ثالثًا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية
«التراث والتجديد» أيضًا تعبير عن أزمة أخرى، وهي أزمة الدراسات الإسلامية في الجامعات والمعاهد العليا، فإذا كانت أزمة التغيير أزمة الثورة في واقعنا، فإن أزمة الدراسات الإسلامية هي أزمة البحث العلمي؛ لذلك كان «التراث والتجديد» تعبيرًا عن أزمتين: أزمة التغيير الثوري، وأزمة البحث العلمي.
وترجع أزمة الدراسات الإسلامية إلى انفصال في شخصية الباحث بين المسلم والباحث، فهو مسلم من ناحية بمعنى أنه مستسلم للواقع الذي يعيش فيه، وهو باحث من ناحية أخرى يدرس التراث بنظرة محايدة، وكأنه يدرس ظواهر تاريخية خالصة لا شأن له بها في حين أن التراث، كما عرضنا، قضية شخصية للباحث لأنه ينتمي إليه فكرًا وحضارة ولغة ومصدرًا ومصيرًا، ويحدث هذا الانفصام إما عن تصور للإسلام على أنه مجموعة من العقائد لا شأن لها بالبحث العملي مما يجعل الباحث العلمي يتبنى أي منهج علمي من الخارج، أو من عدم إحساس بالإسلام كلية واعتبار أنه هو الباحث العلمي وأن الإسلام لا يعطيه شيئًا، وقد ينشأ ذلك من التغرب (انحراف الشعور نحو الغرب) وتقليد مناهجه العلمية التي نشأت كرد فعل على معطاها الديني الخالص وهو المسيحية، أو من حالة الركود العامة في التصور الإسلامي للحياة وفي الدراسات الإسلامية التي لم تستطع أن تعطي الباحث مقابلًا للمناهج الغربية، ينشأ هذا الموقف الثالث في الانفصال عن تراثنا القديم وتبعيتنا للتراث الغربي، وتكون النتيجة أن يتخرج مئات الشباب وهم مشتتون حانقون غاضبون لم تحل مشاكلهم في البحث عن منهج يمكنهم بواسطته حل جميع مشاكلهم الوطنية والثقافية والعلمية، ويتخرجون والقديم ما زال طلاسم لم تنفك عُقَده، والجديد ما زال معروضًا كرقائق من الفطائر، كل منهم يسرع بشفقة يعلن عن وجوده من خلالها، وتشتد الحيرة، ويزداد التخبط، وتنتهي الثقافة، وينتهي بهم الحال إما إلى الرجوع إلى الماضي بعبله، والتزمت، والتشدد، والتعصب، والتصوف أو الذهاب إلى الجديد بعبله دون فهم منه له، ويكتفي بترديده دون مراعاة لاختلاف البيئة والظروف واللحظات التاريخية، ويتنصل الإنسان من ماضيه خاصةً إذا لم يشعر بأنه جزء منه لاختلاف دينه مع تراثه، وكثيرًا ما يؤدي التغرب الثقافي إلى الهجرة الفعلية — بعد هجرة الشعور — أو يظل مشتَّتًا بينهما دون القدرة على أخذ موقف حضاري له، فهو ملفق مرة وخالط مرة، ويظل خائفًا بين الاثنين.
ولما كان كل خطأ في الحكم ينتج أساسًا عن خطأ في المنهج، وكل كشف جديد يأتي أيضًا عن كشف في المنهج فإن الحالة الحاضرة للدراسات الإسلامية والأحكام التي تصدر عليها تكشف عن أزمة في مناهج الدراسة، وتتلخص هذه الأزمة أساسًا في عدم تطابق المنهج المتبع مع موضوع الدراسة نفسه خاصةً إذا كان الموضوع نفسه منهجًا أو يحتوي على منهج كامن فيه، وإن الغالب على هذه المناهج المتبعة أنها إن لم تكن مضادة تمامًا لطبيعة الموضوع ومنهجه فإنها على الأقل لا تتفق معه، هذه المناهج ليست مدروسة من قبل، وليست مطبقة عن وعي كامل، ولكنها شائعة بين المشتغلين بالدراسات الإسلامية، ورثوها إما عن طريق التقليد للدراسات الموجودة حاليًّا سواء من المستشرقين أو الدارسين المسلمين أو عن طريق الاستسلام للعادة والأخذ بأضعف الإيمان أو رغبة في الحصول على ركن من أركان العلم يستأثر به صاحبه ويعلن عن نفسه من خلاله ويمنع الآخرين من الاقتراب منه بعد أن أصبح حكرًا عليه، أو رغبة في كسب، أو طمعًا في منصب، أو حصولًا على درجة بديلًا عن الفكر في صورة كتاب مقرر، وهنا يسقط شرط العلم الأساسي وهو البحث، ويتحول التأليف إلى ظاهرة غير علمية دون تفكير جدي في المنهج المتبع للباحث، ماذا يريد بدراسته وإلى أي شيء يهدف؟ لذلك فإن إعادة طرح مسألة التفكير المنهجي فيما يتعلق بالدراسات الإسلامية يمكن بواسطته إحياؤها من جديد لتجنب الأحكام الخاطئة الشائعة ولربطها بحياة الدارسين القدماء أو الجدد، ما دام التراث قضية وطنية، وبالتالي قضية شخصية وجماعية، ولصبها داخل الثقافة الوطنية وعلى هذا النحو تتحرك قضية الموروث، وتحيي في أذهان الباحثين شبابهم، وذلك بالبدء بالتفكير المنهجي.
وترجع أزمة المناهج الحالية إلى خطأين: النعرة العلمية، والنزعة الخطابية، الأولى تسود معظم دراسات المستشرقين، والثانية تسود معظم دراسات المسلمين، وقد تعم النزعة الخطابية بعض دراسات المستشرقين عندما يقومون بتقريظ في الحضارات التي يدرسونها، كما قد تعم النعرة العلمية دراسات المسلمين نظرًا لتبعيتهم للمستشرقين أو لاستعمالهم الشائع والمشهور دون تفكير منهجي أولي، وكلا الخطأين راجعان إلى الطابع الحضاري لكل فئة من الباحثين.
(١) النعرة العلمية
تنشأ النعرة العلمية أساسًا من استعمال منهج أو طريقة أو عادة تخالف تمامًا موضوع البحث؛ لأنها «مادية» ترمي إلى دراسة الفكر عن طريق الحوادث التاريخية أو الوقائع الاجتماعية، أو ترجعه إلى الإبداع الشخصي أو الأثر الخارجي، وهذا مناقض تمامًا لطبيعة موضوع البحث باعتباره ظاهرة نشأت من مصدر قَبْلي وهو الوحي، وبعد تحول نصوصه إلى معاني، والمعاني إلى أبنية نظرية، فوصف الظاهرة الفكرية هي محاولة للعثور على كيفية تحويل النص إلى معنى عن طريق منهج في التفسير والفهم وكيفية تحويل المعنى إلى نظرية عن طريق البناء العقلي لها، وبعد ذلك تُقيَّم الظاهرة الفكرية بإرجاعها إلى مصدرها الأول وهو النص، والحكم عليها بأنها إيجابية أي من النص أو سلبية أي من الخارج، فإذا كانت الظاهرة الفكرية تعبيرًا حضاريًّا عن الوحي، فالمنهج الذي يمكن اتباعه هو منهج ذو جانبين؛ الأول يتابع خروج الظاهرة الفكرية من النص، وهذا هو الوصف الظاهري التكويني الذي يبين النشأة والتطور. والثاني يرُجع الظاهرة الفكرية إلى النص من جديد لتصفية ما يمكن أن يعلق به من آثار ثقافية أخرى أو من بناءات وأحكام بيئية، وهذا هو الوصف الظاهري الارتدادي. الظاهرة الفكرية إذن مثالية، مصدرها الوحي، وأساسها العقل، وقوامها الواقع. فالنعرة العلمية التي تقوم عليها مناهج المستشرقين تعني دراسة الظاهرة الفكرية كظاهرة مادية خالصة، وكتاريخ خالص مُكوَّن من شخصيات وأنظمة اجتماعية وحوادث تاريخية محضة، يمكن فهمها بتحليلها إلى عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية تحدد نشأتها وطبيعتها، وتحاول ابتداءً من هذه العوامل المتفرقة تركيب الظاهرة بدعوى تفسيرها. وهكذا تفقد الظاهرة طابعها المثالي، وتنقطع عن أصلها في الوحي، وعن أساسها في الفكر والواقع، وتصبح ظاهرة مادية خالصة لها أصلها في التاريخ الذي أعطاها أساسها، وفي المجتمع الذي أعطاها طبيعتها.
ويمكن الكشف عن النعرة العلمية في مناهج أربعة يستعملها المستشرقون إما على حدة أو مجتمعة، وهي إما شعورية يعيها المستشرقون أو لا شعورية كامنة وراء عمل المستشرق وتحدد اتجاهاته أمام الظاهرة.
(١-١) المنهج التاريخي
وهو المنهج الأول المعبر عن النعرة العلمية، ويتكون هذا المنهج أساسًا من البحث عن الوقائع التاريخية أو الاجتماعية ووضعها بجوار بعضها البعض وترتيبها ثم الإخبار عنها والتعريف بها باعتبارها الظاهرة الفكرية ذاتها، تاركًا كلية أصول الظاهرة في الوحي أو في الشعور، وخاليًا من كل تفسير أو فهم أو تأويل أو بحث عن دلالة أو تعرف على قانون، والتاريخ قد يكون تاريخًا سياسيًّا عن طريق رصد الأسر الحاكمة وتقلبات بيوت الأمراء والملوك، أو تاريخًا اجتماعيًّا ووصف المؤسسات والنظم وكأن كل ما في الواقع مبني على أصول، أو تاريخًا عامًّا يجمع كل شيء من سياسة واقتصاد واجتماع وقانون، مجرد دائرة معارف تعطي كل شيء ولا تعطي أي شيء، فإذا كان الموضوع علم التوحيد سُردت الوقائع التاريخية كما يحلو للبعض أن يصفها وكأن علم التوحيد جزء من التاريخ العام، فإذا ذُكرت المعتزلة ذُكرت حادثة واصل بن عطاء مع الحسن البصري ونشأة المعتزلة باعتزاله مجلسه، وإذا ذُكر خلق القرآن ذكرت محنة المعتزلة وعصر المأمون والمعتصم والمتوكل، وإذا ذُكرت الشيعة ذُكرت أسماء الأعلام والأئمة، وتنسب المذاهب والأفكار إلى الأماكن، فهناك الحرورية والبصريون والبغداديون والكوفيون في حين أن الأفكار مستقلة عن الأماكن ولها وجودها الخاص في الشعور، وإن كانت محمولة على الواقع وتظهر فيه في صورة حركات واتجاهات ونظم، فإذا جاءت الفلسفة وعصر الترجمة ذكرت أسماء مراكز الترجمة ودور الحكمة، وأسماء المترجمين وأسماء ترجماتهم، أما فن الترجمة ذاته وصلته بالفكر، ونشأة الألفاظ والمعاني والجدل بينهما فلا شيء منه يُذكر، وإذا جاء الفقه والأصول ذكرت الحجاز والعراق ومصر، وذُكر الأوزاعي وأبو يوسف وكأن مناهج التشريع من عمل الأمصار ومن وضع الفقهاء، وإذا جاء التصوف ذكرت البصرة وبغداد، وفارس والأندلس، ومصر والشام، وتناثرت القصص والحكايات، والنوادر والفكاهات، ولكن كيف نشأ التصوف في شعور الجماعة، فذلك ما لم يعلمه أحد.
وفي كثير من الأحيان لا يكون للمؤلف الإسلامي مذهب واحد، فمثلًا ما هو مذهب الغزالي؟ هل هو التصوف أم الفلسفة أم الأصول أم المنطق أم الأخلاق أم السحر والطلسمات؟ وما هو مذهب ابن سينا؟ هل هي الفلسفة أم التصوف أم العلم؟ وما هو مذهب ابن رشد؟ هل هو الفقه أم الكلام أم الفلسفة أم العلم؟ هناك إذن تيارات فكرية تتخلل المؤلف ولا يكون هو إلا عارضًا لها. هناك علوم عامة تنشأ من الوحي بتحوله إلى حضارة تتخلل المؤلف ولا يكون هو إلا مصنف فيها، ومن هنا ظهر التكرار والنقل والاستعارة من المؤلفين بعضهم من البعض الآخر لأن العلم موضوعي، مشاع للجميع، لا ينتسب إلى فرد دون فرد، وكأن المؤلفين كلهم فريق يعملون في موضوع واحد مستقل، وفي أحسن الأحوال يكون التاريخ تاريخًا للمذاهب والتيارات الفكرية، ولكنها أيضًا ترد إلى التاريخ العام والأحداث الجارية، وتصبح تاريخًا للفرق أو الجماعات أو الجمعيات مع إغفال تام للأساس النظري الذي تقوم عليه وربطه بالأصول، وفي هذه الحالة لا ينسب التيار أو المذهب إلى الفرق مثل المعتزلة والشيعة والسُّنة، فالمذهب فكرة يتحدد باسمها مثل التأليه والتجسيم والتشبيه والتنزيه في التوحيد أو الجبر والكسب والاختيار في الأفعال، فالصلاح والأصلح واللطف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوعات مستقلة عند المعتزلة، والطبيعة والكمون والتوليد موضوعات مستقلة عند الجاحظ والنظَّام ومعمر وثمامة وباقي أصحاب الطبائع، والإشراقية والعقلانية موضوعان مستقلان عن الفارابي وابن سينا أولًا وعن ابن رشد ثانيًا، والقول بالرأي والقول بالأثر منهجان مستقلان عن العراق والحجاز، ووحدة الشهود ووحدة الوجود والوحدة المطلقة كلها مستقلة عن ابن الفارض وابن عربي وابن سبعين.
والتشابه يوجد في أن كلًّا من الموقفين، القديم للفكر والجديد للباحث يتلخص في كيفية حل النص الموحى به للمشاكل الجديدة الموجودة أمامه ويكون السؤال: ما هو الاتجاه الفكري للمفكر أو الباحث ابتداءً من النص الموحى به في فهمه له وفي تحليله للعوامل السائدة في موقفه؟ وبعبارة أخرى، كيف يمكن للنص الموحى به السيادة على الموقف وابتلاعه وتحويله إلى حالة فرعية بالنسبة له وهو الأصل؟ فإذا تشابه الموقفان يمكن للباحث الحالي أن يسقط تحليلاته لموقفه على المفكر القديم مما يساعده على سرعة الفهم ووضوح الرؤية، إذ إنه يعيش الموقف من جديد، هذا الموقف الذي عاشه المؤلف القديم، فالمواقف واحدة والاتجاهات منها واحدة إذا تشابهت الظروف وتقاربت الاحتياجات.
الفلسفة الإسلامية ليست مجرد تاريخ للتراث القديم، بل هو موقف للباحث المعاصر، فالباحث المعاصر غالبًا ما يكون باحثًا مسلمًا وفيلسوفًا في نفس الوقت؛ ولذلك فإنه لا يستطيع أن يبحث محايدًا بل يبحث ملتزمًا وآخذًا لموقف، فلا يكفيه أن يقرر ما قاله مفكرو التراث، بل عليه أن يدخل في مشكلاتهم التي يصنعونها بوصف الموقف القديم وتقييمه ثم إعادة بناء هذه المشكلة أو تلك في الثقافات المعاصرة، تلك هي مهمة الباحث أساسًا، والاكتفاء بالتقرير أو بالنقد الخارجي الذي يعتمد على قضايا الدين ومسلماته أو على المزاج الشخصي، هذا النقد الذي يلحق بنهاية البحث لا يكفي لإعادة بناء الموقف القديم، فالباحث المسلم يختلف عن المستشرق في أنه داخل في التراث، والتراث جزء منه، وهو مسئول عنه مسئولية قومية، ولا يستطيع أن ينظر إليه نظرة السائح الغريب الذي يعجب ويتأمل عالمًا غريبًا عنه بل هو مسئول فكريًّا وقوميًّا عن موضوع دراسته، وله الحق في تغييره بالزيادة أو النقص، وفي تأويله وتفسيره طبقًا لحاجات عصره، وفي إكماله وتطويره طبقًا لظروف العصر، وهكذا كانت علاقة المفكرين بعضهم ببعض، فلم يكتب الفارابي كتابًا عن الكندي عارضًا آراءه، ولم يكتب ابن سينا كتابًا عن الفارابي أو الكندي محللًا لنظرياتهما، ولم يكتب ابن رشد كتابًا عن الفارابي أو الكندي عارضًا لوجهة نظرهما، بل كان كل منهم مسئولًا فكريًّا وحضاريًّا (أي قوميًّا بلغة عصرنا) عن أعمال سابقيه، فطورها ناقدًا ومغيِّرًا ومكملًا، بل إن كل عالم من علماء أصول الدين أو أصول الفقه كان يضع العلم ويعيد تأسيسه ولا يكاد يذكر سابقيه لأن العلم مستقل عن واضعيه، وكان لا يذكر إلا من ينفرد بموقف خاص يخرج من البناء للعلم. ولم يكن موقف علماء الأصول من بعضهم البعض موقف الشرح والعرض بل كان موقف الند للند: الحوار، والجدل، والنقاش، والنقد، والتفنيد، والهدم، وإعادة البناء، ولم يقم أحد بما نقوم نحن به الآن من تكرار لمادة قديمة نعيد عرضها، ونبيعها، ونتعالم بها بغزارة العلم واتساع الاطلاع وكثرة المراجع ووفرة الاقتباسات الصريحة منها والضمنية، المعلن عنها وغير المعلن حتى لقد أصبح تراثنا القديم تاريخًا للمعارك الفكرية وليس مجرد متحف للأفكار يتنقل بينها السائح وهو غريب عنها، كان الصوفي يأخذ من الصوفي السابق، ويتمثله، ويزيد عليه، ولم يكن مجرد عارض لآرائه محللًا لها، بل إنه حتى في عصر الشروح والملخصات كان الشرح زيادة على القديم، وكان التلخيص تركيزًا على الأبنية العامة للقديم دون أطرافها، فكان أيضًا عملًا إيجابيًّا، ولم يكن مجرد إخبار وتعريف وتكرار وعرض، وكان الفقهاء أيضًا يكملون بعضهم البعض أو يختلف بعضهم مع البعض الآخر، والجميع على نفس المستوى من المسئولية الفكرية والقومية، ولم تكن تعني التلمذة على شيخ والريادة عليه تكرار المريد للشيخ في التصوف أو الفقه أو الأصول، بل كانت تعني رد فعل ومعارضة ومناقضة، فإذا شب المريد فإنه يعيد بناء مذهب الشيخ قبل أن يعد فضائله ويذكر مناقبه، ويتضح ذلك أكثر في الفلسفة، فالفلسفة ليست مذاهب للكندي أو الفارابي أو ابن سينا أو إخوان الصفا أو ابن رشد بل هي قسمة عامة للفلسفة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات، ويمكن زيادة قسم آخر وهو النفسانيات كما هو الحال عند إخوان الصفا، وهناك في الإلهيات نظريات عامة تحدد الصلة بين الإلهيات والطبيعيات، هناك أيضًا موضوعات عامة مثل استقلال قوانين الطبيعة أو عدم استقلالها بصرف النظر عن المفكرين الذين قالوا بالأول أو بالثاني، وكان يمكن أن تتغير الأسماء، ولكن لا تتغير الأبنية الفلسفية أو علوم الحكمة أو النظريات أو النتائج أو الموضوعات أو المسائل، قد يكون هدف المستشرق من نسبة الفكر إلى القائل به هو إثبات جدب الحضارة، وصمت الوحي، وأنه لولا الفيلسوف أو العالم لما ظهر الفكر، فالإنسان هو خالق الفكر وليس الوحي هو مصدر الفكر، فإذا كان هؤلاء المفكرون والعلماء معظمهم غير عرب وإن كانوا مسلمين، فإن المستشرق بذلك يكون قد حقق هدفه من إثبات نظرته القومية على الحضارة الإسلامية، وإرجاع الإبداع إلى الخصائص القومية للحضارة وحتى لا تكون هي الحضارة العربية.
فإن قيل: إن الهدف من المنهج التاريخي هو الإخبار، والحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الحضارة موضوع الدراسة، فكيف يتأتى الفهم المطلوب لها إن لم تكن هناك المادة المفسرة أو المفهومة، وإن لم يتم البحث والتنقيب عنها والتعريف بها؟ قيل: كل هذا ليس مهمة المفكر بل مهمة المحقق والناشر والمؤرخ، ولكن الباحث يأتي بعد ذلك لفهم ما جمعه المؤرخ وتفسيره وبيان دلالته، ليست مهمة الباحث هي الإخبار والتعريف، أي أن يروي لنا ما حدث بالفعل لأن روايته لا تؤدي في الغالب إلى شيء جديد لأن الفكر لا يمكن تحويله إلى وقائع يمكن سردها خاصةً إذا كان ناشئًا من وحي يتحول هو إلى فكر، ويتشكل في صورة علوم حضارية محددة، هدف الباحث إذن ليس الإخبار والتعريف، بل إرجاع الظواهر الفكرية إلى أصولها الأولى التي خرجت منها — الكتاب والسُّنة — لمعرفة كيفية خروجها منها ومحاولة العثور على منهج أو مناهج دائمة ومتكررة يمكن بواسطتها العثور على منهج إسلامي عام، فإذا كان الهدف من الإخبار هو إيصال المعاني فإن المعاني لا توجد في الوقائع التاريخية بل توجد حين توجد الوقائع في النفس وذلك عن طريق التوحيد بين التجارب الشعورية للنفس وبين الوقائع الماضية باعتبارها تجارب شعورية أيضًا، يتم إيصال المعاني عن طريق قراءة الحاضر في الماضي، والشعور بالماضي في الحاضر، وليس عن طريق «الإخبار» المادي، فالوقائع المادية مصمتة لا تحمل أي معنى، لقد أدى الإخبار دوره، وهو مرحلة تمت وانتهت، فقد عرفنا ما حدث في التاريخ وتكرر ذلك حتى أصبح معادًا مرددًا بل منقولًا من باحث إلى آخر، والآن بعد إرجاع المواضيع إلى أصول في الوحي يمكن إعادة بنائها وإعطائها أسسًا عقلية يمكن أن تعطيها أبنية مستقلة بذاتها لها براهينها وصدقها ووضوحها في ذاتها، ليس المطلوب الآن هو الإخبار بل اكتشاف «تصورات العالم» في علومنا القديمة التي تحدد نظرتنا إلى واقعنا المعاصر والبحث عن موجهات سلوكنا في أبنيتنا النفسية القديمة التي ورثناها.
والبحث التقريري يرى نوعًا لم يعرفه تراثنا بل إن الشروح والملخصات ذاتها لم تكن مجرد جمع مادة أو إسقاط أخرى، بل كانت محاولات فلسفية تزيد من نطاق التحليل الفعلي وبيان أسسها النظرية، وهذا هو الشرح، أو أن تركز على الأفكار الأساسية التي تبرز من خلال التحليلات والبراهين، وهذا هو التلخيص، أما التقرير المحض الذي يجعل من الفكر مجرد تاريخ ويصبح لدينا «تاريخ الفلسفة الإسلامية» أو «تاريخ علم الكلام» أو «تاريخ التصوف الإسلامي» أو «تاريخ الفقه الإسلامي»، فهذا تناقض لأن الفكر موضوعات مستقلة عن التاريخ، والتاريخ لا يدرس إلا الموضوعات في عالم الأعيان، فالتاريخ والفكر من طبيعتين مختلفتين، ولقد ظهرت في التراث القديم محاولات لتاريخ الفكر، ولكنها كانت محاولات فلسفية، فابن تيمية يؤرخ للفكر الإسلامي ولكنه يؤرخ له كفيلسوف، وابن رشد يبحث في علم الكلام، ولكنه لا يقرر فقط بل يفكر على ما يقرر، وينقد ويغير، ومحمد عبده في رسالته عن التوحيد لم يقرر فحسب، بل حاول إعادة بناء العلم نفسه، والأمثلة كثيرة في التراث على أن الباحث هو فيلسوف، والدارس هو مفكر، أما هذا النوع من البحث التقريري الصرف في تاريخ العلوم العقلية أو تاريخ المشاكل فهو نوع غريب كل الغرابة عن روح التراث، فضلًا عن الخلط بين التاريخ والفكر، وهو خطأ لا يتبدد إلا بعد دراسة مناهج العلوم الإنسانية أولًا، وتجديد الباحث لهدفه وفهمه لطبيعة التراث وخاصيته الأولى ثانيًا، وهو أنه وحي يتحول إلى حضارة، وموضع مثالي يتحول إلى علوم مثالية ومناهج فكرية خالصة.
المنهج التاريخي إذن يقضي على وحدة الظاهرة واستقلالها، ويرجعها إلى عناصر مادية وإلى عوامل تاريخية مع أن هذه العناصر المادية إن هي إلا عوامل للفكر، وليست مصدرًا لموضوعاته، فالطبيعة لا تنتج فكرًا، بل هي محررة للفكر، ففي مقابل التفكير العلمي يوجد التفكير الماهوي، الأول يعتبر الموضوعات الفكرية معلومات والعوامل التاريخية عللًا، والثاني يعتبر موضوعات الفكر مستقلة ويتعامل معها كموضوعات مستقلة أو كماهيات أو معاني، كما نضع في مقابل التفكير النشوئي التاريخي الذي يتتبع نشأة الأفكار في الظروف التاريخية التفكير التكويني الشعوري الذي يتتبع نشأة الأفكار في الشعور، وكلاهما المنهج العلمي والمنهج النشوئي التاريخي خطآن من أخطاء العصر، ونقص في تكوين عقلية الباحث الفلسفية، خاصةً أمام تراث ماهوي يعطي موضوعات مثالية، مهمة الباحث إذن تحويل الموضوع من أساسه المادي كتاريخ أو حادثة أو واقعة أو فرقة إلى أساسه الفكري الشعوري من أجل تحديد تصورات العالم، مهمته وضع الحوادث التاريخية خارج دائرة الاهتمام ورؤية ماهية الفكر ونشأته في الشعور، ولا يعني تحليل الظواهر الفكرية باعتبارها موضوعات مستقلة عن التاريخ الوقوع في مثالية مغرقة؛ وذلك لأن التاريخ سيظل الحامل للأفكار وستظل المواقف الاجتماعية هي المهيئة لظهور الفكر من خلال الشعور، أي أن الموقف هو الموقف النفسي الاجتماعي، الفكر لا يظهر إلا في التاريخ وفي الموقف الاجتماعي، ولكنه لا يتأسس إلا في الشعور، ولكن في التاريخ هناك فرق بين الوقائع الدالة والوقائع المصمتة التي لا دلالة لها، فالأولى هي التي تثير الفكر، وهي التي يمكن رصدها لأنها تبين مسار الفكر في الواقع ونشأته فيه، في حين أن الثانية مجرد تجميع لوقائع لا تعني شيئًا، وكأن التاريخ ما هو إلا مجموعة من الحوادث المتراصة الخالية من أي معنى.
- (١)
أن يقوم الباحث بجمع المادة الفكرية اللازمة إما لإرجاعها إلى أصولها في الوحي أو لإعادة بنائها في العقل دون نقد أو تمحيص أو تدخل شخصي من الباحث، خاصةً إذا كان مجددًا همه الأول هو عرض الموضوعات أو النظريات أو العلوم وترتيبها وتصنيفها دون أدنى تفسير من جانبه، يكفيه لذلك أقل درجات الوضوح العقلي وهذا ممكن بالرجوع إلى الوحي كنقطة ارتكاز.
- (٢)
أن يقوم الباحث بتجاوز الترتيب والعرض إلى النقد والتمحيص محللًا وناقدًا، عارضًا ومقترحًا، مؤيدًا ومهاجمًا إما بالنظر إلى الأصول في الوحي أو بالنظر إلى الفهم الشخصي للباحث أو ذوقه الفلسفي أو اتجاهه العلمي أو واقعه الاجتماعي، وغالبًا ما يتعرض هذا النوع إلى خلط بين الأصول نفسها وبين المزاج الشخصي للباحث أو انتسابه المذهبي، وفرق بين النقد والتجديد، فكثيرًا ما يتوجه الباحث في آخر مشكلة بعد أن يعرضها عرضًا تاريخيًّا — مقررًا بذلك مادة محايدة لا دخل له فيها — كثيرًا ما يتوجه بالنقد المعتمد على قضايا الدين ومسلماته، وفي أحسن الأحوال على النظر العقلي والذوق السليم، كما يعتمد أحيانًا على الذوق الفلسفي والمذهب الفكري الذي ينتسب إليه الباحث، وهذا ليس هو المطلوب إذ إن هذه الطريقة التي تقرر مادة محايدة وهي في الحقيقة ليست كذلك، والتي يلحق بها نقد خارجي لا يجدي تقع في خطأين: خطأ التقرير وخطأ النقد الخارجي.
- (٣) أن يقوم الباحث بعمل موضوعه من جديد باعتباره مفكرًا أو فيلسوفًا أو عالمًا، يحاول أن يبنيه من أساسه مستنيرًا بالأصول ومستعينًا بالمادة العلمية التي عرضها الباحث الأول، والتي نقدها الباحث الثاني، ولكن جهده يتركز أساسًا على تكوين الموضوع وبنائه باعتباره مؤلفًا كالمؤلفين السابقين، المطلوب من الباحث الدخول في المشكلة القديمة وإعادة وضعها كموقف التزم فيه بفكر التراث وأخذ موقفًا منه، وبذلك يبدو الباحث متسقًا مع نفسه، وممثلًا لحضارته، يحاول الباحث المجدد أن يعيد بناء الموقف القديم بثقافة العصر، وسرعان ما يجد موقفًا يحتمه عليه فهمه الجديد للوحي يستطيع بعد ذلك أن يقارن بين حلول التراث وأن يبني مواقفه من جديد؛ لأن الحدوس الفلسفية واحدة تتكرر في كل عصر وبكل لغة وفي كل ثقافة، وهي معادلة صعبة أن يجمع الباحث بين التاريخ والفكر فلا تهمنا الوقائع التاريخية بقدر ما يهمنا الفكر والتحليل النفسي للأفكار ومدى أثرها وفاعليتها في الجماهير عن طريق إعادة بناء الموضوع نفسه في الشعور وتجربته على الباحث — نفسه؛ وعلى هذا النحو يتم الخلاص من عيوب المنهج التاريخي.١٦
(١-٢) المنهج التحليلي
يقوم هذا المنهج على تفتيت الظاهرة الفكرية إلى مجموعة من العناصر يتم التأليف بينها في حزمة لا متجانسة من الوقائع أو العوامل التي أنشأتها، فالظاهرة الفكرية ظاهرة مركبة تركيبًا صناعيًّا يمكن تحليلها إلى عناصرها الأولية حتى يتم توضيحها وفهمها، فإذا كان المنهج التاريخي يقوم باستبدال واقعة مادية بالظاهرة الفكرية، فإن المنهج التحليلي يقوم بعد ذلك بتفتيت هذه الواقعة الصناعية وردها إلى عناصرها الأولية أو الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، وهكذا أصبح العنصر الديني مع أنه هو الدافع الأول لتكوين الظاهرة عنصرًا مساعدًا لبقية العناصر، ضامرًا، متقوقعًا على نفسه، يتدخل فيما لا يعنيه.
وهذا المنهج مخالف تمامًا لطبيعة الظاهرة الفكرية المدروسة التي تكونت أساسًا من تحويل النص الموحى به إلى معنى، والمعنى إلى بناء نظري؛ ففكرة العوامل التي تحدد تكوين الظاهرة وتتحكم فيها وفكرة العناصر التي تتكون منها مادة الظاهرة لا يمكن أن تساعد على فهم الظاهرة الفكرية التي نشأت طبقًا لمنهج في تفسير النصوص، أي طبقًا لمنطق في فهم الوحي، وحسب منطق عقلي آخر حدد طبيعة البناء النظري للظاهرة الفكرية الناشئة من تحول الوحي إلى حضارة ليست ظاهرة مركبة تركيبًا صناعيًّا من عناصر ووقائع مادية أنشأتها عوامل تاريخية، بل ظاهرة معنوية نشأت من تحول النص الديني في شعور المفكر إلى المعنى، فهي امتداد للنص الديني على مستوى الفكر.
والأمثلة كثيرة على ذلك؛ فعديد من الدراسات عن المسائل الجزئية في علم الكلام لا تعطي نظرة شاملة على أساس هذا العلم ولا تدرك جوهره، فيمكن دراسة عدة جوانب من التوحيد كالتأليه أو التجسيم أو التشبيه أو التنزيه مع إعطاء مئات من الآراء عن كل منها، ولكن ذلك كله لا يجعلنا ندرك ماهية التوحيد أو عملية التوحيد أو عمليات الشعور التي وراء النظريات الجزئية. كذلك عديد من الدراسات الجزئية عن عصر الترجمة وأسماء المترجمين وعناوين ترجماتهم لا تعطي كلًّا شاملًا عن معنى الترجمة والدور الثقافي الذي قامت به في تمثيل الفكر الأجنبي وتمثُّله واحتوائه داخل لغة الحضارة الجديدة، ونشأة لغة جديدة للتعبير بها عن المعاني الواردة. ونظريات متفرقة من هذا الفيلسوف أو ذاك في علمه أو فلسفته أو طبه أو رياضياته لا تكشف عن حدس الفيلسوف ومنهجه وتصوره الذي يحاول به التعبير عن الوحي. وتحليلات متفرقة عن القيم الصوفية والأحوال والمقامات لا تكشف عن التصوف كقصد عام وموقف كلي من الحياة وتيار خاضع لظروف اجتماعية ينشأ بوجودها ويختفي بعدمها. وتحليلات جزئية لمناهج الرواية لا تكشف عن المناهج العامة للنقد التاريخي التي وضعها علماء الحديث والأصول، وتفريعات متناثرة عن اللغة لا تكشف عن منطق اللغة والصلة بين اللفظ والمعنى والشيء، وتقسيمات لا تنتهي لأنواع العلل لا تكشف عن الصلة بين الوحي والواقع أو بين النص والعالم، ونظريات متناثرة عن العلوم العقلية الإسلامية لا تكشف عن بناء عام للحضارة الإسلامية وتطورها، تظهر فيه الحضارة كوحدة عضوية واحدة.
وقد نشأ تفتيت الظواهر إلى عناصرها الأولية من عقلية الباحث الغربي ومزاجه وثقافته وبيئته وطبيعة الدين الذي نشأ فيه وطريقة تحوله إلى حضارة عن طريق الرفض وردود الفعل؛ فطبقًا للمسيحية التي يعتنقها عديد من المستشرقين يمكن تقسيم الظاهرة إلى عوامل دينية وأخرى غير دينية؛ لأن الدين لا ينظم إلا جانبًا خاصًّا من جوانب الحياة وهو الجانب الروحي، وما سوى ذلك فهو الجانب المادي لا شأن للدين به. هناك إذن عامل ديني وعامل غير ديني يشمل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فإذا نظر المستشرق إلى نشأة الفرق الإسلامية فإنه يحكم بأن هذه النشأة سياسية وليست دينية، في حين أن الوحي الإسلامي بطبيعته لا يفرق بين الدين والواقع، والعامل السياسي عامل ديني، والعامل الديني عامل سياسي واقتصادي واجتماعي … إلخ. وعندما رفضت العصور الحديثة في الغرب كل الموروث القديم عن طريق رد فعل هائل ضد السلطة الموروثة، ظهرت الأفكار الجديدة من خلال ظروفها الاجتماعية وبيئتها الثقافية؛ فمنها ما نشأ نشأة سياسية، ومنها ما نشأ نشأة اجتماعية، ومنها ما نشأ نشأة اقتصادية. وهكذا يمكن تفسير نشأة الأفكار وتطورها منذ عصر النهضة حتى الآن في الثقافة الغربية عن طريق البحث عن العوامل التي سببت نشأتها. ويجوز في كثير من الأحيان تفسير الظاهرة بعامل واحد، وبذلك تنشأ العقلية أحادية الطرف تتقلب على العوامل، واحدًا تلو الآخر، لا تستقر على حال، وانتقلت الثورة على الموروث إلى هذا الموروث ذاته تبحث عن مصادره فتحللت النصوص الدينية وتفتت إلى مصادرها في تاريخ الأديان أو تاريخ المجتمعات القديمة، وثبت أن ما ظنه الناس قرونًا طويلة وحيًا أنه ليس كذلك، بل مجموعة من كُتب التاريخ القصصي والأساطير. تحللت النصوص ورجعت كل فقرة إلى مصادرها في بابل أو آسيا الصغرى أو مصر، وظهرت بواعث التأليف سياسية واقتصادية واجتماعية. ولما أثبت التحليل جدارته في النصوص الدينية في الغرب ولما كان المستشرق في النهاية باحثًا غربيًّا نشأ وتكوَّن في الثقافة الغربية ظن أن ما حدث في بيئته لا بد وأن يكون قد حدث ضرورة في كل بيئة أخرى، وهذا هو خطر تعميم الجزء على الكل. لقد سارت العقلية الأوروبية في المناهج التحليلية لأنها اصطدمت بمعطيات مركبة أضرت بها وبواقعها، وكان لزامًا عليها تحليلها للكشف عما إذا كانت معطيات صحيحة أو باطلة، فالتحليل باعث في الشعور الأوروبي كوسيلة للكشف عن الزيف والبطلان.
وقد يُستعمَل التحليل عمدًا للقضاء على الطابع الكلي الشامل، وهو أهم ما يميز الحضارة الإسلامية التي قامت أيضًا على وحي كلي شامل؛ فبتفتيت الكل لا يرى أحد الأجزاء المتناثرة، ومن ثَم لا تختلف الحضارة الإسلامية عن الغربية في شيء، فكلاهما مجموعة متناثرة من الأجزاء. وقد يُستعمل التحليل بطريق لا شعوري تعبيرًا عن رغبة دفينة في الهدم وقضاء على الموضوع؛ فالتحليل تفتيت وسحق، يحقق للباحث ما يريد من القضاء على الظاهرة إن أراد، وقد يُستعمل التحليل حتى يمكن رد كل جزء إلى أجزاء شبيهة في حضارات معاصرة، ومن ثم يكون التحليل مقدمة لإثبات الأثر الخارجي وتفريغ الحضارة من مضمونها الأصيل.
وقد حاولت المناهج الغربية المعاصرة استدراك الأمر، فظهرت المناهج التكاملية التي تبغي أخذ العوامل كلها مرة واحدة، واستبعاد التفسير الأحادي للظاهرة، كما ظهرت مناهج «الجشطلت» تعطي الأولوية للكل على الأجزاء، ونشأ منهج وصف الظواهر يعطي أيضًا الأولوية للكل على الأجزاء، ويجعل من الظواهر الفكرية ماهيات مستقلة عن عواملها المادية، بل ونشأت مذاهب فلسفية كاملة، مثل مذهب هيجل تقوم على وصف الكل وأن الأجزاء ما هي إلا تعيينات للكل الذي يتطور ويظهر في الأجزاء، ويتجلى وينكشف على مسار التاريخ، ولكن المستشرق نادرًا ما يأخذ بيئته الثقافية موضعًا للدراسة والتأمل، ونادرًا ما يحلل شعورها الخاص لرؤية عملياته، يخضع لمؤثرات بيئته، ولا يحاول التحرر منها بالرغم من النداءات المعاصرة والتنبيه على الأخطار، ولكن في الشرق، وفي رحلاته إليه، بل وفي رغبته في التخصص الدقيق، والبحث المنمق، ينسى الكل وراءه أو فوقه، لم يتابع المستشرق في منهجه التحليلي أي مناهج تحليلية في القرن العشرين، تحليل اللغة، تحليل المفاهيم والتصورات، تحليل المنطق، تحليل الرموز، تحليل المعطيات الحسية، تحليل التجارب الشعورية، التحليل النفسي، التحليل العاملي … إلخ، أي أنه حتى في تحليله التاريخي انعزل عن الفلسفة التحليلية، وهي إحدى فلسفات العصر الرئيسية، كرد فعل على المناهج التركيبية والنظرات الشمولية والمذاهب الشامخة التي سادت القرن التاسع عشر، وكان بإمكانه الاستفادة من كل هذه المناهج التحليلية الفلسفية؛ لأنها أكثر قدرة على تحقيق أهدافه الثابتة وأكثر تعبيرًا عن عقليته الغربية، وقد تكون المناهج التحليلية المعاصرة على مشارف الانتهاء بحدوث رد فعل عليها والعودة إلى النظرة الشاملة للأمور، ولكن المنهج التحليلي الاستشراقي باقٍ لا يتغير، ومستمر منذ نشأة الاستشراق حتى الآن، فالاستشراق لا يحدث ردود فعل على نفسه، فهو الفعل ورد الفعل معًا، وأي مستشرق يرفض المناهج التحليلية ويحاول إعطاء نظرة شاملة، فإنه يتعسف في النظرة، يركبها طبقًا لهواه أو لأحكام عامة على الحضارة بالجدب، وعلى الدين بالجمود، وعلى الوحي بالاضطراب والاختلاط، وعلى التوحيد بالتجريد، وعلى العقائد بالقضاء والقدر، وعلى الشعوب بالتخلف.
وليس معنى ذلك أن المنهج التحليلي في ذاته عقيم، ففي تراثنا القديم نماذج من التحليلات التي تكشف عن البناء الكلي، بل إن التراث كله قائم على نظرية في التحليل، تحليل الوحي إلى مراحل، وتحليل العقائد إلى أصول، وتحليل أصول الفقه إلى أدلة، كل علم يقوم على تحليل، وأوضح مثل على ذلك علم أصول الفقه وعلوم التصوف، ففي علم أصول الفقه تحليل الشعور التاريخي، وتحليل مناهج الرواية، وتحليل الألفاظ، وتحليل الأحكام، وفي علوم التصوف تحليل الأحوال والمقامات، وتحليل مراحل الطريق الصوفي، ولكن التحليل هنا هو التحليل التكويني الذي يكشف عن البناء العام أو التحليل الارتقائي الذي يبين مراحل التكوين، وليس التحليل التجزيئي الذي يقضي على بناء الظاهرة وينفي وجودها.
(١-٣) المنهج الإسقاطي
ويقوم هذا المنهج، وهو في الغالب لا شعوري باستبدال الظاهرة المدروسة بظواهر أخرى هي أشكال الأبنية النظرية الموجودة في ذهن المستشرق، يراها في الواقع مخفيًا بذلك الظاهرة الموضوعية التي أمامه، والتي كان في نيته دراستها، قد يكون الإسقاط مطلقًا عندما لا يرى المستشرق من الظاهرة التي أمامه شيئًا ولا يرى فيها إلا صورته الذهنية، وقد يكون نسبيًّا عندما يرى الظاهرة ولكن يضيع منه تفسيرها الحقيقي وكيفية خروجها من النص الديني، ويعطي بدلًا عنه تفسيرًا آخر يخضع للأبنية النظرية لصوره الذهنية، فالظاهرة الموجودة بالفعل بما أنها لا توجد كصورة عقلية في ذهن المستشرق فإنه يحكم عليها بالنفي، والظاهرة التي لا وجود لها بالفعل ولكنها توجد كصورة ذهنية عند المستشرق فإنه يحكم عليها بالوجود الفعلي، والشيء الوحيد الموجود بالفعل يصبح خلطًا؛ لأن البناء النظري في ذهن المستشرق بناء ثنائي، والشيء المتميز الموجود بالفعل يصبح تفرقة لأن صورته الذهنية في ذهن المستشرق صورة متفرقة، وهكذا يصدر المنهج الإسقاطي أحكامًا قيِّمة يعلي فيها من شأن هذه الصور الذهنية ويقلل من شأن الموضوعات المدركة بالفعل، ويتضح هذا باستمرار خاصةً إذا كان موضوع الدراسة نفسه باعتباره مقياسًا للظواهر الفكرية يمكن أن يكون مرآة تعكس الصور الذهنية المسقطة عليها من شعور المستشرق، وأن يردها من جديد إلى ذهنه، الإسقاط إذن خطأ في الإدراك يجعل المستشرق في عزلة ذهنية، ويضعه في موقف نرجسي خالص عندما لا يرى في العالم الخارجي من موضوعات إلا ما هو موجود في نفسه كصور ذهنية.
وينشأ المنهج الإسقاطي من خضوع الباحث لهواه وعدم استطاعته التخلص من الانطباعات التي تركتها لديه بيئته الثقافية المعينة مع أن التحرر من الأحكام المسبقة العقلية والانفعالية معًا هو الشرط الأول للبحث العلمي، وذلك ناشئ عن إيمان المستشرق بثقافته وأنها هي النموذج الوحيد لكل الثقافات وأنه ينتسب إلى حضارة هي مركز العالم، ومحور التاريخ ومصدر الحقائق ومنبع المناهج، ومهد العلوم، قد يرجع ذلك إلى تضخم في الذات الحضارية لدى المستشرق، ونعرة غربية تجعله ينظر إلى الظواهر المدروسة من علٍ ولا يضعها على نفس المستوى مما يسهل الإسقاط، فالإسقاط في نهاية الأمر هو وضع الآخر في قالب الذات، والحكم بالسواد على ما ليس بأبيض، وكأن العقلية الغربية بإسقاطها في جوهرها عقلية عنصرية هي الأساس للثقافة والدين والفن والعلم والحضارة.
ليس معنى ذلك أن الإسقاط في ذاته لا يؤسس منهجًا ولا يعطي رؤية، بل الإسقاط من حيث هو إسقاط لهوى أو مصلحة أو صورة ذهنية بيئية هي الذاتية عندما تتوقف عن أداء دورها في كشف الموضوع، ولكن الذاتية يمكنها أن تتجه نحو الموضوع وتنيره، وتحيله إلى معنى، وفي هذه الحالة تكون الذاتية مصدرًا لحدس وأساسًا لرؤيةٍ وتكون هي الذاتية الخالصة المتجردة عن أي هوى أو مصلحة أو صور ذهنية بيئية، وتراثنا القديم قد مارس هذا التوجه من الذات نحو الموضوع كما هو واضح في علوم التصوف واعتمادها على الرؤية والحدس والإدراك المباشر، وكما هو واضح أيضًا في علم أصول الفقه عندما يقوم النص الذي يحتوي على الأصل بتوجيه الشعور نحو العلة المشتركة مع الفرع من أجل تعدية حكم الأصل إلى الفرع، ومناهج الأصوليين في تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط كلها قائمة على البداية بالذاتية النصية، والقياس الشرعي أيضًا يبدأ بتوجيه النص نحو الواقع من أجل رؤيته، والضامن لموضوعية الذاتية هو أنها تعتمد على الوحي باعتباره حقيقة موضوعية مستقلة غير موضوعة من الأفراد الذين قد تغلب عليهم وجهات النظر والمصالح والأهواء والنظريات الأحادية الطرف، كما أن براءة الشعور الأصلية قادرة على توجيه الذات نحو الموضوع دون قضاء عليه أو تزييف له، وهي البراءة التي تعبر عن النية الخالصة من حيث وظيفتها المعرفية.
(١-٤) منهج الأثر والتأثر
بعد أن يقوم المنهج التاريخي بمهمة الفصم بين مصدر الظاهرة الفكرية، وهو النص الديني، وبين هذه الظاهرة نفسها مرجعًا إياها إلى مصدر تاريخي محض، وبعد أن يقوم المنهج التحليلي بمهمة تفتيت الظاهرة الفكرية إلى عناصر وعوامل تاريخية تكون موضوعًا اصطناعيًّا يعادل الظاهرة الفكرية مدعيًا تمثيلًا لها أو بديلًا عنها، وبعد أن يقوم المنهج الإسقاطي بمهمة تفسير الظاهرة الفكرية ابتداءً من الصور الذهنية المماثلة أو المخالفة والتي ليس لها إلا وجود ذهني خالص في نفس المستشرق، يقوم منهج الأثر والتأثر بالمهمة الباقية وهي القضاء التام على ما تبقى من الظاهرة مفرغًا إياها في مضمونها، ومرجعًا إياها إلى مصادر خارجية في بيئات ثقافية أخرى دون وضع أي منطق سابق لمفهوم الأثر والتأثر، بل بإصدار هذا الحكم دائمًا بمجرد وجود اتصال بين بيئتين ثقافيتين وظهور تشابه بينهما مع أن هذا التشابه قد يكون كاذبًا وقد يكون حقيقيًّا، وقد يكون لفظيًّا، وقد يكون معنويًّا، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد قيل عن الفلسفة الإسلامية بوجه خاص أنها فلسفة يونانية مقنعة وأنها ترديد لما قاله اليونان من قبل، بل ترديد خاطئ يسوده عدم الفهم والخلط التاريخي، وهذا غير صحيح على الإطلاق، بل ويدل على عدم علم بطبيعة العمليات الحضارية التي تحدث كلما تلتقي حضارتان، فالفلسفة الإسلامية لم تأخذ من الحضارة اليونانية إلا اللغة ولكن المعاني المعبر عنها ظلت هي المعاني الإسلامية، فالكندي يرفض قدم العالم ويقول بالخلق، ويرفض استراحة الإله ويقول بالعناية الإلهية، ويرفض الواحد الرياضي ويقول بالتوحيد، ويرفض فناء النفس ويقول بخلودها، وإذا كان الفارابي وابن سينا قد قالا بالفيض فإنهما لم يفعلا ذلك ابتاعًا لأفلوطين، بل لاتجاههما الصوفي ونظريتهما الإشراقية التي تؤثر فيها الوحدة على الكثرة والتي يسود فيها القلب على العقل والتي يكون الأولوية فيها للروح على البدن، وابن رشد في قوله بقدم العالم في شروحه على أرسطو يقول بالخلق في التوحيد، ولا يقول بقدم العالم إلا دفاعًا عن حرية الفكر واستقلاله ضد إشراقيات الفيض، ويقول بخلود النفس الكلية لا تبعية لأرسطو وخلود العقل الفعال، بل رفضًا للتصور الفردي للخلود، وإيثارًا للروح الجماعية، وإذا كان الفلاسفة والأخلاقيون قد انتهوا في تعريفهم للفضيلة بأنها وسط بين طرفين أو في تعريفهم للحياة الخلقية بأنها حياة التوازن بين قوى النفس، وهذه هي العدالة، فإنهم لم يفعلوا ذلك اتباعًا لأرسطو أو لأفلاطون بل فهمًا لجوهر الوحي ووضع الفضيلة وتصور الحياة الخلقية فيه، وما دامت الظواهر تفسر من داخلها فلماذا اللجوء إلى الخارج؟ وما دام يفسر وجودها بالعلل القريبة فلماذا اللجوء إلى العلل البعيدة؟
وفي علم أصول الدين قيل إنه خضع للأثر والتأثر مع أنه أبعد العلوم عن ذلك؛ لأنه أولها في النشأة قبل عصر الترجمة، وهو أول محاولة للتعبير عن النصوص وفهمها فهمًا عقليًّا خالصًا، وتحويلها إلى معاني، قيل مثلًا إن الأحوال الثلاث، العلم والقدرة والحياة، عند أبي هاشم لا تبتعد كثيرًا عن الأقانيم الثلاثة في النصرانية، كما قيل إن الطبع والطباع والطبائع عند الجاحظ والنظَّام وثمامة وجعفر من آثار الدهرية الفرس، مع أن علم الكلام يفرد أبوابًا خاصة للفرق غير الإسلامية ويرد عليها، فأحوال أبي هاشم صفات مطلقة منزهة غير مجسمة أو مشخصة، والطبع عند القائلين به أكبر رد فعلي على تشخيص الطبيعة عند الأشاعرة.
ويرجع منهج الأثر والتأثر إلى نشأة المستشرق في بيئة ثقافية خاصة، هي البيئة الأوروبية التي تخضع ثقافتها للأثر والتأثر، فقد نشأت الحضارة الأوروبية ابتداءً بالبعث اليوناني في أوائل عصر النهضة وإحياء التراث العقلي القديم لإنقاذها من قطعية اللاهوت وسلطان الكنيسة، فكل مذهب فكري حديث له ما يقابله في الفكر اليوناني القديم، ولا يتضح ذلك في الفكر فحسب، بل يتضح أيضًا في الأدب والفن والشعر والنثر والخطابة والعمارة والمسرح، فظن المستشرق بانطباعاته الثقافية وتكوينه الفكري أن اليونان هم مصدر كل حضارة، وأن الحضارة اليونانية هي السحر الذي يسري في كل حضارة تتصل به في حين أن علاقتها بالحضارة الإسلامية كانت علاقة رفض أكثر منها علاقة قبول، وإذا قبلت الحضارة الإسلامية منها شيئًا فإنما تفعل ذلك بعد عرضه على العقل وإثبات اتفاقه معه، والعقل أساس النقل، ومن ثَم فهي تقبل ما يمليه العقل أولًا، وكذلك لما توالدت المذاهب الفلسفية في الغرب بعضها من البعض الآخر، وتأثر الفلاسفة بعضهم بالبعض ظن المستشرق أن كل حضارة إنما تنسج على المنوال الغربي وغالبًا ما يكون الأثر الغربي هو الأثر الغربي الجيد من منطق وعقلانية وفكر منهجي أو تقوى باطنية وتحليل للأخلاق أو تصور علمي للعالم يقوم على إثبات قوانين الطبيعة واستقلال العقل، كل ذلك أتى من الخارج، ولم ينتج من الداخل إلا الأفكار التقليدية الشائعة التي تعبر عن التخلف الفكري والركود العقلي، وكأن الثقافة لشعب ما وما تنتجه من جديد لا تكون إلا عميلة للغرب وتابعة له وامتدادًا لسلطانه، خطأ هذا المنهج إذن هو تفريغ الثقافة المدروسة من مضمونها، وإرجاع الداخل إلى الخارج، والقضاء على جدتها وإبداعها، وهو خطأ ناتج عن تصور العلاقة بين الثقافات على أنها أحادية الطرف، الأولى معطية منتجة مبدعة وهي الثقافة الأوروبية والثانية مستقبلة مجدية فارغة خاوية وهي الثقافة غير الأوروبية، وتعبر هذه العلاقة أحادية الطرف عن عقلية عنصرية، وشعور متمركز على الذات، ورغبة في السيطرة والهيمنة على ثقافات الشعوب وأقدارها.
ويجوز أيضًا أن يوجد تشابه بين ظاهرتين من حضارتين مختلفتين، سواء وجد اتصال تاريخي بينهما أم لم يوجد، ويجوز أن يرجع هذا التشابه إلى تشابه في نفس الظروف التي أدت إلى ظهور نفس الأفكار ما دامت واحدة، والذهن الإنساني واحد، والحقائق واحدة، فهناك حقائق إنسانية عامة وثابتة تظهر هنا وهناك دون أن يكون هناك أدنى أثر من هذه الحضارة أو من تلك، فكلاهما راجعان إلى نفس المصدر، حقائق موجودة، وأذهان متفتحة تدركها، فالصلة التاريخية، وجودًا وعدمًا، لا تدل على شيء من أثر أو تأثر، بل تدل على إمكانيات الحقائق الشاملة التي توجد في كل عصر، والتي تظهر في كل حضارة، منهج الأثر والتأثر يقضي على هذه الإمكانيات وينكر وجود معاني مستقلة عن التاريخ.
إن الحضارة الإسلامية قادرة على تمثل ثقافات الشعوب المجاورة ووضعها في قالبها؛ لأنه القالب الأوسع شمولًا والأكثر عقلانية، ومن ثَم لا يؤثر الجزء على الكل، بل يدخل الجزء ضمن الكل ويصبح متضمَّنًا فيه، ومن ثَم كان منهج الأثر والتأثر يهدف أساسًا إلى القضاء على أصالة الحضارات وقدرتها على التمثيل والتعبير والخلق، وإلى القضاء على الظواهر المستقلة وقيامها من ذاتها، وإلى إرجاع كل شيء إلى مصادر خارجية، ومن ثَم يقضي على فعل الروح وعمل الذهن، وهذا ما يهدف إليه المستشرق الغربي.
(٢) النزعة الخطابية
وهي النزعة التي تسود معظم الدراسات التي يقوم بها الباحثون الذين ينتسبون إلى نفس الحضارة، وهو الخطأ المضاد للنعرة العلمية السائدة في معظم دراسات المستشرقين. وبالرغم من أن النزعة الخطابية تعطي الأولوية للوحي على التاريخ، إلا أن الاتجاه اتجاه ساذج يعبر عن نوع من المراهقة الفكرية، حيث تسود العاطفة والانفعال، ويصدر الفكر مندفعًا في حمية دون وضوح نظري؛ فهو ناتج عن أزمة أكثر من صدوره عن موقف فكري، أزمة الحق الضائع، والعجز العقلي، والتخلف الجماهيري، ويأخذ في الأحيان موقف المدافع والمقرظ لما يقول ولما يعبر عنه. قد يكون ذلك موقفًا طبيعيًّا بالنسبة لمواقف الهجوم التي يتخذها إما بعض المستشرقين أو بعض الباحثين الإسلاميين التابعين لهم، ولكنه هجوم مؤقت انفعالي لا يردُّ على الحجة بالحجة، ومما يساعد النعرة الخطابية على الظهور هو نوع من الشهرة الإعلامية التي يتشوق إليها الباحث الذي في الغالب ما يكون مدعيًا للتجديد أو متملقًا لعواطف الجمهور رغبةً في الانتصار الديني لدرجة أنه ينقلب أحيانًا إلى نوع من الاستهلاك المحلي الصرف، خاصةً إذا احتاجته السلطات السياسية لتعمية الموقف السياسي وملء الفراغ بالعواطف الدينية. النعرة الخطابية إذن نقص في الجدية بل ونقص في الوعي الإدراكي للمشاكل، يساعد على ذلك نقص في التكوين النظري للباحث فهو يعبر عن المستوى الثقافي الحالي من تطور الحضارة، ولكنه متخلف عن المستوى الثقافي للتراث القديم الذي استطاع دفع المشاكل وإيجاد حلول عقلانية لها، وقد بلغ التعقيل في تراثنا القديم درجة أن التراث كله أصبح نظرية في العقل.
وتظهر النعرة الخطابية في عدة مناهج، هي في الحقيقة تنويعات مختلفة على الخطابة دون أن تكون مناهج محكمة ذات أصول وقواعد وأهمها: التكرار أو تحصيل الحاصل، والتقريظ أو الدفاع، والجدال والمهاترات، والرؤية الحدسية قصيرة المدى.
-
(أ)
التكرار أو تحصيل الحاصل: إن كان الصعب تسمية هذه الخاصية منهجًا فإنها على الأقل تسود كثيرًا من الدراسات وتغلب على عقلية كثير من الباحثين، وهي تكرار مضمون النصوص المدروسة دون الإدلاء بأي فهم أو تفسير لها، أي أنها تنقل بصورة أخرى مسهبة أو موجزة الموضوعات التقليدية كما هي معروضة في التراث القديم وكما تفعل الشروح القديمة التي لا تتعدى حدود الألفاظ والمصطلحات القديمة وتفسير الماء بالماء، فالعبارة هي نفسها العبارة مكررة في صور عديدة تفقدها تركيزها بل ومضمونها؛ إذ تُحمِّل الفكرة الحواشي والشروح أكثر مما تستطيع لدرجة أنها تفقدها استقلالها ودلالتها. وغالبًا ما يكون المنهج التاريخي وتحصيل الحاصل نفس المنهج؛ فالذي يقرر الوقائع التاريخية لم يفعل إلا أنه كرر ما هو معروف، ولكن المنهج التاريخي يستعمله المستشرق والتكرار يقوم به الباحث الذي ينتسب إلى نفس الحضارة. وكثيرًا ما يعتمد التكرار على اقتباس النصوص ووضعها في صلب البحث حتى يتضخم، وغالبًا ما تذكر المراجع ويضع الباحث المادة القديمة دون ذكر لمصادره، ويتعيش المعاصرون على السابقين، ويأكل الخلف على موائد السلف، ويتسطح الفكر ويمتط. لقد حدث هذا في عصر الموسوعات والشروح والملخصات خشية على التراث من الضياع تحت تأثير هجمات التتار والمغول. حُفظ التراث ودُوِّن في موسوعات عامة كما يحدث في كل تراث، وكما حدث في التراث اليهودي في القرن السادس قبل الميلاد أثناء الأسر البابلي، ولكننا الآن، والحمد لله، لا نواجه هذا الخطر، فالتراث محفوظ ومدوَّن بل ومنشور منه قسط كبير، ولكننا نواجه الخطر الآخر وهو خطر التكرار بلا فهم، والترديد بلا وعي، وعدم وجود تفسير معاصر لتراث قديم.
وإذا كان بعض التكرار موجودًا في المؤلفات القديمة في علم أصول الدين وعلم أصول الفقه خاصةً، بل وفي علوم الحكمة أيضًا، إلا أن كل مؤلف يحاول بناء العلم من الأساس؛ لذلك يبدأ من الألف إلى الياء ثم يضيف جزءًا في بناء العلم، فعلم أصول الدين المتأخر مثلًا يأخذ طابعًا نظريًّا خالصًا، ويتحول التوحيد فيه إلى نظرية في العلم ونظرية في الوجود بخلاف علم أصول الدين المتقدم الذي تسوده خلافات الفرق والمشاكل الجزئية، والتصوف المتأخر عند ابن سبعين إضافة أساسية على التجارب الصوفية المبكرة، وفي أصول الفقه المتأخر عند الشاطبي إضافات أساسية بتحليل المقاصد، مقاصد الشارع ومقاصد المكلف على الأفكار الأصولية الأولى عند الشافعي أو الدبوسي أو السرخسي، أما تكرار المعاصرين فإنه لا يضيف شيئًا ولا يفعل أكثر من نسخ القديم مع أن هناك أجزاء كثيرة من العلم لم تُبن بعد مثل «الإنسان» في علم التوحيد وفي الفلسفة، ووصف عملية السلوك وتحويل الوحي إلى نظام مثالي للعالم في أصول الفقه،٢٢ ومسار التاريخ وتحويل البُعد الرأسي إلى بُعد أفقي في التصوف، التكرار في التراث القديم لم يكن تكرارًا خالصًا محايدًا، بل كان مقارنات ونقدًا وأحكامًا، فمتأخرو الأشاعرة ينقدون أوائلهم كما يفعل الرازي مع الأشعري، ومتأخرو الفلاسفة ينقدون متقدميهم كما يفعل ابن رشد مع الفارابي وابن سينا، ومتأخرو الصوفية ينقدون أسلافهم كما فعل السهروردي مع الحلاج والغزالي، فالتكرار هنا هو تفسير كل عصر للعلم وإعادة بناء العلم طبقًا لحاجات العصر ومتطلباته، وهو ما يحاول «التراث والتجديد» القيام به بالنسبة إلى العلوم العقلية التقليدية القديمة.والتكرار هو سبب الأزمة الواقعة في الفلسفة الإسلامية عند المشتغلين بها، فماذا يقول الباحث بعد شرح نظريات الفلاسفة؟ وإذا كان الفلاسفة أنفسهم يعيدون شرح نظريات أخرى، أو هكذا يبدون، فيتحول التدريس إذن إلى شرح على شرح، ويقع الفكر في شروح على متون ثم يضيع الفكر، وتشتد الأزمة عندما ينتهي الشرح، ثم يتساءل السامع: ولكن ما صلة هذا كله بالفلسفة الإسلامية خاصةً إذا كان على دراسة بالفلسفة اليونانية والحديثة والمعاصرة، حيث يرى السامع فيها المشاكل المعروضة والحلول المقترحة على مستوى إنساني وبلغة العقل؟ تلك إذن هي مهمة الباحث المعاصر في أخذ المواقف بالنسبة للقديم وعرض ما قاله القدماء على حاجات العصر ومتطلباته، يمكن للباحث المعاصر أن يبيِّن كيف نشأ القديم، ولماذا ظهر على هذا النحو ثم يعيد البناء من جديد وتستأنف عملية التكوين من جديد. لقد نشأ التكرار من فقدان الهدف عند الباحث، فالباحث لم يحدد له هدفًا من قبل، عن أي شيء يبحث حتى يجد أو لا يجد، ولم يحركه حدس مسبق، ولم تدفعه غاية معينة، ينشأ التكرار من أن الباحث يتحول إلى مجرد موظف وليس صاحب رسالة، وينقلب إلى صاحب مهمة وليس صاحب دعوة، قد يكون هناك تكرار للحدس ولرؤية الكاتب، وفي هذه الحالة لا يكون التكرار مجرد تحصيل حاصل بل يكون تعبيرًا عن الحدس بعديد من الصور وببراهين مختلفة، فالكاتب الهادف ليس له في الحقيقة إلا حدس واحد يعبر عنه بطرق شتى؛ وذلك لأن الحدس هو رؤية للواقع، ومن ثَم فالواقع ذاته لا بد أن ينكشف على مستويات عدة وفي جوانب مختلفة، وغالبًا ما يكون للكاتب حدس واحد يأخذ صورًا عدة، وتطبيقات مختلفة، ويعبر عنه بلغات عدة، ولكن ذلك ليس تكرارًا بل بيان وحدة الحدس بالرغم من اختلاف المواضع.
-
(ب)
التقريظ أو الدفاع: وتظهر النزعة الخطابية أيضًا كتقريظ للتراث أو لمصدره ثم الدفاع عنه والدعوة له، والدفاع في الحقيقة خلط بين التبرير والتفكير، فهو يقبل موضوعه ثم يبرره ويدافع عنه دون أن يضعه موضوع التساؤل ودون أن يحاول معرفة أي بناء نظري له أو أي أسس عقلية يقوم عليها، وقد يقوم التقريظ على الدفاع عن التراث كله، بكل ما فيه وعن التاريخ كله دون تمحيص سابق لما يمكن إرجاعه منه إلى المصادر الأولى في الوحي، ولما يمكن إرجاعه إلى التاريخ المحض، قد يكون التقريظ قائمًا أيضًا على أسس خاطئة في الفهم أو مناهج خاطئة في التفسير خلفها التاريخ وراءه واقتضت الظروف استعمالها.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلًا في التوحيد ندافع عن التنزيه دون أن نتحقق من سوء فهم التنزيه عندما يتحول إلى وظيفة نفسية تساعد على الدفاع عن السلطة، وندافع عن إثبات الصفات دون أن نحاول معرفة سوء استخدام ذلك الإثبات في ضياع استقلال قوانين الطبيعة وحرية الإنسان، وندافع عن الكسب دون أن نفهم ماذا يعني ولكن من أجل إثبات حق الله كما هو الحال في التراث القديم، وفي الفلسفة ندافع عن الخلق ونهاجم الفيض والقدم دون أن نحلل ما ينتج عن الخلق أحيانًا من آثار على السلوك إما في النفاق أو التستر أو الانحلال، وندافع عن الإلهيات وكأنها هي الصياغة الوحيدة للتوحيد، وندافع عن خلود النفس وانفصالها عن البدن وكأن هذا الخلود التطهري الفردي هو الوسيلة الوحيدة لإثبات البقاء والاستمرار، وفي التصوف ندافع عن الإلهام والكشف والكرامة والولاية ونعلي من شأن الرضا والتوكل والخشية والخوف والحزن والبكاء، ولا نتحقق من خطورة هذه القيم السلبية في سلوك الناس وعلى عقولهم وعلى حريتهم، وندافع عن الفقه القديم وكأن الوقائع وحياة الناس يمكن صياغتها بالنصوص.
والدفاع هو غياب لكل وجهة نظر نقدية للموروث، وتقبل لكل الماضي بلا نقد أو تمحيص، الدفاع هدم للعقل، وضياع للواقع، وسيادة للانفعال، الدفاع هو إعلان بالعاطفة لما يجب أن يقوم العقل بتحليله، واستمرار في التخلف النفسي، وتعويض ذلك بالحماس وتملق مشاعر الجماهير، الدفاع رفض للعقل، ينشأ عن جهل أو تعصب، يتبارى المدافعون كما يتبارى المحامون، الدفاع إثبات للهوية وللذات عن طريق إقامة معركة في الهواء وتعويض نفسي عن هزائم القوم وتخلف الباحثين واستسهال الأمور وطلب المراكز، تستخدمه السلطة السياسية لتغطية الواقع ومآسيه، فإذا كان الحاضر قد ضاع فعلى الأقل لنا عزاء في الماضي، وعادةً ما يكون الدفاع هو دفاع عن النفس، ودفاع عن المنصب، ورغبة في الشهرة، ودخول في المزايدة، فأشد المدافعين حمية هو الذي يحصل على الغنيمة، ومن ثم ينقلب الفكر إلى تجارة، والأمانة إلى خيانة، وكثيرًا ما يكون الدفاع عن نفاق لا عن إيمان واقتناع، ما دام الأمر كله تسابقًا على الإعلان عن الذات وجريًا وراء المغانم، يخدم الدفاع أغراض الرضا عن النفس، فالدفاع تبرئة للذمة، وتغطية للواقع، إذ يسير الواقع في تياره ونظمه بعيدًا عن الوحي، ويأتي الدفاع ليحول الدين إلى ستار للواقع، وكلما ازداد الدفاع سمك الستار، الدفاع عن الدين في الحقيقة ليس فيه إثبات للدين، بل فيه تغطية على واقع لا ديني، والدفاع عن الإيمان تغطية لشعور لا إيمان فيه.
وقد نشأ الدفاع في وجداننا المعاصر كحيلة العاجز الذي لا يقدر على البرهنة عقلًا ولا على إثبات واقعًا، كما أنه لا يقدر على وضع هدف أمامه ثم التخطيط من أجل تحقيقه، ويظن أن الدفاع عن الشعار هو تحقيق له حتى لقد تحول فكرنا المعاصر إلى مجرد أبواق تدافع دون أن تدري عن أي شيء تدافع، وكأن الدفاع يصبح ذاتًّا وموضوعًا في آن واحد، لقد كان الدفاع في تراثنا القديم من مواطن قوة، واستطاع أن يبرهن وأن يحاجج وأن يستدل، وانتهى الدفاع إلى إثبات حقائق الوحي على أسس عقلية كما انتهى إلى استقرار الوحي كثقافة وكحضارة، وعلم أصول الدين كله قد قام بمنهج الدفاع فتأسس العلم واكتمل بناؤه، وظهر العقل والبرهان كمحك للنظر.
ولا يعني عدم الدفاع غياب الهدف والمحايدة أمام الموضوعات، وبرودة الفكر، والتعامل مع جمادات، ولكن فرق بين الدفاع عن الهدف وتحقيق الهدف، فأكبر دفاع يمكن أن يقام لفكرة هو تحقيقها في العقل بالبرهان أو في الواقع بالفعل، بل إن الدفاع عن الهدف لا يحق هدفًا بالمرة إذ يكتفي بالفكر بكونه عواطف وجدانية تتطاير فوق الواقع وتحجبه، ويظل الواقع ذاته أسير أبنيته الخاصة محجوبًا عن أثر الفكر، فالدفاع حماية الواقع من كل توجيه للفكر، إن الإحساس بالرسالة هو الذي يجعل الباحث هادفًا ملتزمًا مع القدرة على تحقيقها بالفعل ومن ثم تتحول الذات إلى موضوع، ويتم التوحيد بين الذاتية والموضوعية، وبين العقل والوجدان، وبين الحدس والبرهان.
-
(جـ)
الجدل والمهاترات: يؤدي الدفاع والتقريظ إلى الجدل والمهاترات ذلك لأن التقريظ والدفاع يؤديان إلى المقارنة ثم إلى الهجوم إما بين الباحثين أنفسهم أو بينهم وبين باحثين آخرين من حضارة أخرى، فإن كان في التقريظ والدفاع بقايا من وجود فكري للموضوع، فإن هذه البقايا تمحى كلية في الجدل والمهاترات، فالجدل لا يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، بل يهدف إلى الانتصار على الخصم، وبدل أن تتوحد جهود الباحثين في عمل مشترك تتعارض وتتنافر ويلغي بعضها البعض أو ينتصر واحد على حساب هزائم الآخرين، المجادل لا يفكر، بل يريد هزيمة الآخر حتى ولو كان على حساب موضوعه ومنطقه ومواقفه الفكرية، ولا يرى غضاضة في البدء بالأفكار المسبقة وفي استعمال المغالطات، والتسليم بمقدمات الخصم وهو لا يؤمن بها، فالمجادل لا يفكر ولا يحايد، بل يعارك ويحارب، وهنا أيضًا يضيع العقل، وتسود العاطفة والانفعال، ونكون أمام الفن الأدبي القديم، فن المناقضات الأدبية، ولسنا أمام فكر موضوعي، ويتحول الباحثون إلى شعراء لا يقرضون شعرًا.
والأمثلة على ذلك كثيرة، يثار بيننا الجدل عن الحكومة الدينية، خلافة أم علمانية، وتتصارع الأهواء، وتتضارب الغايات دون أن يحاول أحد تحليل الواقع الذي يمكنه أن يبدد كل هذا الجدل، فالواقع لا يوصف بما هو أقل منه، كما أن له بناءه المثالي في الوحي، والوحي ليس دينًا بل هو البناء المثالي للعالم، ويثار جدل آخر حول الفلسفة الإسلامية يونانية أم إسلامية، تابعة أم أصلية، وتتضارب الأهواء وتتبارز الأقلام، ولا يحاول أحد وصف العمليات الحضارية الناشئة من التقاء حضارتين، وهي عمليات واقعة بالفعل ترفض أن يلصق عليها أي وصف خارجي، ويثار جدل ثالث، وما زال يثار بين شيعة وسنة حول الإمامة والتوحيد وأي الأئمة كان أحق بالإمامة منذ أربعة عشر قرنًا مضت، وهل الإله مجسم أم منزه، ولا يحاول أحد أخذ الواقع ذاته والاحتكام إليه، إن حال الناس اليوم في إيران أو مصر لا يختلف فكلاهما يعاني من التسلط والبؤس والتخلف، ولا يحاول تفسير نشأة الأفكار الدينية بالرجوع إلى الظروف النفسية والاجتماعية التي سببتها، وربما يكون التوحيد لا هذا ولا ذاك، ويثار جدل رابع حول التصوف من أي مصدر هو خارجي من فارس أو الهند أو اليونان أو الرومان أو داخلي من الكتاب والسُّنة وحياة الرسول والصحابة والتابعين، ولا يحاول أحد الرجوع إلى الواقع الذي نشأ فيه التصوف وكيف أنه كان رد فعل على حركة البذخ الترِف، ومقاومة سلبية فردية انعزالية لقلب القيم، ويثار جدل خامس عن حياة الناس أتخضع لقانون ديني أم قانون مدني، وكأن حياة الناس ذاتها ليس لها الأولوية على كل قانون.
والجدل والمهاترات ينشآن من إحساس رهيب بذاتية كل كاتب تصل إلى درجة المرض، فهو يدافع عن ذاته وعلمه ومذهبه وصدارته من خلال القضايا، والغاية هي الذات وليست القضية، خاصة في مجتمع لم يتعوَّد على العمل الجماعي، وعلى النظرة الموضوعية، وعلى الفصل بين الوقائع وبين القائلين بها، الجدل هو انفصال الماضي والحاضر على السواء، فالموروث لم يقم على جدل ومهاترات بل على تحليل وبرهان، والواقع لا يصاغ بالجدل وبالآراء بل بتحليل المعطيات والمكونات، الجدل بين الكتَّاب نوع من المراهقة المتأخرة وضجة بلا أساس، وفرقعة بلا سلاح، ومعركة بلا ميدان، هذا بالإضافة إلى أن الجدل يمكنه إثبات الشيء ونقيضه ما دام الأمر يتوقف على البراعة، فقد يثبت الجدل أفضلية التوحيد على التثليث كما قد يثبت أفضلية التثليث على التوحيد بنفس البراعة، وقد تبارى علماء الجدل القدماء في ذلك، فالجدل مهارة وليس معرفة، وهو فن لا علم، هو ظن لا يقين، والعجيب أن التراث القديم ذاته قد أدان الجدل بوضعه داخل منطق الظن وخارج منطق البرهان، والجدل مع السفسطة والخطابة والشعر على نفس المستوى، ولكننا لم نعِ درس التراث وتجادلنا بيننا من أجل إثبات ذواتنا الضائعة، ومن أجل افتعال معارك، والمعركة الحقيقية في طي النسيان، الجدل مثل التحزب للأندية الرياضية في غياب تصريف الطاقات الطبيعية للناس، فيتجادلون إعلانًا عن نفوسهم الضائعة ووجودهم المنسي، ورغبة في إلحاق الهزيمة بعدو مفتعل، والحصول على النصر بأجر زهيد، كلمات معدودات.
ولا يعني نقد الجدل والمهاترات غياب المعارك الفكرية من واقعنا الثقافي، فالجدل شيء والتنوير شيء آخر، فصراع الآراء حول الواقع، وتضارب التحليلات حول الموضوعات جزء من عملية التنوير ولكنها خالية من الانفعال والذاتية، يمكن للجدل أن يكون منهجًا سليمًا للحوار المفتوح، وتبادل الآراء، وعرض وجهات النظر المختلفة، والتعلم المشترك، فقد نشأ علم أصول الدين كله على هذا النحو بالجدل بين الأفكار، ولكن ليس الجدل العقيم بل الجدل الخصب الذي يدل على حيوية الفكر والقدرة على أخذ المواقف، كما نشأ عند الصوفية الجدل بين العواطف والانفعالات جدل بناء وليس جدلًا هدامًا، وفي أصول الفقه ظهر جدل بين الفقهاء يدل على جدل آخر بين النص والواقع، وهو جدل منطقي سلوكي من أجل توجيه الوحي لحياة الناس، فالجدل ليس مدانًا بذاته بل هو مدان إذا تحول إلى مهاترات وسفسطة، في حين أنه يمكن أن يكون دليلًا على الحوار وعلى خصوبة الفكر.
-
(د)
الحدس قصير المدى: إذا كان بالإمكان تسمية النزعة الخطابية منهجًا فذلك لأنها استطاعت أن تتحول إلى منهج في الدراسة قائم على الحدس قصير المدى في الاتجاهات التجديدية الحالية، ويقصد بالحدس قصير المدى ما يلاحظه بعض الباحثين من حقائق في التراث توصف ابتداءً من نشأتها من الوحي، هو حدس لأنه قائم على إدراك مباشر لبعض حقائق في التراث وهو قصير المدى؛ لأنه لم يتعدَّ نظرات متفرقة هنا وهناك دون أن تتجمع في بناء نظري كامل يمكن أن يكون نموذجًا لوصف الظواهر الفكرية أو منطقًا لتفسير الوحي؛ ولذلك ظل محدودًا، سواء في تكوينه النظري أو في تطبيقه في الواقع، وهو أيضًا حدس جزئي استطاع أن يصور جانبًا في التراث بصدق ولكنه لم يتجاوز هذا الجانب إلى أن يعطي صورة عن التراث ككل.
والأمثلة على ذلك كثيرة من داخل حركات التجديد المعاصرة التي أعطت حدوسًا لم تطورها في دراساتنا على التراث القديم، فالتوحيد كما يصوره الأفغاني وإقبال مثلًا ليس علم الكلام الموروث من نظرية في الذات والصفات والأفعال، بل هو حياة وحركة وقوة على الأرض، وحياة في الشعور، وتحرير للإنسان، وتأسيس للمجتمع الواحد ذي الطبقة الواحدة، وتوحيد للشعور بين القول والعمل والوجدان والفكر، وتوحيد للبشر بلا لون أو دين أو جنس أو لغة أو منطقة، والتوحيد كما يصوره الشهيد سيد قطب تحرر الوجدان الإنساني من كل القيود وتأسيس لمجتمع العدل والإخاء، والتوحيد عند الكواكبي هو أيضًا إثبات لحرية الإنسان ومقاومة لقوى الاستعباد والاستبداد والظلم والطغيان، وهنا يتحول تنزيه الله إلى حرية الإنسان، ونحن الآن نتحدث في التوحيد دون الحرية، كما أعطى رشيد رضا تفسيرًا اجتماعيًّا للقرآن موجهًا النصوص ضد أبنية الواقع المخلخلة من أجل التغيير، تغيير هذا الواقع المخلخل إلى واقع مثالي راسخ، ولكن لم يسر أحد بعد ذلك في هذا التفسير الموجه، واستعمال النصوص استعمالًا وظيفيًّا خالصًا، وما زلنا نفسر النصوص تفسيرًا نظريًّا خالصًا،٢٣ كما ظهر لدى الأفغاني وعثمان دنقة والشهيد سيد قطب وحدة النظر والعمل وأن الفكرة الإسلامية ليست نظرية بل هي ممكنة التحقيق وواقع يتحرك، ثم رجعنا عن ذلك إلى الدراسات التي تظهر فيها الأفكار مجرد آراء لا تتعدى ما بين السطور.وهناك أمثلة أخرى كثيرة على حدوس في تراثنا القديم نكررها بعد أن ظهرت دقائقها في التراث دون تطويرها وإحيائها وتوجيه الواقع بها، فقد ظهر أن العقل هو أساس النقل وأن كل ما عارض العقل فإنه يعارض النقل، وكل ما وافق العقل فإنه يوافق النقل، ظهر ذلك لدى المعتزلة وعند الفلاسفة، وظهرت لغة التخييل في الوحي ومنطق البرهان في الفكر، ولكننا لم نسر في هذه الرؤية، ورجعنا إلى التشبيه والتجسيم والتقليد، وجعلنا النقل أساس العقل، وآمنا بالوقائع الحسية المادية وراء التصوير الفني، واعتمدنا على سلطة الكتاب في البرهان، وظهر الواقع في علم الأصول، ورأينا المصالح المرسلة والاجتهاد، وأن «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن»، وأن الواقع له الأولوية على كل نص في «لا ضرر ولا ضرار»، ولكننا لم نسر في هذا الحدس، ورجعنا إلى النص الأول نعطي له الأولوية على الواقع، احتمينا بالنصوص فجاء اللصوص،٢٤ وظهرت الشورى في شروحنا على نظم الحكم وحرية الإنسان في مجتمع حر، ولكننا أسقطنا الرؤية بل وبدلناها إلى الإعلان عن مخاطر الحرية لمن يسيء استغلالها وعن مآسي الشورى في مجتمع لم يتعود على حكم نفسه بنفسه، وقلبنا الباطل حقًّا والحق باطلًا، كأننا ندعو الطاغية للظهور، ونسلم له الرقاب.وقد كان الحدس قصير المدى لضعف في التكوين الثقافي لصاحب الحدس، فلو أنه استمر فيه وطوره، وبرهن عليه، وأعطى له تطبيقات أكثر، وأدخله ضمن العلوم الإنسانية لقدر له البقاء والاستمرار، ولتحول إلى نظرية عامة بل وإلى أساس نظري لسلوك الناس، وربما أيضًا غاب النفس الطويل عن الكاتب، وأسرع في التعبير عن حدسه ولم يصبر حتى يتحول إلى بناء نظري عام في مجتمع يريد الشهرة ويفرح بالأبطال الذين يلوحون بالفكر، وكيف يسقط الزمان من الحساب وهو الحامل للاختمار؟ وقد يكون السبب أيضًا عدم تكوين مدرسة فكرية تتبنى الحدس الأول وتطوره حتى يمكن أن يظهر من خلالها مفكرون يحولون الحدس إلى تيار فلسفي وبالتالي إلى حركة في الواقع وإلى مسار تاريخي، وربما لأن صاحب الحدس ما زال فردًا، وما زال يسري عليه ما يسري على الآخرين من اعتزاز بالشخص وبالعبقرية الفردية لنقص في المعرفة بدور المفكر في التاريخ، وبطريقة سري الأفكار وتحقيقها وانتشارها، وربما لعدم إنشاء حزب يكون مهدًا للفكر، ومحققًا للحدس في التاريخ يتربى من خلاله الناس، وينشأ فيه المفكرون والكُتَّاب، وربما لتخوف المفكرين وتنصل الكُتَّاب من تبعة المسئولية، فتطوير الحدوس يلزم المفكر بالواقع وهو لا يريد إلا أن يكون عارض نظريات؛ لذلك يؤثر المفكرون السلامة وحُسن العاقبة.
وكما أن دراسات المستشرقين ليست «دراسات موضوعات» بل «موضوعات دراسة»، فكذلك دراسات الباحثين المعاصرين الذين ينتسبون إلى نفس الحضارة ليست دراسات لموضوعات بل موضوعات لدراسة، وكما أن دراسات المستشرقين تكشف عن التكوين الثقافي والنفسي للباحث أكثر مما تكشف عن واقع مدروس فكذلك دراسات الباحثين المسلمين تكشف عن ثقافتهم وتكوينهم وواقعهم النفسي والاجتماعي أكثر مما تكشف عن واقع مدروس، وكما أننا لم نستعمل دراسات المستشرقين كمصادر للتراث والتجديد لأنها تحتاج إلى فحص سابق، والجهد المبذول في ذلك أكثر بكثير من النتائج المرجو الحصول عليها، فكذلك لم تستعمل دراسات الباحثين المسلمين لأن الجهد المبذول في إعادة تحقيقها أكبر بكثير من النتائج المرجوة منها؛ وذلك لأنها تكرار وترديد أو مسخ وتشويه للقديم، ولأننا نريد إعادة بناء القديم الخام وتطويره دون المرور بالدراسات الثانوية، والأسهل مضغ اللقمة مباشرةً ثم ابتلاعها بدلًا من ابتلاع لقمة من مضغ الغير، ومع ذلك فالدراسات الثانوية يمكن أخذها كمؤشر على عقليتنا المعاصرة وكنموذج لما وصلت إليه دراساتنا حول التراث، فهي تكشف عن واقعنا أكثر مما تكشف عن القديم.
وإذا كان خطأ النعرة العلمية أنها تعرف «كيف تقول» دون أن تعرف «ماذا تقول»، «فإن خطأ النزعة الخطابية» أنها تعرف «ماذا تقول» دون أن تعرف «كيف تقول»، والتراث والتجديد محاولة لتفادي الخطأين معًا؛ إذ يحاول أن يعرف «ماذا يقول» وهو التراث، و«كيف يقول» وهو التجديد.