ثانيًا: أزمة التغير الاجتماعي
(١) أزمة التغيير في واقعنا المعاصر
والتراث والتجديد رد فعل على أزمة التغيير للواقع الاجتماعي؛ نظرًا لتعثر محاولات التغيير واصطدامها جميعًا بقضية التراث كمخزون نفسي عند الجماهير، وكما أن هناك اتجاهات ثلاثة في مشكلة التراث والتجديد على المستوى النظري؛ فإن نفس الاتجاهات الثلاثة موجودة أيضًا على المستوى العملي، وهي المسئولة عن أزمة التغيير.
(١-١) التغيير بواسطة القديم
- (١)
سيادة النظرية الإلهية على الفكر النظري؛ ولذلك خرج تصور أنصارها لنظام الواقع على أنه حكم إلهي، فالحاكمية لله بصرف النظر عن طبيعة هذا الواقع وعن مكوناته، وارتبط التغيير المنشود في أذهان المثقفين بالدعوة إلى الحكم الثيوقراطي وهو ما ناهضت الإنسانية في التراث الغربي من أجل التخلص منه إلى الحكم الديموقراطي وهو التفسير العقلي الواقعي لحاكمية الله بفعل الشورى، وبدا أن الغاية هو الدفاع عن الله وليس التغيير الاجتماعي، وبدت الدعوة دينية متطاولة على السياسة، وغير قادرة على ممارسة قضايا التغير الاجتماعي التي تحتاج إلى علم دون دين، وإلى واقعية دون إيمانية مسبقة، وكانت النتيجة أن ابتلاع العالم كله داخل الإلهيات، كما أصبح العدل جزءًا من التوحيد في فكرنا الديني المتأخر، ولم تستطع هذه المحاولات تفسير الإلهيات على أنها اجتماعيات، وتحويل الدين من علم للعقائد إلى علم إنساني.
- (٢)
وقف تطور هذه الدعوة فكريًّا، ووقوفها عند مرحلة معينة من مراحلها، وعدم الأخذ في الاعتبار التطورات الجديدة والمستمرة التي تطرأ على الواقع والتي تُحتِّم على الفكر النظري اللحاق بها؛ ومن ثم تأخر الفكر الإصلاحي الحديث عن مستوى التطور للواقع المعاصر وبدا متخلفًا، لم يَزِدْ على الحركات الإصلاحية الحديثة شيئًا، ولم يدفع الفكر الإصلاحي الحديث خطوة أخرى إلى الإمام إن لم يكن قد تأخر خطوات، دون استثمار للإحياء الاعتزالي، والتأكيد على استقلال العقل والإرادة، ودون تطوير ﻟ «لاهوت الثورة»، ودون معالجة لقضايا الأرض، ودون تجنيد للجماهير، ودون إصلاح للتعليم أو للقضاء من داخله، وهي المحاولات التي بدأها فكرنا الإصلاحي وتركناها بلا تطوير.
- (٣) عدم القدرة على تحويل الإلهيات إلى فكر نظري ثم تحويل الفكر النظري إلى أيديولوجية سياسية اقتصادية واضحة المعالم يمكن صياغتها بطريقة عقلية عملية صرفة، ووضْع برنامج شامل تتحقق فيه الأيديولوجية، ويصبح هذا البرنامج دليلًا للعمل الثوري؛ ومن ثم كانت الرغبة ما زالت ملحة على فكرنا المعاصر في البحث عن أيديولوجية «إسلامية» في مقابل الأيديولوجيات المعاصرة، وستستمر هذه المحاولات لتغيير الواقع في تعثرها طالما أنه لا توجد أيديولوجية لها واضحة المعالم يجد فيها الواقع تعبيرًا عن ذاته، وتجد فيها الجماهير تحقيقًا لمصالحها. ولا يكفي هنا إعلان النوايا الطيبة، وإثبات حقائق بلا برهان، والفخر بأن لدينا كل شيء، فالمهم هو عرض ما لدينا بصورة علمية متكاملة ومقبولة كافتراض نظري يثبت صدقه عند التحقيق، ويدخل ضمن أيديولوجيات العصر.١
- (٤) سيادة التصور الرأسمالي للدين، وهو التصور الطبقي له؛ نتيجةً للإيمان بالتصور الهرمي للعالم، وهو ما ورثناه قديمًا من نظرية الفيض أو الصدور، الذي يُرتِّب الكون طبقًا لمراتب الشرف والكمال، كلما صعدنا إلى أعلى زادت مراتب الشرف، وكلما نزلنا إلى أسفل قلَّت مراتب الشرف، هذا التصور الذي يضع الناس والطبقات الاجتماعية ويرتبها بين الأعلى والأدنى لا بين الأمام والخلف، هو التصور الرأسي للعالم وليس التصور الأفقي، وهو ما تابعنا فيه التراث الغربي أيضًا الذي ينشر لهذا النوع من الفكر الديني؛ لأن فيه إرساءً للنظام الرأسمالي وتأسيسًا له على أسس نظرية ووجدانية للشعوب المُستعمَرة وللبلاد المتخلفة؛ لذلك انحاز أنصار هذا الفكر إلى الرأسمالية وعادوا الاشتراكية، ولو أنهم كانوا مناهضين للاستعمار والملكية ومظاهر الإقطاع والفساد الاجتماعي، فهم يؤمنون بالملكية والتفاوت في الرزق، ويدافعون عن الغيبيات والقضاء والقدر، كما يؤمنون بالثنائية التقليدية بين الروح والبدن، الدنيا والآخرة، الجنة والنار، الملاك والشيطان؛ مما يسبب فصمًا في حياة الفرد بين عالمين يعيشهما متجاورين أو متمايزين أو مخلوطين أحدهما بالآخر، يعيش الفرد دنياه ويدعي أخرته أو يعيش آخرته ستارًا لدنياه، هذه الثنائية التي هي أساس كل مظاهر الازدواجية في سلوكنا القومي.٢
- (٥) معاداة كل محاولات التجديد على المستوى النظري، واتهام كل محاولة جريئة بالإلحاد والشيوعية والماركسية، واتهام كل محاولة لتغيير الأساس النظري الهرمي أو الثنائي إلى أساس واحدي طبيعي بالمادية والكفر، مع أن الفكر الطبيعي كان موجودًا في تراثنا القديم عند الطبائعيين، ولا ضير أن يبدأ الفكر الديني بتبني الواقع والبداية منه ورفض كل المحاولات لتعميته والإقلال من شأنه والقضاء عليه وتحويله إلى شيء مخالف له في الوهم أو الخيال أو التمني، والتوحيد في النهاية يشير إلى وحدانية النظرة، ووحدانية الطبيعة، ووحدانية العالم، ووحدانية الوجود الإنساني، التجديد إذن كان قاصرًا مترددًا، ولم تكن به الجرأة النظرية الكافية كما هو الحال في «لاهوت الثورة» في البلاد النامية.٣
- (٦)
سيادة التعصب بدل الوعي الفكري، وسيطرة الحمية الدينية بدل الالتزام الواعي خاصةً إذا انضم الشباب، وعمت الدعوة قطاعات الشعب جميعًا، فالأيديولوجية مجموعة من الأفكار المستقاة من الواقع والتي تنظر الواقع، وتقبل التغيير والتعديل طبقًا لتطورات الواقع، ومن ثم فهي ضد القطعية الجازمة، وعلى نقيض الروح الدجماطيقية، وهنا تأتي أهمية التنوير العقلي حتى تظهر الدعوة في قالبها الفكري، والانفعال في النهاية هو قصر نظر إن لم يكن غيبة النظر على الإطلاق، ونقص في الوعي الفكري، وعدم القدرة على الإحساس بالآخر، وعدم قدرة على التحقيق والإنجاز وكأن الانفعال يخلق واقعه من خلال ذاته ولا يحتاج إلى واقع آخر تتحقق فيه أماني الانفعال ورغباته.
- (٧)
جدل الكل أو لا شيء عند الممارسة، فالناس إما مؤمنون بانتسابهم إلى الجماعة أو كافرون بخروجهم عليها، فهم صنفان، صنف مع وصنف ضد، والأيديولوجية كل لا يتجزأ إما تطبق أو لا تطبق، وليس هناك مجال لأي تطبيق جزئي، أو أي زيادة أو نقص في الإيمان كما كان يقال في تراثنا القديم، في حين أن الواقع هو الواقع، لا هو بالمؤمن ولا بالكافر، قد يتجه نحو الأيديولوجية وقد يبتعد عنها ولكنه لا يكون أبدًا خاليًا منها أو مطابقًا لها، وواقعية أية دعوة في تبنيها نظم الواقع المتفقة معها وتكملتها وتطوير ما يحتاج إلى تطوير منها، فالدعوة لا تأتي على لا شيء، وقد جاء الوحي قديمًا على تراث سابق أكده وطوره إلى مرحلة جديدة، وتخطئ الثورات الحديثة عندما تظن أنها تبدأ من لا شيء وتجب ما قبلها، فالغلظة منافية لتجنيد الجماهير، والاتهام للناس منافٍ للعمل معهم، وإلا يكون الداعي كمن يقطع أنفه.
- (٨)
تغيير الواقع بالقوة دون انتظار لتجنيد الجماهير، واستعمال العنف ضد الجماعات، وليس ضد الطبقات، فالصراع يتم على المستوى الرأسي لا على المستوى الأفقي، والعنف الثوري لا يحدث إلا إذا وثقت الجماعة الثورية أن الجماهير كلها معها، وأنه لا أمل في تغيير الأوضاع الاجتماعية عن طريق نشر الوعي الجماهيري، إنه ليصعب استعمال العنف الثوري في بيئة تعتبر نفسها أمة واحدة، ومع جماعة ترتبط فيما بينها بالعروة الوثقى، وفي شعب يجمعه الحصير والمصطبة، ويستمعون للراوي ولأخبار البلد، وفي النهاية، قد يكون المخزون النفسي عند الجماهير، طبقات وأفرادًا، هو الموجه الأول للسلوك الذي يجبُّ المصلحة الخاصة، وقد يكون في إلقاء التحية على قوم — تحية السلام في «السلام عليكم» — مذهبة لغضب أو إعلانًا لثورة أو تأكيدًا على وحدة الجماعة أو إبرازًا للمصلحة العامة، واغتيال الأفراد لا يقضي على الأفكار.
- (٩)
تغيير الواقع بالوثوب على السلطة دون انتظار لتجنيد الجماهير، مصدر السلطة، ومن ثم كانت مثل هذه الدعوات أقرب إلى محاولات الانقلابات منها إلى تغيير اجتماعي بالفعل، وقد ينشأ هذا الأسلوب من ذهن يسيطر عليه التصور الهرمي المركزي للعالم، ويعطي الأولوية والفاعلية والحكم للقمة على القاعدة وللمركز المحيط، وكان السبب في القضاء على هذه المحاولات هو اصطدامها مع السلطة واتهامها بالوثوب عليها وتدبير المؤامرات لقلب نظام الحكم الشرعي، في حين أن إعداد الجماهير للثورة الشعبية هو العمل الثوري الباقي، وما السلطة السياسية إلا نتيجة لوعي الجماهير، ولا تأتي إلا في نهاية المطاف لا في أوله، وتأتي الرقابة على السلطة من القاعدة إلى القمة وتشارك في الحكم.
- (١٠) الاعتماد على التنظيمات السرية وغالبًا ما تكون مسلحة مما يقوي العقلية المتآمرة، والإحساس بالاضطهاد، والانفصال عن الآخرين، والرغبة في السيطرة، في حين أن الحق يعلن عن نفسه خاصةً في هذه المرحلة التي يتم فيها تجنيد الجماهير، واجتماعهم على مبادئ بسيطة واضحة، إن السر ضد العلن، والأيديولوجية الواضحة تمارس في العلن في حين أن أيديولوجية السر تمارس في السر، وتدعو في الخفاء، كما هو الحال في الدعوة الشيعية التقليدية، ولماذا السر والوحي يعلن عن نفسه، والجماهير والسلطة، الحاكم والمحكومون، الكل يبدأ من الوحي كمعطى نظري ووجداني، ولا يرفض أحد توجيه الوحي للواقع، والاختلاف في التفسير حسمه بمصلحة الجماهير؟ وقد تبدأ الدعوة الاجتماعية كلما زاد الإعلان عن العلن.٤
- (١١)
تنظيم الجماهير في جماعات مغلقة ينقصها الحوار، والإيمان بأنهم وحدهم على حق والآخرون على باطل كمعظم التنظيمات العنصرية، ولكنها عنصرية فكرية ومنهجية وعملية وعقائدية، اقتربت الدعوة إلى المجتمع المغلق الذي يتحدث لنفسه، ولا يسمع إلا ما يريد، غاب الحوار، وأصبح الخلاف في الرأي انشقاقًا، وأصبح التصلب سمة في الممارسة، وجرت العادة على تصنيف الآخرين في قوالب جامدة يستحيل بعدها الحوار معهم، وبالرغم مما كانت لهذه الجماعات المغلقة من شعبية وآثار على مستوى التربية القومية إلا أنها — نظرًا لطبيعتها المغلقة — ساهمت في تحديد الأفق وصعوبة الحوار مع الآخرين، وإن حدث فَبنيَّة الدفاع أو التفنيد دون الاستعداد للتخلي عن أي من المسلمات.
- (١٢)
مطالبة الجماهير المنتسبة للدعوة بالطاعة المطلقة، وغياب الطابع الديمقراطي الحر داخل الجماعة مما يسهل الانشقاق عليها من أجنحتها المختلفة، صحيح أن ذلك يدل على دقة التنظيم ومدى استعداد أنصاره للتضحية، ولكنه يجعله أشبه بالنظام العسكري الذي لا تجوز فيه المراجعة، وتجعل الأفراد مجرد أدوات للتنفيذ، مما يرجعنا للنموذج الشيعي للدعوة والطاعة الواجبة للإمام. والخطورة أن تنفصل القادة عن جماهيرها العريضة، وأن تكون في قرارتها أقرب إلى المناورة السياسية والممارسة الحزبية منها إلى تحقيق مصلحة الدعوة، وتكون مهمة الكوادر تبرير القرارات للقواعد العريضة فيبلغ الجميع ما تقرره القيادة، وقد ينتهي البناء كله إلى الضياع، وتكون الجماهير هي الضحية.
- (١٣) سيادة التصور الجنسي للعالم، والبداية بالحجاب، وعدم الاختلاط، والأمر بغضِّ النظر، وخفض الصوت، وكلما ازداد الحجاب ازدادت الرغبة في معرفة المستور، والدعوة السياسية الاجتماعية أرحب نطاقًا وأوسع من هذا التصور الجنسي للعلاقات الاجتماعية، ولماذا يصنف المواطن إلى رجل وامرأة؟ ولماذا ينظر إلى الإنسان باعتباره ذكرًا أم أنثى؟ إن تأكيد النظرة الإنسانية أو الإعلان عن الثورة السياسية من شأنه إحداث ثورة في السلوك الفردي دون ما حاجة إلى اللجوء إلى التصنيف الجنسي للمواطنين، خاصةً وإن كان لا يدل على فضيلة بل يدل على رغبة جنسية مكبوتة أو حرمان جنسي في حالة من التسامي والإعلاء.٥
- (١٤)
البداية بالمحرمات، والتشديد في العقوبات، وإصدار قوائم للممنوعات، وجعل السلوك الإنساني تحقيقًا للنواهي دون ذكر للمباحات التي يمكن للإنسان أن يتصل من خلالها بالطبيعة، وجعل العالم مواطن للشبهات لا يجوز للإنسان أن يحوم حولها خشية التردي فيها؛ هذا كله يمنع الثقة بين الإنسان والعالم، ويضع في الإنسان الخوف بدل الشجاعة، والإحجام بدل الإقدام، ويجعل الإنسان متشككًا في سلوكه، متهمًا لنفسه، نادمًا باستمرار على ما فعل مما يرسِّخ في نفسه الإحساس بالذنب الناتج عن الاقتراب من «التابو» أو من مجرد التفكير فيه، والوعي السياسي يتطلب القضاء على كل هذه المحرمات التي تخضع لتحليل العقل ولوصف الواقع، مما يعيد الثقة للإنسان بينه وبين سلوكه وبينه وبين العالم.
- (١٥)
البداية بقوانين العقوبات أو بتطبيق الحدود وكأن الإسلام يأتي أولًا بالرجم والقتل وقطع اليد والتعذيب لأناس لا يعيشون في بيئة إسلامية، ولم يتربوا التربية الإسلامية، ولم يأخذوا حقوقهم التي أعطتها لهم الدولة الإسلامية، بل هم يعيشون في مجتمع الاستغلال والفقر، ومن ثَم يسقط حد القطع بالشبهة، ويواجهون بالإثارة الجنسية في كل مظهر من مظاهر الحياة، ومن ثم يسقط حد الرجم بالشبهة. وقد وصف الأصوليون أحكام الوضع وجعلوها قائمة على السبب والشرط والمانع، بالإضافة إلى العزيمة والرخصة، والصحة والبطلان، فكل حد لا بد أن يتوافر فيه سببه، ويتحقق شرطه، ولا يوجد مانع من تحقيقه؛ فشرط تطبيق حد القطع هو السرقة عن شبع لا عن جوع، وسبب تطبيق الحد هو توافر الأهلية وليس وجود مواطن في مجتمع يقوم على السرقة والنهب والتطلع للكسب بشتى الطرق، فالجوع مانع من تطبيق الحد. وإن تصوير أي دعوة للناس على أنها تعاقب وتهدد لهي دعوة منفرة لا تنتشر إلا بين الصبية والمراهقين.
أما الأخطاء الناتجة عن التحليل السياسي للموقف فهي ليست أخطاء جوهرية، قد يقع فيها أي تنظيم، وهي في معظمها أخطاء ناتجة عن المنظور الفكري للجماعة وعن تكوينها الفكري والديني، فهي ليست أخطاء من حيث المبدأ، ولكنه فقط سوء تصرف من حيث الممارسة.
(١-٢) التغيير بواسطة الجديد
- (١)
التشدق بألفاظ صعبة على الجمهور، تضفي على القائلين بها صفة التعالم وكأن الإنسان لا يغير واقعه ولا يثور عليه إلا بهذه الجعبة من الألفاظ، صحيح أن الأساس النظري لكل تغير ضروري، ولكن الواقع الفج في كثير من الأحيان يكون بديلًا عن الأساس النظري أو بإمكانه أن يتحول إلى أساس نظري مباشر في بيئة تغلب عليها بساطة العمال والفلاحين وتعمُّها الأمية؛ لذلك لم تنتشر إلا في بعض أوساط المثقفين، وانحسرت عن الجماهير العريضة وعن الأوساط التي يمكنها فهم الألفاظ عن حقيقة واقتناع لا عن تعالم وترديد، وكأن الثورة السياسية محتاجة إلى هذه الجعبة الطويلة من الألفاظ التي تغني عنها الأمثال العامية والمأثورات الشعبية.
- (٢)
التبعية لفكر الغرب، والوقوع ضحية عالمية الثقافة، وهو ما يضر أيضًا بأيديولوجيتهم وبقضيتهم التي يعملون لها، وهذا لا ينفي عالمية النضال على المستوى العملي، وتبلغ هذه التبعية أحيانًا درجة التقليد الأعمى والعمالة الفكرية وكأن النظرية المقروءة والتي نشأت من واقع غربي خاص لها من العموم والشمول ما يمكن به أن تنطبق على واقع آخر مغاير وخاص، فنقل الفكر ضار بالفكر المنقول لأنه يفصله عن واقعه الخاص، وضار بالواقع الجديد الذي له نظريته الخاصة، والفكر ليس كالمتاع ينقل من بيئة إلى أخرى بل هو المعبر النظري عن واقع خاص.
- (٣)
معاداة التراث القومي للجماهير واستبداله بتراث آخر منقول لا تجد فيه الجماهير ذاتها، ومن ثم تظل دوائر منعزلة يسهل جرفها أمام تيار ثقافي قومي؛ لذلك يسهل اتهامهم بأنهم دخلاء ويصل الاتهام إلى حد الخيانة والتكفير وإهدار الدم، في حين أن الثورة السياسية هي تلك التي تقوم على أساس من الثقافة الوطنية للشعب، والتي تقوم بدورها على ما يفرزه الشعب من ثقافة تلقائية طبيعية ممثلة في أمثلته وحكاياته وأساطيره ودياناته، ولا يكفي إبراز الفنون الشعبية من رقص وموسيقى حتى تصبح الدعوة شعبية، ولكنها تصبح كذلك بالفكر الشعبي الممثل في الدين والأمثال، أي في المخزون النفسي عند الجماهير، لا فرق في ذلك بين ثقافة المفكرين وثقافة الجماهير.
- (٤)
نقصان التنظير المباشر للواقع واستبدال نظريات مفروضة عليه به مع أن الرؤية الحسية المباشرة غالبًا ما تكون أوضح من كل النظريات الجدلية الممكنة، ومن ثَم تكون الدعوة القائمة على النظرة العلمية للواقع قاصرة على تحقيق ما تطلب؛ لأن الواقع ليس هو نقطة البداية بل هو ميدان لتحقيق النظرية، ولو لم تتحقق النظرية فإن الخطأ يكون في تركيب الواقع وليس في مراجعة النظرية، وهذا ضد المنهج العلمي الذي يغير من البناء النظري من حيث هو مجموعة من الافتراضات وطبقًا لبناء الواقع الذي هو معطى لا بديل عنه ولا تغيير له، وبالرغم من ظهور الواقعية في الفن إلا أنها لم تظهر في الفكر ولا في المنهج ولا في الممارسة.
- (٥) عدم وجود برنامج ثوري قائم على تحليل إحصائي للواقع يعبر عن مصلحة الجماهير وتتقبله الناس، أما البرامج العامة، مثل الملكية العامة لوسائل الإنتاج، والتسيير الذاتي، والمزارع الجماعية أو الجمعيات التعاونية، فإنها لا تكفي كدليل للعمل الثوري، إن الواقع الخاص يفرض نظريته الثورية بطريقة أكثر وضوحًا وسفورًا من تطبيق البرامج الثورية النظرية، ففي بيئة تتكون من ثمانية عشر مليونًا من الفلاحين يعيشون على ستة ملايين فدان، لا يكون الحد الأعلى للملكية فيها أكثر من ثلث فدان، وفي بيئة يكون متوسط الدخل القومي فيها للفرد لا يتجاوز مائة وعشرين جنيهًا سنويًّا لا يسمح بنظام للأجور تتفاوت فيه الدخول من واحد إلى خمسين، إن الواقع الثوري هو مصدر البرنامج لا النظرية الثورية.٦
- (٦)
الانتظار الطويل حتى تتقبل الجماهير الدعوة وحتى يمكن إقناعها بالأيديولوجية وحتى يتم تحزيبها بفضل الطليعة الثورية، وقد لا يحدث ذلك في جيل واحد، وتدل التجارب المماثلة على أن الجهد المبذول كان أكثر من النتيجة التي حصل عليها، وكأن الطليعة تتحدث مع نفسها والجماهير تهز رءوسها حيرة وتململًا في حين أنها قد تهرع إلى مصطبة أو إلى حصير لسماع الراوي أو المقرئ في الأفراح والمآتم، ومن ثم يحدث الفصل بين الطليعة وجماهيرها، وتتحول الدعوة إلى أندية فكرية يعلم أفرادها بعضهم بعضًا، ولا تخرج إلى الجماهير العريضة التي تلتَّف في الموالد حول الأعلام والبيارق.
- (٧)
الاستيلاء على السلطة إيمانًا بأن السلطة هي السبيل لتغيير الواقع، وتكون النتيجة أيضًا كما هو الحال عند أنصار القديم الاصطدام بالسلطة والانعزال عن الجماهير، وفرق بين العقلية الثورية والعقلية الانقلابية، الأولى هي التي تبدأ من الجماهير حتى تنحاز إلى الدعوة أو على الأقل في أغلبيتها، والثانية هي التي تبدأ من السلطة وتفرض الدعوة على الجماهير، وفي هذا لا تفترق الدعوة عن أي نظام تسلطي، وتكون ضحية لنظام تسلطي آخر عن طريق انقلاب مضاد، ولم يأتِ الوحي — من حيث هو دعوة — إجبارًا للناس بل كان تلبية لنداء الواقع، وتعبيرًا عن أشواق الجماهير المعذبة، المضطهدة والمستغلة، وتظل عقلية القفز على السلطة عقلية موروثة تحتاج إلى إعادة بناء فكري، وتغيير منهجي، وذلك بإعادة بناء التصور الهرمي للعالم والتصور الذي يجعل القمة دون القاعدة مصدر السلطة.
- (٨)
العمل السري من أجل تحقيق الهدف كما هو الحال عند أنصار القديم وكأن التعبير عن مصلحة الجماهير بالأساليب العلنية غير شرعي، والحقيقة أن العمل السري هو العمل غير الشرعي من حيث بناء الدولة، ومنهج الفكر، والقاعدة الجماهيرية، إن قضايا التغيير الاجتماعي، والعمل السياسي المستنير ليس تلصصًا ولا هو تجارة للمخدرات، بل هو مفتوح حتى ولو كان ضد السلطة القائمة، فالكلمة قد تكون أكثر مضاء من السيوف، ولكنها شرعية، وتعبر عن أسلوب جماهيري وبطولة شعبية تراها الناس في ثقافتها الدينية مثل «الدين النصيحة»، وأن الشهادة في قول كلمة حق في وجه حاكم ظالم، وهنا تخلق القيادات الشعبية التلقائية عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما يمارسه الشعب كل يوم في نطاق ضيق، نطاق الأخلاق.
- (٩) استعمال العنف ليس فقط ضد السلطة، ولكن ضد الدعوات المعارضة، ومن ثَم الاصطدام بالجماهير التي هي مضمون العمل السياسي وركيزته، وهنا لا فرق بين أنصار التغيير بواسطة القديم أو الجديد؛ لذلك نشأ التطاحن بينهما، وفرق بين العنف والعنف الثوري، فالأول أقرب إلى الجرائم السياسية منها إلى الثورة الاجتماعية، أما الثاني فقد يحدث بعد استنفاد وسائل التغيير الاجتماعي وتحقيق مصلحة الأغلبية وتجنيد الجماهير أي حصول الأغلبية الثورية، ثم محاولة الأقلية السيطرة عليها وقهرها بالعنف، هنا يكون العنف الثوري رد فعل على العنف الذي تمارسه الأقلية، وشتان ما بين حال الجماهير الآن وسلبيتها أمام أية دعوة سياسية وبين تجنيدها لصالح الأغلبية الثورية.٧
- (١٠)
تفتيت الوحدة الوطنية بتفضيل الصراع الطبقي على الوحدة، والوقوع في التفسير الحرفي للأيديولوجية المنقولة دون ما علم بتطوراتها وتأقلمها طبقًا لواقع العالم الثالث الذي تكون فيه الأمة أو الجماعة أو الأسرة، هو الأساس الحضاري والنفسي للتغير الاجتماعي، ويكفي وعي الأغلبية بمصالحها وسيطرتها على وسائل الرقابة الشعبية وترشيد سُبل الحياة، وإعادة تخطيط الاقتصاد والسياسة القومية على أساس عقلاني حتى تتحقق مصلحة الأغلبية، وفي مرحلة النضال الوطني تبرز وحدة الشعب، وفي مرحلة الثورة الاجتماعية قد تبرز أيضًا وحدة الشعب، ولكن المهم هو كيفية التعامل معه، وتنشيط مخزونه النفسي، وتراثه القديم حتى يكون موجهًا للسلوك.
- (١١)
إذا ما استحال الاستيلاء على السلطة، فإنه يمكن مصالحتها على أساس اتفاق يقوم على تنفيذ الحد الأدنى من مطالب الدعوة، ولكن ينتهي الأمر بأن تصبح الدعوة تابعة للسلطة ومبررة لأخطائها، وينتهي الأمر بابتلاع السلطة لها، واعتمادها عليها، وإضفاء الشرعية على قيادتها الوطنية وثورتها الاجتماعية بدليل تأييدها من الجماعات الثورية، وعمل هذه لحسابها، فإذا عصت هذه الجماعات غضبت السلطة عليها حتى تتم التوبة ويُعلَن عن الصفح والغفران، ويعود الوئام، والكل مخدوع، فلا السلطة تؤكد وجودها الشرعي من تبرير فئة لها، ولا الجماعة تنال من تحقيق أهدافها شيئًا بتبعيتها للسلطة وتبريرها المنظم لقراراتها، وينتهي الأمر في النهاية إلى التعايشية.
- (١٢)
الفصل بين الأيديولوجية والأخلاق مما يجعل الجماهير التي ما زالت تربط بين الحق والخير نافرة من الانتساب إلى الجماعة الثورية والتوجه إليها بقلبها، فالمقياس الخلقي عند الجماهير هو في الحقيقة مقدمة للانتماء الفكري والانضمام السياسي للجماعة الثورية، الجماهير ما زالت تؤمن بالقدوة الحسنة، وبالفعل الطيب وبطاعة أوامر الدين، واجتناب نواهيه، ومن ثَم كان من السهل أن تخرج قياداتها الوطنية من أئمة المساجد وفتوات الحارات، فالقدوة الحسنة هي الرباط بين الجماهير وقيادتها، وهي في الغالب قدوة حسنة خلقية، فهي جماهير سنية أي تتبع سنن السابقين وتتأسى برسول، وتتبع سنته، ولا عذر لهذه الدعوة في ارتكاب أخطاء سياسية في تحليل الموقف لأنهم أهل دراية بالتحليل السياسي، وأي خطأ في المبادئ ذاتها أو في درجة الالتزام بها.
(١-٣) التغيير بواسطة القديم والجديد
- (١)
عدم وجود أساس نظري واضح يمكن قيام التغيير الاجتماعي طبقًا له، ومهما كانت هناك من محاولات لإرساء مثل هذه الأسس فإنها انتهت إما إلى الميوعة الفكرية، أو إلى مجرد إعلان النوايا، أو إلى العواطف الطيبة النبيلة، أو إلى العبارات الحسنة أو إلى الخطابة الجوفاء، وكأن الأساس النظري لا يمكن التوفيق فيه، بل لا بد من تأسيسه ابتداءً من إعادة تفسير القديم والتنظير المباشر للواقع، فالقديم يعطي الهدف، والتنظير يعطي الوسيلة، لا يعني التوفيق المصالحة بين المحافظة والتقدمية، أو الإبقاء على مصالح الأغلبية والأقلية معًا، فهذه الميوعة هي السبب في الغموض النظري، وما أوضح أن تكون الأرض لمن يفلحها، والمصنع لمن يعمل فيه، والجامعة لمن يتعلم فيها.
- (٢)
القيام بالتغير الاجتماعي لصالح طبقة معينة، هي الطبقة المتوسطة، وهي القادرة على تمثيلها لمصلحة الجماهير، بعد أن قادت نضالها الوطني سلمًا أم حربًا، وهي الطبقة التي بيدها صنع القرارات السياسية، حتى شعرت الجماهير أمامها بأنها أمام نوع من الإقطاع الجديد أكثر انتشارًا، وأوسع رفعة، وأفصح لسانًا، وأبلغ خطابة، وأمكر أسلوبًا من الإقطاع القديم، فانحسرت عن عملية التغير، بعد أن اكتسبت مناعة ضد قاموس المصطلحات السياسية من اتحادات، وهيئات، ومنابر، وتنظيمات، وتحالفات، وهي الألفاظ الرائجة التي لم تعد تشير إلى أي معنى أو تدل على أي مضمون، وأصبح الشعب نافرًا من الشعارات الرنانة، وهو يعلم أنها لا تهدف إلا لملء فراغ أجهزة الإعلام.
- (٣) معاداة أصحاب التغيير الجذري، أنصار القديم أو أنصار الجديد معًا، وضرب جميع القوى الوطنية التي أفرزها الواقع تلقائيًّا حتى تتم للدعوة الجديدة السيادة باعتبار أنها ممثلة للوسط دون التطرف ناحية اليمين أو اليسار، والاستئثار بالسلطة، ورفص أي مشاركة شعبية جادة، فتم إلغاء كل شيء لحساب لا شيء، ومن ثم استحال بناء شيء وسط هذا الدمار الشامل، وظلت السلطة تشكو من الفراغ السياسي، كما ظلت تبني في الهواء، وتخشى على البناء الذي لا يدعمه الشعب بتنظيماته ومؤسساته، وكان يكفي لزوابع السياسة أن تهب فتهدم البناء ولا تجد من يدافع عنه أو حتى من يبكي على الأطلال.٨
- (٤)
انتهاء الجماهير العريضة إلى السلبية التامة واللامبالاة المطلقة، تقرر لها السلطة الحرب والسلام، وتقوم بدلًا عنها بالهزيمة والنصر، وتنظمها في هيئات واتحادات وتنظيمات ومنابر، وتستنكف من الأحزاب وهو النشاط التلقائي الطبيعي للقواعد الجماهيرية، وعكفت على أزماتها اليومية، تفرغ كل طاقاتها بها أو في مظاهر مفتعلة للنشاط كالنوادي الرياضية والليلية، أو في التصوف والجنس، أو في السفر والهجرة، أو في المعارك في المركبات العامة، أو في الموالد والأعياد، واستحال قيام ثورة بلا جماهير ثورية، وكانت البارقة الوحيدة الانتفاضات الطلابية والشعبية الأخيرة التي تعيد إلى الأذهان حيوية الجماهير وارتباطها بالقضايا المصيرية مهما طالت استكانتها، وعمت سلبيتها، ورضيت بواقع أمرها.
- (٥)
الترقيع في عملية التغيير الاجتماعي، وترك الأساس كما هو خاضعًا للأمر الواقع، وتغيير الجزء وترك الكل، وتحريك السطح وترك الأعماق، فالتغير الاجتماعي لم يتعدَّ إعادة التوزيع على قاعدة أعرض كما هو الحال في الإصلاح الزراعي دون إعطاء الأرض لمن يفلحها، وإعطاء العامل حقه في حدود قيمة العمل اليدوي بالنسبة لقيمة العمل الإداري، وإعطاء الطالب استقلاله ورفع الوصاية عنه في حدود طاعته للإدارة الجامعية وأخذه موافقتها على نشاطاته الاتحادية ومطالبه الفئوية، بل وضرب الفئات بعضها ببعض، وخلق المنافسة بينها في الأجور حتى تُجاب المطالب، وتحقيق التغيير الجزئي دون المساس بجوهر القضية وهي: لصالح من يخطط الاقتصاد القومي؟
- (٦)
لما كانت السلطة الوطنية من أنصار التوفيق بين القديم والجديد كان التغيير يحدث من السلطة وباسمها وكأنها عملية مفروضة بالرغم من تلبيتها لحاجات الجماهير، وكان قبول الناس لها طاعة للسلطة وليس تحقيقًا لمطالبهم، حتى أصبحت السلطة هي القادرة على فعل كل شيء، وعانى الناس من المركزية وضاع من الجماهير مبادرتها واعتمادها على الحلول الذاتية، وأصبح الرئيس هو شيخ القبيلة، ورب الأسرة، والأب الروحي، وكبير العائلة الذي يلجأ إليه الناس عند الشدة لفض الخصومات، ولحل المشاكل، وهو يطابق المخزون النفسي عند الجماهير وتصوراتها الهرمية والمركزية للعالم.
أما أخطاء السلطة في التحليل السياسي، فهي أخطاء لا تغتفر؛ لأن بيدها مقاليد الأمور وباستطاعتها الاستعانة بما تريد من إرشاد ونصح وتوجيه لسلامة القرار، فإن لم تفعل وجب محاكمتها أمام الشعب، خاصةً ولو أدت هذه الأخطاء إلى احتلال جزء من الأراضي الوطنية، وتبديد الثروة القومية.
(٢) قضية البلاد النامية
قضية التراث والتجديد هي القضية الجوهرية للبلاد النامية، إذ إنها تتناول البحث عن الشروط الأولية للتنمية، وتلبي حاجة ملحة لها، وتكمل نقصًا بدأت تشعر به البلاد النامية الآن، وهو عدم الاعتناء بتنمية العنصر البشري، فليست التنمية مجرد استثمار للموارد الوطنية أو الأجنبية، وزيادة في عدد المصانع المستوردة أو في تأسيس للقطاع العام، بل هي استثمار بشري يهدف إلى خلق عنصر جديد قادر على التنمية، ومؤهل للقيام بعمليات التطور، وإذا كان عديد من قادة البلاد النامية ومفكريها يشعرون الآن بأن التنمية وإن كانت قد تمت في الاقتصاد، إلا أنها لم تتم بعد في الإنسان فإن قضية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بإعادة بناء الإنسان في البلاد النامية عن طريق اكتشافه لبُعده التاريخي، وإعطائه أساسًا نظريًّا للتغيير، وتفجير طاقاته المخزونة، وخلق ثقافته الوطنية، وتحريك الجماهير السلبية، وإنزالها بكل ثقلها إلى ميدان التطور والتنمية.
- (١) التحرر من الاحتلال، وكل صور الاستعمار المباشر بالاحتلال العسكري أو غير المباشر بالقواعد العسكرية والمعونات الاقتصادية وجيوش السلام والجماعات التبشيرية والمؤسسات والهيئات والمدارس والمعاهد الأجنبية، إذ يختلف باحث اليوم عن باحث الأمس، فبينما كان باحث الأمس مستقلًّا، فاتحًا للأرض، ناشرًا لواء الثقافة، مؤثرًا في الحضارات المجاورة مكتشفًا للعلوم وواضعًا للنظريات، ومصدر حضارة للآخرين، فإن باحث اليوم محتل، ضاعت الأرض من تحت قدميه، مستعمر ثقافيًّا، يخضع لآثار الحضارة الغربية ناقل للعلم، طالبٌ للعون، سائلٌ المساعدة، متسولٌ في الأسواق، هذا الاختلاف يفرض على باحث اليوم اختيارًا لا مناص منه، وهو إيثار الأرض على كل ما عداها خاصة إذا كان الفكر الذي تمثله حضارته لا يبغي إلا استقلال الأرض وتحرير مَن عليها، حينئذ يصبح استقلال الأرض للباحث المعاصر هدفه وغايته، وتتحول الأرض في شعوره إلى ميتافيزيقا وشعر، ورواية وقصة، إلى حنان وشوق، بعد أن أصبحت بكاءً ودموعًا، مرارة وأسى، ذلًّا وعارًا،١٠ فإذا كان هناك لاهوت فهو «لاهوت الأرض»، وإذا كانت هناك فلسفة فهي فلسفة الأرض، وإذا كان هناك تصوف فهو تصوف الأرض، وإذا كان هناك شعر فهو شعر الأرض، أو رواية فهي رواية الأرض، أو فقه فهو فقه الأرض، وإذا أسسنا لاهوتًا فهو «لاهوت التحرر» وإذا أقمنا فلسفة فهي فلسفة التحرر، وإذا أنشأنا تصوفًا فهو تصوف الثورة، وإذا شرعنا فقهًا فهو فقه النضال، وإذا فسرنا دينًا فهو دين التنمية، وقد كثر فيما حولنا لاهوت الأرض وشعر الأرض من أجل سلب أرضنا، فالصهيونية هي لا هوت الأرض، والاستعمار هو أيديولوجية الأرض، ونحن ما زلنا في نضالنا ضد الصهيونية والاستعمار، لا نقيم وزنًا في فكرنا الوطني إلى لاهوت الأرض وشعر الأرض، ومن ثَم كان فكرنا الوطني على المستوى النظري متخلفًا عن أيديولوجيات التحرر الوطني المعاصرة.
- (٢)
التنمية ضد التخلف، وهي مأساة العصر الثانية، والتخلف يشمل الجوع، وسوء التغذية، والفقر، والمرض، والأمية، والجهل، وعدم استغلال الثروات الطبيعية، وغياب التخطيط طويل المدى، وضعف المؤسسات، فالتخلف يشمل التخلف المادي والمعنوي على السواء، المعنوي مثل سيادة الأسطورة، والخرافة، والانفعال، وعبادة الشخص، والنفاق، والتملق، والزلفى، والخوف، والسلبية، والاستكانة، والقضاء، والقدر، فانتساب الباحث للتراث القديم، ووعيه بدوره كمفكر طليعي يجعله يرى أنه يعيش في مرحلة من تطور حضارته، يحكم عليها بالتخلف، وهو نفسه يعاني منه، ويفكر فيه كمشكلة، بالإضافة إلى موروثه القديم، ويجد نفسه في موقف إعادة بناء القديم أمام قضية التخلف وهي قضية العصر الثانية، يرى في القديم صورة العمران ومظاهر الازدهار والتقدم، ويرى في واقعه صور الفقر وجوانب التخلف والنكوص، حينئذ يجد الباحث نفسه مضطرًّا لإسقاط مفاهيم التخلف والتنمية على البناء الفكري في التراث القديم، ولا يستطيع الباحث إلا أن يفعل ذلك وإلا لكان طائرًا في الهواء يحط بجناحيه على أية شجرة يصيبها، قضية التنمية تفرض نفسها على الباحث ولا يستطيع إلا أخذها في الاعتبار وهو بصدد صياغاته الفكرية وإقامة نظرياته لتطوير الواقع، وقد تخلف فكرنا الديني، ونحن في قلب البلاد النامية، عن الفكر الديني في بلاد نامية أخرى، أمريكا اللاتينية مثلًا، ولم نربط بعد بين الدين والتنمية، بين الإيمان والتقدم، بين اللاهوت والتغيير الاجتماعي، وما زلنا نضع الدين في جانب الإيمان والتنمية في جانب الاقتصاد.
- (٣)
التقدم ضد الركود الفكري، والنهضة ضد توقف الحضارة عن مسيرتها، وهي مأساة العصر الثالثة، إذ إننا نعيش في عصر من البلادة الفكرية لم يشهد التاريخ لنا بمثله، حتى في عصر الشروح والملخصات كان المؤلفون يحفظون التراث بالشرح والتلخيص والتجميع في الموسوعات، والتأريخ لتراثهم ولروحهم، فالقديم كما هو بثقله يكتم الأنفاس، والجديد كما هو بتغطيته للواقع أكداسًا فوق أكداس، والتبريرات للأوضاع القائمة هو الفكر الشامل، ثم يشتكي المبررون من البلاد، ويتضجرون من الركود، مهمة «التراث والتجديد» القضاء على هذه الحالة من الركود الفكري الذي يسود عصرنا الحاضر، فكلنا نشكو من عدم وجود تيارات فكرية أو اتجاهات فلسفية، وأنه يغلب علينا النقل والتجميع والعرض من أجل التعريف بالتيارات القديمة أو المعاصرة أو من أجل دفع كتاب مقرر يُدرس بالجامعات، الحركة الفكرية لدينا هذه الأيام إما اجترار للقديم وتكرار لما وصل إليه من صياغات فكرية وعلوم عقلية أو نقلية حتى طغى الموروث على واقعنا المعاصر، وأصبح فكرنا مشدودًا للقديم وفي حركة واثبة إلى الوراء بالنسبة لواقع في تقدم وتغير مستمر، وأصبح من الصعب على الفكر في وقوفه اللحاق بالواقع في مساره، وإما نقل وترجمة عن التراث الغربي أو تعريف بمذاهبه حتى سرت فوق الواقع طبقات سميكة من المذاهب الأوروبية تغلفه ولا تطوره، تطمس معالمه ولا تظهره، فإذا كانت الحركة الثانية طغيانًا للجديد على القديم فكلاهما طغيان على الواقع، «التراث والتجديد» هو السبيل إذن لقيام حركة فكرية أصيلة يمكنها الوقوف موقفًا نقديًّا من القديم الموروث، ومن الجديد المنقول بناءً على متطلبات الواقع، والقضاء على الركود والبلادة العقلية اللذين لم يتركا للشباب إلا أن ينحصر في الوظيفة أو المكسب، فإن ضاقت اليد فالهجرة، فإن تأزم الفكر فالدين والجنس، إثارة قضية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بخلق جو ثقافي حضاري يساعد على ظهور فريق من الباحثين والمفكرين بدلًا من هذا الجدب الثقافي الذي نعيش فيه، والتباكي على ثقافتنا المعاصرة بأنها قد خلت من كل فكر جاد، ولم يظهر فيها أي عمل فلسفي شق طريقًا أو أرسى بداية، وبأننا ما زلنا ننتظر فيلسوف العصر كما ننتظر الأنبياء.
مهمة «التراث والتجديد» حل طلاسم الماضي مرة واحدة وإلى الأبد، وفك أسرار الموروث حتى لا تعود إلى الظهور أحيانًا على السطح وكثيرًا من القاع، مهمته هو القضاء على معوقات التحرر واستئصالها من جذورها، وما لم تتغير جذور التخلف النفسية كالخرافة والأسطورة والانفعال والتأليه وعبادة الأشخاص والسلبية والخنوع فإن الواقع لن يتغير، وما أسهل أن يتبدل الشبح بالآلة والعفريت بالمحرك فكلاهما يؤدي نفس الغرض، فاستعمال الساذج للآلة لن يقضي على إيمانه بالجن والأشباح إلا إذا أعيد بناؤه النفسي، ومن ثم القضاء على طلاسم الماضي وأسراره إلى الأبد. مهمة «التراث والتجديد» التحرر من السلطة بكل أنواعها، سلطة الماضي وسلطة الموروث، فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه، وتحرير وجداننا المعاصر من الخوف والرهبة والطاعة للسلطة سواء كانت الموروث أو سلطة المنقول، سواء كانت سلطة التقاليد أم السلطة السياسية. مهمة «التراث والتجديد» هو تفجير طاقات الإنسان المختزنة المحاصرة بين القديم والجديد كحصار الإنسان في اللاهوت المسيحي بين آدم والمسيح، بين الخطيئة والفداء.
(٣) شبهات ومخاوف
كثيرًا ما أثيرت بعض الشبهات حول «التراث والتجديد» وبعض المخاوف منه، ولكنها في الحقيقة لا أساس لها، وتظل الفائدة أكثر من الخسارة إن كانت هناك خسارة على الإطلاق، والشبهات في المقدمات والمخاوف من النتائج:
(٣-١) شبهات في المقدمات
-
(١)
لا يعني هذا العلم الجديد أو إن شئنا هذا المنهج في تحليل الظواهر بإرجاعها إلى المخزون النفسي القديم التخلي عن أية نظرة علمية أساسية على أساس أن الواقع ذاته لا صلة له بمخزون نفسي أو بماضي موروث، وأن الواقع له مقوماته من ذاته في أبنيته الاجتماعية ووسائل إنتاجه، وطبيعة علاقاته؛ لأن الاتجاه النفسي للبشر جزء من تصورهم للواقع، بل جزء من الواقع ذاته، فالواقع أبنية وسلوك، مواقف واتجاهات، بل إن الاتجاه النفسي هو الواقع كله سواء من قِبل الجماهير المكونة للواقع، أو من قبل المحلل الذي تتحدد رؤيته للواقع باتجاهه النفسي مهما قيل في الموضوعية والحياد، تتحقق الموضوعية كاملة لو كان الاتجاه النفسي للباحث مطابقًا للواقع النفسي ولمقتضيات سلوك الجماهير، فالواقع الحي، واقع الناس، واقع الجماهير، قبل أن يكون هو الواقع المصمت، والواقع المصمت لا يتحول إلى واقع اجتماعي إلا من خلال سلوك الجماهير واتجاهاتها وموافقتها. الواقع الحي أبنية نفسية، وعلاقات اجتماعية، وتصورات للعالم، وهو الواقع الجديد الذي تعطيه تجارب البلاد النامية، وإضافة جديدة تعطيها الشعوب المتحررة حديثًا، قد لا يكون هذا هو الواقع ماثلًا الآن في الشعوب الأوروبية الغربية نظرًا لسيادة الواقع الكمي الإحصائي، ولكن الواقع في البلاد النامية — طبقًا لنظرة علمية متكاملة — هو الواقع البشري وهو الواقع الكيفي الذي ما زال هو المحرك للجماهير، والحامل لأفكارها والخالق لقيمها.
-
(٢)
ولا يعني هذا المنهج الوقوع في نظرة مثالية تود تغيير الواقع بتغيير الأفكار، وتفسير الظواهر الاجتماعية بتغيير أبنيتها الفوقية؛ وذلك لأن التراث القديم ما زال حيًّا في وجدان الجماهير وما زالت القيم الموروثة هي الموجهة لسلوكها، والحقيقة أن هذه المشاكل المنهجية مثل: أيهما هو العامل الموجه، البناء الفوقي؟ أيهما له الأولوية الأبنية الاجتماعية أم النظريات؟ هذه المقابلات كلها تنتج عن وضع صوري للمسائل، وهو الوضع الذي يفصل بين جانبي الظاهرة الواحدة، الصوري والمادي، نتيجة لفقدان التوازن في شعور الباحث، وتعوده على تفسير الظواهر بعامل واحد، وهو من آثار الاتصال بالحضارة الأوروبية التي فقدت شعورها المحايد ووعيها المتزن.١١
والحقيقة أن الظاهرة لا هي صورية ولا هي مادية بل هي ظاهرة شعورية، أي أن الأبنية — اجتماعية وسياسية واقتصادية — والأبنية الفوقية من نظريات وآراء وموروثات تم توحيدها في الأبنية الشعورية، وهي الأبنية الفعلية التي تحدد سلوك الجماهير، فالواقع خارج الشعور خواء، والنظرية خارج القصد لا فعل لها، بل تتحدد الأفعال والوقائع بكونها أبنية للشعور، فالتراث القديم جزء من أبنية وجداننا المعاصر وأحد مكوناته كما أن الواقع جزء آخر وأحد مكوناته الأخرى، والفكرة التي تؤمن بها الجماهير تتحول إلى سلوك، والواقع الذي يعيشه الناس يتحول إلى مشاركة، وهذه أيضًا إضافة نظرية تعطيها البلاد النامية طبقًا لتجاربها الثورية المعاصرة في مقابل النظرية الآلية أحادية الطرف في الشعور الغربي.
ومع ذلك، إذا قيل إن منهج تغيير الواقع بتغيير الأفكار أولًا هو منهج مثالي؛ لأنه يرى أنه لا يتغير شيء في الواقع ما لم يتغير في الفكر أولًا، قيل: حتى ولو كان هذا منهجًا مثاليًّا إلا أنه ليست به عيوب المثالية التقليدية وذلك للأسباب الآتية:- (أ)
ليس الفكر الذي نتعامل معه مجردًا بل هو فكر حي يوجه سلوك الناس أي أنه مجموعة بواعث للسلوك أو تصورات للعالم توجه الناس في حياتهم العملية، فنحن لا نتعامل مع أفكار مجردة بل مع سلوك حي للناس تمثله هذه الأفكار.
- (ب)
الفكر موروث نفسي عند الجماهير، تفسر به ظواهرها تفسيرًا غيبيًّا، ويسهل به خداعها وتعميتها عن واقعها باللجوء مثلًا إلى الله كمصدر للسلطة وكأساس للمحرمات مثل الدين والسلطة والجنس، فتعاملنا مع الأفكار هو في الحقيقة تعامل مع تصورات الناس للعالم، أي مع واقع حي وليس مع فكر مجرد.
- (جـ)
العمل هو الواجهة الأخرى للفكر، والحزب هو الطريق لتحقيق الأفكار، ولا تغير يحدث في الواقع إلا إذا كان مبنيًّا على أساس فكري، وهذا يحدث في الطليعة أولًا، ثم في الجماهير ثانيًا، لا يحدث التغير إلا بعد حدوث الوعي بالتغير، والوعي بالتغير هو وعي سياسي أو وعي حضاري، وهذا لا يحدث إلا بوعي أيديولوجي.
- (د)
العمل الأيديولوجي جزء من تغير الواقع وأساسه النظري، ولن يتغير الواقع إلا بعد عمل أيديولوجي، وهذه إضافة البلاد النامية على الرصيد الثوري البشري، وتحريك الجماهير ليس فقط عن طريق ثورتها على الأوضاع القائمة، بل أيضًا ثورتها من أجل تحقيق قيمتها التي أخذت مدلولات جديدة قادرة على تحريك الجماهير، ومن ثَم تأتي مصلحة الجماهير بالتبعية لا بالأصالة، وفي الدرجة الثانية لا في الدرجة الأولى، وفي النهاية لا في البداية.
- (هـ)
المثالية بطبيعتها دعوة إلى الثورة والتغيير، خاصةً إذا كانت تيارًا للشباب، فقد فُهمت المثالية خطأ عن قصد، وذلك باتهامها بأنها انعزال عن الواقع، وقضاء عليه، وتحويله إلى فكر، في مقابل الواقعية الملتزمة بالواقع، والبادئة منه، والتي تعيش عليه، في حين أن العكس هو الصحيح، فالمثالية حركة رفض للواقع، ومناداة بواقع أفضل، وثورة على الوضع القائم، وتطلع نحو المستقبل، في حين أن الواقعية تسليم بالأمر الواقع، وإبقاء على الأوضاع القائمة، وفهم لما هو موجود دون وضع احتمالات أخرى لما يمكن أن يكون موجودًا، وهذا الفهم الجديد للثورية الكامنة في المثالية إضافة من التجارب الثورية للبلدان المتحررة حديثًا والتي نحن جزء منها.
- (أ)
-
(٣)
لا يهدف «التراث والتجديد» إلى مجرد القيام بحركة «تكتيكية» عملية، تهدف إلى تحقيق غاية نفعية عاجلة بلا أساس نظري دائم وبلا مقياس أصدق، بل هو تطور طبيعي للمجتمعات على مستوى الفكر، صحيح أن تجديد التراث قائم على منفعة خالصة وهو استعمال طاقة مخزونة غير مستغلة عند الجماهير ونحن بصدد تحريكها وتغيير قيمها وتوجيهها نحو الثورة وتحقيق مصالحها، ولكن الأمر يتعدى «التكتيك» بل ويتجاوز «الاستراتيجية». تجديد التراث أمر حقيقي على مستوى نظري، وتطور طبيعي للمجتمعات في تعاملها مع حضاراتها، ومصير التراث كمصير المجتمعات يتطور ويتحول، وينتقل من عصر إلى عصر، يضع فيه كل روحه فيتشكل بفعل روح العصر، تجديد التراث عملية فكرية استقلالية تهدف إلى غرض نفعي خالص، هي جزء من عملية التطور والتنمية أو هي شرطها ودلالتها، هي عملية تتم فيها وحدة الشعوب وتجانسها في الزمان، وتتجاوز بها مخاطر الفصم بين ماضيها وحاضرها، وهي عملية تسمح بها أصول التراث ذاتها، والمنبع الذي صدر منه، أعني الوحي الذي حوى الواقع في باطنه، والذي تكيف طبقًا لتطوره، وهو ما وضح أساسًا في علم أصول الفقه في الأصل الرابع من أصول الشريعة، أعني الاجتهاد الذي جعلته الحركات الإصلاحية مبدأ الحركة في التراث، لا يعني التراث والتجديد أية نزعة «برجماتية» بمعنى استغلال الدين لصالح الثورة، بل هي عملية نظرية تحتوي على مقاييس صدقها النظري، صحيح أن مقياس صدق الفكرة هو تغييرها للواقع ومدى أثرها في الحياة العملية، ولكن ينتج عن تحليل خاص للواقع، وأيضًا من تحليل لمضمونه القديم الذي يحتوي على هذا المقياس، الصدق النظري موجود في أنماط فكرية ثابتة سماها الأصوليون المناط، وتحقيقه هو المتغير من عصر إلى عصر، وإن أهم ما يميز التراث في أصوله وفي نشأته وتطوره هو حركته وعدم ثباته، فالوحي قد تغير طبقًا لحاجات الواقع، والتشريع يتغير طبقًا لتغيرات العصر، ومصادر الشرع الثالث والرابع أعني الإجماع والقياس من أجل تحقيق التغير في كل عصر، والفرق الإسلامية وتعددها ناشئة عن اختلاف الأوضاع الثقافية وردود الفعل عليها بالمذاهب الكلامية، والتصوف أساسًا منهج حركي وطريقة عملية، ومن ثَم فاتهام التراث بأنه يمثل عنصر الثبات في واقع متحول ومتغير اتهام لا أساس له لأن التراث يمثل عنصري الثبات والحركة معًا، كما أن الواقع يمثل عنصرَي الثبات والحركة معًا، فهو ثابت لأنه واقع يفرض نفسه على أشكال الفكر، وهو متحرك لأنه يسمح بعدة أنظمة فكرية تتلاءم مع تطوره،١٢ الصدق النظري والأثر العملي واحد في التراث لأنه واحد في أصول التراث، أعني الوحي، ومن ثَم لا يصدق على «التراث والتجديد» أنه نزعة برجماتية كما لا يصدق عليه أنه نزعة مثالية.
-
(٤)
لا يعني «التراث والتجديد» إصلاحًا نظريًّا للقديم، بل يعني تغيير الواقع تغيرًا جذريًّا بالقضاء على أسباب التخلف من جذوره النفسية. مهمة التجديد إذن عملية لا نظرية، وهي المساهمة في البناء النظري للواقع، وذلك بالقضاء على الأفكار الثابتة فيه والأحكام المسبقة التي لا يمكن أن تكون أساسًا نظريًّا لتغيير الواقع، التجديد جزء من البناء النظري للواقع وجانب من الإيضاح للسلوك، فالتراث ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتحريك الجماهير وتغيير الواقع، وليس موضوعًا في ذاته نفخر به وبمعاصرته، ولكن معاصرة الناس هي المطلوب تحقيقه، التراث لا يحتوي على أنساق نظرية خالصة يهمنا الاكتشاف عنها، بل يحتوي على إمكانيات عملية يكشف عنها المفكر بإعادة تفسيره طبقًا لمصلحة الجماهير، وهذا لا يمنع من وجود حقائق نظرية واحدة هي قوانين التاريخ، ولكنها أيضًا واقع تحول إلى مستوى النظر، وأصبح نمطًا نظريًّا مثاليًّا أساسه تجربة واقعية، وقد احتوى مصدر التراث الأول — أعني الوحي — هذه المجموعة من الحقائق النظرية التي قامت في الأصل من مجموعة مماثلة من التجارب الحية في الواقع، ثم تحولت إلى حكمة شعبية تتناقلها الأجيال كجزء من ثقافتها الوطنية، لا يعني تجديد التراث محاولة إصلاح القديم وترميمه حتى لا يمكن الإبقاء عليه كموضوع مستقل يلبس ثوب العصر، بل يعني عرض الموروث القديم على احتياجات العصر ومطالبه، فهي التي تفسر القديم، ليس القديم هو موضوع البحث، بل واقعنا المعاصر، وليست الغاية هو البحث عن معانٍ في القديم حديثة لا تعارض العقل أو العلم أو التقدم، بل المساهمة الفعلية في تطوير الواقع الذي نعيشه بما أن مشكلة التطوير هي مشكلة العصر، والدافع على التجديد ليس ترميم الماضي، بل تغيير الحاضر، ولا يقال إن ذلك مضيعة للجهد والوقت، فلماذا الترميم والإصلاح وإعادة التفسير دون استبدال بالقديم كله أساس نظري جديد، فهذا أوفر جهدًا وأقصر وقتًا؛ وذلك لأن الحضارات لا تستبدل ولا تنقل، وأن الثقافات لا تستعار، وأن تطور الشيء الطبيعي هو وجوده، ومن ثَم فالوجود لا ينتزع ثم يزرع، ولكنه يتطور تطورًا طبيعيًّا، هذا هو التغيير الأبقى وليس زرع الأعضاء التي لا تتطور، بل قد تلفظ باعتبارها جسمًا غريبًا.
-
(٥)
لا يعني «التراث والتجديد» القيام بحركة إصلاح كما كان موجودًا لدينا في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، مجرد تغيير في معاني الأشياء مثل أن تكون الصلاة بهذا الشكل وليس بذلك النحو، أي مجرد تغيير نظري دون التنظيم الفعلي لهذا التغيير أو تغيير دون قيامه على تغيير نظري مواكب، «التراث والتجديد» يهدف إلى تكوين حركة جماهيرية شعبية وإلى حزب ثوري يكون هو المحقق للثقافة الوطنية الموجهة لسلوك الجماهير، كما يهدف إلى تغيير الأطر النظرية الموروثة طبقًا لحاجات العصر ابتداءً من «علم أصول الدين» الذي يعطي الجماهير الأسس النظرية العامة التي تحدد تصوراتنا للكون، وابتداءً من إعادة بناء الأصول تتغير أشكال الفروع بطبيعتها، الانتقال مثلًا من العقل إلى الطبيعة، ومن الروح إلى المادة، ومن الله إلى العالم، ومن النفس إلى البدن، ومن وحدة العقيدة إلى وحدة السلوك،١٣ لقد كانت معظم الحركات الإصلاحية القديمة حركات سلفية تحافظ على القديم أكثر مما تبغي من تحليل الواقع، فقد كان الواقع جزءًا من القديم لأننا جميعًا مسلمون، كانت الحركات الإصلاحية القديمة دفاعًا عن القديم ضد الجديد الممثل في النظريات الجذرية للتغير سواء في الفكر مثل التيارات العلمية والمادية أو في الواقع مثل النظم الاشتراكية، واتهامها بالإلحاد والشيوع. «التراث والتجديد» يود تطوير الفكر الإصلاحي القديم ودفعه خطوة أخرى نحو الإصلاح، والانتقال به من الإصلاح إلى النهضة، ومن إعادة التفسير إلى تأسيس العلم، ومن الإصلاح النسبي إلى التغيير الجذري. «التراث والتجديد» دفاع عن واقع الناس العريض، ومصلحة المسلمين، وليس دفاعًا عن الماضي، بل دفاع عن المستقبل باسم الماضي، وتهيئة العيش للخلف باسم السلف، ومع ذلك، فالإشارات إلى الفكر الإصلاحي مستمرة لا من أجل الاعتماد عليها، وأخذ البراهين منها بل لتطويرها واعتبارها آخر ما وصل إليه المعاصرون من تجديد. إن «التراث والتجديد» هو الوريث لحركات الإصلاح الديني الحديثة التي بدأت منذ أكثر من قرن من الزمان، وهي العملية التي تصب فيها كل محاولات التغيير الجذري للقديم إما على مستوى الفكر أو مستوى الواقع، وهي التي تضم في باطنها كل محاولات الفهم الجزئية لجوانب مختارة من القديم، وهي التي تعود إلى الأساس، إلى نشأة العلوم الدينية العقلية ذاتها، وإعادة بنائها من المنبع وإذا كان التجديد في تراثنا القديم، على الأقل في علوم الحكمة وفي بعض حركاتنا الإصلاحية الحديثة، إذا كان التجديد قد تم باسم العقل أو باسم الشرع فإن التجديد الحالي يتم باسم الواقع ومن أجل التغيير، لم يكن الواقع غريبًا على التراث القديم لأن أصول التراث نفسه — وهو الوحي — مبنية على الواقع، وتغيرت وتكيفت طبقًا له، وأصول التشريع كلها تعقيل للواقع وتنظير له، ولكن الواقع القديم تخطته الشريعة، وجاوزه التشريع إلى واقع أكثر تقدمًا في حين أن واقعنا الحالي الذي يقام التجديد عليه لم يتخطه أي تشريع بعد، وتظل كل التشريعات أقل مما يحتاجه، ويظل هو متطلبًا لأكثر مما تعطيه التشريعات، التجديد إذن تطوير للواقع أساسًا، وهو ذاته تطوير للتشريع، وهو أيضًا نظرية في العقل لأنه يحلل الواقع أساسًا، وينتهي إلى مكونات بديهية له وأنظمة واضحة يجد فيها الواقع مطلبه، فالبداية هي الرؤية المباشرة للواقع التي تدرك بالوجدان ثم تصديق العقل لحدث الوجدان ثم تصديق الشرع على الاثنين معًا.
-
(٦)
لا يعني «التراث والتجديد» أية نزعة توفيقية بين القديم والجديد لأن التوفيق بهذا المعنى عمل غير علمي يخضع لمزاج شخصي للباحث أو لاختيار مسبق للفيلسوف أو يقوم على هوى يقضي على موضوعية القديم والجديد على السواء، وهو الطرف الثالث الذي يتم التوفيق بناءً عليه، فعندما وفق الفارابي بين أفلاطون وأرسطو خضع لمزاجه الشخصي واختياره الفلسفي المسبق وهو مزاجه الإشراقي وتصوره الهرمي للعالم، ولكن يعني «التراث والتجديد» إعادة بناء علوم الغايات بكل الوسائل التي يتيحها العصر، وهي وسائل بيئية خالصة ناتجة عن ثقافتنا المعاصرة، وحاجات العصر، فإذا كان التوفيق يتعامل مع شيئين هما موضوعا التوفيق، كان «التراث والتجديد» يتعامل مع شيء واحد وهو التراث القديم، وإن عرض هذا التراث على حاجات العصر لا يعني توفيقًا بين الاثنين وأخذ جزء من هذا مرة وجزء من ذاك مرة أخرى، بل يعني أن مطالب العصر هي أساس التفسير فلا توجد علاقة تساوي بين طرفين، ولكن توجد علاقة أساس بمؤسس، أي أنها ليست علاقة أفقية يوضع فيها الطرفان على نفس المستوى بل هي علاقة رأسية توضع فيها حاجات العصر كأساس تحتي ثم التراث كمؤسس فوقي، وغالبًا ما يكون التوفيق في صف طرف على حساب الطرف الآخر فقد كان توفيق الفارابي لحساب أفلاطون، وأصبح أرسطو أفلاطونيًّا، وكان توفيق إخوان الصفا بين الفلسفة العقلية والفلسفة الإشراقية لحساب الفلسفة الإشراقية، أما «التراث والتجديد» فإنه يأخذ التراث على أنه أصل لأنه هو الواقع النفسي للجماهير ثم يقاس التجديد عليه وهي التفسيرات المحتملة له أو أخذ التجديد على أنه أصل، وهي متطلبات الواقع ثم يقاس التراث عليه، وهو الأساس النظري لفهم الواقع، إن التوفيق القديم بمعنى أخذ حضارتين، كل منهما في يد، قضاء على مهمة «التراث والتجديد» الأساسية وهي اتحادهما معًا من أجل تطوير الواقع أو وجودهما في طرف ثالث وهو الواقع المراد تغييره. كان الواقع في التوفيق القديم هو الواقع الفكري في حين أن الواقع في عملية «التراث والتجديد» الحالية هو الواقع الاجتماعي بمعناه العريض الذي يعبر عنه في مصلحة المسلمين. كان التوفيق القديم عملية حضارية من أجل تمثيل الحضارات الغازية في حين أن «التراث والتجديد» عملية اجتماعية من أجل تغيير الأوضاع القائمة.
-
(٧)
لا يدل «التراث والتجديد» على أي أثر خارجي من بيئة ثقافية أجنبية، وإلا وقع ضمن محاولات التجديد الحالية القائمة على العقلنة من الخارج،١٤ ولكنه يعني إعادة بناء للتراث من داخله بما أتيح للباحث من وسائل عصرية، مناهج أو تصورات أو لغة، وهي مشاعة عند المثقف العادي لا تنتسب إلى بيئة ثقافية دون غيرها، ولقد اتُّهم فلاسفة المسلمين من قبل في كل محاولاتهم لتجديد الفكر الديني بالأثر الخارجي تحت خدعة الألفاظ المستعملة وتشابهها مع ألفاظ الثقافة العصرية.ودعوى الأثر الخارجي لا تنطبق إلا على الفكر المنقول، وفي هذه الحالة لا يكون أثرًا خارجيًّا بل يكون فكرًا منقولًا قلبًا وقالبًا، شكلًا وموضوعًا حتى ولو ظهر في ثوب الثقافة الوطنية من أجل حسن القبول، كزينة شرقية على واردات غربية، أما الأثر الخارجي فتهمة تلقى على كل فكر أصيل يطور القديم وينحو نحو العصر من أجل تفريغ القديم من كل محتوى تقدمي له ووضعه في إطار الموروث المتخلف عن العصر الذي لا يحتوي على أي عنصر من عناصر تطوره من داخله ومن أجل إثبات أن التطور لا يأتي إلا بفضل قوالب أو مناهج أو تصورات من ثقافة مغايرة هي الثقافة الغربية التي تحوي من داخلها على كل مقومات التطور والمعاصرة، فالأثر الخارجي كتهمة تشير إلى عقلية غربية ممركزة على الذات، تجعل نفسها الأصل وغيرها الفرع، وتنظر إلى ذاتها باعتبارها حاملة التقدم لغيرها المتخلف، وهي عقلية تصل إلى حد العنصرية الثقافية والقبلية الحضارية، والتي تقوم في أساسها على عنصرية وقبلية عرقية تظهر على مستوى الثقافة والتقاء الحضارات تسقط ذاتها على الآخرين، فلأنها كانت بفعل أثر خارجي — يوناني روماني عربي — فإنها تظن أن أية محاولة للتجديد لا بد وأن تكون خاضعة لنفس النمط ويكون هذه المرة، يونانيًّا رومانيًّا هنديًّا فارسيًّا في القديم أو غربيًّا في الحديث.١٥
-
(٨)
ولا يعني «التراث والتجديد» أخيرًا محاولة تقوم بها الطبقة البرجوازية أو من ينتمي إليها والتي تشغل نفسها بالثقافة دون الواقع بعد أن اطمأنت لكفايتها المادية منه والتي تشغل نفسها بالنظر دون الممارسة العملية بعد أن جعلت نفسها ممثلة لثقافة الجماعة والحريصة على حقها، وذلك لأن العمل الثقافي جزء من بناء الواقع وفهم له، وهو ليس عملًا للبرجوازية حتى ولو كانت وطنية، بل هو عملية لطليعة الطبقة العاملة؛ لأنه إعادة لتفسيرات التاريخ من وجهة نظرها وبناء على متطلباتها، والمثقفون جزء من الطبقة العاملة فالعمل هو الممارسة العامة لكل فعل يهدف إلى تغيير الواقع، ومهما يكن من شيء فنحن مثقفي هذا العصر ما زلنا ننتسب إلى الطبقة المتوسطة، ولكنها طبقة وطنية تنتسب إليها ببنائها النفسي وتكوينها الثقافي ولكن اختيارها من الطبقة العاملة، وما زال أمامها دور لم تؤده بعد،١٦ والذي يقود العصر الآن هو يمين البرجوازية لا يسارها أي البرجوازية التي ورثت الإقطاع القديم، وترفع الشعارات، وتتستر وراءها من أجل الحصول على مكاسب خاصة بطبقتها متمثلة ثقافة وطنية تفسرها لمصلحتها الخاصة، ودون تبني أي ثقافة خارجية، بل تتهم كل ثقافة خارجية تهدد مكاسبها الطبقية بالأفكار المستوردة الهدامة، ويمين البرجوازية هو الجناح الخائن من الطبقة المتوسطة، ولا يقل خيانة عن الجناح العميل المباشر، أما طليعة الطبقة المتوسطة التي تنتسب نفسيًّا ونضاليًّا إلى الطبقة العاملة فإن بإمكانها أن تقوم بعملها النظري في «التراث والتجديد» وأن تناضل بالفعل، وأن تجند الجماهير، وأن تمارس السياسة يوميًّا من أجل تحقيق أيديولوجيتها، النظر والعمل واجهتان لشيء واحد ويمكن القيام بالمهمتين معصا، ولو استعصت الممارسة في وقت ما، فعلى الأقل يتم البناء النظري من خلال التراث والتجديد، وهو الوقت الذي تحتكر فيه السلطة في البلاد النامية العمل السياسي، وتجعل من ممارسة الشعب له ضربًا من الخيانة والخروج على نظام الدولة.١٧
(٣-٢) مخاوف من النتائج
وبالإضافة إلى هذه الشبهات توجد أيضًا عدة مخاوف من بعض النتائج التي قد يحدثها «التراث والتجديد» مما تجعل الناس يتحرزون منه منذ البداية، والكف عما لا تحمد عقباه مدعاة للأمان، وهي في الحقيقة مخاوف وهمية لا حقيقة لها، بالإضافة إلى أنها ستنتج ضرورة بتطور الحضارة الطبيعي عاجلًا أو آجلًا، والأفضل أن تنتج عن عملية حضارية واعية لا عن نفضة ادعائية، وضجة مفتعلة، وصخب لا ينتج عنه شيء.
-
(١)
فإن قيل: إن «التراث والتجديد» سيؤدي لا محالة إلى الإلحاد لأنه يعني إعطاء الأولوية للواقع على الفكر، وإعطاء التاريخ الصدارة على الوحي، والقضاء على استقلال العقائد كموضوعات لها صدقها الداخلي النظري بصرف النظر عن صلتها بالواقع العملي، قلنا: إن مقولتي الإلحاد والإيمان مقولتان نظريتان لا تعبران عن شيء واقعي لأن ما يظنه البعض على أنه إلحاد قد يكون هو جوهر الإيمان، وما يظنه البعض الآخر على أنه إيمان قد يكون هو الإلحاد بعينه، بالإضافة إلى أن مقولات الإلحاد والعلمانية التي نشأت في حضارات أخرى ورفضها تراثنا القديم وبعض الحركات الإصلاحية الحديثة هي في صميمها التجديد الذي هو مضمون تراثنا القديم، فمعنى الإلحاد في الحضارة الغربية يعني الإيمان في تراثنا القديم، ويكفي أن نعلم:
- (أ)
ليس للعقائد صدق داخلي في ذاته، بل صدقها هو مدى أثرها في الحياة العملية وتغييرها للواقع، فالعقائد هي موجهات للسلوك، وبواعث عليه لا أكثر، وليس لها أي مقابل مادي في العالم الخارجي كحوادث تاريخية أو أشخاص أو مؤسسات إلا من الواقع العريض الذي هو حامل للمعاني وميدان للفعل، فالإلحاد بهذا المعنى رغبة في بيان الأثر العملي للأفكار ورد فعل على الإيمان المتحجر المكتفي بذاته الذي يكفي المؤمنين شر القتال.
- (ب)
ليس المقصود من الوحي إثبات موجود مطلق غني لا يحتاج إلى الغير، بل المقصود منه تطوير الواقع في اللحظة التاريخية التي نمر بها، والتي تحتاج إلى من يساعدها على التطور، وإذا كان التراث القديم قد غرق في مثل هذا الإثبات فلأن هذا الإثبات كان موضعًا للشك أو للهجوم من الحضارات المجاورة، ولم تكن هناك حاجة إلى التطور لأن المجتمع كان متطورًا ومنتصرًا لا يهاجم في الأرض والثروات — كما هو الحال حاليًّا — بل في الفكر والتصورات، وهو أيضًا موضوع هجوم حالي، فلا نحن أنشأنا فكر المقاومة ونظريات التحرر، ولا نحن عبرنا عن الأصالة، وقلبنا الآية، وبيَّنا حدود الثقافة الغربية، وأخذنا منها موقفًا نقديًّا شاملًا، فالإلحاد بهذا المعنى تطابق مع الواقع، ووعي بالحاضر، ودرء للأخطار، ومرونة في الفكر، وفضح لشتى ألوان الاستعمار والسيطرة على كل المستويات، ويسعد الغرب اتهام كل محاولة للتوعية الثقافية وللمواقف الحضارية المستنيرة بالإلحاد لأنه يبغي المحافظة على الإيمان القديم، ويزايد على أهل الدار، فذاك يسهل عليه ما يريد، ويحقق له أهدافه في السيطرة.
- (جـ)
ليس المقصود من الوحي هو التحول النظري والإعلان باللسان، فالإيمان بناء نفسي للفرد وبناء اجتماعي للواقع، والحكم على شخص أو على واقع بالإيمان هو حكم مضمون وليس حكم صورة صوتية أو مرئية، وهي مسألة عرض لها تراثنا القديم، وساد الإيمان بالقول على الإيمان بالعمل، ومن ثَم يكون الإلحاد بهذا المعنى هو تحول للاختيار القديم من القول إلى العمل، ومن النظر إلى السلوك، ومن الفكر إلى الواقع، واختيار الطريق الصعب، طريق الشهادة، وترك طريق الادعاء والمنصب والمزايدة، يكون الإلحاد هو انتقال من الصورة إلى المضمون، ومن الشكل إلى الجوهر.
- (د)
نظرًا لطول الألفة للمعاني الشائعة للإيمان فإن كل ما يخرج عليه يوصف بالإلحاد، وهذا غير صحيح، فمنذ متى كانت المعاني الشائعة أساسًا للمعاني المضبوطة ويحكم العرف استعمال اللغة؟ إن مهمة المفكر الواعي هو هذا التمييز بين المعاني الأصلية والمعاني العرفية، وإلا تركنا اللغة يتحكم فيها العرف، ويضيع الفكر، وتتوقف عملية التطور الحضاري، لطالما تضيع المعاني بكثرة الاستعمال، حتى تتحول إلى المعاني المضادة ومن ثم تفقد الألفاظ قدرتها على التعبير، وتكون حينئذ مسئولية المفكر العودة إلى المعاني الأصلية، فالإلحاد هو المعنى الأصلي للإيمان لا المعنى المضاد، والإيمان هو المعنى الذي توارده العرف حتى أصبح بعيدًا للغاية عن المعنى الأصلي، إن لم يكن فقدًا له.
- (هـ)
نظرًا لخروجنا حديثًا من المجتمع الإقطاعي، ووجودنا في مجتمع برجوازي فإن تصورنا بإيمان يخضع لتصور المجتمع الإقطاعي القديم والبرجوازي الجديد، وهو أن الإيمان هو الحفاظ على الموروث، والإبقاء على الوضع الراهن، والدفاع عن التقليد، وحماية مصالح الطبقة، ونظرًا لضياع الدولة الإسلامية ينشأ التعويض في التطرح بالبياض أو التلحف بالسواد، ونظرًا لغياب الممارسة ترتفع مكبرات الصوت في الآذان، وتكثر البرامج الدينية في أجهزة الإعلام جنبًا إلى جنب بجوار فن الإثارة والجنس، وهكذا يكون الإيمان تغطية وتعمية عن شيء آخر مخالف لمضمون الإيمان، ويكون الإلحاد هو كشف القناع، وفضح النفاق، وتعرية الواقع، وعود إلى المعنى الأصلي، ورفض للتواطؤ، وقبول للشهادة.
- (و) نظرًا لاتصالنا بالحضارة الغربية، فإن تصورنا للإيمان والإلحاد يخضع لما يفد علينا من تصورات المجتمع الرأسمالي للدين في حين أن حركات الإلحاد في الفكر الغربي أقرب إلى جوهر الإيمان، ولكننا نظرًا لتقليدنا للغرب، وتبعيتنا الثقافية له، نردد مفاهيمه ونظرياته، ونفصلها عن محليتها وظروفها ومادتها العلمية، ونعممها على غيرها، ونحن ضمن هذا الغير، فنضع أنفسنا تحت غطائه النظري في حين أن واقعنا مخالف، ومادتنا العلمية مغايرة، وظرفنا التاريخي مختلف، فما اعتبروه إيمانًا هو في الحقيقة بالنسبة لنا إلحاد، وما اعتبره إلحادًا هو بالنسبة لنا إيمان.١٨
- (ز)
الاتهام بالإلحاد هو في نهاية الأمر دفاع السلطة الدينية والسلطة السياسية عن أوضاعهما الخاصة، ومعارضة كل منهما لأي تغير جذري ينشأ من الثقافة الوطنية، يبغي تغيير الواقع العريض الذي تعيش عليه الأغلبية، فالسلطة سياسية أم دينية تعلم أن الجماهير متدينة، ومن ثم تقوم بتملقها ونفاقها واتهام كل من يريد الدفاع عن مصالحها بالإلحاد حتى تنقلب الجماهير عليه وتظهر السلطة على أنها المدافعة عن مصالحها! وفي تراثنا القديم شواهد على ذلك، فكل دعوة إلى الطبيعة المستقلة، والعقل المدرك، والفعل الحر، ومسئولية الإنسان، والعدل الاجتماعي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كانت تتهم أيضًا بالإلحاد والكفر، و«التراث والتجديد» هو محاولة لإعادة الاختيار في فكرنا القديم.
- (أ)
-
(٢)
فإن قيل: إن «التراث والتجديد» سيؤدي حتمًا إلى حركة علمانية، وفي العلمانية قضاء على تراثنا القديم، وموروثاتنا الروحية، وآثارنا الدينية، وقد نشأت العلمانية في الغرب استجابة لدعوى طبيعية تقوم على أساس رفض الصور الخارجية، وقسمة الحياة إلى قسمين، واستغلال المؤسسات الدينية للجماهير، وتواطؤها مع السلطة، وحفاظها على الأنظمة القائمة، نشأت العلمانية استردادًا للإنسان لحريته في السلوك والتعبير، وحريته في الفهم والإدراك، ورفضه لكل أشكال الوصاية عليه، ولأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير، العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل وإلى الجوهر دون العرض، وإلى الصدق دون النفاق، وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته، وإلى الإنسان دون غيره، العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور، وما شأننا بالكهنوت، والعلمانية ما هي إلا رفض له؟ العلمانية في تراثنا وواقعنا هو الأساس واتهامها باللادينية تبعية لفكر غريب، وتراث مغاير، وحضارة أخرى.
-
(٣)
فإن قيل: إن «التراث والتجديد» يتحدث عن التحليل الطبقي للمجتمع، ويرفض سلطة الطبقة وفكر الطبقة، كما يهدف إلى تغيير الواقع العريض، والدفاع عن مصالح الجماهير، وهي الطبقة العاملة، وهذه هي «الماركسية» بعينها، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فما زالت مأساتنا في الاتصال بالتراث الغربي هو أننا نأخذ تياراته واتجاهاته ونفصلها عن واقعها ثم نقذف بها خارج الحضارة الغربية إلى الحضارات الأخرى ونعممها وكأنها نتائج العلم التي لا ترد، الماركسية تحليل صائب للمجتمع الأوروبي الرأسمالي في القرن التاسع عشر، وحركة تغيير جذري له كذلك، ففكر الطبقة وثقافتها أمر واقع بيننا نلمسه، وسلطة الطبقة في مجتمعنا أمر نعاني منه كل يوم، ومصلحة الطبقة هو الموجه لسلوك السلطة، فهذه وقائع بديهية من واقعنا المعاصر لا تحتاج إلى نقل حضاري أو إلى صفات وأسماء مستعارة، ونخطئ أشد الخطأ في أبسط القواعد العلمية عندما نظن أن العلم ينقل ولا ينشأ، وأن العالم يستعير ولا يحلل، والمخطئ في ذلك إما إنسان تعفن في القديم ولا مخرج له منه أو جهل الحضارات الأخرى ولم يعرفها إلا بالدعاية أو انفصل عن واقعه ولم يعلم مكوناته، واتهام «الماركسية» مثل اتهام «الفينومينولوجية» ما دامت الظواهر يتم تحليلها على مستوى الشعور وكأن كل ما يحدث في فكرنا القومي لاحق بفكر غيره، وأننا سنكون باستمرار مهمشين على نصوص غيرنا ولسنا مؤلفين لنصوص.
-
(٤)
فإن قيل: إن «التراث والتجديد» يقضي على موضوعية الأصول وعلى استقلالها عن الزمان والمكان، والعقائد دائمة ثابتة لا تتغير، وتصور «الله» لا يتأثر ولا يتغير بتغير الظروف الاجتماعية، وهذا التخوف أيضًا لا أساس له لأن «التراث والتجديد» عملية حضارية تلقائية مهمتها إعادة التفسير، ولا تتحدث عن الأشياء في ذاتها مثل «الله»، لا يخرج «التراث والتجديد» عن التصورات العقلية المحتملة للموضوعات، أما الموضوعات نفسها فموضوعه بين قوسين، التفسير عملية تغيير المعاني طبقًا للمعنيات، وتغيير الدلالات بتغير المدلولات، وهي عملية ذاتية خالصة لا تهدف إلى إصدار أحكام على الوقائع، بل هو عمل أيديولوجي خالص لا يخرج عن نطاق الأفكار، هي عملية إحداث تغيير في تصورات العالم وتغيير مواقف واتجاهات إنسانية، «التراث والتجديد» يتعامل مع العالم الإنساني وحده، بل إنه يمكن اتهام «التراث والتجديد» بأنه عملية ذاتية خالصة لا تخرج عن نطاق النظرة الإنسانية، ولكن الاتهام مردود لأن إحداث التغيير في النظرة الإنسانية هو بداية إحداث التغير في العالم.
إن قضية «التراث والتجديد» قضية عامة لا تخص حضارة بعينها، وإن كانت هنا مطبقة على تراثنا القديم، وقد حدث ذلك في التراث الأوروبي في كل عصر خاصةً في العصر الحديث، كما تحدث في كل جيل تقريبًا عندما يحاول إيجاد الأساس الشعوري للظواهر، وفي التراث الأوروبي المعاصر نشأت نزعات التجديد باكتشاف الذاتية، واكتشاف الأساس الذاتي للظواهر الدينية الموضوعية، وتتعرض الآن كل المجتمعات النامية لهذه العملية، ولا يعني أن هناك نموذجًا واحدًا لها بل تقوم كل حضارة بها طبقًا لما لديها من تراث وما تبتغيه من تجديد، وما توجد فيه من واقع تعيش عليه، وهي الآن مسئولية جيلنا.