الفصل السابع
صغار الخطباء
ظهر إيسوكراتيس بعبقريته على معاصريه من الخطباء؛ فلم يلمع نجم واحد منهم بجانب ضوئه
الوضَّاح، ومع ذلك فقد كان في عصره خطباء ومدرِّسون آخرون أكفاء، ولا سيما أجدرهم ألكيداماس
Alcidamas تلميذ جورجياس أو أحد من تعلَّم في مدرسته،
ورغم أنه كان أحد منافسي إيسوكراتيس إلا أنه تأثَّر بأسلوبه، ولدينا باسمه تمرين سفسطائي
عبارة عن اتهام أودوسيوس Odysseus لبالاميديس
Palamedes، وهو عديم الفائدة وقد يكون مزورًا. وكذلك
مقالة عن السفسطائيين يحتمل صحتها، وعلى الأقل يمكننا القول بأنها عمل ناقد قدير وكاتب
خبير، وتحتوي أعماله الأخرى على تمرينين بلاغيين هما امتداح الموت ومدح نايس
Nais، وخطبة ميسينية كانت على ما يظهر لطمة موجهة إلى
خطبة أرخيداموس لإيسوكراتيس.
إن الخطبة التي عنوانها «السفسطائيون» في الواقع
مهاجمة لطرق إيسوكراتيس، وموجهة مباشرة ضد ممارسته الخطب المكتوبة الشاقة التأليف، التي
لا
تساعد الخطيب، في الحقيقة، سواء كان خطيبًا للمحاكم أو خطيبًا للجموع. فيناقش موضوع من
يسمون سفسطائيين، أولئك القوم الذين لا يستطيعون الخطابة قط، ولكن على الرغم من ذلك فقد
مارسوا الكتابة وافتخروا بمزاولتهم لها. ورغم عدم إلمامهم إلا بالنزر اليسير من البلاغة؛
فإنهم يدَّعون سيطرتهم على ذلك العلم بأكمله. إنه لم يذمَّ فن الكتابة، ولكنه اعتبره
ثانوي
الأهمية بالنسبة لأمور أخرى؛ فأي شخص ذي مقدرة لو أعطِي الوقت الكافي لأمكنه أن يتعلم
كيف
يكتب بدرجة لا بأس بها، أما أن يتعلم كيف يتكلم بطلاقة فذلك يتطلب مواهب خاصة. فالقدرة
على
الكلام ارتجالًا هبة هامة جدًّا، ويستطيع من يملكها أن يكيِّف نفسه تبعًا لحالة مستمعيه،
بينما يفقد غالبًا من يعتمد على الخطب المحضَّرة، فرصة عظيمة؛ إذ حِفظ مقدار كافٍ من
الخطب
لتكون على استعداد تام للكلام في أي موضوع يطلب منك أمام أي نوع من المستمعين، ليس في
مكنة
البشر. وإذا ما اضطر مَن اعتاد استعمال الخطب المكتوبة، إلى الكلام ارتجالًا؛ فلن يحتفظ
بمستواه اللائق في الخطابة.١ وقد ورد كثير من المحاورات ذات قيمةٍ ما، عظيمة أو قليلة، وتظهر فيها كلها
مهارة خاصة.
وقد زعم ديونوسيوس أن أسلوب ألكيداماس جافٌّ وتافه.٢ ويقول أرسطو إنه أكثر من استعمال مرادفات الصفات الشخصية، لا على أنها زخرف
للموضوع بل على أنها لبٌّ له.٣ غير أن ذلك لا ينطبق على العمل الوحيد الباقي، ويبدو أن ألكيداماس قد سما عن
المستوى العادي لعلماء البلاغة بأفكاره؛ فقد وردت هذه العبارة في خطبته التي يدافع بها
عن
أهل ميسينيا: «لقد خلق الله الناس أحرارًا، ولم تجعل الطبيعة أي فرد عبدًا.» وكذلك وصفه
أودوسيوس بأنه «مرآة نبيلة للحياة الإنسانية»؛ تعبير رائع في حد ذاته، وإن كان أرسطو
يعترض
قائلًا إن مثل تلك الزخارف يقلِّل من قيمة الخطبة؛ لأنه يعطي فكرة التكلُّف في إعدادها.٤
ويُعرَف أن بولوكراتيس Polycrates، وهو بليغ معاصر، قد
ألَّف اتهامًا خياليًّا لسقراط يشير إليه إيسوكراتيس.٥
وإن خطبته في مدح بوسيريس، ملك مصر آكل لحوم البشر، دفعت إيسوكراتيس ليكتب «بوسيريس»
خاصًّا به ليبيِّن كيفية معالجة مثل تلك المواضيع. وقد وجد ديونوسيوس أسلوبه خاويًا وتافهًا
ودارجًا.٦
أما لوكوفرون Lycophron الذي كان يقلِّد جورجياس؛ فقد
اقتبس منه أرسطو عدة مرات، وكتب كيفيسودوروس Cephisodorus
خير بلغاء مدرسة إيسوكراتيس المعروفة، دفاعًا رائعًا عن سيده ضد هجمات أرسطو.٧
وهؤلاء الأساتذة الصغار الذين وردَ ذكرهم كمحض فروع للمدارس البارزة، لم يكن لهم أي تأثير على نموِّ البلاغة أو الخطابة.
١
تظهر حقيقة هذه الحكمة في سجلَّاتنا عن خطب ديموسثينيس.
٢
عن إيسايوس، باب ١٩، παχύτεϱον ὄντα τὴν λέξιν
καὶ κοινότεϱον.
٣
البلاغة، فصل ٣-٣، ٢.
٤
أرسطو، البلاغة، فصل ٣-٣، ٤.
٥
بوسيريس، فقرات ٥-٦، لقد حاول أن يحمِّل سقراط مسئولية شرور ألكيبياديس.
٦
عن إيسايوس، الباب الثاني.
٧
ديونوسيوس، عن إيسوكراتيس، باب ٢٨: τὴν
ἀπολογίαν τὴν πάνυ θαυμαστὴν ἐν ταῖς πϱὸς᾽ Αϱιστοτέλη ἀντιγϱαφαῖς
ἐποιήσατο.