رابعًا: طرق التجديد
يحدث التجديد بعدة طرق، بعضها خاص باللغة، والبعض الآخر خاص بالمعاني والبعض الثالث خاص بالأشياء ذاتها طبقًا لأبعاد الفكر الثلاث: اللفظ، والمعنى، والشيء.
(١) منطق التجديد اللغوي
إن اكتشاف لغة جديدة هو اكتشاف للعلم، وطالما تأسس العلم بتأسيس لغته أولًا، بل إن تطور العلوم وانفراج أزمتها يحدث باكتشاف اللفظ أو المفهوم، ومن ثَم يصبح التجديد عن طريق اللغة هو بداية العلم الجديد.
إن العلوم الأساسية في تراثنا القديم ما زالت تعبر عن نفسها بالألفاظ والمصطلحات التقليدية التي نشأت بها هذه العلوم، والتي تقضي في الوقت نفسه على مضمونها ودلالتها المستقلة، والتي تمنع أيضًا إعادة فهمها وتطويرها، يسيطر على هذه اللغة القديمة الألفاظ والمصطلحات الدينية مثل: الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب، كما هو الحال في علم أصول الدين، أو القانونية مثل: الحلال، الحرام، الواجب، المكروه، كما هو الحال في علم أصول الفقه، أو التاريخية الملتصقة ببيئة ثقافية معينة مثل: الجوهر، العرض، الممكن، الواجب، الضروري، الحادث، العقل الفعال، العقل المنفعل كما هو الحال في الفلسفة، أو الرضا، التوكل، والورع، الصبر، الخشية، الخوف، الحزن، البكاء كما هو الحال في التصوف. هذه اللغة لم تَعدْ قادرة على التعبير عن مضامينها المتجددة طبقًا لمتطلبات العصر نظرًا لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي نريد التخلص منها، ومهما أعطيناها معاني جديدة فإنها لا تؤدي غرضها لسيادة المعنى العرفي الشائع على المعنى الاصطلاحي الجديد، ومن ثَم أصبحت لغة عاجزة عن الأداء بمهمتيها في التعبير والإيصال.
ولا يتم التجديد بطريقة آلية، بإسقاط لفظ ووضع أي لفظ آخر محله، مرادفًا أو شبيهًا، بل بطريقة تلقائية صرفة يرجع فيها الشعور من اللفظ التقليدي إلى المعنى الأصلي الذي يفيده ثم يحاول التعبير من جديد عن هذا المعنى الأصلي بلفظ ينشأ من اللغة المتداولة كما كان اللفظ التقليدي متداولًا شائعًا في العصر القديم. وهذه عملية طبيعية تحدث في أوقات تجديد الحضارات ومرورها بمراحل جديدة في تطورها؛ إذ يقبض الشعور على المعاني الأولية وهي جوهر الحضارة، ويخشى عليها من الضياع والجرف إبان التغير اللغوي، ثم يعبر عن هذه المعاني بلغة من واقعه الذي يعيش فيه؛ فالمعاني هي معانٍ التراث، واللغة لغة التجديد. إن تجديد اللغة ليس عملًا إداريًّا يتم والباحث على مكتبه يغير اللغة التقليدية كيف يشاء، بل هو عمل تلقائي يتم في شعور الباحث الذي يجد نفسه غير قادر على التعبير عن المعاني الكامنة في اللغة التقليدية نظرًا لثقافته الحديثة ولبيئته الثقافية الجديدة؛ وعلى هذا يتم التجديد اللغوي وكأن اللغة تنشأ من جديد، ولكنها تكون لغة ثانية لها طراز في اللغة التقليدية؛ ولذلك أمكن تسمية هذا التغيير تجديدًا لغويًّا باعتبار النشأة الأولى التي تمت في المرحلة التقليدية، وذلك لأن المعاني الكامنة والتي لا يتم التعبير عنها بسهولة في اللغة التقليدية قد تأتي لحظة إما تتفجر فيها، وتصبح ثورة فكرية بلا قيود لغوية وبلا استمرار حضاري، أو تلفظ كلية وتصبح انقطاعًا وتحولًا عن التراث التقليدي كله. إن اللغة الجديدة من شأنها السماح لهذه المعاني بالتعبير، وتكشف عن أشياء كانت خافية في بطن اللغة التقليدية، والتجديد اللغوي لا يتلخص فقط من ركود اللغة التقليدية وقصورها في التعبير عن المعاني، ولكنه يتخلص أيضًا من بعض القلق وعدم الوضوح في الاستعمال لبعض ألفاظ اللغة الجديدة؛ فألفاظ الشعور، والزمان والفعل والقصد كلها ألفاظ عائمة لا تفيد معنى محددًا، بل تفيد عدة معانٍ وربما متعارضة بل ومتضادة، فنظرًا للمذاهب الفكرية التي نشأت فيها هذه اللغة وبيئاتها الثقافية، ونظرًا لأن المعاني الكامنة في اللغة التقليدية لها من الاستقرار والأصالة، لأنها خارجة من الوحي، مما يؤهلها لتكون عاملًا للاستقرار اللغوي للغة الجديدة؛ فإن التجديد اللغوي يصبح ضرورة طبيعية تستبدل فيها اللغة القديمة بلغة جديدة من أجل التعبير عن المعاني المتجددة طبقًا لمقتضيات الواقع.
ومع أن اللغة لا تمس مضمون الفكر إلا أن مجرد تجديد اللفظ وإعطاء فرصة للفكر كي يعبر عن نفسه بلفظ جديد يكشف عن مواطن في الفكر أخفاها اللفظ القديم. قد لا يكون المعنى المكتشف في الفكر موجودًا بالفعل في الفكر القديم، بل قد يكون إسقاطًا من الروح المعاصرة على اللفظ القديم؛ إذ لم تَجدْهُ فيه أي قراءة جديدة لهذا اللفظ القديم، فلو حدث ذلك لكان أيضًا شيئًا طبيعيًّا، فاللغة كالحضارة متطورة، وبتطور الأفكار وتجددها تتطور الألفاظ وتتجدد. فالتجديد عن طريق اللغة ليس عملًا شكليًّا بل هو عمل يمس المضمون في إعطائه أكبر قدر ممكن من القدرة على التعبير والكشف عن كل إمكانياته، والحقيقة أن اللغة تلعب دورًا كبيرًا في نشأة العلم وفي بنائه، بل إن مصطلحات العلوم هي التي تحدد بناءها؛ فألفاظ التواتر والآحاد، والعام والخاص، والأمر والنهي، والحلال والحرام هي التي حددت نشأة علم أصول الفقه، وهي ألفاظ عادية مستعارة من اللغة العادية وتعبر عن مضمون فكري وبناء نظري لعلم أصول الفقه. وكذلك ألفاظ الممكن والواجب والمستحيل أو الذات والصفات والأفعال، كلها ألفاظ مستعارة من اللغة تعبر عن مضمون آخر وبناء نظري آخر لعلم أصول الدين. وكل مصطلحات الصوفية؛ الحال والمقام، الوجد والفقد، البُعد والقرب، الغيبة والحضور، الصحو والسُّكر، الكشف والمشاهدة، الحلول والاتحاد كلها تعبر أيضًا عن مضمون آخر وبناء وجداني آخر. والألفاظ المتعلقة بواجب الموجود، وممكن الوجود والمطلق والنسبي، والجزئي والكلي، والقديم والحادث، والجوهر والروض، والكيف والكم تحدد بناءً نظريًّا آخر وهو الفلسفة. دور اللغة إذن في بناء العلم أو في إعادة بنائه دور أساسي وأولي، بل إنه يمكن القول بلا أدنى مبالغة إن العلم هو لغة وإن تأسيس العلم هو إنشاء اللغة.
(١-١) قصور اللغة التقليدية
- (١) أنها لغة إلهية تدور الألفاظ فيها حول «الله»، ولو أنه يأخذ دلالات متعددة حسب كل علم فهو «الشارع» في علم أصول الفقه، وهو «الحكيم» في علم أصول الدين، وهو الموجود الأول في الفلسفة، وهو «الواحد» في التصوف، فلفظ «الله» يستعمله الجميع دون تحديد سابق لمعنى اللفظ إن كان له معنى مستقل أو لما يقصده المتكلم من استعماله له، بل إن لفظ «الله» يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات، وباعتباره معنى مطلقًا يراد التعبير عنه بلفظ محدود وذلك لأنه:
- (أ) يعبر عن اقتضاء أو مطلب، ولا يعبر عن معنى معين أي أنه صرخة وجودية أكثر منه معنى يمكن التعبير عنه بلفظ من اللغة أو بتصور من العقل، هو رد فعل على حالة نفسية أو عن إحساس أكثر منه تعبيرًا عن قصد أو إيصال لمعنى معين، فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضًا عن فقد، يكون في الحس الشعبي هو الله، وكل ما نصبو إليه ولا نستطيع تحقيقه فهو أيضًا في الشعور الجماهيري هو الله، وكلما حصلنا على تجربة جمالية قلنا: الله! الله! وكلما حفَّت بنا المصائب دعونا الله، وكلما أردنا ضمانًا ويقينًا حلَّفنا الآخر بالله وحلفنا له أيضًا بالله، فالله لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، أي أنه تعبير أدبي أكثر منه وصفًا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفًا خبريًّا، وما زالت الإنسانية كلها تحاول البحث عن معنى للفظ «الله»، وكلما أمضت في البحث ازدادت الآراء تشعبًا وتضاربًا، فكل عصر يضع من روحه في اللفظ، ويعطي من بنائه للمعنى، وتتغير المعاني والأبنية بتغير العصور والمجتمعات، فالله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبَد هو الحرية، وعند المظلوم هو العدل، وعند المحروم عاطفيًّا هو الحب وعند المكبوت هو الإشباع، أي أنه في معظم الحالات «صرخة المضطهدين»، والله في مجتمع يخرج من الخرافة هو العلم، وفي مجتمع آخر يخرج من التخلف هو التقدم، فإذا كان الله هو أعز ما لدينا وأغلى ما لدينا فهو الأرض، والتحرر، والتنمية، والعدل، وإذا كان الله هو ما يقيم أودنا وأساس وجودنا ويحفظنا فهو الخبز، والرزق، والقوت، والإرادة، والحرية، وإذا كان الله ما نلجأ إليه حين الضر، وما نستعيذ به من الشر، فهو القوة، والعتاد، والعدة، والاستعداد، كل إنسان وكل جماعة تسقط من احتياجاتها عليه، ويمكن التعرف على تاريخ احتياجات البشر بتتبع معاني لفظ «الله» على مختلف العصور.٣
- (ب)
من المستحيل تعلق لفظ محدود بحروفه وتركيبه وتكوينه في الجملة ووضعه في الصياغة ودلالته على معنى معين من مؤلف معين لقارئ في عصر محدد ليدل على معنى مطلق غير محدود ولا يماثله أي تصور محسوس يند عن حدود اللغة والتركيب والصياغات ويشمل كل العصور والأوطان، وجود مطلق أزلي أبدي إلى آخر ما يقال دائمًا في تصور الله بعد سماع لفظ «الله»، من المستحيل منطقيًّا التعبير بالأكثر تحديدًا عن الأقل تحديدًا أو بالأقل وجودًا على الأكثر وجودًا، إنه ادعاء بشري ونقص في الأمانة أن يقول كاتب واحد إنه يعني بلفظ «الله» ما يريد إلا عن طريق التقريب، ولماذا استعملت الصور الذهنية إذن؟ ولماذا اختلفت من عصر إلى عصر، إذا كانت اللغة هي مجرد حامل للمعنى، والمعنى مستقل، فإنه يمكن التعبير عنه بأي لفظ آخر من أي عصر آخر ومن أي بيئة ثقافية أخرى، فلفظ «الله» لا يساوي معناه بأي حال، صحيح أن اللفظ ورد في الوحي ولكن الإشكال هو في فهم اللفظ في عصر معين لجماعة معينة من أجل الحصول على معنى حضاري للفظ، وما زال علماء أصول الدين يحاولون فهم مدلول اللفظ حتى الآن دون الوصول إلى مدلول واحد يتفق عليه الجميع، بل إن الوحي نفسه موجود في زمان ومكان معينين، وبالتالي فهو أيضًا قد تحول في لحظة الإعلان إلى حضارة، أي إلى مفهوم بشري يختلف باختلاف البشر.
- (جـ)
هناك استحالة في تحديد جامع مانع للفظ إذ إن التعريف بطبيعته قائم على التحديد، والمعنى المراد التعبير عنه والموجود المراد الإشارة إليه قائم على الإطلاق وليس على التحديد، والتحديد قائم على أساس قطع جزء من الواقع ثم تصويره والإشارة إليه عن طريق التصور، أما الإطلاق فلا يمكن تحديده على هذا النحو، ولما كان «الله» لا يمكن تصوره فكيف يمكن التعبير عنه بلغة قائمة على التصور؟
- (د)
لما كان الوجود وجودًا جزئيًّا خاصًّا يمكن الإشارة إليه والتحقق منه فإنه لا يمكن أن يكون مطابقًا لوجود الله في التصور المقصود له كوجود عام، وإذا كان الله ليس وجودًا ذهنيًّا فحسب، بل وجود واقعي أيضًا فكيف يشار إليه وكيف يعبر عنه في اللغة؟ من الصعب إذن وجود ما صدق للفظ «الله» كما وضح أنه من الصعب وجود مفهوم له، ولا ينفع هنا أي دليل أنطولوجي لإثبات وجود الله لأن الانتقال من الذهن إلى الواقع هو خروج من القوة إلى الفعل يحتاج إلى تحقيق ونشاط وحركة وفاعلية لا يعطيها الدليل العقلي الذي لا يتجاوز مجرد الافتراض والتسليم جدلًا، وكيف يوجد في الواقع من مجرد وجوده في الذهن، وهو في كلتا الحالتين وجود جزئي متعين؟ فالتصور محدود بالذهن لأن التصور ينال بالحد، والوجود متعين جزئي وهو على خلاف الافتراض.
- (هـ)
ولا يمكن إيصال أي معنى بلفظ «الله»؛ لأن اللفظ حوى كثرة من المعاني لدرجة أنه يدل على معانٍ متعارضة، فهو الأزلي، المطلق، الشامل، الكلي، وهو عند البعض الآخر الزمني، النسبي، الجزئي، المتحرك، المتغير، وهو عند فريق ثالث الدافع الحيوي، والاندفاع، والعاطفة، وعند فريق رابع التاريخ والصيرورة، فإذا استعمل البعض لفظ «الله» وهو يقصد معنى معينًا فلربما فهم المستمع معنى آخر، والمعنيان كلاهما واردان في اللفظ، وكل من يجادل في الله، فإنه لا يزيد على إقامة حوار بين صم.
لقد ظهرت اللغة إلهية في أول انتشار الحضارة لتعبر عن الدين الجديد، فقد كان لفظ «الله» له مدلوله الشعوري المثالي في الشعور العربي القديم، ولكن ما إن بدأت الحضارة في التطور حتى بدأت اللغة الإلهية في التراجع وحلت محلها لغة عقلية خالصة كما اتضح ذلك في علم أصول الدين المتأخر، وكما وضح بصورة أوضح في علوم الحكمة.
- (أ)
- (٢) واللغة القديمة لغة دينية تسودها ألفاظ تشير إلى موضوعات دينية خالصة مثل: دين، ورسول معجزة، نبوة، وهي لغة عاجزة عن إيصال مضمونها للعصر الحاضر، فاللفظ التقليدي «دين» لا يؤدي وظيفته في الإيصال، فإذا كان لفظ «الله» يحتوي على تناقض داخلي في الإيصال بالإضافة إلى تضارب معانيه، وكلها قد تعارض المقصود منه، فإن لفظ «دين» وإن كان يمكن التعبير به عن المقصود منه، إلا أنه لا يمكن أداء وظيفته في الإيصال نظرًا للمعاني العديدة التي التصقت به طول تاريخ استعماله، بل والتي تتعارض أحيانًا مع المعنى الأصلي له الموجود في المعنى الاشتقاقي أو في المعنى الاصطلاحي الشرعي، وهو المعنى الأصلي القبلي الذي أتى به الوحي، فنظرًا لهذه الشحنة من المعاني الغريبة عن اللفظ والملصقة به فإن اللفظ يفقد معناه الأصلي، بل ويفقد كل قدرته على إيصال أي معنى حتى ولو كان المعنى الأولي له لما يلتصق به من معاني مضادة، بل ويستحيل إعطاء أي معنى جديد له لأن هذا المعنى الجديد بمفرده لا يمكنه مقاومة تاريخ طويل من المعاني الوافدة عليه، ولفظ «دين» أصبح لفظًا «منعرجًا» ذا طرف واحد لا يوصل إلا معنى واحدًا وهو الغالب أي أنه لا يوصل إلا أحد الجوانب في صورته المتطرفة، وهو الجانب الإلهي أو الخارق للعادة أو الأخرويات أو ما وراء الطبيعة، فكل دين بالضرورة يفيد هذا المعنى، وكل «مادة» للدين تكون من هذه العينة، كلها تشير إلى هذا الجانب الواحد، بل وأصبحت هذه المادة عينة مختارة ونموذجًا لكل الأديان الممكنة دون أي تصنيف لنوعيات الأديان إلى دين تاريخ ودين وحي، دين ما وراء طبيعة ودين طبيعة، دين سر ودين علن، دين لا عقل ودين عقل، دين سلطة ودين فرد، دين خطيئة ودين براءة، دين طقس ودين تقوى، دين كهنوت ودين عالم، دين إله ودين إنسان … إلخ، ودون أي مراعاة لتطور الدين في مراحله المختلفة، فنظرًا لأن لفظ «دين» له استعمالات كثيرة، ويفيد معاني متناقضة فإنه أصبح يشير إلى ما لا يقصد به، فهو يشير إلى التاريخ أكثر مما يشير إلى الوحي، ويشير إلى التاريخ السياسي والاجتماعي للدول المعتنقة لهذا الدين أو إلى العلوم الدينية التي نشأت منه أو إلى المذاهب والتيارات الفكرية التي أسسها بعض المعتقدين به أو إلى مجموعة من العقائد التي نشأت من تصورات معينة في مرحلة محدودة من تطور الحضارة التي نشأ فيها هذا الدين، وهي كلها لا تفيد معنى الدين والمقصود منه في الوحي أو في عصرنا الحاضر طبقًا لمتطلباتنا الحالية، لقد كانت اللغة الدينية ضرورة أولى في نشأة الحضارة، ولكن ما إن تقدمت الحضارة حتى بدأت اللغة الدينية تتراجع وتأتي محلها لغة عقلية خالصة كما هو الحال في علم أصول الدين المتأخر، ولما كان لفظ «دين» قاصرًا عن أداء المعنى فإن لفظ «أيديولوجية» أقدر منه على التعبير عن الدين المعني وهو الإسلام، وإيصال معناه لأن الوحي مجموعة من الأفكار والتصورات تصدر منها أنظمة وشرائع خرجت من الواقع «بأسباب النزول» وتكيفت حسب الواقع «بالناسخ والمنسوخ» وهدفها تغيير الواقع إلى واقع أفضل منه، فالحاكمية لله تعني تحقيق الوحي كنظام اجتماعي وإنشاء الدولة التي تعبر عن الكيان السياسي للأمة، وذلك عن طريق المؤمنين وهم الحزب الطليعي، أو بمعنى معاصر هم الحزب «البروليتاري» الذي يقوم بتحقيق الأيديولوجية في التاريخ.٤وكذلك لفظ «الإسلام» مشحون بعديد من المعاني كلفظ «دين» فإن أمكن، من الناحية النظرية على الأقل التعبير به عن معنى فإنه لا يمكن ذلك من الناحية العملية، وذلك لأنه أصبح هو أيضًا محملًا بما لا حصر له من المعاني التي قد تتفق أحيانًا مع المعنى الأصلي للفظ، وليس من الضروري أن تقوم هذه المعاني في ذهن المتعلم أو السامع، ولكن يكفي أن تكون شائعة في الجو الثقافي كي يستحيل بعدها استعمال اللفظ للتعبير به عن المعنى الأصلي وإيصاله، فهو أساسًا مصطلح يشير إلى دين معين وإلى ميدان معين وليس لفظًا عامًّا يدل على معنى مستقل عن كل ميدان مثل: حرية، تحرر، مساواة، إنسانية، وحتى لو استعمل اللفظ ابتداءً من معناه الاشتقاقي فإن معناه التاريخي يكون أقوى وأمثل للأذهان، ومن الصعب تجريد الذهن وتخليصه من المعنى الشائع وإلزامه بالمعنى الاشتقاقي الأول، فلفظ «التحرر» هو اللفظ الجديد الذي يعبر عن مضمون «الإسلام» أكثر من اللفظ القديم، فالذي يسلم لله يتخلص أولًا من كل ما يكبل الإنسان من القيود وهو فعل التحرر الذي يبدأ بالنصف الأول من الشهادة «لا إله»، فإذا تحرر الإنسان من القيود فإنه يقوم بالفعل الثاني وهو الإثبات «إلا الله» فيسلم لله؛ فالإسلام هو تحرر الشعور الإنساني من كل قيود القهر والطغيان مادية أو سياسية،٥ ولفظ «السلام» أيضًا يعبر أكثر عن مضمون «الإسلام» من اللفظ ذاته؛ لأن الإسلام هو الذي يحقق السلام الداخلي للإنسان بعد تحرره من كل قيود القهر والاستعباد، ثم هو الذي حقق المجتمع الواحد الذي لا طبقات فيه ولا استغلال ولا احتكار؛ ومن ثَم ينشأ السلام في المجتمع، وهو أيضًا الذي نظم علاقات الأمم، بعضها مع البعض الآخر على أساس من السيادة المتبادلة وأحلاف السلام.
- (٣)
واللغة في تراثنا القديم لغة تاريخية تعبر عن وقائع تاريخية أكثر من تعبيرها عن الفكر، فهناك الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية في أصول الفقه، والمعتزلة والأشاعرة والخوارج والشيعة في أصول الدين، والكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد في الفلسفة، ورابعة والحسن البصري والحلَّاج والغزالي وابن الفارض والسهروردي وابن عربي وابن سبعين في التصوف، وكل هذه الألفاظ لا تشير إلا إلى وقائع تاريخية، وأشخاص أو حوادث أو مناطق جغرافية، وليست مفاهيم علمية لها دلالتها المستقلة، صحيح أن العلوم العقلية القديمة نشأت في أحضان التاريخ وفي بيئات جغرافية، وحسب مقتضيات الظروف، فارتبطت العلوم بأسمائها، وارتبطت العلوم بأسماء من اشتغلوا بها، والتيارات الفكرية بأسماء من اعتنقوها، وإذا كان تراثنا القديم قد وقع بذلك فيما وقع فيه التراث الغربي فإن مهمتنا هي القضاء على تشخيص الأفكار، فالأفكار لا أسماء لها، بل هي أفكار عامة شائعة في كل زمان ومكان، وتظهر في كل حضارة، ونحن نعاني من نسبة الأفكار إلى أشخاص، ونخلط بين الصراع الفكري والصراع الشخصي، وينقلب الحوار بين الأفكار إلى صراع بين الأشخاص، وإلا لكان الإسلام محمديًّا، والعقل معتزليًّا، والنقل أشعريًّا، والطبيعة نظَّامية أو جاحظية والشورى سنية، إن التشبيه والتنزيه لا شأن لهما بالأشاعرة والمعتزلة بل هما موضوع شعوري مستقل، وقد اقترب تراثنا القديم من ذلك عندما ضم كل مجموعة من العلماء تحت الفكرة التي يدافعون عنها فهناك «أصحاب الطبائع» معمر الجاحظ وثمامة والنظَّام ضمن أهل التوحيد والعدل وهم المعتزلة، وهناك المشبهة والمعطلة، والمجسمة، والقدرية، والمرجئة، والإمامية، والشيعة، والمعتزلة، والخوارج، وأهل السنة … إلخ، فالفكرة هي الأساس، ومهمتنا نحن إبراز استقلال الفكرة عن قائليها وعن الأماكن التي ظهرت فيها مثل الحرورية، وعن الحوادث التاريخية التي بدأت فيها مثل المعتزلة والشيعة والخوارج، فيبقى لدينا التجسيم والتشبيه والتعطيل، والقدر، والإرجاء، والإمامة، ومهمتنا إحياء الأفكار من منازل الموتى.
- (٤)
واللغة في تراثنا القديم لغة تقنينية، تضم الوجود وتضعه في قوالب، فهناك قانونية المصطلحات في أصول الفقه، والتقسيمات العقلية في أصول الدين والفلسفة على السواء، وكلها تبدأ بعبارات مثل «يجب على» أو «من الواجب أن»، وكأن الحياة يمكن أن يُفرض عليها قانون من الخارج، وكأن الإنسان ما هو إلا مستقبل لتشريعات مفروضة عليه من كل علم، باستثناء أصحاب الطبائع الذين أرادوا فهم كل شيء على أنه طبيعة، لقد كانت اللغة القديمة على اتفاق تام مع نشأة الدين، وتلائم طبيعة الظروف التي نشأت فيها العلوم التقليدية وتطورت، فالدين أتى مشرعًا للواقع، ومصدرًا للأحكام ولكن لغة التقنين لا تصح لكل عصر، فعصرنا مشابه لعصر الوحي القديم وقت نزوله، واقعنا مشكل ينادي على حل، واقعنا مأزوم يبغي الفرج، ولا يأتي ذلك إلا بإطلاق قواه، فالواقع يقتضي فكرة كما اقتضى الواقع القديم الوحي، صحيح أن تقنين الثورة من قاموسنا المعاصر، ولكنه لا يعني فرض قوانين على الواقع بقدر ما يعني تنظيم ما يفرضه الواقع من تغير ثوري حتى لا يجهض أحد ما هذه التغيرات أو يستغلها لحسابه الخاص، «فالواجب» مثلًا لفظ مستعمل في أصول الدين، النظر أول الواجبات، ومستعمل أيضًا في أصول الفقه، الواجب أول الأحكام الخمسة: الواجب، والحرام، والمندوب، والمكروه، والمباح، فهي ألفاظ توحي بأن الإنسان ما هو إلا آلة للتطبيق، وأنه فاقد حريته، في حين أن التعبير بألفاظ أخرى مثل الطبيعة، والانطلاق، والازدهار فيها تأكيد للذات، وإثبات لحريتها، وتحقيق لوجودها.
- (٥)
واللغة في تراثنا القديم لغة صورية مجردة، فهناك تقسيمات عدة للوجود إلى ممكن، وواجب، ومستحيل، وجوهر، وعرض في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة، وهناك أيضًا تفريعات عدة يُفتقد الموضوع خلالها، وفي علم أصول الفقه هناك تقسيمات عدة لأنواع العلل إلى موجبة، وقاصرة، ومؤثرة، ومناسبة، وملائمة، دون أن ندري ما هو الواقع وراءها، وفي التصوف هناك تقسيمات أخرى للطبيعة ولمقولات الطبيعة، ولكنها تتحول كلها إلى تجريد خالص فتفقد اللغة المستعملة مباشرتها وواقعيتها وإنسانيتها، أما ألفاظ التاريخ، والجماهير، والأنا، والآخر، والإنسان، والعالم، والتقدم، والتخلف، فهي أكثر إيحاءً للمعاني، وهي تمثل أيضًا منطقًا عمليًّا أو جدلًا تاريخيًّا أو بناءً اجتماعيًّا، وهو أسلوب العصر ولغة الجيل، إن التجريد ينشأ بعد نشأة العلم، كموضوع وكمنهج وكبناء، ونحن الآن بصدد إعادة بناء العلوم من حيث النشأة، ومن ثَم فمستوى التجريد في العلوم لا يلائم مرحلتنا الحالية في إعادة بنائنا للعلم ووصف نشأته وتكوينه من جديد.
- (٦)
واللغة التي يرفضها العصر حتى ولو كانت لغة قديمة لا يمكن استعمالها من جديد، فمهما أمكن إبراز معنى الخلافة أو الإمامة من شورى، وبيعة، واختيار إلا أن اللفظ لا يستعمل نظرًا للشحنات التاريخية، والخلافات المذهبية التي تشع منه، فلو حاول أحد الآن عمل نظرية في الخلافة لوجد آذانًا صماء، كما لو حاول أحد أن يعمل نظرية في التجسيم أو في التشبيه لوجد عداءً وتكفيرًا، كما لو استعمل أحد لفظ الإلحاد «والكفر» لكان أشبه بمن يرطم رأسه بصخر، ويقف الهدف من «التراث والتجديد» وهو عمل ثقافة وطنية يمكن التعبير عنها بلغة يقبلها الشعور العامي، فالألفاظ التي يتقبلها العصر هي التي يمكن استعمالها، بل إن في العصر ألفاظًا تجري مجرى النار في الهشيم مثل: الأيديولوجية، التقدم، الحركة، التغير، التحرر، الجماهير، العدالة، وهي الألفاظ التي لها رصيد نفسي عند الجماهير، والتي يمكن أن تعبر عن ثقافة وطنية يمكن تكوينها، لا يعني ذلك تملق الجماهير أو اللعب على أوتارها الحساسة، بل تعني أخذ العُرف في الاعتبار، والمعنى العرفي جزء من معنى اللفظ عند علماء اللغة القدماء، كما جرت العادة على نقل العرف من المعنى إلى اللفظ، ويعني أيضًا تطويع اللغة في نشأتها واختيار ألفاظها إلى متطلبات الواقع حتى لا تقع في انعزالية الثقافة بصورية اللغة.
اللغة التقليدية إذن قاصرة عن أداء وظيفتها في إيصال المعاني التي يمكن للباحث أن يعبر عنها للآخرين، فإذا بدأ الباحث برؤية الشيء، وفهمه لمعناه ثم وضعه في اللفظ المناسب للتعبير فإن السامع يبدأ بسماع اللفظ ثم يتحدد معناه ثم يرى الشيء الذي رآه الباحث أولًا، فإذا كان تجديد اللغة مهمًّا بالنسبة للباحث بإعطائه المعنى وإشارته إلى الشيء، فإنه مهم أيضًا بالنسبة للآخر باستقباله المعنى ورؤيته للشيء.
(١-٢) مميزات اللغة الجديدة
- (١) أن تكون اللغة الجديدة عامة، بل وأكثر درجات اللغة عمومًا حتى يمكن بها مخاطبة كافة الأذهان؛ فمثلًا لفظا عام وخاص في أصول الفقه لفظان عامان يمكن لكافة الأذهان فهم المراد منهما، بل ومناقشة المضمون واقتراح تغيير أحدهما أو تغييرهما تغييرًا كاملًا. وكل مصطلحات أصول الفقه — خاصةً فيما يتعلق بمناهج الرواية أو بمناهج اللغة ألفاظ عامة — يمكن أن تنطبق على أي تراث وعلى أي نص ديني.٦ وفي أصول الدين، النظر والعمل لفظان عامان يمكن لكل الأفهام أن تحصل على المراد منها، وكذلك ألفاظ الحرية والاختيار، العقل والنقل، كلها ألفاظ عامة لا تخص حضارة بعينها، وتعبر عن أكبر قدر من العمومية لأكبر عدد ممكن من الناس، بل إن من خصائص لغة العلم المحكم هي أنها تكون عامة، حيث يمكن العلماء في أي مكان وفي أي عصر التعامل بها، بذلك يَفضُل العلم اللغة الرياضية والرموز. أما مصطلحات الصوفية فإنها تحتوي من قبل على درجة كبيرة من العمومية نظرًا لأنها تعبير مباشر عن الوجدان، والوجدان واحد عند كل الناس، ومن ثَم تصبح عملية «التراث والتجديد» عملية جماهيرية وثقافية وطنية يقرؤها الجميع وتسد فيهم النقص النظري في فكرنا المعاصر، كما تستطيع أن تصوغ لغة واحدة يستعملها المثقفون بصرف النظر عن تخصصاتهم ومواقفهم الفكرية، وتكون اللغة المشتركة، وكثيرًا ما ضاع الفكر من أجل خصوصية اللغة كما هو الحال في الفكر المسيحي الذي يصر على استخدام لغته الخاصة في العقائد، وكثيرًا ما ثبت الفكر بفضل عمومية اللغة كما هو الحال في بعض جوانب تراثنا القديم.
- (٢)
أن تكون اللغة الجديدة مفتوحة، تقبل التغيير والتبديل إما في مفاهيمها أو في معانيها أو حتى في وجودها، وإما بإبقائه أو بإلغائه كليةً. اللغة المفتوحة ليست جامدة محددة، بل تقبل إضافات وتغييرات كل خبرة إنسانية فردية أو مشتركة، فيمكن النقاش مثلًا في العام والخاص هل هما الكلي والجزئي المنطقيان أم هما الكلي والجزئي في الفلسفة أم هما مقولتان سلوكيتان. فالخاص خطاب للفرد والعام خطاب للناس جميعًا، ويمكن النقاش أيضًا في علم أصول الدين إذا كان النظر والعمل وجهين لشيء واحد أم شيئين مستقلين وإذا كانا يوازيان اليقيني والظني أم لا؟ أو التساؤل عن النقل والعقل هل هما شيء واحد أم شيئان مختلفان، وإلى أي حد هناك اختلاف، وما هي وظيفة كل منهما؟ وكذلك يمكن التساؤل في الفلسفة عن قسمة الوجود إلى واجب وممكن، أو إلى جوهر وعرض، أو إلى موجود بذاته وموجود بغيره، وإلى أي حد يمكن قبول هذه القسمة أو رفضها؟ وفي التصوف يمكن أيضًا الاستفسار عن معنى الأنس، والوجد، والقرب، والبعد، والهجر، والوصال … إلخ، ومناقشة التجارب النفسية التي وراءها، ومن ثَم يمحى خطر التعقيد اللغوي السائد في فكرنا المعاصر، والتشدق بالألفاظ والمفاهيم الصعبة، وكلما ازدادت اللغة صعوبة عظم الفكر عمقًا، وصرخ الباحث أن اللغة العربية غير طيعة للتعبير عن هذه المفاهيم الحديثة والتصورات العصرية والعلوم اللسنية كما يحدث أحيانًا عند إخواننا الباحثين الشوام والمفكرين المغاربة لزيادة في تغربهم ونقص في تعربهم.
- (٣)
أن تكون اللغة عقلية حتى يمكن التعامل بها في إيصال المعنى، وأية لغة قطعية لن تعبر عن شيء لأنها مغلقة على نفسها، ولا تكون لغة اصطلاحية لأن هذه هي ما اصطلح عليه الناس. واللغة القطعية لغة توقيفية خالصة، إما أن تقبل أو ترفض، ولكن لا يمكن تغييرها أو إعطاؤها معاني جديدة. اللغة العقلية هي التي يفهمها كل الناس بلا شرح أو تعليق أو سؤال أو استفسار، بل يفهمها العقل بطبيعته، ويتعامل معها كأنها منه؛ فالعمل، والحرية، والشورى، والطبيعة، والعقل، كلها ألفاظ عقلية في علم التوحيد لا يمكن للعقل أن يرفضها، أما ألفاظ الله، والجنة، والنار، والآخرة، والحساب، العقاب، والصراط، والميزان، والحوض، فهي ألفاظ قطعية صرفة لا يمكن للعقل أن يتعامل معها دون فهم أو تفسير أو تأويل؛ لذلك سماها تراثنا القديم السمعيات وأخرجها من العقليات، لذلك لا يمكن استعمالها استعمالًا شائعًا عاديًّا مثل لغة الخطيئة، والتجسد، والخلاص، والفداء، والسر، والشخص، والأقنوم. صحيح أن تراثنا الإسلامي أقل إيغالًا بكثير من أي تراث آخر مسيحي أو يهودي أو بوذي، وأن كثيرًا من الألفاظ السياسية المعاصرة لترقى إلى الكهنوت، ومن ثَم استحال أيضًا استعمالها مثل: تحالف قوى الشعب العامل، الاشتراكية، الاتحاد الاشتراكي، والرأسمالية الوطنية منذ عشر سنوات، والإيمان، وسيادة القانون، وأخلاق القرية هذه الأيام، وكما هو الحال أيضًا عند بعض الماركسيين المحدثين الذين لا يعبرون عن فكرهم إلا بمقولات الجدل، والكيف، والكم، والتناقض، والسلب، والنفي، والمادية، والتاريخية، والصراع، والطبقات، وملكية وسائل الإنتاج، ونمط الإنتاج، والقيمة، وفائض القيمة … إلخ، والنتيجة هي نفور الشعب من قاموس السياسة؛ فمصطلحاته القديمة بالرغم مما فيها من عيوب يدركها المستنيرون، أكثر تعبيرًا عن أشواقه وتطلعاته.
- (٤)
أن تكون اللغة لها ما يقابلها في الحس والمشاهدة والتجربة حتى يمكن ضبط معانيها والرجوع إلى واقع واحد يكون محكمًا للمعاني ومراجعًا إذا تضاربت وتعارضت؛ فألفاظ الجن والملائكة والشياطين، بل والخلق والبعث والقيامة كلها ألفاظ تجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس، ولا تؤدي دور الإيصال، وكذلك ألفاظ العقل الفعال، والعقل المنفعل، والعقول العشرة، وأرواح الأفلاك، والروح؛ كلها ألفاظ لا تشير إلى أشياء في الواقع وتجسيمات لمعاني إنسانية خالصة يمكن التعبير فيها بلغة عقلية تشير إلى شيء موجود بالفعل في الحس والمشاهدة. وكذلك ألفاظ عين الله، ويد الله، وقلب الله ووجه الله، وصعود الله، ونزوله، وجلوسه، وقيامه؛ كلها ألفاظ لا يمكن استعمالها لأنها أقرب إلى الصور الفنية منها إلى ألفاظ إخبارية. وكذلك الميزان والصراط والأعراف والحوض ومنكر ونكير وكل ما أطلق عليه العلماء القدماء السمعيات لا تشير إلى حس ومشاهدة إلا عن طريق تأويل معاني الألفاظ واستعارة الألفاظ الحسية للدلالة بها على معانٍ إنسانية. وإن اللغة بطبيعتها من خلال المعاني الاشتقاقية للألفاظ تنشأ من الحس وتخرج من الواقع، ولا يوجد معنًى للفظ إلا وقد نشأ أولًا من التربة والطين والأرض، ويظل هذا المعنى هو أساس المعنى الاصطلاحي، وقد بدأ الأصوليون تجديد معاني مصطلحاتهم بالبحث عن المعنى الاشتقاقي للفظ؛ فهو المعنى الأول والأصيل والذي يكون ركيزة المعنى الاصطلاحي، ولا يكون المعنى الاصطلاحي في الحقيقة إلا تصحيحًا للمعنى الاشتقاقي ونقله من التربة والأرض إلى العلاقات الإنسانية؛ فالزكاة في أصلها النماء، والصلاة في أصلها العلو، والشهادة أصلها الحس والواقع والرؤية، وبالتالي يمكن حماية فكرنا المعاصر من جعبة ألفاظه التي تدل على شيء كما يمكن بذلك القضاء على انعزالية الفكر وعزلة المفكرين.
- (٥)
أن تكون اللغة إنسانية لا تعبر عن مقولة إنسانية كالنظر، والعمل، والظن، واليقين، والقصد، والفعل، والزمان، والباعث، فهي كلها ألفاظ تشير إلى جوانب من السلوك الإنساني لواقع في الحياة اليومية، يقابلها كل إنسان ويستعملها مهما كانت عقيدته أو مذهبه أو تياره الفكري، أما ألفاظ القديم، والحادث، والجوهر، والعرض، والوجود، والماهية، والجهة، والإضافة، فكلها ألفاظ وإن كانت عقلية عامة إلا أنها لا تستعمل لوصف سلوكنا اليومي بالإضافة إلى أن طابعها المجرد قضى على الموضوع ذاته، واللغة هي تعبير وإيصال للمعنى وليست قضاءً عليه ومحو الشيء المشار إليه، أما اللغة التي لا تعبر عن مقولات إنسانية مثل «الله» والجواهر المفارقة، والشيطان، والملاك، فهي لغة اصطلاحية عقائدية تشير إلى مقولات غير إنسانية إلا إذا أولناها وفسرناها وأعطيناها مدلولات إنسانية، فالله يصبح هدف الإنسان وغايته ورسالته ودعوته في الحياة، والشيطان يصبح هو المعارض الذي يمثل الغواية والخطأ والحافز، والملاك يصبح هو ما يرجوه الإنسان من طمأنينة وخير ورحمة وأمن واستقرار ودعة، وبالتالي يمكن نقل عصرنا من مرحلة التمركز حول الله وهي المرحلة القديمة إلى مرحلة التمركز حول الإنسان وهي المرحلة الحالية، كما يمكن اكتشاف الإنسان الغائب في تراثنا القديم والممحو في وجداننا المعاصر، والإنسان كامن في تراثنا القديم ولكنه مغطى ومستور، وعصرنا الحالي هو عصر الإنسان، وبالتالي تكون مهمة عصرنا إبراز المستور، والكشف عن الإنسان، وتلك هي مهمة «التراث والتجديد» في أول محاولاته من أجل إعادة بناء علم أصول الدين على أنه «علم الإنسان».
- (٦)
أن تكون لغة عربية وليست مستعربة أو معربة عن طريق النقل الصوتي للغات والألفاظ الأجنبية بدعوى قصور اللغة العربية عن الإمداد بمفاهيم حديثة تعبر عن مضمون العصر واكتشافاته، وقد وقع إخواننا الشوام والمغاربة في هذه الألفاظ المستهجنة بدعوى التحديث، والخطورة هي جعل الحديث من الخارج وليس من الداخل، وبفضل وسائل دخيلة وليس عن طريق تطور طبيعي لثقافتنا القديمة، فاللفظ الأجنبي قد يكون له لفظ عربي يعبر عن مضمونه وإن كان مختلفًا عنه في الشكل، صحيح أن في تراثنا القديم عديدًا من الألفاظ المستعربة مثل موسيقى، وأنالوطيقا، وأوثولوجيا، ولكن ذلك قد حدث في أوائل عصر الترجمة، ولكن بعد أن استقرت المعاني خرجت الألفاظ العربية لتعبر عنها مثل الألحان، والتحليلات، والإلهيات، والموضوع ليس شكليًّا صوريًّا بل يتعلق بالمضمون، فاللغة هي الثقافة ونشر اللغة بألفاظها هو في نفس الوقت نشر لثقافة، والألفاظ المستعربة دعوة إلى تبني الثقافة الدخيلة وترك الثقافة الأصيلة وكأن مفاتيح العلوم والفكر والثقافة هي عند الثقافات الأخرى وليست في ثقافتنا الخاصة؛ لذلك حرص «التراث والتجديد» على تجنب الألفاظ المستعربة من أجل المحافظة على الأصالة اللغوية، فهي شرط التعبير عن أصالة الفكر.
(١-٣) اللفظ والمعنى والشيء
ويمكن إخضاع التجديد اللغوي إلى منطق محكم يقوم على التعبير المطابق للمعنى والذي يقوم بوظيفته في الإيصال، فالمنطق اللغوي يشمل جانبين: جانب التعبير وجانب الإيصال، وهما لا ينفصلان بل يشيران معًا إلى حياة اللفظ ودورانه بين المتحدث والسامع، ويمكن وصف هذا المنطق لتجديد اللغة بطرق ثلاث: إما بالانتقال من اللفظ التقليدي إلى معناه، وإما بالانتقال إلى معنى اللفظ التقليدي إلى لفظ جديد، وإما بالانتقال من الشيء نفسه الذي يشير إليه اللفظ التقليدي إلى لفظ جديد.
-
(١)
من اللفظ التقليدي إلى لفظ جديد: نظرًا لنقصان اللغة التقليدية في التعبير عن كل محتويات اللفظ من معانٍ أصلية وفرعية، أو أشياء تشير إليها هذه المعاني، ونظرًا لأن هذه المعاني وهذه الأشياء تكون دائمًا منطوية على نفسها داخل اللفظ التقليدي الذي يفقدها حيويتها وجدتها بل وواقعيتها ووجودها فإنه يمكن الانتقال من لفظ تقليدي إلى لفظ جديد له قدرة أكثر على التعبير وعلى إظهار المعاني وعلى الإشارة إلى الأشياء نفسها، والألفاظ التقليدية ليست معيبة في ذاتها باعتبارها ألفاظًا أي ليست إلهية أو دينية أو تاريخية أو تقنينية أو مجردة، كما أنها ليست محدودة مغلقة صورية، بل هي ألفاظ عامة، مفتوحة، عقلية، إنسانية، تشير إلى واقع حسي مباشر ولكن ليس بما فيه الكفاية؛ لأنها لا تعبر عن مضمونها ولا توحي بالأشياء التي تشير إليها حتى ولو كان اللفظ التقليدي صالحًا للاستعمال مثل لفظ «الإجماع» أو «الاجتهاد»، فإنه نظرًا لأنهما أصبحا يعبران عن مذاهب فقهية تاريخية محدودة ويشيران إلى بيئة ثقافية معينة بل وإلى جدل ومهاترات يتحول مضمونها إلى قضايا، فإنه من المستحيل استعمالها من جديد بعد تجريدها من كل ما علق بها من تاريخ جدل طويل، أما لفظ الخبرة بين الذوات أو «التجربة المشتركة» فهو لفظ معاصر يثير وجدان المعاصرين، ويدل على نفس مفهوم اللفظ القديم دون أن يثير عيوبه، وكذلك لفظ «شرعي» ولو أنه لفظ عقلي، فالفكر يشرع للواقع، إلا أنه ما زال لفظًا دينيًّا، وقانونيًّا، وتاريخيًّا، ويمكن التعبير عن معناه بلفظ «قبلي» وهو المعطى السابق، فهو لفظ أعم، ويركز المعنى في اتجاه واحد وهو الطابع القبلي للوحي، على الأقل من حيث مصدره لا من حيث باعثه أو محك صدقه؛ لأن باعثه ومحك صدقه هو الواقع.
والانتقال من لفظ تقليدي إلى لفظ تقليدي آخر مشابه لن يقدم شيئًا؛ لأن المشكلة تظل باقية وهي استحالة التعبير عن المعاني الأولية بالألفاظ التقليدية، وإلا وقعنا في الشروح على المتون عندما كانت تستبدل ألفاظ قديمة بألفاظ أخرى قديمة، فالله والخالق يدلان على نفس المفهوم، والألفاظ العقلية والتقليدية مثل الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، إلى آخر ما هو معروف من أسماء الله كلها ألفاظ تقليدية لا يفيد تبديل أحدهما بالآخر، ولكن الانتقال من «الله» إلى «الإنسان الكامل» يعبر عن كل مضمون الله، فكل صفات الله: العلم، والقدرة، الحياة، والسمع، البصر، والكلام، والإرادة كلها هي صفات الإنسان الكامل، وكل أسماء الله الحسنى تعني آمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها، «فالإنسان الكامل» أكثر تعبيرًا عن المضمون من لفظ «الله».٧وعلم أصول الفقه مثلًا يدور ثلثه على الرواية سند ومتن، تواتر وآحاد للسند، ونص ومعنى للمتن، ولكن لفظ الرواية له معنى ضيق وهو العنعنة كما في علوم الحديث، ولا يشير إلا إلى طرق الرواية المعروفة في علوم الحديث من تواتر وآحاد ومرسل ومنقطع ومشهور مع أن الرواية هي نص الوحي، ويشير إلى التاريخ باعتباره زمانًا للانتشار وإلى المنطق باعتباره منهجًا للنقل، فالتاريخ هو العصر ليس فترة محدودة تحديدًا تعسفيًّا بقرن أو بغيره، ولكن بالوجود الزماني للفرد، فالعصر هو الجيل، هناك العصر الأول، والثاني، والثالث، والرابع، أي الجيل الأول، والثاني، والثالث، والرابع، ومناهج النقل من تواتر وآحاد إن هما إلا طبيعة العلاقات بين الرواة من حيث اتصالهم واستقلالهم، فلفظ «منطق التاريخ» يفيد معاني أعم وأعمق، ويشير إلى موضوعات أكثر وأوقع مما يفيد لفظ الرواية.
والثلث الثاني من علم أصول الفقه خاص بمبحث الألفاظ، فهذا التعبير يشير إلى دراسات لفظية محضة متناثرة دون أن يكون بينها ترابط منطقي أو بناء عام، فهناك الحقيقة والمجاز، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤوَّل دون أن يجمع هذه الثنائيات اللفظية أي جامع بينهما، أما لفظ «منطق اللغة» فإنه يشير إلى إمكانية دراسة هذه القسمة كلها في منطق واحد باحثًا عن دلالتها ومعناها، فالحقيقة والمجاز يشيران إلى موضوع التصوير الفني باعتباره أسلوب الوحي في الخطاب، والمحكم والمتشابه يشيران إلى ثنائية المعنى للفظ الواحد، والظاهر والمؤوَّل يشيران إلى إمكانية فهم المعنى على مستويات مختلفة من العمق، والمجمل والمبين يشيران إلى ثنائية المعنى مع اختيار أحدهما كأساس نظري للسلوك، والخاص والعام يشيران إلى مبحث لفظي أو منطقي أو فلسفي دون أن يشيرا إلى موضوعهما وهو البُعد الفردي داخل اللغة، وجود الإنسان والجماعة، الأنا والآخرون داخل الخطاب.
والثلث الأخير من علم أصول الفقه هو الأحكام، ولفظ «الأحكام» يفيد قضايا عقلية خاصة بالمنطق أو قانونية خاصة بالقضاء، ولا تشير إلا إلى هذه القضايا الصادرة إما لوجودها المنطقي أو لوجودها اللغوي، وفي بعض الأحيان إلى تطبيقاتها الفعلية، في حين أن هذا اللفظ في الأصول يفيد الفعل، ويشير إلى «منطق السلوك»، فدراسة الأحكام باعتبارها منطقًا للسلوك تثير كل معاني المنطق العملي، وتبرز موضوعاته الخاصة بالقصد والنية، والنظر والعمل، والباعث والمانع … إلخ، وكذلك لفظا «مقاصد الشارع» يفيدان مقاصد الوحي وهي المحافظة على الوجود الإنساني في شتى صوره، فالابتداء هي الحياة، والأفهام تشير إلى العقل، والتكليف يشير إلى الفعل، والامتثال يدل على الدعوة في الحياة، وكذلك لفظا «أحكام الوضع» لا يفيدان ولا يشيران إلى شيء لأنه مصطلح يعبر عن وصف موضوعي لميدان السلوك أو موقف معين للفعل، فهناك السبب وهي الإرادة، والشرط وهي القدرة، والمانع وهي العقبة أو الصعوبة، والعزيمة والرخصة وهما صورتا الفعل المطلق والنسبي أو المثالية والواقعية، وأخيرًا الصحة والبطلان أي صدق الفعل أو كذبه من ناحية الموقف كله وعلى وجه الخصوص من ناحية النية.٨ -
(٢)
من المعنى الضمني إلى لفظ جديد: إذا كان الانتقال من لفظ جديد قائمًا أساسًا على أن اللفظ التقليدي لا يعبر بما فيه الكفاية عن المعنى الكامن فيه ولا يشير بوضوح أو لا يشير تمامًا إلى الموضوع المراد فإنه في بعض الأحيان يكون اللفظ التقليدي لفظًا سلبيًّا مطلقًا ومعيبًا في ذاته، ولا يؤدي وظيفته غما في التعبير أو في الإيصال، فيترك تمامًا ثم يعبر عن معناه الضمني بلفظ آخر جديد يكون أكثر قدرة على التعبير عن هذا المعنى الضمني وإيصاله، فمثلًا لفظا الكفارة والحد لفظان سلبيان لأنهما يشيران إلى جزاء، في حين أن الكفارة هو نوع من إعادة بناء شعور الفرد بعد قيامه بفعل سلبي وأثره على نفسه ومعنوياته، فهو نوع من رد الاعتبار لكيان الفرد المثالي، أما الحد فهو إعادة بناء لشعور الفرد بعد قيامه بفعل سلبي عن طريق تأكيده لفعل إيجابي آخر لإثبات حُسن النية، فالكفارة اعتراف من جانب الفرد بعمل سلبي وتأكيد هذا الاعتراف بعمل إيجابي، أما الحد فإنه باعث على كشف الموقف نفسه الذي قام فيه الفرد بعمل سلبي على نفسه وعلى الغير، فبعد تحليل المعنى والكشف عن المواضع التي يثيرها اللفظ التقليدي يمكن بعد ذلك اختيار أحسن الألفاظ التي يمكن بواسطته التعبير عن التحليلات التجديدية، وكذلك لفظا المصلحة والمفسدة كأساس للشرع، فإن جلب المصلحة ودفع الضرر يخشى منهما أن تفسر المصلحة والمفسدة تفسيرًا نفعيًّا محضًا دون اعتبار للأساس النظري؛ ولذلك يمكن التعبير عن معنييهما بالإيجاب والسلب، وبذلك يحصل المعنى على أكبر درجة من العمومية، وكذلك لفظ «الأمر والنهي» فإنهما يدلان على قوانين مفروضة في صيغة افعل أو لا تفعل، مع أن الموضوع هو تحليل الزمان كموطن للفعل وكمقام له، ثم تحليل استمرار الفعل بتكراره، فيمكن إذن البحث عن لفظ جديد يتحاشى المعنى الذي يثيره اللفظ التقليدي والتعبير عن الموضوع نفسه، وأخيرًا فألفاظ «أحكام التكليف الخمسة» ألفاظ سلبية لا تعبر عن معناها ولا توصله أو أنها ألفاظ قانونية توحي بشيء مفروض من الخارج مثل واجب، وحرام، ومكروه، ومندوب، وحلال، مع أن هذه الألفاظ تشير إلى وضع الإنسان في العالم وإلى المستويات المختلفة للسلوك التي تتدرج بين قطب موجب وهو الواجب وقطب سالب وهو الحرام، أما وسط القطبين فهو الحلال الذي يمحى فيه السالب والموجب والذي يفيد بأن شرعية الأشياء في وجودها الطبيعي، أما الواجب فيفيد فعلًا ضروريًّا إيجابيًّا والحرام يفيد فعلًا ضروريًّا سلبيًّا، أما المندوب فهو وسط بين الواجب والحلال يفيد فعلًا ممكنًا إيجابيًّا والمكروه فعل وسط بين الحرام والحلال يفيد فعلًا ممكنًا سلبيًّا،٩ وفي أصول الدين نجد أن لفظي «ثواب وعقاب» لفظان سلبيان لأنهما قائمان على الجزاء والعقاب، فالثواب هو نتيجة إيجابية للفعل والعقاب نتيجة سلبية له، فخلود الفكر أو الفنان أو الشهيد عن طريق عمله هو ثوابه، وفناء الإنسان العادي ونسيان الآخرين له وكأنه لم يوجد هو عقابه؛ ولذلك يحتاج هذا المعنى إلى لفظ جديد يعبر عنه دون لفظي ثواب وعقاب، وكذلك لفظا «الدنيا والآخرة» لفظان سلبيان خاصةً اللفظ الثاني لأنه لا يعبر عن شيء محسوس يمكن التحقق منه في الحياة العملية، فالدنيا هي الوجود الزماني للفرد والآخرة هي الوجود كحضور في شعور الآخرين، ومن ثم يحتاج هذا المعنى إلى لفظين آخرين غير اللفظين التقليديين.
-
(٣)
من الشيء المشار إليه إلى لفظ جديد: إذا كان الانتقال من لفظ تقليدي إلى لفظ جديد سببه هو النقص النسبي في اللفظ التقليدي في قدرته على التعبير عن المعنى وإيصال الشيء المراد، وإذا كان الانتقال من المعنى الضمني إلى اللفظ الجديد سببه هو النقص الكامل للفظ التقليدي في التعبير عن المعنى والإشارة إلى الموضوع، فإن هذا الطريق الثالث هو الانتقال من الشيء المشار إليه لفظ جديد يبدأ من الشيء نفسه، ثم يعبر عنه بلفظ تلقائي، وأنه من التجاوز أن يسمى هذا اللفظ جديدًا؛ لأن ليس له مقابل تقليدي يعادله أو يوازيه، بل نشأ نشأة تلقائية للتعبير عن الموضوع والإشارة إليه، فمثلًا ألفاظ مثل «صورة» و«مضمون» و«موضوعية»، ألفاظ جديدة يمكن بواسطتها التعبير عن الهيكل العام لعلم أصول الفقه، فمثلًا في دراسة «الأخبار» أي في تحليل منطق التاريخ، تدرَّس مناهج الرواية باعتبار أنها صور للشعور التاريخي، والمصادر الأربعة للشرع باعتبارها مضمونًا له، وأخيرًا شروط الرواية والراوي اعتبارها موضوعية له، وكذلك الحال في منطق اللغة، فإن الألفاظ تكون صورة للشعور العقلي، ومباحث العلة تكون مضمونًا له، ثم شروط المفتي والمستفتي تكون موضوعيته، وفي دراسة الأحكام يكون الفعل صورة للشعور العملي والقصد يكون مضمونًا له ثم تحقق الوعي كنظام مثالي للعالم يكون موضوعيته، وكذلك استعمال لفظ «منهج» للإشارة إلى موضوع التواتر والآحاد باعتبارها مناهج للنقل الشفاهي أو لفظ «قطب» للتعبير عن قطبي الشعور العملي الإيجابي والسلبي أو الواجب والحرام أو لفظ «مستوى» للإشارة إلى الأحكام الخمسة باعتبارها مستويات مختلفة للسلوك، أو بناء نظري للإشارة إلى الأسس العقلية التي يقوم عليها أي موضوع.١٠ويعبر لفظ «الإنسان الكامل» عن علم التوحيد وعلم التصوف معًا، فمع أن علماء أصول الدين يتحدثون عن الله ذاته وصفاته وأفعاله، فإنهم في الحقيقة يتحدثون عن الإنسان الكامل، فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا إنسان مكبر إلى أقصى حدوده، وكذلك الصوفية عندما عبروا عن ذلك بأنفسهم ووصفوا الإنسان الكامل على أنه الإنسان المعتمد بالله،١١ وتأتي معظم هذه الألفاظ من اللغة العادية الشائعة تلقائيًّا بلا تكلف أو تعمد، وقد نشأ علم أصول الفقه نشأة تلقائية عندما استعمل الشافعي ألفاظ العام والخاص، ونشأ علم أصول الدين نشأة تلقائية بظهور ألفاظ التجسيم والتشبيه والتنزيه والجبر والأفعال، والعقل والنقل، والوعد والوعيد، والحسن والقبيح، والإيمان والعمل، والإمامة والشورى والتعيين.
(١-٤) مخاطر واشتباهات
- (١)
التعالم والحذلقة بالمفاهيم الجديدة دون فهم لمضمونها ودون تحقيق لمصادرها ودون معرفة عما إذا كان يمكن استخدامها بدلًا من اللفظ التقليدي المعيب أو للتعبير عن المعنى الكامن للفظ التقليدي أو للإشارة إلى الموضوع نفسه الغائب تمامًا في الألفاظ والمصطلحات التقليدية، فالمتعالم أو المتحذلق ليس باحثًا ولا مجددًا، بل مراهق فكري تستهويه بعض الألفاظ الجارية على الألسن، خاصةً في أجهزة الإعلام والمترجمات ويستعملها مدعيًا الثقافة الحديثة أو التجديد للقديم، ويوهم العلم الحديث بالجرأة على القديم وهو لا يعلم هذا ولا ذاك، ولكن يخفف من هذه الخطورة أن القائم بالتجديد هو عالم أمين لا يبغي حذلقة ولا يدعي علمًا، بل إنه ذو شعور صادق يحلل تجاربه المعاصرة التي يتحد فيها القديم والجديد معًا ويعبر عنها باللغة المتداولة، لغة العصر، وتظهر الحذلقة أو التعالم إلا في غياب العمل الرصين الجاد.
- (٢)
التعصب المذهبي الذي يؤدي إلى نوع من التعسف في عمليات التجديد اللغوي عن طريق اختيار نوع واحد من الألفاظ المغلقة للتعبير بها عن معنى واحد مما يشير إليه اللفظ التقليدي كي يطبع الفكر الجديد بطابع مذهبي خاص، وبذلك تفقد اللغة الجديدة مميزاتها الأساسية وهي أنها ألفاظ عامة وإنسانية مفتوحة، وتصبح ألفاظًا خاصة بمذهب معين ومغلقة على فكر خاص وتصدق على ميدان معين، ويتم هذا عن نقص في الوعي بالقديم أو عن شك فيه أو عن إنكار له أو عن إيمان به على الإطلاق، والباحث من هذا النوع يكون غير قادر على التراث والتجديد؛ لأنه لا يؤمن بالتراث ولا يقف منه موقفًا محايدًا خالصًا على الأقل، بل ولا تتوافر فيه شروط الباحث أي باحث لأنه بدأ بأفكار مسبقة ومواقف مبتسرة وهي انتسابه إلى مذهب فكري معين، كما أنه لا يؤمن بالتجديد، فالتجديد بالنسبة له هو استعارة الجديد وهو مذهب الفكر الذي ينتسب إليه، والذي يخفف من هذا الخطر أن القائم بالتجديد لا ينتسب إلى مذهب فكري معين ولا عقيدة فلسفية خاصة بل هو الشعور المحايد يعي الأفكار كلها في وقت واحد دون ما تحيز أو ميل أو هوى، وهو شعور عام يستطيع أن يرى كل المذاهب الفكرية وقد انضوت تحت بناء فكري واحد كوجهات نظر متعددة لحقيقة واحدة أو كتفسيرات مختلفة لموضوع واحد، فحياد الشعور وشموله هما الضمان.
- (٣)
سوء النية وهو تطرف في التعصب المذهبي إلى أقصى حد، يكون الباحث على وعي بذلك، ويقوم به مع سبق الإصرار والتعمد، يعبر الباحث عن المعاني القديمة بألفاظ جديدة من مذهب آخر لتحويل التراث كله من طابع إلى طابع آخر تعصبًا أو هادمًا التراث كله يريد حاقد بيان سطحيته أو زيفه، الباحث هنا ليست لديه الشجاعة الأدبية الكافية لرفض القديم وهو موقفه الشعوري والدعوة للجديد وهو موقفه المستتر تملقًا للجماهير أو خوفًا من السلطة أو جريًا على العادة وعلى أسلوب العصر، إن لوي التراث بطريقة تعسفية لا يفيد شيئًا لأن التجديد على هذا النحو لن يكون مقروءًا لا من القدماء ولا من المحدثين، ويكون عملًا متحجرًا لا ينبت منه لأنه مجتث الجذور ولا يزيد عن كونه هوامش حضارية ودوائر منعزلة لا أثر لها، ويكون الأثر للتراث القديم أو لتجديد التراث الذي يقوم على حُسن النية، وهذه ليست فقط قيمة خلقية بل هي شرط أساسي للمعرفة وأساس للعلم، ويخفف من هذا الخطر أن الباحث يبدأ بالتراث كقيمة وبالتجديد كقيمة، ومن ثَم فهو لا يدافع عن قيمة ضد قيمة أخرى ولا يبقي على التراث باسم التجديد أو يبقي على التجديد باسم التراث، ولكنه يقوم بتجديد التراث أي ضم قيمة إلى قيمة وإلا وقعنا فيما نحن فيه الآن من محاولات للعقلنة من الخارج، والتي تُسقِط على التراث مقاييس من خارجه.
- (١)
الشذوذ اللغوي؛ وذلك لأن الألفاظ الجديدة قد ينتابها بعض الاستهجان إن لم يحترس الباحث الجديد في اختيار الألفاظ الجديدة الشائعة والمتداولة، قد يكون اللفظ غريبًا غير مألوف، ولكن مما يقلل من هذه الغرابة اللغوية تحاشي النقل الصوتي للألفاظ من اللغات الأجنبية إلا ما هو شائع منها ومتداول، وما تحول منها إلى ألفاظ معربة شائعة في الاستعمال؛ وذلك لأن العثور على ألفاظ جديدة إنما يتم بصورة تلقائية دون تعسف أو تكلف، وقد يوفق الباحث أو يتعثر، وقد نشأت الألفاظ التقليدية ذاتها نشأة تلقائية من الألفاظ الشائعة والمتداولة في البيئة الثقافية التقليدية، فإذا كان عيب اللفظ التقليدي هو عدم قدرته على التعبير عن المعنى والإشارة إلى الموضوع المراد، فإن عيب اللفظ المستهجن هو عدم استساغته وصعوبة تحويله إلى لغة عادية ضمن التراث اللغوي الطويل، وأهم شيء في اللفظ الجديد هو طواعيته للفكر وسهولته في الاستعمال وتعبيره عن المضمون النفسي للناس وللتراث.
- (٢)
الغموض وعدم الدقة؛ وذلك لأن التجديد اللغوي يتطلب معرفة تامة بالألفاظ الجديدة ومعانيها والموضوعات التي تشير إليها، وذلك لا يتأتى لكثير من الباحثين لما يتطلبه من اطلاع ومعرفة تامة بثقافتين أو بأكثر، وهذا هو سبب الغموض في التجديد اللغوي الذي يرجع أساسًا إلى غموض الباحث نفسه، ويمكن الإقلال من هذا الاشتباه التام عن طريق التحليل المستمر للألفاظ، والعثور على منطق محكم للانتقال من لفظ إلى لفظ أو من معنى إلى لفظ أو من شيء إلى لفظ، كما يخفف من هذا الغموض حرية الباحث في عدم التقيد بأي معنى اصطلاحي للفظ واستعماله بالمعنى الشائع الذي يتبادر لذهن السامع لأول مرة، وإعطاء الألفاظ معاني العصر وهي المعاني العرفية، وهذا ما يحدث أيضًا في تطور الحضارة وتغير معنى الألفاظ طبقًا للعصور وتبعًا لاستعمالات المفكرين.
- (٣) الأثر الخارجي؛ وذلك لأنه كثيرًا ما تثير الألفاظ الجديدة شبهة التأثر الخارجي، فكثير من الألفاظ الشائعة والمتداولة في البيئة الثقافية الحالية قد يكون مصدرها بيئات ثقافية أخرى خاصةً البيئة الأوروبية، ولكن نظرًا لتداول هذه الألفاظ وشيوعها فقد أصبحت جزءًا من الثقافة الوطنية المعاصرة، بل وتراثًا إنسانيًّا عامًّا لسعة انتشارها، فألفاظ التقدم، والإنسان، والزمان، والفعل، والجماهير، والسلوك، والصراع، والطبقة، والتاريخ، والتحرر، والشعب، والعالم الثالث … إلخ ليست خاصة ببيئة ثقافية معينة أو بمذهب فكري أو سياسي معين، بل هي ألفاظ تعبر عن ثقافة العصر ومطالبه، كما تعبر عن روح العصر، بالإضافة إلى أنه نظرًا لوجود الباحث على حافة عدة بيئات ثقافية، وعلى وعي تام بالمستويات الثلاثة لكل بيئة: اللفظ والمعنى والشيء، فإن التأثر لا يتعدى الاستعارة اللفظية، وهي ليست استعارة إرادية بل تطور طبيعي عندما يسقط اللفظ القديم ويحل اللفظ الجديد مكانه؛ لأنه أكثر قدرة على التعبير عن المعنى وإيصاله،١٢ وإذا كانت هناك بعض الإشارات إلى تيارات العصر أو ما يظن أنه ثقافة أجنبية أو حضارة أخرى، فهذا يحدث كموقف طبيعي لباحث ينتمي إلى حضارته وفي عصر تغزوها حضارات أخرى، كانت حضاراتنا القديمة مفتوحة أيضًا على الحضارات الأخرى، وبعد عصر الترجمة استعملت لغة الثقافات المعاصرة ومذاهبها الفكرية كوسائل للتعبير، وهذا ما يحدث الآن من جديد بعد عصر الترجمة الثاني والغزو الثقافي الواقع علينا الآن منذ قرنين من الزمان، فسواء أراد الباحث أم لم يرد فإنه يستعمل لغة الثقافة المعاصرة كوسيلة للتعبير بعد أن أصبحت شائعة ومتداولة وأصبحت جزءًا من ثقافة العصر يعلمها الجميع، لقد حدث نفس الشيء في الفلسفة الإسلامية قديمًا عندما كان فلاسفة المسلمين، الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، ذوي ثقافتين إسلامية ويونانية، وعبروا عن القديم بلغة الجديد، وقاموا بعملية التراث والتجديد التي تتم الآن مرة ثانية مع ثقافة العصر وهي الثقافة الأوروبية.١٣
- (١)
التجديد، فبالرغم من أن حركات التجديد لم تتوقف سواء في الماضي أو في العصر الحديث إلا أنها كلها ما زالت نسبية ولم تؤدِّ إلى نتائج حاسمة، سواء على المستوى النظري أو في التطبيق العملي، واللغة من أسباب هذا الإخفاق؛ وذلك لأن لغة المجدد ما زالت إلهية، دينية، تاريخية، قانونية، مجردة، وما زالت اللغة التقليدية تستعمل للتعبير عن المعاني الضمنية مما يؤدي إلى نقص في التعبير وفي الإيصال، لن تتحول حركات التجديد المعاصرة إلى حركات جذرية إلا بتجديد اللغة، ولن يتحول الإصلاح إلى ثورة إلا بالتخلي عن اللغة التقليدية، والتعبير عن المضمون الموروث سواء في المعنى أو في الشيء المشار إليه بلغة جديدة تتوافر فيها شروط العصر، وعلى رأسها لغة العلم التي يمكن للآخرين التعامل بها، وتحقيق ما نصبو إليه جميعًا من قيام حركات للتجديد، كلية شاملة، جذرية أصلية، تكوينية جادة، لا تهدف إلا لنقل حضارتنا من طور قديم إلى طور جديد.
- (٢)
الاتجاه الإنساني؛ نظرًا لأن اللغة الجديدة تتميز بأنها عامة ومفتوحة وإنسانية فإن هذه الخصائص تتأكد أيضًا في المعاني الكامنة في اللغة التقليدية وفي المواضع التي تشير إليها والتي يتم التعبير عنها باللغة الجديدة، فيظهر الجانب الإنساني العام الذي هو صفة الوحي، ومحل قصده، إن اللغة التقليدية لن تكون قادرة على التعبير عن روح العصر العامة التي تتجاوز فيها الأفكار والأبنية الاجتماعية حدود الحضارات والأوطان، وأقصى ما تستطيعه اللغة الخاصة هو استعمالها داخل الحضارة ولكن ليس خارجها، اللغة الجديدة هي الوحيدة القادرة على إيصال معاني الحضارة وأبنيتها إلى خارجها، فهي الوسيلة لتجاوز حدود الذات، وبالتالي نستطيع الكشف عما نصبو إليه من الكشف عن الإنسان في تراثنا القديم، وتحقيق مطلبنا المعاصر من الدفاع عن الإنسان والحرص على حياته وكرامته.
- (٣)
الانتقال إلى طور جديد من أطوار الحضارة؛ وذلك لأن هدف ومنطق التجديد اللغوي هو نقل الحضارة كلها من طور إلى طور، وذلك بالعثور على المعاني الكامنة في اللغة التقليدية والأبنية المثالية المشار إليها، والتعبير عنها بلغة العصر التي تقدمها البيئة الثقافية الحالية، وبذلك تأخذ الحضارة طورًا جديدًا، ونسير على سنتها منذ نشأتها، وقد تطورت الحضارات الإنسانية، وانتقلت من طور إلى آخر بفعل منطق التجديد اللغوي، فإذا كان اكتشاف العلم وحده مرهونًا بنشأة اللغة فإن تاريخ الإنسانية كله مرهون بتجديد اللغة، وبالتالي نكون قد حققنا مسئوليتنا القومية تجاه الحضارة التي تشمل القديم والجديد معًا ويكون المحدثون بذلك ليسوا بأقل إثباتًا لمسئولياتهم القومية من القدماء.
(٢) اكتشاف مستويات حديثة للتحليل (الشعور)
ويمكن تجديد الموروث القديم عن طريق كشف مستويات حديثة للتحليل ما زالت مطوية فيه. هناك مستويات عامة مشتركة بين العلوم الموروثة يمكن الكشف عنها وهي في نفس الوقت إحدى مقتضيات العصر، فإذا كان منطق التجديد اللغوي قد أعطى لنا قدرة هائلة على التعبير عن المعاني والأبنية المثالية الموروثة المغلفة باللغة التقليدية فإن المستويات الحديثة للتحليل تعطينا ميدانًا خصبًا تظهر فيه خصوبة التراث، وأعني بمستوى التحليل المنظور الذي يُنظر منه إلى التراث، وهذا لا يتم إلا برؤيا معاصرة له؛ فالتراث يمكن قراءته بمنظورات عدة كلها ممكنة، والتجديد هو إعادة قراءة التراث بمنظور العصر. ليس معنى ذلك أن القراءات القديمة له خاطئة أو أن القراءات المستقبِلة له غير واردة، بل كلها صحيحة، ولكن الخطأ هو قراءة التراث من المعاصرين بمنظور غير عصري، هنا يكمن الخطأ، خطأ عدم المعاصرة.
وأهم هذه المستويات هو الشعور، والشعور مستوًى أخص من الإنسان، وأهم من العقل، وأدق من القلب، وأكثر حيادًا من الوعي، يكشف عن مستوى حديث للتحليل موجود ضمنًا داخل العلوم التقليدية نفسها، ولكن نظرًا لظروف نشأتها لم يوضع في مكان الصدارة، ولم يعطَ له الأولوية الواجبة، ولكن يفهم ضمنًا، ويقرأ فيما بين السطور. صحيح أن تراثنا القديم يُغفل البُعد الإنساني لأن الإنسان كان موجودًا بالفعل، وهو حامل الوحي، وصانع الحضارة، وفاتح البلاد، ولكن التنزيه هو الذي كان موضع الخطر من الداخل واتجاهات التأليه والتجسيم والتشبيه أو من الخارج من الوثنية والشِّرك وتعدد الآلهة. يظهر الموضوع في الحضارة عندما يغيب في الواقع. ويغيب في الحضارة عندما يوجد في الواقع، لم يظهر الإنسان واضحًا في الحضارة كبُعد مستقل كالإلهيات أو الطبيعيات لأن الإنسان كان موجودًا بالفعل، ومع ذلك فنجد أن الإنسان وبوجه أخص الشعور موجود ولكنه متخفٍّ وراء الإلهيات وداخل العلوم التقليدية.
ويظهر الشعور في الفلسفة في نشأتها منذ عصر الترجمة، حيث يقوم المترجم بفهم العبارة الأجنبية ويحاول أن يجد لها مقابلًا في لغته الخاصة، ثم عند الشارع الذي يقوم باحتواء الفكرة الدخيلة ووضعها داخل قوالب حضارته الخاصة، ثم عند الفيلسوف ذاته الذي يقوم بعملية الاحتواء الحضاري كلها، ويستعير لغة الحضارة المعروفة حديثًا للتعبير بها عن معانيها الأولية التي على قوامها نشأت حضارته. هذه العمليات كلها تحدث في الشعور، في شعور المترجم أو في شعور الشارح، ومع أن قسمة الفلسفة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات قسمة لا يظهر فيها الإنسان، أو بُعد الشعور، ظهورًا واضحًا، إلا أن المنطق ذاته أحد جوانب الشعور ولو أنه منطق صوري معياري يضع قواعد للذهن تعصمه من الخطأ. أما الطبيعيات فإنها تشخيص للطبيعة يمكن رؤية الشعور المسقط عليها بسهولة في ترتيب عناصر الطبيعة ترتيبًا تصاعديًّا أو تنازليًّا حسب مراتب الشرف والكمال. والإلهيات ذاتها تعبير عن إحساس الإنسان بالكمال وتشخيصه، هذا الكمال في الموجود الأول وصفاته المطلقة، ولكن إخوان الصفا زادوا قسم النفسيات لتعلن صراحة عن عالَم النفس، وهو عالَم الشعور باللغة القديمة، والنص الديني نفسه أصبح عند الفلاسفة بُعدًا للشعور بتأويله كصورة فنية مهمتها الإيحاء والتأثير في النفوس.
وقد ظهر الشعور بصورة واضحة للعيان في التصوف، بل إن التصوف إن شئنا هو علم الشعور كما يبدو من علوم الأخلاق والنفس والفلسفة التي تتخلل مراحل الطريق الصوفي؛ فتصفية النفس، والتشبه بصفات الكمال، والتوبة، والخوف، والحزن، والبكاء، كلها أفعال للشعور. وأحوال النفس وما يعتري النفس من قبض وبسط، خوف ورجاء، صحو وسُكر، غيبة وحضور، وجْد وفقد، قرب وبُعد، بقاء وفناء، كلها أحوال شعورية خالصة، حتى يصل الصوفي في النهاية إلى وحدة الذات أو وحدة الشهود أو وحدة الوجود، وهي أيضًا حالات شعورية ناتجة عن اتحاد صاحب الدعوة برسالته واتحاده بالحقيقة، كما أن علاقة الشيخ بالمريد علاقة شعور بشعور وتراسل بين الذوات، ومعرفة الصوفية معرفة شعور من شعور، وسعادته اتحاد شعور بشعور.
ونصوص الوحي ذاتها نشأت في الشعور، إما في الشعور العام الشامل وهو ذات الله أو في الشعور المرسل إليه والمعلن فيه، وهو شعور الرسول أو شعور المتلقي للرسالة، وهو شعور الإنسان العادي الذي قد يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقًا لما طلب. الوحي ذاته مجموعة من الآيات نزلت إبان ثلاثة وعشرين عامًا، كل آية أو كل مجموعة من الآيات تمثل حلًّا لموقف معين في الحياة اليومية لفرد أو لجماعة من الأفراد. نصوص الوحي ليست كتابًا أنزل مرة واحدة مفروضًا من عقل إلهي ليتقبله جميع البشر، بل مجموعة من الحلول لبعض المشكلات اليومية التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة، وكثير من هذه الحلول قد تغيرت وتبدلت حسب التجربة على مقدار الإنسان وقدرته على التحمل، وكثير من الحلول لم تكن كذلك في بادئ الأمر معطاة من الوحي بل كانت مقترحات من الفرد أو الجماعة، ثم أيدها الوحي وفرضها، وهذه الخاصية توجد في الوحي في آخر مراحله وهو الوحي الإسلامي، فهو ليس عطاءً من الوحي بقدر ما هو فرض من الواقع وتأييد الوحي له، وهذا هو معنى «أسباب النزول».
وما ينطبق على الكتاب ينطبق على السُّنة؛ فالسُّنة مجموعة من المواقف الإنسانية يعمل فيها شعور النبي، ويقوم بدور المشرع للواقع إما بناءً على الوحي الأول أو بناءً على وحي جديد أو على الفهم التلقائي للنبي لهذا الواقع. وقد كان النبي قبل نزول الوحي وبعده يعيش ويتأزم، ويفرح ويتألم، يأمل وينتظر، فكانت له تجارب شعورية، وكان الوحي الذي ينتظره ثم يأتيه تفريجًا عن هم أو حلًّا لإشكال، أي أن علاقة النبي بالوحي كانت علاقة شعورية وعلاقتنا نحن بالنبي علاقة شعورية أيضًا باتخاذنا إياه قدوة حسنة ومثال للسلوك.
وما ينطبق على الكتاب والسُّنة ينطبق على الإجماع والاجتهاد؛ فالإجماع تجربة مشتركة تتم في شعور الجماعة، ويصدر الحكم نتيجة لعديد من العمليات الشعورية يتدخل فيها نص الوحي من الكتاب والسُّنة كعامل كما تتدخل فيها التجربة المشتركة والواقع المشكل كطرف آخر. والاجتهاد أيضًا عمل شعوري خالص يقوم به المجتهد ابتداءً من فهمه لنصوص الوحي في الكتاب والسُّنة وعلمه بالتجارب المشتركة السابقة ورؤيته للواقع المشكل رؤية مباشرة لمعرفة طريقة تغييره إلى واقع مثالي مطابق للوحي، فالمنهج الأصولي إذن كله بأدلته الأربعة منهج شعوري، كما أن المنهج الصوفي منهج شعوري، وعلم الكلام علم شعوري، وعلوم الحكمة علوم شعورية. والشعور هو وصف حقيقي للمعرفة وللوجود إجابة على سؤالَي: كيف يحصل الإنسان على معرفة وكيف يعيش الوجود؟ لا شيء في العالم الخارجي يمكن إدراكه ومعرفته إلا من خلال الشعور، والتصورات لا تفكر بل تعمل من خلال الشعور، والأشياء لا تعني إلا من خلال الشعور؛ فالشعور هو موطن المعرفة والوجود معًا لأنه هو ذاته معرفة ووجود، فهو الذات العارفة وهو الوجود الإنساني في آنٍ واحد. نحن ما نشعر به والعالم هو ما نشعر به، وعلمنا نتيجة لشعورنا بالعالم، ووجودنا ووجود العالم هو ما نشعر به، فالبداية بالشعور بداية يقينية لا تسبقها بداية أخرى.
والشعور أيضًا مطلب من مطالب العصر، وكثيرًا ما نجد في أدبنا المعاصر دعوة إلى الإحساس بما يدور حولنا، ونداءً لليقظة الداخلية، وخطابًا موجهًا مباشرةً إلى شعورنا. يقظة الشعور هو هدف المصلح، وغاية المجدد، أمل المفكر، وبغية الثائر، وهو أن يعي الإنسان موقفه في الحياة حتى يشعر بذاته وبما حوله وبأبنية الواقع التي هو غارق فيها، ومدى بُعدها عن الأبنية المثالية في الوحي، وعندما نعاني أزماتنا وهزائمنا وانتصاراتنا فإننا نعانيها بالشعور، وعندما نحس بالمرارة والألم والعار والتسول فإنما نحسها بالشعور، وعندما يحاول الطاغية استعباد الناس يلهيهم ويبعدهم عن دائرة الشعور؛ فالفقر هو شعور بالفقر، والاحتلال شعور بالاحتلال وإلا لما ثار الناس ضد الفقر ولما حاولوا تحرير أراضيهم، كذلك كثرت في أدبنا المعاصر تحليلات الشعور ووصف ما يعتري في نفوس الناس من تمزق وحيرة وألم وضياع.
والشعور أيضًا جزء من بيئتنا الثقافية المعاصرة التي انطبعت بطابع الثقافات الملاصقة وأصبح موضوعًا شائعًا. لقد استطاعت الحضارة الأوروبية بعد نضال دام أكثر من أربعة قرون إثبات الإنسان والشعور الإنساني كنقطة بدء يقينية ليس قبلها شيء، وكل شيء بعدها يكون من خلالها، وهذا هو معنى الكوجيتو الديكارتي واستمرار النضال باسم الشعور حتى تأكد مرة ثانية في القصدية عند هوسرل، وبعد عصر الترجمة الثاني الذي بدأ لدينا منذ قرنين أصبحت لغة الشعور متداولة وصار بُعد الشعور شائعًا؛ فالشعور وارد من التراث والتجديد على السواء. لغة الشعور لغة شائعة ومعروفة وموجودة في المخزون النفسي عند المثقفين المعاصرين كما كانت ألفاظ السندس والاستبرق ومفاهيم الله والرحمن شائعة في المخزون النفسي في الشعور العربي القديم.
(٣) تغيير البيئة الثقافية
وتكثر في الفلسفة الأمثلة على أن مادة الفلسفة القديمة لم تعد صالحة للعصر الحاضر لارتباطها بظروف العصر الماضي، فمثلًا نظرية العقول العشرة التي تدبر الأفلاك العشرة، ونظرية العقل الفعال الذي يدبر فلك الأرض، والحاوي لكل أنواع المعارف والعلوم، والواهب لكل الصور والعقولات، وقسمة العالم إلى ما فوق القمر وما تحت القمر، وتحديد كل شيء في هذا العالم طبقًا لحركات الأفلاك واعتبار الأفلاك كائنات حية مشخصة وعاقلة، مدركة وحاسة، تقدر مصائر الناس ومظاهر الطبيعة، كل ما يتعلق بالفيض والصدور، كل ذلك أدخل في علم الفلك القديم وفي الأساطير القديمة استعملها الفلاسفة القدماء للتعبير من خلالها عن التوحيد الذي هو الموجود الأول الذي لا يحتاج في وجوده إلى غيره، والذي هو علم وحياة وقدرة وحكمة وعظمة وجلالة، أما الآن فهذه المادة لم تعد بذات دلالة، فالأفلاك موضوع لعلم الفلك، والطبيعة موضوع لعلم الطبيعة، والعقل والنفس موضوعات لعلم النفس، والتوحيد ذاته موضوع لعلم النفس والاجتماع لتحديد نشأة الأفكار الدينية في ظروف نفسية واجتماعية معينة اضطهاد أو غلبة.
وهناك مشاكل تاريخية خالصة لا تلزم العصر الذي نعيش فيه حيث هي وقائع أو سلوك مصيب أو مخطئ، ولكن قد يهمنا فقط معناها ودلالتها، مثل كل الخلافات بين الفرق وعلى رأسها السُّنة والشيعة وأي الخلفاء كان أولى بالإمامة، كل ذلك حوادث تاريخية صرفة ووقائع لا تهمنا إلا من حيث إنها تحقيق لنظم، وحتى في هذه النظم، يفرض واقعنا المعاصر نظمه، ولا يحتاج إلى شرح للنصوص أو تأويل للماضي منافٍ لتطور الحاضر ومانع له.
- (أ) تخليص الموضوع الأولي من كل الشوائب الحضارية التي علقت بالمعنى الأولي للنص سواء فيما يتعلق بطريقة عرضه أو فيما يتعلق بنتائج فهمه وتحليله، فكلاهما مرتبط بفترة محدودة من تطور الحضارة وبمستواها الثقافي، وكثيرًا ما يضيع الموضوع نفسه داخل هذه الشوائب نفسها التي تحل محله وتصبح بديلًا عنه وكأنها هي الموضوع، وهذه الشوائب إما حجج عقلية يتحول من خلالها الموضوع الحسي المباشر إلى موضوع صوري محض أو شوائب تاريخية مادية يتحول أيضًا الموضوع من خلالها إلى وقائع مادية كمية، إظهار الموضوع يقتضي التخلص من هذه الشوائب الصورية والمادية على السواء ثم يرجع به إلى الموضوع الأصلي، وإلى المعنى الأولي للنص، وقد قام الفقهاء بهذا الدور خير قيام إذ إنهم في كل عصر نفضوا عن النص ما علق به من شوائب حضارية، صورية أو مادية، بيئية أو مزاجية، ورجعوا إلى النص الخام يحرصون على معناه بكل ما فيه من تصوير وتخييل، فالنص ذاته أضمن من كل عمل حضاري عليه، فالفكر الفقهي أساسًا فكر تطهري، وظيفته تخليص النص من الشوائب الحضارية والمتاهات العقلية، وكثيرًا ما فضل الفقهاء الضرب أو السجن على الإدلاء برأي في نص لم يذكر عن الرأي شيئًا،٢٥ وأكثر من ذلك توجيه النص ضد الفكر الدخيل نقدًا وتفنيدًا وهدمًا، ففي نفس الوقت الذي يتم فيه شرح المنطق الصوري باعتباره منطقًا ممكنًا للفكر على يد الفلاسفة يتم رفضه من الفقهاء والأصوليين باعتباره منطقًا أقل اتساعًا من المنطق الشرعي وهو منطق الوحي، والفكر الفقهي كله هو في الحقيقة هذا التطهير المستمر للنص، والانتقال من مجرد الدفاع إلى الهجوم على الثقافات المغايرة وتفنيدها باعتبارها معارضة للشرعي والعقلي على السواء.٢٦
- (ب)
يعاد بناء الموضوع الأولي، وهو المعنى الأولي للنص، بعد أن تخلص من الشوائب الحضارية في الخطوة الأولى، يعاد بناؤه داخل الشعور باعتباره موضوعًا مستقلًّا له بناؤه الداخلي وله وضوحه النظري ووسائل التحقق منه في داخله، في الشعور أو في الواقع، يتم بناء الموضوع في الشعور عن طريق البدء المطلق، ومحاولة العثور على نقطة بديهية أولى وواقعية يقينية يتم عليها باقي البناء النظري، ثم يبدأ في بناء الموضوع خطوة حتى يتم بناؤه كليةً، ويكون تقسيم المقال هو بناء الموضوع نفسه، وفي هذه الحالة تكون أسس البناء النظري أسسًا شعورية، إذ إن الموضوع يتم بناؤه في الشعور، وينصب جهد الباحث حينذاك في البحث عن الماوراء الشعوري للموضوع، والصوفية هم الذين قاموا بهذا البناء الشعوري للموضوعات الأولية خير قيام، حيث قامت المعاني الأولية كلها للوحي على أساس شعوري بالرغم من وقوعهم في خطأ الاتجاه، فاتجهوا إلى أعلى بدلًا من الاتجاه إلى الأمام، كما اتجهوا إلى أغوار الشعور وأعماقه بدلًا من الاتجاه إلى التركيب الطبقي للمجتمع، أي تحليل شعور الفرد منعزلًا عن شعور الجماعة وليس داخلًا فيها.
- (جـ) إطلاق المعنى حتى يتجاوز حدود اللفظ نفسه، ويصبح نوعًا آخر من الوجود المطلق، وتصبح المعاني مبحثًا من مباحث الوجود العام، يمكن إطلاق المعنى ابتداءً من المعنى الاشتقاقي للفظ والذي يحتوي على المعنى الأصلي له، والذي يكشف عن الأصل الحسي في العالم الخارجي، والذي يمكن بعد إطلاقه تحويله إلى وجود عام، وكذلك يمكن إطلاق المعنى المجازي للفظ والذي يحوي في باطنه إمكانية إطلاق المعنى وتجاوزه من المعنى الأصلي عن طريق التشابه أو الالتزام أو الاستعارة، كما يمكن ربط المعنى المطلق بالمعنى العرفي حيث يتم إيصال المعنى الأولي بعد إطلاقه إلى مادة العلم الحالية، والمعنى العرفي موجود في روح الشعب كما يتضح في الأمثال العامية والحكمة الشعبية،٢٧ والفلاسفة هم الذين قاموا بهذا الإطلاق للمعاني خير قيام، فقد حولوا عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، وتحولت المعاني إلى وجود كما تحول المعبود ذاته من «ثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا» أي من نظرية في الله إلى نظرية في الوجود، ولم يعد الله هو الذات والصفات والأفعال، بل الموجود الأول القائم بذاته، فالحقائق ليست ماهيات بل موجودات، والله ذاته ليس ماهية بل وجود، كما أطلق الفلاسفة المعاني المجازية بالتأويل، وأطلقوا المعاني الأولية إلى معانٍ عامة لا يدركها إلا الفيلسوف.٢٨
- (أ)
تحليل الفكرة القديمة بعد تخليصها من شوائبها الحضارية وإعادة بنائها في الشعور وإطلاق معناها إلى أقصى حد حتى يمكن أن تصبح نموذجًا للفكر، وموضوعًا مثاليًّا يمكن أن يكون نسقًا لغيره من الموضوعات، ومعرفة احتمالاتها المختلفة، وأوجه ظهورها، ومن ثَم يصبح التراث معقولًا، وليس مجرد موروث منقول من الماضي، لنا فيه رؤية واضحة، ونكون على علم تام به.
- (ب)
تحليل الواقع المعاصر وذلك عن طريق التنظير المباشر للواقع وإدراك روح العصر من الأمثال العامية والنكات الشعبية والأعمال الأدبية، خاصةً شعر الأدباء الشبان وقصصهم والملاحظة المباشرة على رجل الشارع وعلى سلوك الجماهير، والمعاناة من مآسي العصر والعيش في مآسيه، والانفعال بأحزانه وأفراحه، فالباحث ابن عصره كما كان الصوفي ابن وقته، والاستعانة بالإحصائيات، وتحويل الواقع إلى لغة كمية ولو أن الإدراك المباشر للواقع يكون مطابقًا أيضًا للتحلي الإحصائي الكمي، أي أن الباحث هنا هو ابن البلد بذكائه ولمحاته، وبصيرته وحسه المباشر، وإدراكه الفطري.
- (جـ)
مقابلة الأولى بالثانية من أجل إيقاف الفكرة الأولى على أحد أوجهها طبقًا لروح العصر، أو تركيب الأولى على الثانية وتأسيس الموضوع المثالي على الواقع العصري، وإعطاء النفس بدنًا، والروح طبيعة، والفكر واقعًا، والله عالمًا، وهنا لا يخطئ الباحث فهو ليس مسئولًا عن الموضوع المثالي ولا عن روح العصر، وإنما مسئوليته في توجيه أحدهما بالثانية والربط بين القديم والجديد، وإحياء التراث، وتأصيل العصر.
- (١)
الرد أو الاقتضاب.
- (٢)
البناء أو التكوين.
- (٣)
الإيضاح أو التوضيح، ولكنها في الحقيقة مستقلة عنها، والتشابه واقع بين فكرين في موقفين متشابهين في حضارتين مختلفتين، انظر رسالتنا الثانية.