١
لم يعثر ديونوسيوس فيما عكف عليه من نصوص، على أية معلومات عن حياة إيسايوس، فتاريخَا
مولده ووفاته غير معروفَين، ولا نستطيع، كما يلاحظ ديونوسيوس، أن نعرف اتجاه آرائه
السياسية أو حتى إذا كانت عنده أية آراء سياسية.
١ كذلك يحوط الشك مكان ميلاده؛ فبعض النصوص تشير إلى أنه وُلد في أثينا،
بينما يشير البعض الآخر على أن مولده كان في خالكيس
Chalcis.
والرأي القائل بأنه ربما كان ابن رجل أثيني اشتغل كاتبًا في خالكيس من الممكن قبوله،
ولكنه يفتقر إلى دليل.
٢ وهناك رأي استنتج من عدم اشتراكه في الحياة العامة، باحتمال كونه غريبًا،
ولكن هذا الرأي غير صائب. والواقع أنه سواء أكان أثينيًّا أم غير أثيني؛ فإنه لم يخطب
مطلقًا في أية مجالس قومية عظيمة؛ حيث كان الخطباء من جميع البقاع الإغريقية يُظهرون
مواهبهم؛ وذلك لأنه لم يكن يميل إلى الظهور كخطيب، بل اقتنع باحتراف كتابة
الخطب.
هناك أسطورة تروي أنه لما أعجب ديموسثينيس الصغير بأثر خطابة إيسايوس، حثَّ الأخير
على أن يعيش معه في منزله ويدرِّبه تدريبًا تامًّا على جميع فنون الخطابة القضائية، حتى
إنه ليُقال إن أولى خطب ديموسثينيس ضد آفوبوس Aphobus
كتبها في الحقيقة أستاذه، بَيدَ أن الدليل على صحة هذه الرواية ضعيف؛ ومع ذلك فإن أثر
إيسايوس في ديموسثينيس عظيم، سواء كانا أم لم يكونا على اتصال شخصي.
وقد سجَّل ديونوسيوس مستندًا إلى هرميبوس
Hermippus،
أن إيسايوس كان تلميذ إيسوكراتيس
Isocrates وأستاذ
ديموسثينيس، وقد اتصل اتصالًا وثيقًا بخير الفلاسفة.
٣
وليس هناك دليل ما على أنه كان يومًا صديق سقراط، ما دام اسمه لم يذكر في أي مكان
بوساطة أفلاطون.
وتنسب أولى خطبه (عن ضيعة ديكايوجينيس Dicaeogenes)
مع بعض الاحتمال إلى سنة ٣٩٠ق.م. وآخر خطبه «عن ضيعة أبولودوروس
Appollodorus» إلى عام ٣٥٣ق.م.
فإذا كان التاريخ ٣٩٠ق.م. صحيحًا، كان من المعقول وضع فترة دراسته على يد إيسوكراتيس
بين عامَي ۳٩٣، ٣٩٠ق.م. عندما بدأ هذا الخطيب مدرسته. وعلى هذا الزعم يمكننا تقدير
تاريخ ميلاد إيسايوس بحوالي سنة ٤٢٠ق.م. غير أنه من الضروري أن يستند تقدير التواريخ
على دليل داخلي، وهذا الدليل هنا مبهم.
ومن المحتمل أيضًا أن يكون تاريخ خطابته متأخرًا، وعلى ذلك تكون أولى خطبه هي عن
ضيعة
أريستارخوس Aristarchus عام ۳۷۷–۳۷۱ق.م. وبذا لا يكون
إيسايوس قد ولد قبل سنة ٤٠ق.م.
ومن الأكثر تأكيدًا أن تاريخ آخر خطبة باقية هو حوالي عام ٣٥٣ق.م. إلا إنه ليس لدينا
ما يثبت أنه عاش طويلًا بعد تأليفها؛ فيجوز أنه ارتاح عدَّة سنوات.
ظل إيسوكراتيس يكتب حتى قابل الرفيق الأعلى، وكانت لديه أفكار عظيمة يعبِّر عنها.
وربما سرَّ إيسايوس، الذي لم يملَّ قط إلى السياسة، من عدم وجود ضرورة للتأليف بعد أن
استراح من عمله المستمر في كتابة الخطب لغيره؛ ومع ذلك فإن التاريخ التقريبي لحياته من
٤٢٠–٣٥٠ق.م. تقدير معقول.
قد يكون إيسايوس الخطيب الوحيد الذي لا نشعر نحوه بأي حماس؛ فلو كان لدينا من المصادر
الخارجية أبسط دليل على مشاعره الحقيقية، لاستطعنا أن نجمع من خطبه بعض تلميحات قد
تساعدنا على تكوين صورة لشخصيته؛ فإننا لا نعرفه إلا من خطبه التي كتبها لغيره، ولو
استثنينا كسرة واحدة؛ فإن جميع خطبه تتناول قضايا تتعلَّق بالوصايا، وليس هذا النوع
بألذِّ ما يتناوله القانون، ولم يكن هو شخصيًّا
مغرمًا بأية محاكمة لهذه القضايا، إلا إذا أمكننا تصديق النقاش الإغريقي المشكوك فيه
حول الخطبة الرابعة، والذي يؤكد أنه ترافع هو بنفسه مؤيِّدًا قريبيه هاجنون
Hagnon وهاجنوثيوس
Hagnotheus.
ويمكننا مقارنة حالته بحالة أنتيفون الذي عرفناه من خطبه في نوع واحد من أبواب
القانون؛ أعني قضايا القتل، بَيدَ أن الحظ كان في جانبنا في حالة أنتيفون؛ إذ يعطينا
ثوكوديديس نبذة قصيرة ولكنها وضَّاءة عن مجمل صورة حياته. وزيادة على ذلك فإن لدينا
التترالوجات التي تساعدنا إلى حدٍّ ما بالتفاصيل الناقصة.
ويقل ما نعرفه عن إيسايوس كفرد عما نعرفه عن هوميروس؛ فإننا نجمع فكرة فقط عن مقدرته
العجيبة في تناول موضوعات من نوع معين؛ وذلك لدرايته الواسعة بمعالجة مختلف المشاكل
المعقَّدة لقضايا الوصايا، ولباقته في استخدام درايته هذه في خير الأغراض، وتلك مقدرة
جديرة بكل إعجاب.
إن إيسايوس حجَّتنا الرئيسية في القوانين الآتيكية للوراثة،
٤ فقد كانت هذه القوانين غالبًا تعسفية، ومع أنها كانت مبسطة إلى حدٍّ أن من
له أبناء لا يستطيع شرعًا أن يدخل غيرهم في وصيته، إلا إن جداول القرابة وشجرة المواريث
كانت غاية في التعقيد، حتى إنه لا يمكن لغير الخبير الإلمام التام بها.
لم يكن بأثينا طبقة من المحامين المحترفين، وكثيرًا ما كان الهواة يشرِّعون القوانين،
ولدينا الدليل على ذلك في كثير من القضايا التي حُوكِم فيها من اقترح قانونًا وظهر عدم
شرعيته؛ أي قانونًا يخالف القوانين الموضوعة. ولما كان اقتراح هذه القوانين أمرًا
ارتجاليًّا توحي به الظروف؛ فإن تفسيرها كان دائمًا كما يتراءى للمحلف وظروف القضية
المطروحة أمامه في تلك اللحظة. ولا شك أن بعض سجلَّات الأحكام قد حفظت، ولكن لم يكن
للأثينيين احترام عظيم للسلف، وعلى أية حال لم يكن في مقدورهم الانتفاع به انتفاعًا
كاملًا بسبب نقص القضاة الفنيين الذين يجب أن يكونوا خبراء في مثل هذه الموضوعات. وهكذا
كانت هناك فرص عظيمة لرجل مثل إيسايوس جمع بين معرفة دقيقة للقانون ومهارة في تطبيق هذه
المعرفة، كما كان يستطيع تطبيق نصوص القانون، أو
الأحكام السابقة حسبما كان يوافقه ليتهرَّب من منطوق النصوص الحرفي. وفي الحالات التي
كان يمكن فيها تأويل القانون بعدة تأويلات، كان إيسايوس يفسِّره تفسيرًا ملتويًا يتفق
وصالح قضيته.
اختار إيسايوس لنفسه قسمًا هامًّا من أقسام القانون، وذلك لكثرة عدد قضايا المواريث
التي يظهر أنها جاءت قبل المحاكم الأثينية، وكانت هذه القضايا هامة في حد ذاتها نظرًا
لأهمية الوراثة دينيًّا. فقد رغب أحد الأثينيين في أن يترك وارثًا ذكرًا، لا لتبقى
أملاكه في عائلته فحسب، بل وليكون للأسرة ممثِّل يستطيع مداومة العبادة الخاصة لآلهة
تلك العائلة، وخاصةً ليقوم بالطقوس الجنائزية عند وفاة المورث، وليقدِّم جميع الذبائح
اللازمة عند قبره. وعلى ذلك كانت تحمل الوراثة بعض التزامات دينية محدودة، ومن لم يكن
له طفل على قيد الحياة، كان يتبنَّى طفلًا مدة حياته أو يوصي بتبنِّي طفل بعد موته؛
ليتأكَّد من استمرار العبادة العائلية.
إن مهارة إيسايوس في معالجة القضايا المعقَّدة
لتظهر بوضوح إذا ما درسنا حوار خطبه الباقية؛ فمثلًا الخطبة الخامسة «عن ضيعة
ديكايوجينيس» خاصة بطعن ابن شقيق شخصٍ ما، في استيلاء ابن عمه على ثلث الميراث بوساطة
وصية ثبت فيما بعد أنها مزوَّرة. وبالطبع نجح في الحصول على الميراث كله بوساطة وصية
أثبت المدَّعون تزويرها. ففي هذه القضية وصيتان ونتيجتا محاكمتَين سابقتَين يجب على
الخطيب أن يدرسها علاوةً على قرابة الخصوم المعقَّدة. بَيدَ أن إيسايوس يتناول القضية
فيجعلها واضحة.
كذلك في الخطبة الحادية عشرة «عن ضيعة هاجيناس» يذكر أسماء ثلاثة وعشرين عضوًا من
عائلة واحدة، ومن الضروري تتبُّع سلسلة نسب العائلة التي يتخلَّلها عدد كبير من أبناء
أولاد الأعمام تتأثَّر قرابتهم كثيرًا بتزاوج والديهم؛ أي بتزاوج أولاد الأعمام
الأصليين. وليس من السهل تتبُّع وقائع هذه القضية حتى على الورق. ويظهر أن الأمر التبسَ
على القضاة أنفسهم في هذه الحالة فأصدروا حكمًا خاطئًا.
ويمكن دراسة طرق الخطيب بسهولة أكثر من الخطبة الثامنة عن ضيعة كيرون
Ciron، وهي أبسط من السابقتين، وأهم وقائعها ما
يأتي:
رزق كيرون من زواجه الأول ابنةً هي والدة المطالبين بالميراث، وقد تزوَّج كيرون
ثانيةً أخت ديوكليس Diocles، فحثَّ ديوكليس ابن أخ
كيرون على رفع دعوى مضادة على الأسس الآتية:
فأثبت الخطيب، وهو أكبر المدعيين، شرعية أمه بدليل أن كيرون كان يعاملها دائمًا
كابنة، وأعطاها مرتين جهازًا وصداقًا، واعتبر ابنَيها وارثَين شرعيَّين له.
«لم يمُت جدنا كيرون بدون ذرية، بل تركني أنا وشقيقي نجلَي ابنته الشرعية، ولكن
المدَّعي يدَّعِي حق الوراثة على زعم أنه القريب التالي، ويهيننا ملحًّا بأننا لسنا
ابنَي ابنة كيرون، وأنه لم يكن له ابنة بالمرة. وهذا راجع إلى جشع ذلك المدَّعي، واتساع
ضيعة كيرون التي استولى عليها ويديرها الآن. ومن الوقاحة أن يقول إنه لم يترك شيئًا
بينما يطالب في الوقت نفسه بالميراث.»
«والآن، من رأيي، يجب ألا يكون حكمك على الرجل المطالب بالميراث، بل على ديوكليس
Diocles الآتي من فلوا
Phlya والشهير باسم أوريستيس
Orestes، الذي أغراه بمضايفتنا محاولًا أن يستولي
على الضيعة التي تركها كيرون بعد وفاته، فيعرِّض مصالحنا للخطر كيلا يترك منها جزءًا
لو
ضلَّلكم المدَّعي بتوكيداته. وحيث إن هذه غايته، ينبغي أن أخبركم بجميع الوقائع حتى لا
تغيب عنكم إحدى التفاصيل، وتعلموا بكل ما حدث قبل أن تصدروا حكمكم.»
«وبناءً على ذلك، ألتمس منكم أن تعطوا العدالة حقها، وتُولوا هذه القضية عناية جدية
كما فعلتم بكل قضية قبلها، وهذا عدل وإنصاف. وإذا ما رجعتم إلى ما سبق أن نظرتموه من
القضايا الكثيرة، وجدتم أنه لم يقدِم أي مدَّعٍ على المطالبة بملكية، بأكثر خزي ووقاحة
من هذَين الشخصَين.»
«والآن، إنها لمهمة شاقَّة أيها السادة، لشخص مثلي عديم الخبرة بإجراءات المحاكم،
أن
يتولَّى قضيته في محاكمة كهذه، ضد خطَب مدبَّرة وشهود زور. غير أن لي أملًا صادقًا في
أن أحظى بعدالتكم، وأن خطبتي ستحظى على الأقل بأن تمكنني من عرض قضية عادلة، اللهم إلا
إذا حيل بيني وبين ذلك بأي عائق من العوائق التي أعرفها. ولذا فإني أحثُّكم أيها السادة
على أن تهبوني أذنًا صاغية، حتى إذا ما ظهر لكم أني قد ظلمت حقيقة، أيَّدتم عدالة
دعواي.»
«سأبرهن لكم أولًا على أن والدتي كانت ابنة كيرون الشرعية، مستندًا من الوقائع التي
حدثت منذ أمد بعيد إلى الرواية والأدلة. وسأستشهد عن الحوادث التي ما زالت عالقة
بذاكرتي، بشهود يعرفون تلك الوقائع، وبالأدلة التي تؤيِّد صحتها، وهذه أقوى من
الاعترافات. فإذا ما أدليت إليكم بكل ذلك، أمكنني أن أبرهن لكم على أحقيتي في وراثة
ضيعة كيرون أكثر من أحقية خصمي فيها.»
«وسأبدأ من حيث بدأ خصومي إلى ما بعد ذلك، ذاكرًا لكم الوقائع.»
«تزوَّج جدي كيرون، أيها السادة، جدتي التي كانت ابنة خالته؛ فأنجبت منه أبي بعد مدة
الحمل العادية، ثم توفِّيت بعد ذلك بأربع سنين.»
«ولما لم يكن لجدي سوى ابنة واحدة، تزوَّج للمرة الثانية من شقيقة ديوكليس التي أنجبت
له ابنين، ثم أحضر أمي إلى منزله مع زوجته الثانية وطفلها. وفي أثناء حياة الطفلين،
بلغت ابنته سن الزواج فزوَّجها إلى ناوسيمينيس
Nausimenes القادم من خولارجي
Cholarge، ووهبها جهازًا من الملابس والحلي
الذهبية، كما أعطاها خمسة وعشرين ميناي
Minae.
٥
وبعد ذلك بثلاث أو أربع سنوات، مرض ناوسيمينيس وتُوفِّي قبل أن تلد له أمي أي طفل؛
فأرجعها جدي إلى منزله عودًا على بدء، غير أنه لم يستطع إرجاع كل جهازها نظرًا لاضطراب
شئون زوجها، ثم زوَّجها للمرة الثانية من أبي، واهبًا إيَّاها ۱۰۰۰ دراخمة.
٦
«وبمواجهة التهمة التي يوجِّهها إليَّ المدَّعي، كيف يمكن إثبات هذه الوقائع؟ لقد
بحثت فوجدت السبيل.»
«يعرف عبيد كيرون الذين يشتغلون في منزله، ذكورًا وإناثًا، إذا كانت والدتي ابنته
أم
لا، وهل عاشت في منزله، وهل احتفل بزواجها مرتين أم لم يحتفل، وما الجهاز والصَّداق
الذي تلقَّاه كل من زوجيها. وإني لأرغب في استجوابهم بطريق التعذيب حتى تتأيَّد أقوالي
وتثقوا في اعترافاتهم أكثر مما لو أدلوا بها عن طريق الإخبار. وقد طلبت من المدعيَين
تسليم عبيدهما وإمائهما لاستجوابهم عن النقط السابقة وغيرها مما يعرفونه، غير أن هذا
الرجل الذي سيطلب منكم قريبًا أن تثقوا بشهوده، رفض الإذعان إلى مثل هذا الاستجواب، ولو
استطعت إثبات رفضه لسهل كل شيء، ولكن كيف نستطيع تجنَّب احتيال إدلاء شهوده بأقوال
كاذبة عندما يرون أنه خاف مثل ذلك الاستجواب؟»
«وللبرهنة على صدق أقوالي، خذوا أولًا هذا التقرير واقرءوه.»
٧
التقرير
«من رأيكم الآن، شخصيًّا ورسميًّا، أن التعذيب أضمن سبيل للاستجواب، وإذا ما
تقدَّم إليكم العبيد والأحرار كشهود، وأردتم الوصول إلى معرفة الحقائق اعتمدتم
أقوال الأحرار، وعذَّبتم العبيد كي تحصلوا منهم على الحقيقة. وإنكم لعلى حقٍّ في
تفضيلكم هذا؛ لأنكم تعلمون أنه في حين احتمال الشك في صحة أقوال بعض الشهود، لم
يحدث مطلقًا أن أدلى العبيد بشهادات كاذبة عند التعذيب.»
٨
«من تظنُّون عنده علم بالحقائق الأولى؟ بالطبع من عاشروا جدي وأخبرونا بما سمعوا،
ومن ذا الذي يعلم عن زواج أمي؟ هم طرفا عقود الزواج وشهودهما، وقد أعطى أقارب
ناوسيمينيس وأقارب أبي الدليل المطلوب عن هذه النقطة. ومن ذا الذي يعرف أن والدتي
ربِّيت في بيت كيرون وكانت ابنته الشرعية؟ لقد أعطى المدَّعيان الحاليان برهانًا
واضحًا على صحة ذلك برفضهما التعذيب. إذَن ليس هناك أدنى شك في أن يكون من غير
المعقول ألا تثقوا بشهودي، في حين أنه لا يعسر عليكم تكذيب شهود الطرف
الآخر.»
«وعلاوةً على ذلك يمكننا تقديم براهين أخرى تستطيعون بوساطتها أن تتأكدوا من أننا
أولاد ابنة كيرون؛ فقد كان يعاملنا كما يعامل عادة أبناء ابنته؛ إذ لم يقدِّم ذبيحة
قط في غيابنا، بل كنا دائمًا نحضر، مهما كانت الذبيحة صغيرة أم كبيرة، كما كنا
نشترك فيها. ولم نكن نُستدعَى في مثل هذه المناسبات فقط، بل اعتاد دائمًا أن يصحبنا
إلى عيد الديونوسيا القروي، وكنا نشاهد العرض معه جالسين بجانبه، وكنا نذهب إلى
منزله لنحتفل بجميع الأعياد. وعندما قدَّم ذبيحة لزوس كتيسيوس Zeus
Ktesios، تلك الذبيحة التي أولاها أهمية عظمى، ولم يسمح للعبيد
أو للأحرار الغرباء عن العائلة بالاشتراك فيها، بل قام بكل شيء بنفسه، اشتركنا نحن
فيها وساعدناه في مناولة الذبائح، وعاونَّاه في وضعها على المذبح، كما ساعدناه في
كل شيء، وكجدِّنا طلب من الله أن يهبنا الصحة والثروة. بَيدَ أنه إذا لم يكن
يعتبرنا أولاد ابنته، وإذا لم يكن يرى أننا النسل الوحيد الذي خلَّفه، ما كان ليفعل
معنا شيئًا من ذلك، وكان يقرِّب منه ذلك الرجل الذي يدَّعي الآن أنه ابن أخيه. لا
يعرف هذه الحقيقة أكثر من سواهم غير خدم جدي الذين رفض المدَّعي تقديمهم للتعذيب.
ولكن بعض أصدقاء جدي يعرفونها كذلك بدقة كافية، وسأقدِّم دليلهم (الفصل
١٤–۱۷).»
ثم يستمر الخطيب في أقواله، فيقول إنه هو وأخوه قد سُجِّلا في العشيرة
Phratria بوساطة كيرون، وسمح لهما ديوكليس
بالإشراف على الجنازة بعد أن وافق على طلبهما في صمت.
ثم يثبت بعد ذلك بالنقاش القانوني، أن الذرية المباشرة لها الأفضلية في أحقية
المطالبة بالميراث، على الأقرباء من نسل الأشقَّاء. ويختتم الخطبة ببيان الملكية
ودسائس ديوكليس الذى يهاجم الخطيب خلقه الشخصي، وفي النهاية يقدِّم دليلًا على ثبوت
إدانة ديوكليس في تهمة الزنا.
٢
المميزات الأدبية
درس إيسايوس على إيسوكراتيس، ولذا كان من الحكمة أن نتبع الترتيب الزمني ونبدأ
بالمدرِّس أولًا، غير أن المدرِّس عاش عدة سنوات بعد تلميذه، ونشط في الاشتغال بالأدب
حتى فارق الدنيا، وعلى ذلك لا تنطبق الاعتبارات العادية للأقدمية على هذه الحالة.
والأوفق أن ندرس إيسايوس من حيث علاقته، لا بإيسوكراتيس، بل بأنتيفون ولوسياس كاتبي
الخطب السابقين لإيسوكراتيس؛ فقد كان إيسايوس أكثر اتصالًا بهما في موضوعه، ولا سيما
في
كونه كاتبًا متمرِّنًا مثلهما، كما أن أسلوبه أكثر شبهًا بإيجاز لوسياس منه بالسجع
المتكلِّف في أسلوب مؤلف البانيجوريك «المديح»
Panegyric.
ليس هناك فارق عظيم بين لوسياس وإيسايوس من حيث اللغة؛ فكلاهما يستعمل الألفاظ
الشائعة، متخذًا من حديث الشعب اليومي وسيطًا أدبيًّا. وبالبحث في خطب الأخير نعثر على
عدد معين من الألفاظ ذات النغمة الشعرية، كما تدلُّنا معلوماتنا، ولكن عمليًّا يمكن
وجود كل هذه في غيره من الخطباء وكتَّاب النثر.
٩
كذلك هناك قليل من الاستعارات الجديرة بالاعتبار مثل
έκκόπτειν «يضرب فيطرح أرضًا» أو «يضرب على الرأس». وقد استعمل
هذه دينارخوس
Dinarchus –
καϑιπποτϱοφειν «يبذِّر أمواله»، أي ينفقها على حظيرة للخيول.
وإننا لا نعرف سوى القليل من مصطلحات اللغة التي كان يتحدَّث بها في شوارع أثينا في
القرن الرابع، غير أننا نعرف أن الخطبة العامة دائمًا تكون ذات ميل إلى استعمال
الاستعارات الجافة؛ فإذا ما درسنا ما استعمل من ألفاظ، توقَّعنا العثور على مصطلحات من
هذا النوع.
١٠ وبدراسة المراسلات الخاصة الموجودة بين أوراق بردي أوكسورونخوس
Oxyrhynchus نعثر على أمثلة عدة لمثل تلك المصطلحات.
١١ وأخيرًا هناك ألفاظ قليلة تذكَّرنا بلغة الروايات الهزلية.
١٢
ويمكننا الاعتقاد بأنه لو سلَّمنا بهذه العيوب في صفاء لهجته الآتيكية؛ لوجدنا أن
هذا
الخطيب كان يتمسَّك دائمًا بالمذهب الواقعي الذي نجد عادةً آثارًا قليلة منه في النثر
الأدبي.
١٣
وتبعًا لقواعد اللغة الآتيكية، يشتمل أسلوبه أحيانًا على أخطاء، ويوجد في المخطوطات
عدد معيَّن من صور الألفاظ المعتبرة غير أتيكية.
١٤
وسواء صححنا هذه الفقرات حتى تلائم المستوى المفروض، أم جعلنا المستوى أكثر مرونةً
حتى يسمح بهذه الفقرات؛ فإن هذا الأمر متروك للنقاش. ففي مخطوطات ثوكوديديس ثروة من
المضادَّات المصاغة بمهارة عن طريق قواعد اللغة، وفي تلك الحالة، رغم أن كثيرًا من
النقَّاد قد بذلوا نبوغهم في إعادة تنظيم النصوص؛ فإن آراء مدرسة النقَّاد المعارضة،
تتمسَّك باحتمال اختيار الخطيب الكتابة كما يشاء. وإن أعظم الفنانين فوق قوانين فنهم،
وربما كان إيسايوس قد وصل إلى مستوًى لم يعرف أنه أسمى مستوى.
وبالنظر إلى صفاء اللغة، لم يقُل إيسايوس كثيرًا عن لوسياس وإيسوكراتيس ولو أنه لم
يتفوَّق عليهما. فهو في مستوى لوسياس من حيث صفاء ودقة الأفكار، ومن حيث ما يسمِّيه
ديونوسيوس εναϱ γεια حيوية العرض.
بَيدَ أنه توجد اختلافات بينهما في تركيب العبارات؛ فكما سبق أن ذكرنا، قد نوَّع لوسياس
كثيرًا في تراكيبه بما يتفق وموضوعات خطبه؛ فيعترض المد المتتابع بأسلوب أكثر مرونة،
ولكنه في الوقت عينه كان يميل إلى الطِّباق الذي اضطر للتضحية من أجله أحيانًا.
ويخلو أسلوب إيسايوس تمامًا من الشدة بعد الطباق، ونادرًا ما يتقيَّد بالقواعد
المدرسية. ولا نستطيع الجزم بأن أسلوبه خالٍ من السجع؛ لأنك تعثر في أعماله على سجع
شكلي، والميزة الظاهرة في أسلوبه، هي مهارته في استعمال العبارات القصيرة، الموجزة
أحيانًا، والقوية في أغلب الأحايين. ويكثر من استخدام صورة السؤال والجواب وبخاصة في
الحوار، أما في الروايات فيعطينا سيلًا من الجمل القصيرة المرتبطة في الفكرة، العديمة
الاتصال ببعضها في الشكل. ويبدو أنه كان يؤلف بإهمال، ولكننا نستخلص من أثره أن ذلك
الإهمال قد دُرس. والفقرات الآتية توضح هذه الأساليب:
«خلَّف والد الأشقاء يوبوليس
Eupolis وثراسولوس
Thrasyllus ومنيسون
Mneson أملاكًا واسعة مكَّنتهم من القيام بالخدمات
العامة. فاقتسم الثلاثة الأشقاء الميراث فيما بينهم، وحدث في أثناء ذلك أن مات اثنان
من
هؤلاء الأشقاء في نفس الوقت تقريبًا
١٥ … إلخ.
وتحتوى خطبته عن «ميراث كيرون» على خير مثال للحوار بوساطة السؤال والجواب:
«على أي أساس يمكن تصديق بيان؟ ألا نقول إننا نصدقه على أساس الدليل؟ أظن ذلك. وعلى
أي أساس نصدق الشهود؟ أنصدقهم على أساس أنهم عذِّبوا؟ طبعًا. وعلى أي أساس يجب علينا
عدم تصديق بلاغ المدَّعين؟ ألأنهم رفضوا الإذعان لهذا الاختبار؟ مؤكد.»
١٦
وهناك عبارة ثالثة تعطي مثالًا حسنًا لاستخدام السؤال البلاغي استخدامًا زخرفيًّا
بحتًا، ولهذه العبارة قيمة عظيمة في توضيح أن إيسايوس كان في طوقه أحيانًا التخفيف من
حدة أسلوبه. وفي العادة نجده منطقيًّا جدًّا حتى إننا نرتاح كثيرًا إلى عرضه للشعور
العادي:
«من ذا الذي كان حاضرًا عندما حضر الذهب (ومقداره ۲ تالنت) ولم يقطع شعره؟ من كان
حاضرًا إذ ذاك ولم يلبس الحداد على أمل أن حداده هذا قد يعطيه حقًّا في المطالبة
بالميراث؟ أو، كم كان عدد الأقارب والأبناء الذين ادَّعوا الحق في ضيعة نيكوستراتوس
Nicostratus، عن طريق العقود أو المنح؟ قال
ديموسثينيس إنه ابن أخيه، غير أنه تراجع عندما أثبت المدَّعون الحاضرون خطأه. وقال
تيليفوس Telephus إن نيكوستراتوس قد أوصى له بكل ضيعته،
ولكن سرعان ما بطلت مطالبته. ثم تقدَّم أماينياديس
Ameiniades إلى الأرخون وقدَّم ابنًا لنيكوستراتوس؛
طفلًا يقل عمره عن ثلاث سنوات، مع أن نيكوستراتوس لم يحضر إلى أثينا منذ أكثر من إحدى
عشرة سنة. وقال بوروس اللامبارتي Pyrrhus of Lamparta،
إن نيكوستراتوس كرَّس الأموال إلى أثينا، ولكن نيكوستراتوس قد أعطاه الأموال. وقال
كتيسياس البسايي Ctesias of Besaea وكرانوس
Cranus، قالا أولًا إن حكمًا صدر في صالحهما ضد
نيكوستراتوس بمقدار تالنت واحد، ولمَّا لم يستطيعا إقامة الدليل على ذلك، قالا إن
نيكوستراتوس كان عبدًا لهما وأعتقاه، ولكنهما فشلا أيضًا في إثبات ذلك كباقي المطالبين
بالميراث.»
«تلك هي الفئة التي انقضَّت لأول وهلة على ضيعة نيكوستراتوس، ولم يقدِّم خارباديس
Chariades طلبًا في ذلك الوقت.»
١٧
«وينسى ديونوسيوس، وهو ناقد دقيق في الناحية الأدبية، في إيسايوس، جمال وسحر أسلوب
لوسياس، ولكنه يعترف له بمهارة أكثر.»
١٨
هذا السحر الذي يستطيع ديونيسيوس أن يميِّز به خطبة صحيحة للوسياس، لا يمكننا تعريفه،
ولا يقدر ذكاؤنا المتعب فهم غوامضه، بَيدَ أنه يمكننا أن نكوِّن فكرة عامة عن وجود متعة
في أقوال لوسياس أكثر مما في إيسايوس. وربما يكون هناك شيء في التصوير الذي يستخدمه
الناقد القديم في مقارنته خطب الأول على أنها تشبه صورة واضحة بسيطة الألوان والتصميم،
بخطب الأخير التي يشبِّهها بصورة أكثر إتقانًا ومهارة كأن المصوِّر قد أبدع استخدام
الضوء والظل مع تلألؤ الألوان وقوتها، فيخفي بذلك أحيانًا بعض الخطوط؛ مما يوحي بوجود
خطأ.
١٩
ينطبق هذا التشبيه على تركيب الخطب أكثر من القول، ثم يعود ديونوسيوس إلى الأسلوب،
٢٠ فيقتبس فقرات متماثلةً من مقدمات خطبهما ليثبت بساطة لوسياس وتكلَّف
إيسايوس، ولكن عرضه لا يكون قويًّا. والحق يقال إن أول فقرة اقتبسها من لوسياس بسيطة
وواضحة تمامًا، غير أن الفقرة التي اقتبسها من إيسايوس تبدو مناسبة للغرض المقصود منها
رغم أن لغتها أكثر إتقانًا.
وقد كتب لوسياس هكذا:
«أشعر يا سادة، أنه من واجبي أن أخبركم عن صداقتي بفيرينيكوس
Pherenicus حتى لا تعجبوا من دفاعي عنه
الآن، أنا الذي لم يسبق لي مطلقًا أن دافعت عن أي فرد آخر؛ فقد كان والده
كيفيسودوتوس Cephisodotus صديقًا لي، وعندما
نفي حزبنا إلى طيبة، بقيت أنا معه كما فعل أي أثيني آخر رغب في ذلك.»
«لقد قدم لنا عدة خدمات جليلة، بصفة رسمية وبصفة خاصة، قبل أن نعود إلى بيوتنا. ولذلك
عندما أصاب عائلته ما أصابنا ونفيت إلى أثينا، شعرت بأنني مدين لها بجميل سابق؛
فاستقبلتها استقبالًا عائليًّا حتى إن أي شخص من الحاضرين لم يعرف مَن منَّا رب البيت.
والآن يعرف فيرينيكوس أن هناك خطباء كثيرين أقدر مني على الخطابة وأكثر مني مرانًا في
هذا المضمار، غير أنه يعتمد على صداقتي؛ لذلك أرى من العار أن أتخلَّى عنه عندما يسألني
ويلحُّ في أن أعضده في دعاويه، كما لا أسمح له بأن يفقد هدية أندروكليديس لو استطعت إلى
ذلك سبيلًا.»
٢١
وإليك فقرة تقابلها من إيسايوس:
«لقد خدمت يوماثيس Eumathes قبل الآن، وكان يستحق تلك
الخدمات، والآن سأحاول ما وسعني أن أعاونكم على إنقاذه. فاستمعوا لي لحظةً حتى لا يظن
أحدكم أني أقدمت على قضية يوماثيس بدافع الطيش أو بأي دافع آخر تأباه العدالة.»
«عندما كنت بحَّارًا في حكم (عهد) كيفيسودوروس
Cephisodorus، وبلغ أقاربي أنني قتلت في معركة
بحرية، وكنت قد تركت مبلغًا من المال وديعة عند يوماثيس؛ فأرسل يوماثيس إلى أقاربي
وأصدقائي، واعترف لهم بالمبلغ ودفعه إليهم بالكامل:
«وكانت نتيجة ذلك أنني لما عدت سالمًا إلى وطني، عاملته كصديق حميم، وعندما شرع يفتتح
مصرفًا أمددته بالمال. وبعد ذلك عندما طالب به ديونوسيوس كعبد، أثبتُّ حريته لأني كنت
أعلم أن إبيجينيس
Epigenes قد أعتقه في المحكمة، ولكني
سأكتفي بما قلته في هذا الموضوع ولن أزيد عليه شيئًا.»
٢٢
وينتقد ديونوسيوس هاتَين الفقرتَين بهذا النحو:
«ما الفرق بين هاتَين المقدمتَين؟ إن مقدمة لوسياس تدخل البهجة والسرور على النفس؛
لأنها سردت بصورة طبيعية وببساطة. «أشعر يا سادة، أنه من واجبي أن أخبركم عن صداقتي
بفيرينيكوس.»
أما ما يلي فليس به أي مظهر من مظاهر إعمال الفكر، بل وضع كما يعبِّر عنه أي
هاوٍ:
«حتى لا تعجبوا من دفاعي عنه الآن، أنا الذي لم يسبق لي مطلقًا أن دافعت عن أي فرد
آخر.»
ولكن ما يبدو بسيطًا جدًّا في إيسايوس، هو في الواقع قد كتب بعد تفكير، ونلاحظ في
الحال أنه بليغ:
«لقد خدمت يوماثيس قبل الآن، وكان يستحق تلك الخدمات، والآن سأحاول ما وَسعني أن
أعاونكم على إنقاذه.»
في هذا غرور أكثر وبساطة أقل مما في القول الآخر، وكذلك هذا صحيح فيما يختص بالعبارة
التالية:
«فاستمعوا لي لحظةً حتى لا يظن أحدكم أنني أقدمت على قضية يوماثيس بدافع
الطيش أو أي دافع آخر تأباه العدالة.»
πϱοπέπεια, ἀδικία, πϱὸς τὰ
Εὐμαϑοῦς πϱάγματα πϱοδῆλϑον.
تبدو متكلفة أكثر منها طبيعية، وقد يكون على حقٍّ في ذلك، ولكنا نشعر أنه ناقد مجحف
عندما يعيب على العبارة التالية افتقارها إلى البساطة، ويحاول ببعض التغييرات اللفظية
أن يوضح كيف كان يمكن تحسينها؛ فقد يعيد كتابة العبارة هكذا:
«عندما كنت بحَّارًا، ووصل نبأ إلى داري بأنني قتلت؛ فإن يوماثيس الذي كان مودعًا
لديه بعض مالي … إلخ.»
لقد أفلح هنا حقًّا في حذف اسم يوماثيس مرة، لأن إيسايوس كرَّره مرتين، وتنحصر
التعبيرات الأخرى، فقط في الاستعاضة بعبارتَين زمنيتَين مصدِّرتَين بالكلمة
ότε «عندما»، عن عبارتَين
مشتقتَين في حالة المضاف إليه المطلق؛ وهو تركيب شائع تمامًا في جميع الكتَّاب الإغريق،
ليتحاشوا الرقابة على كونهم «بلغاء».
٣
تركيب الخطب
لا تتوقف قوة إيسايوس الخارقة على أي سحر لغوي أو موهبة خطابية، ولكنها تعتمد على
معرفته الواسعة للقانون ومهارته الفائقة في الحوار؛ فله موهبة فريدة لتقدير الوقائع
الاستنتاجية والبرهنة على الوقائع التي تتعلق بقضيته.
هذه هي المهارة δειυότης التي
كثيرًا ما يشير إليها ديونوسيوس بإعجاب ينمُّ عن الحسد.
ليست خطب إيسايوس مرتَّبة على طريقة واحدة، ولكن فيها كثيرًا من تنوُّع التركيب.
إن
لوسياس كان يتبع دائمًا صورة واحدة من التركيب — مقدمة فسرد فبرهان فخاتمة — أما
إيسايوس فلا يسرد الرواية مرة واحدة إذا كانت طويلة أو معقدة بدرجة أنها لا تفهم كلها
على الفور، بل يقسمها إلى أجزاء يشفع سرد كلٍّ منها ببرهانه وحواره.
٢٣ ويظن ديونوسيوس «أن هذا الخطيب يخشى صعوبة الحوار نتيجة لتعدُّد أجزائه،
كما يخشى عدم وضوح البراهين على جميع النقط لو جمعت كلها مع بعضها البعض؛ نظرًا لكثرتها
وتناولها موضوعات شتى.»
ويشير الناقد بوجه خاصٍّ إلى الخطبة الثانية عشرة «من أجل يوفيليتوس
For Euphiletus، وهي شذرة كبيرة بقيت عبارات عديدة
منها محفوظةً لنا. بَيدَ أننا لو حلَّلنا أيًّا من الخطب الباقية لتبيَّن لنا أنها
صِيغت بمهارة وفق خطط متنوعة لا تعترضها القواعد الفنية، وقد روعي في تركيبها فن جعل
موضوعاتها تتفق وحاجة القضية. فهذه المهارة التي تهدف إلى النجاح قبل الكمال الأدبي،
تبيَّن أن إيسايوس كان قبل كل شيء قديرًا في وضع الخطط، وأنه كان سيد الحوار بدرجة أنه
«عندما نكون على استعداد لتصديق لوسياس حتى عندما يكذب، يعسر علينا أن ننظر إلى إيسايوس
دون أن نشك حتى عندما يقول الصدق.»
٢٤
ما من شك في أن ديونوسيوس قد ذهب مذهبًا بعيدًا جدًّا بسبب رغبته في المقارنة
بالفوارق، فأعطى إيسايوس اسمًا سيئًا، وعمل جهده في البحث عن الوسائل التي يثبت بها صحة
اتهامه لذلك الرجل «الذي ينتهز فرصة دنيئة لخصمه ويثير عليها مناورات يتغلَّب بها على
القضاة.»
٢٥
إن هذا الرجل الإغريقي الذي عاش في عصر هيلينيٍّ متأخر، قد فهم تمامًا الروح الأثينية
التي كانت تطلب تأليفًا فنيًّا وترتاب في أي رجل ماهر جدًّا، تلك الروح التي يثور ضدها
أنتيفون أول الخطباء، عندما يجعل شخصياته يحتجُّون بعدم خبرتهم، ويلمِّحون بأن منافسيهم
على قسط وافر من المهارة؛ بحيث يمكنهم أن يجعلوا أسوأ قضية تبدو بمظهر خير القضايا.
٢٦
وفي بعض الأحايين يكرِّر إيسايوس حواره، بل ويذكر حتى نفس الموضوع مرتين، وهذا يخالف
الفن ولكنه يفيد منه. ويلاحظ في صور بعض خاتماته نقط تفوَّق بها على سابقيه تفوُّقًا
ملحوظًا. فقد كان الخطباء الأوَّلون يكتفون عادةً بعد عرضهم للقضية، بأن يختموها
بالتماس عامٍّ للعدل والرأفة. ولكن إيسايوس يزيد على ذلك باستخدام عبارات ختامية
فيميِّز قضيته مشيرًا إلى أنه قد برهن على ما شرع في برهنته،
٢٧ أو يذكر ملخصًا موجزًا للرواية التي يرى أنها قائمة حينذاك، أو لمطالبه
ومطالب خصمه. وفي إحدى خطبه
٢٨ وصل فعلًا إلى النهاية ثم لخَّص نتائجه في الوقت الذي يفاجئنا بكلماته
الأخيرة بهجوم غير منتظر على سلوك خصمه.
«لا أظن أنني في حاجة إلى المزيد من الكلام، فما من نقطة إلا وتعلمون عنها كل شيء،
ولكن سأطلب من الكاتب أن يدوِّن هذا الإقرار الأخير الذي يوضِّح كيف اتَّهم المدَّعي
بالزنى وأن يتلوه على المحكمة.»
ولقد حاول بعض كتَّاب الخطب الأوائل تصوير الأخلاق، وحاولوا جعل خطبهم تلائم أخلاق
(ἦϑος) موكِّليهم، بَيدَ أن هذا
التصوير لا يوجد في إيسايوس. فيختلف أسلوبه بعض الشيء تبعًا للموضوع، ولكن كل خطبة من
خطبه تحمل، كما يلاحظ ديونوسيوس، طابع الكاتب المحترف الذي صاغه بطريقة تخدع ثاقب فطنة
القاضي الأثيني.
٢٩ ومن المحتمل أن خبرة الخطيب المكتسبة قد برهنت على أن مثل هذه المحاولات
الخدَّاعة غير مجدية؛ إذ قد يكون من الضروري لبعض طبقات خاصة من الزبائن، إما أن تكتب
الخطبة رديئة، وإما أن يجعلها توضح أن الخطيب لا يتكلم إلا عن لسان محامٍ أمهر منه،
وبما أن المهم في القضية هو النجاح وليس الخداع الفني، كان من الجلي ضرورة الاختيار
السليم.
وكان من عادة إيسايوس ألا يحصر جلَّ همه في جعل شخصياته يتكلمون كما لو كانوا يتكلمون
طبيعيًّا، بل في أن يضع لهم الحجج بطريقة يستسيغها العقل وتوافق مشاعر القضاة. وقد
دلَّت التجربة علاوةً على ذلك، على أنه، ولو أن الخطبة إذا ألقاها خطيب حقيقي، قد يكون
لتحريكه للمشاعر والعاطفة تأثير عظيم، إلا أن مثل هذه المرافعات يضر أكثر ما يفيد إذا
لم يعضد بالحجج الدامغة، أو إذا ألقي في لحظة مشئومة. فالمرافعة القائمة على المعقول
أقوى دائمًا على شرط أن يتجنَّب الخطيب الإساءة بتحامله الشديد.
وإذا ما اقتنعت المحكمة مقدَّمًا بعدالة القضية، أصبح طلب الرأفة أمرًا محقق الإجابة،
أما إذا أهمل ذلك الإقناع كان هذا الطلب آخر ملجأ للضعف.
ورغم أن إيسايوس كان يستعمل مثل هذه التوسُّلات، كما يفيد من كل سلاح في جعبة الخطيب؛
فإنه كان يستعملها باعتدال وتبصُّر؛ فيظهر في ذلك كما يظهر في جميع خططه، دراية تامة
بكيفية الإفادة عمليًّا من جميع الظروف.
٤
الخطب
نعلم من كتاب «الحياة» لبلوتارخوس الكاذب أن أربعًا وستين خطبة تنسب إلى إيسايوس،
منها خمسون تعتبر صحيحة، وأنه قد ألَّف كذلك كتابًا في فن البلاغة. وفي حوزتنا الآن
إحدى عشرة خطبة، وشذرة كبيرة من خطبة ثانية عشرة، كما نعرف عناوين اثنتين وأربعين خطبة
أخرى. وتتناول الإحدى عشرة خطبة، الموجودة، قضايا المواريث، سواء مباشرةً أو عن طريق
غير مباشر. وتتعلق ستُّ خطب من هذه ﺑ διαδικάσιαι؛ أي محاكمات للفصل في أي الطرفين صاحب الحق الصحيح،
وعناوينها كالآتي:
الخطبة الأولى «عن ضيعة كليونوموس Cleonymus» و
تاريخها ٣٦٠–٣٥٢ق.م.
الخطبة الرابعة «عن ضيعة نيكوستراتوس» وتاريخها غير موثوق منه. ويؤكِّد مؤلف «الحجة»
أن إيسايوس ألقى هذه الخطبة بنفسه.
الخطبة السابعة «عن ضيعة أبولودوروس»، حوالي عام ٣٥٣ق.م.
الخطبة الثامنة «عن ضيعة كيرون» (انظر صفحة ١١٨–١٢٠)، وتاريخها غير موثوق منه، وربما
كان حوالي عام ٣٧٥ق.م.
الخطبة التاسعة «عن ضيعة أستوفيلوس Astyphilus»،
وربما كان تاريخها حوالي ٣٦٩ق.م.
وخطبة «عن ضيعة أرستارخوس Aristarchus»، وربما كان
تاريخها بين ٣٧٧–٣٧١ق.م.
وتتناول ثلاث خطب قضايا محاكمة شهود زور في قضايا الوصايا، وهي: الخطبة الثامنة «عن
ضيعة مينيكليس Menecles»، وتاريخها حوالي
٣٥٤ق.م.
الخطبة الثالثة «عن ضيعة بوروس Pyrrhus»، وتاريخها
غير موثوق منه.
الخطبة السادسة «عن ضيعة فيلوكتيمون Philoctemon»،
ويمكن تحديد تاريخها بالضبط بعام ٣٦٤-٣٦٣ق.م. حيث إننا نعلم من الفقرة الرابعة عشرة أنه
قد مضى اثنان وخمسون عامًا على الحملة الأثينية التي أبحرت إلى صقلية.
أما الخطبة الخامسة «عن ضيعة ديكايوجينيس
Dicaeogenes»؛ فهي لإجبار ليوخاريس
Leochares الضامن لديكايوجينيس في اتفاق خاص بوصية
ابن عم الأخير المسمى ديكايوجينيس أيضًا؛ ليقوم بتنفيذ عقد الاتفاق حيث ثبتت إدانة
ديكايوجينيس الأصلي. ويمكن تحديد تاريخ هذه الخطبة فقط بالرجوع إلى موت الموصي الذي
قُتل في أثناء معركة في كنيدوس Cnidos. وهناك معركتان
يمكن الرجوع إليهما؛ الأولى في عام ٤١٢ق.م. والثانية عام ٣۹٤ق.م. وقد مضى اثنان وعشرون
عامًا بين موت الموصي وهذه المحاكمة، وعلى ذلك إما أن يكون تاريخ هذه الخطبة عام
۳۹٠ق.م. — أي قبل أي خطبة أخرى لإيسايوس بعدة سنوات — وإما عام ۳۷۲ق.م.
والخطبة الحادية عشرة «عن ضيعة هاجنياس Hagnias»،
وتتناول محاكمة وصيٍّ لسوء معاملته الشخص الذي تحت وصايته.
والخطبة الثانية عشرة «من أجل يوفيليتوس»، وهي شذرة كبيرة حافظ عليها ديونوسيوس، وهي
النموذج الوحيد لما نملكه من خطبه التي لا تناول قضايا الوصايا، وتشير إلى دعوى رفعها
يوفيليتوس أمام القضاء ضد سكان دائرته الانتخابية لشطبهم اسمه من قائمة النوَّاب
المرشَّحين لتلك الدائرة.
أما باقي الشذرات فقليلة الأهمية إلا فيما يختص بإعطائنا أسماء عدة خطب مفقودة، وتحوي
إحداها (الشذرة ۲٣) عدة عبارات مكررة من الخطبة الثامنة «كيرون» فصل ٢٨.
أما شذرة الخطبة «من أجل يوماثيس» التي حافظ عليها ديونوسيوس؛ فقد سبقت الإشارة إليها
في صحيفتي ۱۲۸ و۱۲۹.