا سيما إذا تحالف مع الفرس؛ فحثَّهم على ترك
عداءاتهم الخاصة في سبيل المصلحة العامة. وإذ كان لديه شعور سابق بعدائهم، طلب
إليهم تقويض السرادق الملكي في أولومبيا Olympia
وبعثرة كنوزه.
ويحذِّر الخطيب مستمعيه في الشذرة الباقية، من أن جزءًا عظيمًا من العالم
الإغريقي في أيدي الطغاة، وجزءًا كبيرًا منه تحت الحكم البربري، وذلك بسبب الضعف
الذي نشأ عن الانقسام الداخلي، ويعتمد قوام الإمبراطوريَّة على السيطرة على البحار،
وإن كلًّا من ديونوسيوس وأرتاكسيركسيس Àriaxerxes
قوي في إدارة السفن.
«إذَن يجب عليكم أن تطرحوا عنكم الحرب فيما بينكم وتعملوا متآزرين في سبيل سلامة
البلاد، وينبغي أن تنظروا إلى الماضي بخجل وإلى المستقبل بروية وإدراك.»
ويدعو إسبرطة إلى تولِّي زمام القيادة. أما مادة نهاية الخطبة فمعروفة لنا من
«الحوار»، بَيدَ أن الشذرة طويلة جدًّا حتى لا يمكننا الحكم عليها بأنها إنشاء بسيط
قيِّم.
أما الإبيتافيوس Epitaphios، أو خطب الرثاء،
فتهدف إلى التحدث عن الأثينيين الذين سقطوا في ميدان الحرب الكورنثية حوالي عام
۲۹٤ق.م. وإن كان من الصعب تحديد السنة بالضبط.
جرت العادة بإلقاء مثل هذه الخطب في أثينا؛ فيختار لذلك عادةً خطيب ذائع الصيت،
ولما لم يكن لوسياس مواطنًا؛ فقد استحال اختياره. وإن كانت الخطبة قد أُلقيت، فمن
النادر أن يكون هو مؤلفها؛ إذ ربما لا يحتاج الخطيب المتمرِّن إلى خدمات كاتب محترف.
٢٢
ويمكننا أن نأخذ فكرة عامة عن الأسلوب من إحدى فقرات الخاتمة:
«وهكذا يمكننا اعتبار هؤلاء الرجال أسعد الناس حظًّا؛ لأنهم واجهوا
نهايتهم ولقوا حتفهم في سبيل كل ما هو عظيم وشريف غير تاركين أنفسهم
ليموتوا الميتة الطبيعية، بل اختاروا أنبل سبيل للموت.»
«سيخلد ذكرهم مدى الأجيال، وسيحسدهم الجميع على ما نالوه من شرف. إننا
نبكيهم كأموات في طبيعتهم، ولكننا نحتفل بهم خالدين من أجل شجاعتهم،
ويشيِّع الجمهور جنازاتهم، وتكريمًا لهم نقيم استعراضات القوة والحكمة
والثروة، معترفين أن من يموت في ساحة الوغى جدير بأن يبجَّل تبجيل
الخالدين. ولذا أسمِّيهم سعداء في موتهم وأحسدهم على ذلك، وأظن أنه يجب أن
يقال إنما الحياة جديرة بأن يملكها مثل هؤلاء الرجال فقط، الذين بأجسادهم
الفانية، تركوا ذكرى خالدة بشجاعتهم السامية. ومع ذلك فإنه ينبغي أن
نتمسَّك بالتقاليد القديمة ونسير على قانون الآباء والأجداد؛ فنبكي ونحزن
على من نحتفل اليوم بدفنهم.»
٢٣
لا شيء في هذه الخاتمة خارق أو أصلي فهي تذكِّرنا بشذرة مرثاة جورجياس، ولا سيما
في المقارنات المتكلَّفة والمتكررة بين «فانٍ» و«خالد». أما من حيث طبيعتها ومادتها
فهي أقل بكثير من خطبة بركليس الشهيرة، التي رغم المغالاة في أسلوبها، تحوي طابع
الشعور الصادق.
إن خطبة لوسياس في الرثاء جوفاء؛ فهي ضعيفة الخيال، ولا تشير إلى الأموات إلا
إشارة بسيطة جدًّا، ولا تبشِّر بأمل الأحياء في الراحة.
والإشارة إلى الحرب الفارسية جزء من المتاع البلاغي، كالذي أثار شهية أريستوفانيس
Aristophanes، في حين أن المراجع التاريخية
للظروف المفروضة لهذه الخطبة غامضة غموضًا يجعلها لا تتفق وأية مناسبة
معينة.
ومن حيث الدليل الداخلي، يمكننا الاعتقاد بأنها ليست خطبة بالمعنى الحقيقي، بل هي
تمرين خطابي.
كذلك يسأل البعض؛ هل ألَّف لوسياس هذه الخطبة أم ألَّفها غيره؟
يسمح مؤلف «الخطب الحماسية declamation» لنفسه
بحُريَّات لا يسمح بها في الخطب الواقعية، ومع ذلك فمن الصعب أن نثق بأن لوسياس قد
اقترف مثل هذه الأخطاء الذوقية؛ كأن يناقش حروب الأمازون أو يبالغ في الفصول
الافتتاحية: «لا يكفي الوقت، لجميع الناس، لإعداد خطبة تناسب هذه الأعمال!» وكذلك
«في كل مكان، وبين كل الناس، من يبكي أحزانه الشخصية، إنما يبكي هؤلاء
الموتى!»
لا تناسب هذه الفقرات الحرب الكورنثية ولا أية حرب وقعت إبان حياة لوسياس، كما أن
لوسياس لم يذكر أشياء غير مناسبة كهذه.
٢٤
ويحتمل أن تكون الخطبة تمرينًا ألَّفه كاتب وضع أمامه خطبة بركليس ومؤلفات أخرى
مماثلة. إن أرسطو يذكرها فعلًا، غير أنه لا ينسبها إلى لوسياس.
٢٥ وافتقارها العام إلى التحفظ في اللهجة يثير الشك، ولكنه على العموم
أقوى حجة ضد صحتها.
ولا تبقى غير شذرة واحدة (خطبة ٢٤) من خطبه، وضعت للإكليسيا. ونعلم من عنوانها
أنها ألقيت لمعارضة بعض المقترحات لإلغاء أو تجديد الدستور القديم بعد سقوط حكومة
الثلاثين (سنة ٤٠٣ق.م.) ويشك ديونوسيوس في أنها قد ألقيت فعلًا، ويعتبر أنها كتبت
في أسلوب صالح للجدال.
٢٦ ومن الواضح تاريخيًّا أن الخطيب يجسر على مقارنة موقف أثينا بالنسبة
إلى إسبرطة أو أرجوس ومانتينيا
Mantineia. إذَن لا
بد وأن كان الأثينيون مهيضي الجناح حتى إنهم تحمَّلوا مثل هذه الإشارة.
القضايا العامة
تقع هذه القضايا γϱαφαί تحت عناوين مختلفة،
وتتناول جميع أعمال الشَّغب ضد الدولة، وتتضمن الخيانة المباشرة، وانتهاك حرمة
الطقوس الدينية، والاختلاس، والإجراءات غير الدستورية، والتهرُّب من الخدمة
العسكرية، والبلاغات الكاذبة للحصول على وظيفة أو ضد الدولة في شخصية فردٍ ما كتُهم
القتل أو الشروع في القتل.
وإذا ما رتَّبنا هذه القضايا حسب أهميتها، نبدأ بالخيانة العظمى، (مثل إرجوكليس
Ergocles) والقتل عمدًا (مثل إيراتوسثينيس
Eratosthenes) ومحاولة المقعد
the Cripple الحصول على معاش بادعاءات باطلة
(الخطبة ۲٤).
الخطبة العشرون عن بولوستراتوس (٤۱۱–٤٠٥ق.م.)
وضعت هذه الخطبة «دفاعًا عن بولوستراتوس For
Polystratus في تهمة محاولة قلب نظام الحكم
الديمقراطي».
كان بولوستراتوس يشغل منصبًا في حكومة
الأربعمائة Four Hundred، وكان عضوًا في هذه
الحكومة، ولا يعرف بالضبط نوع التهمة التي وجِّهت إليه، بَيدَ أنه من حيث أن
عقوبتها لم تكن سوى غرامة مالية؛ فلا يمكن اعتبارها خطيرة كما يتضمن العنوان.
ويجزم النقَّاد المحدثون بأن هذه الخطبة زائفة مستندين إلى أسباب تتعلَّق
بالأسلوب والطريقة؛ فترتيبها مضطرب في بعض الأحيان، وحوارها غامض، وأسلوبها
ضعيف.
يجب أن يكون هذا النوع من المناقشة ضد صحة الخطبة أمرًا ثانويًّا؛ حيث إن
البرهنة عليه عسيرة جدًّا.
وبالخطبة ضد ثيومنستوس Theomnestus (انظر
صفحة ١٠٩) أخطاء لا يجدر بلوسياس الوقوع فيها، ومع ذلك فإنها تعتبر دون شك
صحيحة بناءً على آراء النقَّاد أنفسهم.
وينبغي أن نتذكر أن هذه الخطب كتبت قبل أية خطبة اعتبرت صحيحة ببضع سنوات
(حوالي عام ٤٠٧ق.م.)؛ إذ عدم الدقة والإتقان مما يُنتظَر في أول أعمال ومجهودات
أي خطيب.
الخطبة الحادية والعشرون، عن تهمة الرشوة
ليست سوى النصف الثاني للخطبة، أما جزؤها الأول الذي يتناول موضوع التهم
فمفقود، ويشير المدَّعى عليه إلى خدماته العامة البارزة كدليل على عدم إمكان
اعتباره من النوع الذي يُرتشى ليخون بلاده، وربما كان تاريخ هذه الخطبة سنة
٤٠٢ق.م.
الخطبة السابعة والعشرون ضد إبيكراتيس
Epicrates، والثامنة
والعشرون ضد إرجوكليس، والتاسعة والعشرون ضد
فيلوكراتيس Philocrates
يمكن اعتبارها كلها خطبًا ألقاها المدَّعي العام سنة ۳۸۹ق.م. ويظنون أن
الخطباء السابقين قد تغلغلوا تمامًا في التهم، حتى إنهم قد احتاجوا هم أنفسهم
إلى تلخيصها فحسب. كان الخطباء نشيطين وموجزين ولكنهم مبهمون. ولم تكن هناك
حاجة في مثل هذه الخطب الشكلية إلى ضرورة الملاءمة لطابع الخطيب الذي نراه في
مكان آخر. لقد حُوكِم إرجوكليس وأعدم لخيانته المدن الإغريقية الآسيوية وجمع
الثروة بالسرقة، وكان يساعده ويشاركه في ذلك فيلوكراتيس. أما إبيكراتيس فاتُّهم
باختلاس الأموال العامة عندما كان في منصب ثقة.
الخطبة الثلاثون ضد نيكوماخوس (حوالي ۳۹۹ق.م.)
اتُّهم نيكوماخوس
Nicomachus بالإهمال في
عمله وعدم إنجازه في الوقت المعين عندما عيِّن لمراجعة بعض القوانين، كما تسبب
في إنفاق مبالغ زائدة على الحاجة من الأموال العامة، مع ملاحظة أن ذلك لم يكن
لمنفعته الشخصية. كان نيكوماخوس مكسالًا وغير ذي رأي صائب؛ فرأى المدَّعي أن
يمطره وابلًا من السُّباب، ولا سيما لأصله الوضيع إذ كان والده عبدًا وأعتِق.
٢٧
الخطبة الثانية والعشرون ضد بائعي الحبوب
خطبة صريحة لا ادِّعاء فيها، نتجت عن القوانين الخاصة بتوريد الحبوب؛ فلم يكن
مسموحًا لمن يتَّجر في الحروب أن يربح أكثر من أوبول
Obol٢٨ واحد في كل بوشل
Bushel،
٢٩ كما كان الاحتكار ممنوعًا منعًا باتًّا. وتاريخ هذه الخطبة مشكوك
فيه، ويحتمل أن يكون عام ٣٩٠ق.م.
الخطبة الثامنة عشرة، عن مصادرة أملاك شقيق نيكياس
Nicias
(حوالي سنة ٣٩٦–٣٨٥ق.م.)
أعدمت حكومة الثلاثين يوكراتيس Eucrates شقيق
نيكياس سنة ٤٠٤ق.م. وبعد ذلك بوقت صدر قرار بمصادرة ضيعته، فاحتجَّ أبناء
يوكراتيس وابن أخيه على ذلك الحكم الذي وقع عليهم ظلمًا. ويحتوي الجزء الأكبر
من الشذرة الباقية على التماس بالرحمة، وهو شيء غير عادي في خطب لوسياس.
الخطبة التاسعة للجندي (٣٩٤–۳۸۷ق.م.)
وهي دفاع بولواينوس Polyaenus المتهم بعدم
دفع غرامة، وهذه مشكوك في صحتها ولو أن المناقشات التي تتعلَّق بها ليست
قاطعة.
الخطبة التاسعة عشرة عن أملاك أريستوفانيس (عام ۳۸۷ق.م.)
وهذه قضية أخرى تدور حول المصادرة، وهي جيدة التركيب تتفق في الواقع مع صعوبة
القضية.
الخطبة السادسة والعشرون ضد إيفاندروس
Evandrus (عام ٣٨٢ق.م.)
هذه شذرة هامة من خطبة تتعلق باختبار (δοκιμασία). لما رفض انتخاب ليوداماس
Leodamas، وهو المرشح الأول
ليكون أرخونًا لسنة ۳۸۱ق.م. لعدم لياقته،
كان على إيفاندروس المرشح الثاني لذلك المنصب أن يجتاز اختبارًا، بَيدَ أن
خصومه يعارضون في انتخابه مشيرين إلى أعماله في عصر الأوليجاركية ومع أنهم
يعترفون بحسن سيرته منذ عهد الإصلاح؛ فإنهم يصرُّون على عدم أحقيَّته لهذا
المنصب. وإن قسوة وظلم هذه الخطبة لأمران غير عاديين في لوسياس، ولكن صحة هذه
الخطبة لا يتطرَّق إليها أي شك.
الخطبة السادسة عشرة٣٠ من أجل مانتثيوس Mantitheus (حوالي
٣٩٢ق.م.) والخطبة الحادية والثلاثون ضد فيلو
Philo (٤٠٥–٣٩٥ق.م.) والخطبة الخامسة
والعشرون وهي المعنونة خطأً «دفاع عن قلب الديمقراطية» (٤٠٢–٤٠٠ق.م.)
تتعلَّق كلها بالاختبار δοκιμασία وهناك صرامة في الخطبة ضد فيلو أكثر مما في
الخطبة ضد إيفاندروس ولو أنها خفيفة الوطأة؛ لأنه لو صحَّت الروايات التي تُروى
عن فيلو، لكان نذلًا ممقوتًا.
الخطبة الرابعة والعشرون دفاعًا عن المقعد (حوالي عام ٤٠٠ق.م.)
وتتناول الاختبار أيضًا
δοκιμασία ولو أنه من
نوع يخالف النوع الأول؛ فقد منحت معاشات لعدة أفراد عاجزين عن كسب قوتهم بسبب
عاهات جثمانية ولم يكن لهم مورد رزق آخر، والمدَّعى عليه في هذه القضية متَّهم
بالحصول على معاش عن غير حق؛ إذ هو في يسر نسبيًّا.
٣١
الخطبة الثانية عشرة ضد إيراتوسثينيس (٤٠٣ق.م.)
هذه أشهر خطب لوسياس، وقد سبق أن تناولناها بعض الشيء،
٣٢ وتعتبر عادة للمرافعة في قضية قتل، ولكن الأكثر احتمالًا أنها
ألقيت في مناسبة فحص حسابات
έϋϑυνα إيراتوسثينيس؛ لأنه كان قد صدر عفو شامل بعد
انهيار حكومة الثلاثين، على شريطة أن من يريد منهم أن يقدِّم حسابًا عن تصرفاته
بمحض إرادته سيلقى محاكمة عادلة،
٣٣ ولم ينتهز هذه الفرصة سوى إيراتوسثينيس وفيدون
Pheidon.
ويلقى الرأي الأخير تعضيدًا حيث إن الجزء الأول من الخطبة (الفقرات ١–٣٧)
يتناول مقتل بوليمارخوس Polemarchus، أما الجزء
الأكبر (من ٣٧–١٠٠) فيدور بصفة عامة حول أخلاق إيراتوسثينيس وما اقترفته حكومة
الثلاثين من جرائم بوجه عام.
الخطبة الثالثة عشرة ضد أجوراتوس Agoratus
(٤٠٠–٣٩٨ق.م.)
كان أجوراتوس مبلغًا، وقدِّم للمحاكمة لأنه تسبَّب في موت ديونوسودوروس
Dionysodorus خال الخطيب. وتحوي هذه الخطبة
مادة تارخية غزيرة، ولكن المدَّعي يتمسَّك باستمرار بتهمة القتل، ولا يتناول
المواضيع السياسية إلا نادرًا.
الخطبة الأولى حول مقتل إيراتوسثينيس (تاريخها غير موثوق منه)
هذه الخطبة ذات متعة عظيمة لأنها تصوُّر الحياة المنزلية للطبقة الوسطى في أثينا.
٣٤
الخطبة الثالثة، ضد سيمون Simon (بعد عام
٣٩٤ق.م.) والخطبة الرابعة حول الإصابة عمدًا
بجرح (تاريخها غير موثوق منه)
كلا هاتَين الخطبتَين دفاع عن تهمة الإصابة بجرح مع تعمُّد القتل
(τϱαυματος εκ πϱονοίας)،
والمتهم في الخطبة الأخيرة يريد البرهنة على أنه كان على علاقة حسنة بالمدَّعي
من قبل، فيروي حكاية غريبة عن الفساد. فقد رشَّح المتهم المدَّعي لمنصب قاضٍ في
الديونوسيا
Dionysia،
٣٥ على شرط أنه إذا تم انتخاب المدَّعي؛ فإن هذا الأخير يمنح الجائزة
لقبيلة المتهم، وكتبًا مذكِّرةً بهذا المعنى، غير أنه لسوء الحظ لم يُنتخَب؛
فآلت الجائزة إلى جوقة من المرتِّلين؛ لأنها إما تفوَّقت في الأناشيد، وإما
أفلحت في مسعاها غير الشرعي بمهارة أكثر.
٣٦
الخطبة الخامسة من أجل كالياس Callias
(وتاريخها غير موثوق منه)
وهي عبارة عن دفاع يظهر أنه كان عند انتهاك حرمة الطقوس الدينية، والتهمة غير
معروفة بالضبط.
الخطبة السابعة عن شجرة الزيتون المقدسة (حوالي عام ٣٩٥ق.م.)
كتبت هذه الخطبة دفاعًا عن رجل اتُّهم باقتلاع شجرة زيتون مقدسة، وهو عمل دنس
عقوبته النفي ومصادرة الممتلكات.
الخطبتان الرابعة عشرة والخامسة عشرة، ضد ألكيبياديس ۱،
۲ (حوالي عام ٣٩٥ق.م.):
تتناول أولاهما تهمة ترك الديار، وثانيتهما تهمة التهرُّب من الخدمة
العسكرية، وهما قضيتان مختلفتان في مظهرهما ولكن عقوبتهما واحدة، وكان مفروضًا
أن يخدم المتَّهم، ابن ألكيبياديس، في فرقة الفرسان، في حين أنه لم يكن يستحق
سوى العمل في فرقة المشاة. ولا شك أن ألكيبياديس الصغير قد عوقب عن آثام والده
الذي يرجع إليه نصف التهمة الحالية. ويمكننا أن نقارن بصدد هذه النقطة موضوع
خطبة إيسوكراتيس دفاعًا عن ألكيبياديس، والخطبة ضده التي تنسب إلى أندوكيديس
ولكنها قد تكون عملًا متأخرًا.
٣٧
خطب خاصة
الخطبة العاشرة ضد ثيومنستوس Theomnestus
(٣٨٤-٣٨٣ق.م.)
هي خطبة للاتهام في قضية قذف وسباب، وفيها يطنب الخطيب في مرافعته إطنابًا
مملًّا مستخدمًا ما شاء من ألفاظ المراوغة التي حاول المتَّهم بوساطتها أن ينجو
من العدالة. وتتجلَّى المهارة وسرعة الخاطر في الحوار، غير أنه بسبب تفاهة
موضوع هذه الخطبة، فلا متعة فيها إلا لطلاب دراسة الأسلوب.
٣٨
الخطبة الثانية والثلاثون ضد ديوجيتون
Diogiton (٤٠٠ق.م.)
هي اعتراف رائع حقًّا لوقائع قضية ضد حارس خائن، فعلاوةً على تناول التفاصيل
المالية بمهارة، نجد روايتها للوصف والحكم على الطابع الشخصي في غاية
الإبداع.
الخطبة السابعة عشرة حول أملاك إيراتون
Eraton (٣٩٧ق.م.)
ألقيت هذه الخطبة في
διαδικασια٣٩ لقضية بين أحد الأفراد والدولة، ويتمسَّك فيها الخطيب بملكية
إيراتون للأملاك التي صودرت نظير سداد دَين.
الخطبة الثالثة والعشرون ضد بانكليون
Pancleon
(وتاريخها غير موثوق منه)
اتُّهم بانكليون بهتمة مبهمة، ويعتبرها الاتهام إخلالًا بالنظام، فقدَّم
دفعًا بأنه مواطن من بلاتيا Plataea لا يخضع
للقانون الذي حوكم بمقتضاه، وأخيرًا يتضح أنه عبد هارب.
وتتكوَّن الخطبتان الأخيرتان غالبًا من سرد فقط.
خطب زائفة أو مشكوك فيها
الخطبة السادسة ضد أندوكيديس Andocides
(٣٩٩ق.م.)
يعتقد عادةً أن هذه الخطبة ليست
للوسياس، وأهم اعتراض عليها هو أن كاتبها قليل التبصُّر. وكما يشير جِب، يدلي
كاتبها بثلاثة إقرارات هدَّامة تضرُّ قضيته نفسها، ومع ذلك فيمكن اعتبارها
حقيقة خطبة ضد أندوكيديس؛ فهي تحوي بعض تصريحات لا تتفق واعترافات أندوكيديس،
إلا إنه كما رأينا، لا يمكن البرهنة على توخِّي أندوكيديس الصدق دائمًا.
ومن حيث مطابقتها لاعترافات أندوكيديس، يمكننا الاعتقاد بأنها كتبت بوساطة
خطيب معاصر، وليست بوساطة سفسطائي كما يؤكِّد البعض أحيانًا. وربما كانت قد
ألقيت فعلًا عند محاكمة أندوكيديس سنة ۳۹۹ق.م.
إيروتيكوس Eroticus
يقرأ فايدروس Phaedrus بصوت عالٍ، في حوار
أفلاطون المسمَّى فايدروس، خطبة للوسياس ينتقدها سقراط.
فلو تتبَّعنا أفلاطون حرفيًّا، لكان علينا أن نؤمن بأن ما يقرأ هو حقيقة من
تأليف لوسياس، بَيدَ أن أفلاطون نفسه، إذا ما حاول تأكيد شيء؛ فإنه يجري على
عادته ويعطيه مظهر الحقيقة والواقع. وربما يرسخ في ذهن أغلب القرَّاء أن
أفلاطون قد توخى الحقيقة كعادته. وليس ما أنتجه هنا سوى محاكاة تقرب جدًّا من
الحقيقة حتى ليمكن تسميتها جدًّا في هزل.
ويمكننا مقارنة محاكاة أفلاطون لخطبة أسباسيا
Aspasia في مينيكسينوس
Menexenus.
الخطبة الثامنة، عن زملائه
ليس معقولًا أن تنسب هذه الخطبة إلى لوسياس؛ فإنها في الحقيقة عمل تافه جدًّا
لا يمكن أن يقوم به أي مزوِّر محترم. ويمكن اعتبارها تمرينًا خطابيًّا.
يشكو الخطيب من أن أصدقاءه قد افتروا عليه بتأكيدهم أنه قد فرض عليهم صداقته
فرضًا. لقد باعوه جوادًا عليلًا، واتهموه بإغراء أشخاص آخرين بالوشاية بهم، وهو
لذلك يتبرَّأ من صداقتهم.
وهناك فقرات من ست خطب مفقودة، حفظت بطريق الاقتباس من كتَّاب مختلفين:
- (١)
ضد كنيسياس
Cinesias (أثينايوس
Athenaeus، الباب الثالث عشر،
٥٥١ د).
- (٢)
ضد تيسيس Tisis (ديونوسيوس، عن
ديموسثينيس، الباب الحادي عشر).
- (٣)
من أجل فيرينيكوس Pherenicus
(ديونوسيوس، عن إيسايوس de Isaeo،
الباب السادس).
- (٤)
ضد أبناء هيبوكراتيس Hippocrates
(ديونوسيوس، عن إيسايوس، الباب السادس).
- (٥)
ضد أرخيبياديس (ديونوسيوس، عن إيسايوس، الباب العاشر).
- (٦)
ضد أيسخينيس (أثينايوس، الباب الثالث عشر،
E611-C612).
٤٠
وشذرات الخطب الأخرى في سويداس Suidas،
وهاربوكراتيون Harpocration، وغيرهما قليلة
الأهمية.