خامسًا: موضوعات التجديد (إعادة بناء العلوم)
- (أ)
وصف كيفية خروج كل علم منها من النص الديني عن طريق الفهم بالحدس المباشر للنصوص المحكمة أو التفسير اللغوي أو الشعوري للنصوص المتشابهة طبقًا لظروف العصر التي سببتها، وهو ما يمكن تسميته «بمنطق التفسير».
- (ب)
وصف العمليات العقلية التي حددت طبيعة الظواهر الفكرية والتي هي وراء بناء العلوم، وهي عمليات عقلية واحدة تنشأ في كل حضارة تبدأ من مُعطى مركزي هو الوحي، وبمعرفتها يمكن إعادتها من جديد ابتداءً من العصر الحاضر، وهذا ما يمكن تسميته «بمنطق الظواهر».
- (جـ)
تحديد الظواهر الإيجابية والسلبية في كل علم، وفهم البناء النظري للظاهرة الإيجابية؛ إذ إنها هي التي تحدد البناء النظري العام للعلم نفسه، وكذلك فهم مصدر الظاهرة السلبية، وأسباب نشأتها، ومدى غربتها عن النصوص، ومقدار بُعدها عن الظواهر الإيجابية، وبيان أوجه النقص في المغالاة الفكرية أو في اختلال توازن الظاهرة، ثم محاولة تحويلها إلى ظاهرة إيجابية أو تلاشيها تمامًا، وهذا ما يمكن تسميته «بمنطق التقييم».
- (د)
نقل كل البناء النظري السابق بعد نقده وتمحيصه على أساس نظري جديد لإعطائه أبعادًا جديدة سواء من حيث اللغة التي يعبر بها، ومن حيث الكشف عن مستويات جديدة للتحليل، أو من حيث المادة التي يقدمها الواقع الجديد، وهذا ما يمكن تسميته «بمنطق التجديد».
وإعادة بناء العلوم تتجاوز مجرد إصدار أحكام خاصة أو عامة على مشكلة أو على موضوع أو على علم من العلوم، فبدل إصدار الأحكام يقوم الوصف بمهمة تفسير نشأة هذه العلوم وتطورها واكتمالها في بناء نظري محكم، وبذلك يمكن تجنب الأحكام الجزئية والتعسفية والشخصية، وينفذ الحاكم إلى صميم الموضوع بل ويتحد معه ويعاصره في نشأته وتكوينه، ويمكن أن يقال إن كل حكم هو نقص في الوصف.
- (أ)
مادة العلوم التقليدية المنشورة حاليًّا يغلب عليها طابع التكرار، فمثلًا إذا كان هناك في علم أصول الفقه ثلاثون كتابًا منشورًا فإن كل كتاب متأخر يكرر المادة التي في الكتاب الذي قبله ويزيد عليه لدرجة أنه يمكن اختصار الثلاثين إلى عشر، أهمها أول مؤلف نشأ فيه العلم، وآخر مؤلف اكتمل فيه العلم وأصبح له بناء نظري محكم، فالأعمال غير المنشورة لن تؤثر كثيرًا في اكتمال الوصف الذي يمكن القيام به على أساس من الأعمال المنشورة، ولكن يستحسن بقدر الإمكان الاطلاع على غير المنشور فلربما كان فيها جرأة أكثر نظرًا لظروف معينة في الماضي، وتكون هذه الجرأة معينة في إعادة البناء على ظروف مشابهة في العصر الحاضر.
- (ب)
كثير من الأعمال هي في نفس الوقت موسوعات إخبارية يمكن بواسطتها معرفة كثير من أفكار المتقدمين والمتأخرين، والأخبار الموجودة حاليًّا في كل علم تسمح بوصف كلي له بل وبوصف كلي للحضارة ذاتها، والحاجة أمسُّ إلى معرفة كيفية الوصف منها إلى معرفة مادة الوصف، وقد كانت الحضارة حريصة باستمرار على الحفاظ على نفسها بطريق التدوين، وتأريخ اللاحقين للسابقين، وذِكْر آراء السلف من الخلف، فالعلم ينشأ بتراكم المعارف والإضافات المستمرة والتفكير على التاريخ.
- (جـ)
يمكن التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه عمل من الأعمال أو مفكر من المفكرين داخل كل نمط من أنماط الفكر، خاصة إذا عرفنا اتجاهه الفكري ومذهبه العقائدي؛ فالمفكر لا يضع فكرًا، بل يعرض نموذجًا من فكر معروف نمطه، فالنمط يساعد على التنبؤ، والنموذج يساعد على افتراض مادة ناقصة يمكن التعرف عليها بافتراض وجودها، خاصةً إذا كان النمط من نفس العصر، أو من نفس المذهب، أو من نفس البيئة الثقافية.
- (د)
إن الذي يهم في المادة العلمية هي المشاكل التي تعرضها، وليس الحلول التي تقدمها، والمادة المنشورة حاليًّا تعرض لنفس المشاكل التي تتكرر وإن لم تعرض نفس الحلول، والمشاكل هي التي تحدد البناء النظري للعلم أكثر من الحلول، بل إن المادة كلها نسقطها من الحساب ونستبدل بها مادة أخرى جديدة من واقعنا المعاصر، فإن لم تكتمل المادة القديمة فإن ذلك لن يؤثر على الإشكال نفسه.
وفي إعادة بناء العلوم يمكن أن يوضع كل شيء موضع التساؤل من جديد، ولكن تظل نقطة البداية هي الوحي الموجود بالفعل في كتاب، فالوحي هو الموضوع الأساسي لجميع العلوم، بل إن الحضارة الإسلامية كلها إن هي إلا محاولة لعرض فكري منهجي لهذا الوحي في مرحلة معينة، ولبيئة ثقافية معينة، وتحت ظروف وملابسات محددة، ويتضح ذلك من داخل أبنية هذه العلوم نفسها، فعلم أصول الفقه يبدأ بالوحي الموجود في الكتاب والسنة كأساس للشعور التاريخي الذي يقوم بدوره في النقل عن طريق مناهج الرواية؛ التواتر والآحاد، وعلم الكلام يبدأ بالوحي محلِّلًا آياته وأحاديثه لإخراج تصور الله، ذاته وصفاته وأفعاله، والتصوف يبدأ أيضًا بالوحي متمثلًا أوامره ونواهيه في السلوك، والفلسفة تبدأ بالوحي وفهمه بحيث يمكن بواسطته احتواء البيئات الثقافية المتاخمة. فالبدء بالوحي ضمان واقعي وعلمي وحضاري في العثور على نقطة بداية لها يقين مطلق، ونقطة ارتكاز للعلوم التي تتأسس في العقل وفي الواقع، والوحي ذاته ليس موضع تساؤل، إنما هو كيفية عرضه وبنائه النظري، وقبول الوحي قائم على واقعة وهو وجود كتاب لا يدعي أحد أنه مؤلفه، بل هناك فقط المعلن عنه، ويمتاز الكتاب بأنه وثيقة تاريخية صحيحة لم يصبها التحريف أو التغيير، نقصًا أو زيادة. لا يتطلب إثبات الوحي البداية بنظرية في النبوة؛ لأنه موجود بالفعل في كتاب يمكن التثبت من صحته التاريخية أو من صدقه بتطابقه مع الواقع من خلال التجربة الإنسانية، ومن خلال فاعليته في التغيير وفي إعطاء أبنية مثالية للعالم يجد فيها العالم كماله.
وكل المشاكل التي تعرضها العلوم التقليدية تحتاج إلى إعادة بناء؛ فكثير منها مشاكل خاطئة سببتها ظروف معينة أو نشأت ردًّا على بدعة تناقلها الناس وانتشرت وذاعت الردود عليها. مهمة الباحث إذن أخذ موقف من هذه المشاكل إما بإلغائها إن كان وضع المشكلة وضعًا غير شرعي أو بإعادة بنائها إن كانت موضوعة وضعًا خاطئًا، أو بإيجاد دلالة جديدة لها إن كانت موضوعة وضعًا شرعيًّا، مثال ذلك كل مسائل علم الكلام التي ظهر فيها الله كطرف للإنسان مثل الجبر والاختيار، والحسن والقبح، والوعد والوعيد، فهي مسائل موضوعة وضعًا خاطئًا؛ لأن الله ليس طرفًا في فعل الإنسان بل العالم، والحسن والقبح يحددان علاقة الذات بالموضوع وليس علاقة الموضوع بالله، والوعد والوعيد يحددان آثار الفعل في هذا العالم وليست آثاره المترتبة عليه في عالم آخر.
وغالبًا ما تدرس العلوم الإسلامية في التراث ولا تتجاوز مرحلة الخلق الأولى، وإن تعديناها فعلى أكثر تقدير تذهب حتى عصر الشروح والملخصات وننسى كليةً الحركات التجديدية المعاصرة التي حاولت من قبل إعادة بناء العلوم التقليدية في صورة جزئية لأنها كانت دعوات إصلاحية أكثر منها دعوة للبحث الخالص، فهناك محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين في «رسالة التوحيد» وهناك محاولة أخرى لإعادة بناء الفكر الفلسفي في «الرد على الدهريين»، وهناك محاولات أخرى عديدة لإعادة بناء علوم التصوف والفقه والأصول، هذه الحركات التجديدية جزء من التراث، ومحاولات سابقة لتجديده يجب أن تؤخذ في الاعتبار بالرغم من قصر مدتها أو تناولها بعض أجزاء هذه العلوم دون أن تتناولها في جملتها.
وبالرغم مما يبدو على الموضوعات الكلامية من طابع تقليدي إلا أن هذا الطابع يظهر في طريقة عرضها أو في المادة القديمة وليس في الموضوعات ذاتها، فطريقة العرض القديمة تجعل الله طرفًا في كل مشكلة، ويكون مع الإنسان الله المشخص المريد، الفاعل، العاقل، القادر … إلخ، ولكن التوحيد ذاته موضوع مستقل بذاته، فالتوحيد يعني وحدة البشرية ووحدة التاريخ، ووحدة الحقيقة، ووحدة الإنسان، ووحدة الجماعة، ووحدة الأسرة … إلخ، والحرية موضوع كل عصر، ولكن تتغير أطراف الحرية مرة تتحدد الحرية بالنسبة للسلطة ومرة ثانية بالنسبة للآخر ومرة ثالثة بالنسبة للعقبات، والعقل مشكلة كل عصر إذ تتهدده الخرافات، والأساطير، والغيبيات، والأسرار، والأوهام، والانفعالات، والأهواء، والمصالح، والرغبات، والميول، والعمل موضوع كل عصر، فالعمل هو المعبر عن النظر وهو المحقق له، والسياسة هي حياة كل عصر، والشورى نظام كل جماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الحياة السياسية، إنما المهم هو إيجاد الدلالة المعاصرة للموضوع القديم وتخليصه من شوائبه اللاهوتية والتاريخية والنظرية، وإعادة وضع المشكلة الوضع الصحيح، وهو الوضع الإنساني الاجتماعي، وتكون مهمتنا مثلًا في إعادة بناء علم الكلام التقليدي وهو التركيز على التوحيد كعملية توحيدية، وعلى الحرية كعملية تحرر، وعلى العقل كعملية تنوير، وعلى العمل كعملية تحقيق وتغيير شامل، وعلى الشورى لتغيير النظم التسلطية، وعلى الطبيعة من أجل إدخال بعدها في الشعور المعاصر وعدم الاستنكاف منها بناء على عواطف التطهر والتطهير، قد تكون مهمتنا أيضًا إحياء التراث الاعتزالي الذي توقف منذ القرن الخامس، ولم يظهر إلا في بؤرات متفرقة لم تستطع أن تعيد ما توقف إلى حياة الناس وإلى الروح المعاصرة.
(١) العلوم الإسلامية الأربعة
نشأ التراث من مركز واحد وهو القرآن والسنة، ولا يعني هذان المصدران أي تقديس لهما أو للتراث بل هو مجرد وصف لواقع، فلو لم يكن هناك قرآن لما قام التراث القديم ولما نشأت الحضارة الإسلامية؛ لذلك يمكننا التفرقة بين نوعين من الحضارات: حضارة مركزية تدور حول مركز واحد هو في الغالب كتاب مقدس سواء كان وحيًا أو تاريخًا، وتنشأ حوله، وتستمد وجودها منه، وتنسج علومها العقلية عليه، وتتطور في حلقات حوله، متداخلة فيما بينها على مر العصور، وحضارة أخرى لا مركزية ولم تنشأ حول نقطة محورية، ولم تصدر علومها عنه، تذهب في كل اتجاه، وتجرب كل مذهب، لا يجمعها جامع، وتظل مذبذبة بين الاتجاهات والمذاهب فاقدة عنصر التوازن فيها، وباحثة عن شيء لا تعلمه أين هو، ويظل البحث الإنساني مستمرًّا، يتغير بتغير العصور والأزمان، وأصبح البحث عن الشيء أهم من الشيء نفسه؛ لذلك قويت فيها المناهج وكثرت فيها مذاهب النقد والشك، وتعددت فيها الاتجاهات كي تغطي هذا النقص المحوري في نشأتها، ولكن الغالب أن كل الحضارات المعروفة حتى الآن حضارات مركزية نشأت من مركز واحد هو الدين، سواء كان ذلك في الأساطير اليونانية بالنسبة للحضارة اليونانية أو في الإنجيل بالنسبة للحضارة الأوروبية أو في التوراة بالنسبة للتراث اليهودي أو في كتاب الموتى والأساطير المصرية بالنسبة للحضارة المصرية القديمة، أو في قوانين حمورابي بالنسبة للحضارات السامية القديمة، أو في وصايا كونفوشيوس بالنسبة للحضارة الصينية القديمة أو في الفيدانتا بالنسبة للحضارة الهندية، أو في القرآن والسُّنة بالنسبة للحضارة الإسلامية.
- (١) كان علم الكلام أول عمل عقلي في النص الديني، فقد كانت مهمة المتكلم تحويل النص إلى معنى، والآية إلى فكرة، فكان الكلام أول محاولة للعثور على نظرية عقلية خالصة للنص الديني، وقد تم تحويل ذلك بجهد داخلي خالص دون أدنى اتصال على الأقل في نشأة العلم، بحضارات أخرى، إذ تم ذلك قبل عصر الترجمة بكثير، ولم يكن هناك واقع محدد لذلك، مثل الرد على الزنادقة والملاحدة بل كان العلم حركة طبيعية في تجاوز النص الديني إلى المعنى العقلي لا سيما وأن النص بطبيعته يرتكز على العقل ويقوم عليه، فالعقل كما ظهر فيما بعد هو أساس النقل، كان علماء الكلام أشبه بوزراء الداخلية في العصر الحاضر، مهمتهم المحافظة على الأمن العقلي الداخلي والمحافظة على النظام الداخلي للحضارة الناشئة، وكان علم الكلام أشبه بالدائرة الفكرية الأولى التي نسجت حول النص الديني، وأخذ طابعًا نظريًّا خالصًا؛ لذلك حكم عليه البعض بأنه يمثل الفكر الأصيل الذي يعبر عن جهد الجماعة الأولى دون أية مؤثرات خارجية،٣ ولما تطورت الحضارة، وتمثلت الأديان المنتشرة على الواقع الثقافي، اتجه العلم للدفاع عن التصور الجديد للعالم والرد على الديانات التاريخية، ومن ثَم تحول العلم إلى تاريخ أديان في جزء كبير منه، وكان الرد على الفرق غير الإسلامية إحدى مقدماته وأحيانًا في صلبه في عرض وصف الواحد من أوصاف الذات الست، ولكن الرد لم يكن على بيئة خارجية بل على أفكار ومذاهب وملل ونحل انتشرت في البيئة المحلية، وذاعت على الصعيد الثقافي، فكان العلم يعمل أيضًا في الجهة الداخلية،٤ ولما ظهر خطر علوم الحكمة والفلسفات النظرية على العلم انبرى العلم للدفاع عن التصور الأصيل متعاملًا مع علوم الحكمة متمثلًا ما يتفق منها مع هذا التصور ورافضًا ما يختلف معه، ولكن هذا الرد لم يكن ضد الفلسفة اليونانية بل كان ضد علوم الحكمة التي انتشرت وذاعت في البيئة الثقافية المحلية، وبالتالي ظلت مهمة علم الكلام داخلية محضة لا شأن له بالمعارك الخارجية،٥ وإذا كان علم الكلام قد استطاع في مراحله الأخيرة، الانتقال من علم العقائد، إلى علم تاريخ الأديان وإلى علم الحضارة، فإنه استطاع أيضًا أن يتحول إلى علم حضارات مقارن عن طريق وضع الحضارة الإسلامية مع الحضارات الإنسانية حينذاك مثل حضارة الهند والفرس والروم، ومع ذلك ظلت مهمة العلم داخلية محضة لأن هذه الحضارات كانت قد دخلت البيئة الثقافية الإسلامية وكانت تمثل جزءًا من الجهة الداخلية ولو أنه في نشأتها كانت وافدة،٦ وقد خسرنا نحن الآن بالرجوع إلى النص الخام في اعتمادنا على قال الله وقال الرسول وعجزنا عن تحويله إلى معنى، وعدم قدرتنا على أن نعيش في عالم المعاني، وأصبحنا أسرى للنصوص بعد أن كانت النصوص أسرى لعقول القدماء.
- (٢) وحول هذه الحلقة الفكرية الأولى وابتداءً منها، وباستعمال وسائل التعبير المتاحة بعد عصر الترجمة نشأت دائرة فكرية أخرى أوسع نطاقًا وأشمل تصورًا، مهمتها تحويل هذه المعاني الأولية التي صاغها علم الكلام إلى نظريات عامة وتصورات شاملة للكون لمواجهة نظريات وتصورات أخرى دخيلة، فحين ظهر علماء الكلام كوزراء للداخلية من أجل المحافظة على النظام العقلي الداخلي للحضارة الناشئة، ظهر الفلاسفة كوزراء للخارجية مهمتهم التعامل مع حضارات أخرى غازية، وفي مقدمتها الحضارة اليونانية وكحماة للحدود الحضارية المتاخمة، ويعيدون بناء دائرتهم الفكرية الأولى التي ورثوها عن علماء الكلام على أساس من المفاهيم الجديدة من الحضارات الغازية، مستعملين نفس أسلحتهم التصورية، فهم بهذا حراس حدود أيضًا أو مجددون، حاولوا إعادة بناء العلم النظري القديم، وهو علم الكلام، إلى علم نظري جديد وهو الفلسفة، وهذه تشارك علم الكلام في كونها فكرًا نظريًّا خالصًا ولكنه أكثر شمولًا وأوسع نطاقًا، ومن ثَم فإن الفلسفة من جنس علم الكلام، ونجد كثيرًا من المتكلمين فلاسفة وكثيرًا من الفلاسفة متكلمين،٧ وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير وذلك أنهم استطاعوا:
- (أ) تحويل اللاهوت Théology إلى أنطولوجيا عامة Ontology ولم يتحدثوا عن الله بل عن واجب الوجود أو الواحد، بالتالي استطاعوا القضاء على ظاهرة الضمور في علم الكلام وذلك بإعادة فتح الفكر الديني وضمه إلى الوجود العام، وقد كان أوائل الفلاسفة متكلمين ثم تركوا الكلام إلى الفلسفة، وقد خسرنا نحن الآن بالرجوع إلى الفكر الديني الضامر الذي وصل إلى درجة التشخيص، ونكصنا عما طوره القدماء إلى علم الوجود العام.
- (ب)
الاستغناء عن منهج النص السائد في علم الكلام، والعثور على معنى متسق مع نفسه يحتوي على ضمان صدقه ووسائل التحقيق من هذا الصدق في نفسه، فالفلسفة من هذه الناحية تمثل تطورًا في العقلانية أكثر مما يمثله علم الكلام الذي ما زال يقيم يقينه في صياغاته لمعانيه على يقين آخر خارجي عنه هو يقين النص، ونحن قد رجعنا إلى الوراء، وألغينا هذه الخطوة التي نعرض فيها المعنى المستقل الذي يحتوي على يقينه الداخلي، ورجعنا إلى قال الله وقال الرسول.
- (جـ)
كشف الجانب الرمزي في النص الديني، وأسلوب الخيال والصور الفنية، وبالتالي تكون مهمة الفيلسوف النفاذ إلى ما وراء الخيال، والتخلي عن الصور الفنية، والقضاء على حرفية المعنى في حين أن في علم الكلام ما زال التيار الحرفي سائدًا عند المشبهة والمجسمة والمؤلهة؛ لذلك تعتبر الفلسفة تطويرًا للفكر الاعتزالي وللتنزيه الإلهي، ونحن قد آثرنا البقاء على التفسير الحرفي للنصوص، وعزونا إلى الصور الفنية أشياء حسية، وفقدنا القدرة على التخيل، والتزمنا بالحس الفج والمادية المعلنة، ورجعنا بالتالي خطوة أخرى إلى الوراء.
- (د) التخلي عن لغة اللاهوت الخاصة من إله، ورسول، وثواب، وحساب، وعقاب، وملاك، وشيطان، وهي اللغة المغلقة التي ما زالت خاضعة للرمز الديني واستعمال لغة أخرى أكثر عقلانية وانفتاحًا وإنسانية يمكن لأي فرد أيًّا كانت ثقافته أن يعقلها مثل الإنسان، والعقل، والنظر، والعمل، والفضيلة، في حين أن علم الكلام ظل خاصًّا، ويعبر عن مضمونه بلغة خاصة في مقابل الفلسفة التي استطاعت أن تتجه نحو العام، ونحن الآن قد رجعنا خطوة أخرى إلى الوراء، وألغينا التطور وآثرنا لغة اللاهوت المغلق على لغة الفكر المفتوح.٨
- (هـ)
استطاعت الفلسفة ضم النظريات المبعثرة التي تركها لنا علم الكلام في التوحيد، وخلق الأفعال، والحسن والقبح، والنبوة، والمعاد، والإمامة … إلخ، في نظريات شاملة وفي أقسام عامة هي: المنطق، والطبيعيات، والإلهيات، فإذا كان المنطق آلة للعلوم كلها وليس جزءًا منها بقيت لدينا الطبيعيات والإلهيات، أصبح موضوع الفلسفة بوضوح هو الله والعالم، والإنسان متأرجح بينهما، فهو موجود طبيعي من حيث هو بدن (قوى غاذية وحساسة وعاقلة) وهو موجود إلهي من حيث هو نفس (الاتصال بالعقل الفعال عن طريق المخيلة أو النور القدسي)، ونحن الآن قد رجعنا خطوة أخرى إلى الوراء بإيثارنا البقاء على النظريات مبعثرة دون تصور كوني عام وشامل نعرضه على مستوى الشعور دون أن نتركه يعمل في اللاشعور.
- (و)
القضاء على تشتت الفرق وتشعبها، وسيادة روح فلسفية واحدة، فإذا كان علم الكلام أساسًا نظريًّا في التشعب، والتفرق، وتضارب الآراء، وتعارض المذاهب، وتنافر الاتجاهات، فإن الفلسفة ترمي إلى الوحدة الشاملة، والنظرة الكلية الواحدة التي تلم بها شتات الظواهر والتي تمنع بها تعارض الآراء، وإذا كان لدينا في علم الكلام ثلاث وسبعون فرقة فإننا لا نملك ثلاثة وسبعين تيارًا فلسفيًّا، وإذا كان لدينا مئات من علماء الكلام فإن الفلاسفة لا يتجاوزون أصابع اليد، والوحدة تمثل تطورًا نحو مزيد من العقلانية أكثر مما تمثل الكثرة، ونحن الآن ما زلنا ضحية التنافر والتضاد ولم نستطع أن نعطي نظرة واحدة وشاملة على الكون.
- (ز)
تمثل الفلسفة أفقًا أوسع من علم الكلام، ففي حين أن علم الكلام يغلب عليه الرفض وضيق الأفق والتحيز المسبق والتعصب أحيانًا، نجد أن الفلسفة يغلب عليها القبول، باستثناء الكندي وابن رشد، وتمثل كل شيء، ووضعه في صورة أكمل وأشمل، فعلم الكلام يبحث عن الأصيل ضد الدخيل، والفلسفة تريد تمثل الدخيل في الأصيل في نظرية عقلية أوسع وأرحب، عالم الكلام يعارض الخصم ويكفره في حين أن الفيلسوف يضم الخصم في حقيقة أعلى منه، ونحن الآن نسلك مسلك علماء الكلام في تكفير بعضنا البعض دون أن نحاول البحث عن حقيقة واحدة أعم وأشمل.
- (ﺣ)
تعتمد الفلسفة أساسًا على البرهان، وتبحث عن اليقين الداخلي، العقلي أو الطبيعي، في حين أن علم الكلام ما زال يعتمد على الجدل وعلى التسليم بمقدمات الخصم أو على البدء بمقدمات مشهورة أو مظنونة، غايته إفحام الخصم وليس الوصول إلى الحقيقة، فالفلسفة تمثل تطورًا أكثر تقدمًا من علم الكلام، ونحن في واقعنا المعاصر قد رجعنا بهذا التقدم إلى الوراء وآثرنا الجدل على البرهان، والظن على اليقين، والتسليم بالمقدمات على البرهنة عليها.
- (أ)
- (٣)
وقد يكون علم أصول الفقه هو أول العلوم الإسلامية ظهورًا نظرًا لاحتياج المجتمع الجديد للتشريع سواء في عصر الرسالة أو فيما بعدها، فقد حاول المسلمون بجهدهم الخاص استنباط أحكام جديدة للوقائع التي عرضت لهم والتي لم يرد فيها أصل من كتاب أو سُنة نظرًا لوجود الوالي في صقع بعيد عن الرسول أو بعد عصر الرسالة، فلكي لا يخضع استنباط الأحكام للهوى أو المزاج الشخصي حاول الأصوليون وضع قواعد لاستنباط الأحكام الشرعية من الأصول الأربعة: الكتاب والسُّنة، والإجماع، والاجتهاد، فنشأ علم أصول الفقه محاولًا إيجاد منهج إسلامي لتنظير الواقع وتقنين سلوك الجماعة، ونشأ استجابة لمطلب داخلي خالص دون أدنى أثر خارجي من منطق أو فلسفة أو حكمة، فقد نشأ التشريع قبل عصر الترجمة مواكبًا لنشأة الحياة الإسلامية في صورها الأولى.
ويتفق علم الأصول مع الكلام والفلسفة في أن كليهما نظرية عقلية أو إعمال للعقل في النص إلا أنه يختلف عنها في الآتي:- (أ) ظهور الواقع كطرف مقابل للنص، وأصبح لدينا عناصر ثلاثة تكون المنطق الديني وهي: النص أو الوحي، والعقل، والواقع، لم يعد موضوع الفكر هو الإيمان أو الدين أو الوحي أو النص كما هو الحال في علم الكلام، أو الفكرة الغازية والحضارة الدخيلة كما هو الحال في الفلسفة، بل أصبح موضوع الفكر هو الواقع الذي تعيشه الجماعة الأولى ولا سيما وأن النص بطبيعته يحتوي على الواقع في باطنه كما بيَّن الأصوليون ذلك في طرق استنباط العلة الثلاث من النص: تحقيق المناط، وتخريج المناط، وتنقيح المناط؛ لذلك حكم البعض على الأول بأنه الفكر الأصيل الذي استطاعت الجماعة الأولى وضعه، والذي يدل على جهدها وإعمال عقلها،٩ أما نحن فقد فصلنا النص عن واقعه واعتبرناه مستقلًّا بذاته يحتوي على حكم بصرف النظر عن الواقع الذي يمكنه أن يتقبل هذا الحكم.
- (ب)
ظهور المنطق الحسي المباشر، وطرق البحث عن العلة، ومنطق التحليل والحصر، وجوانب المنطق الاستقرائي، وهو ما لم تكتشفه الحضارات القديمة، ويكون هذا مساهمة للحضارة الإسلامية في تطور الحضارات العامة، مع أن الباحثين الغربيين يتحدثون عن الواقعية المسيحية في مقابل المثالية اليونانية دون أن يتحدث أحد عن الواقعية الإسلامية في مقابل المثالية اليونانية المسيحية، ونحن ما زلنا حتى تأسيس الفقه الافتراضي، ولم نستطع تطوير هذا المنطق الاستقرائي القديم من أجل تأسيس العلم.
- (جـ)
ظهور طابع آخر للفكر الإسلامي وهو الفكر المنهجي في مقابل الفكر النظري الخالص في علم الكلام والفلسفة، ففي حين أن النص الديني قد تحول في الكلام والفلسفة إلى معنى أو إلى نظرية أو تصور شامل للعالم فإنه تحول في أصول الفقه إلى منهج عقلي واقعي، استنباطي استقرائي، وطبع الفكر الإسلامي كله بهذا الطابع المنهجي، ومن ثَم يكون هذا العلم من أوائل المحاولات التي ظهرت في تراثنا القديم من أجل تحويل الأصول الأولى، الكتاب والسنة، إلى منهج عام للحياة، ويعجب الإنسان في واقعنا المعاصر من غياب الفكر المنهجي، وهو أخص وأروع ما أبدعه علم أصول الفقه في تراثنا القديم.
- (د)
خلو أصول الفقه من اللغة الكلامية والفلسفية، وقيامه على لغة بسيطة وسهلة، مستمدة من الواقع، وخلوه من الأفكار الميتافيزيقية، والنظريات المستعصية، والحجج الطويلة التي كثيرًا ما سادت الكلام والفلسفة، فالأصول بهذا المعنى علم وضعي، دون الآثار الوخيمة للوضعية الأوروبية التي اجتثت أصولها الفكرية لعدم ثقتها بها، وبيان زيفها وعدم صدقها، صحيح أن هناك بعض مدارس الفقه الافتراضي الذي يقوم على افتراض واقعة من الخيال لم تحدث بالفعل ولكنها تمثل تيارًا واحدًا في الفقه، وليست جميع التيارات، كما أنها أقرب إلى مادة الفقه منها إلى علم الأصول.
- (هـ) ظهور الإنسان بوضوح تام على أنه الموضوع الأول للفكر الديني، وظهور الإنسان العامل Homo Faber بوجه خاص ليس بمعنى الصنعة ولكن بمعنى الجهد، والنشاط، والعمل، والتحقيق في حين كان الإنسان مطحونًا في علم الكلام داخل الإلهيات، وكان مشتتًا في الفلسفة حائرًا بين الطبيعيات والإلهيات، وظهور أبعاد الإنسان من حيث هو شعور تاريخي، وشعور لغوي، وشعور عملي، وما زلنا نحن في واقعنا المعاصر يتمركز فكرنا القومي على الله، ولمنظور المكتسبات الإنسانية في تراثنا القديم، بالرغم مما نحن فيه من مآسي الإنسان التي كانت يمكن أن تجعله محورًا أساسيًّا في فكرنا القومي.
- (أ)
- (٤) وفي نفس الوقت الذي ظهر فيه الأصول، ظهرت اتجاهات منعزلة في الجماعة الإسلامية لا تشارك في حياتها مشاركة إيجابية فعالة، لم تلفظها الجماعة لأنها كانت لا تمثل خطرًا عيها بل قد يأتي منها الخير نظرًا لسلوكها الفاضل وحياتها الروحية الصافية، وبعد الفتنة ازدادت هذه الجماعات المنعزلة وتكاثرت كمظهر من مظاهر العجز عن مقاومة نظم الحكم القائمة على الاغتصاب والبطش مثل الحكم الأموي فظهر التصوف كظاهرة انعزالية في نشأته وتطوره كرد فعل على تكالب الناس على الحياة، وبعد اشتداد وطأة المعارك الحزينة والتناطح بين الفرق، وبعد فشل كل محاولات التغيير الأمر الواقع بالقوة، واستشهاد لأئمة من آل البيت، ولا يقال إن نشأته ترجع إلى حياة الرسول، فقد كانت حياته حياة الإنسان الكامل كما كانت حياة الجيل الأول حياة الجماعة الكاملة، واستمر هذا التيار يقوى حتى ظهر كاتجاه عام يدعي تفسير الأصول، ويتميز بالآتي:
- (أ)
كانت الاتجاهات الفكرية حول النص حتى الآن عقلية جدلية في علم الكلام أو عقلية خالصة في الفلسفة أو عقلية واقعية في الأصول، ولكن ظهر التصوف يمثل تيارًا مضادًا، ويضع أسس اتجاه قلبي لا يعترف بالعقل، وإن اعترف به فلمستوى معين وليس لجميع المستويات وأعمقها، ومن ثَم وقع التضاد في العالم الإسلامي بين منهجين: العقل والقلب، النظر والذوق، وبذلك انكشف بعد الوجدان أو الشعور لأول مرة بوضوح في تراثنا القديم، واعتبر الحب محور الشعور وعاطفته الأولى، وأعطى الأولوية للعمل على النظر، فالعلوم ثمرة الأعمال، وهو ما زال سائدًا في واقعنا المعاصر بالرغم من أنه لا وجود لعقل جدلي أو لعقل برهاني أو لعقل منطقي يمكن أن يحدث عنه رد فعل وجداني، ومن ثَم فنحن نعيش رد فعل قديم في عالم معاصر، ولو أننا أردنا أن نبدأ من رد فعل معاصر، لأعطينا الأولوية للعقل على القلب، وللنظر على الذوق، ولما كان عصرنا الحاضر غارقًا في الإشراقيات القديمة إلى أذنيه يجد فيها عزاء وتعويضًا عن مآسيه وأحزانه.
- (ب)
يمثل التصوف مع الأصول فكرًا منهجيًّا وليس فكرًا نظريًّا كما هو الحال في الكلام والفلسفة، ويضع نفسه كطريقة عملية وليس كبحث نظري، ومن ثَم النظرتان: فكر نظري في الكلام والفلسفة وفكر منهجي في الأصول والتصوف، ويصير الاختيار حتميًّا على سؤال: هل الكتاب يحتوي على نظرية أم على منهج؟ ولما كان الحاضر يعاني من كليهما من غياب النظرية والمنهج معًا ويعاني من غياب المنهج أكثر فغياب المنهج هو سبب غياب النظرية، كان اختيار عصرنا هو إحياء الفكر المنهجي وإعطائه الأولوية على الفكر النظري.
- (جـ)
ظهور التضاد أيضًا بين الأصول والتصوف، فمع أن كليهما منهج إلا أن التصوف يدعي أنه منهج التأويل أي الرجوع بالنص إلى مصدره الأول وهو مصدر الوحي، في حين أن الأصول منهج التنزيل يريد إرسال النص إلى غايته وهو الواقع أو السلوك البشري، ومن ثَم كان المنهج الصوفي صاعدًا من العالم إلى الله في حين كان المنهج الأصولي نازلًا من الله إلى العالم، وما زال عصرنا يختار التأويل دون التنزيل، ما زال يرجع العالم إلى الله دون أن يجعل الله قريبًا من العالم في حين أن متطلبات العصر تحتم الاختيار الآخر بإيثار التنزيل على التأويل، والانتقال من الوحي إلى العالم.
- (د) وضوح نظرية متكاملة في التفسير، تشترك مع الفلسفة في إيجاد مستويات جديدة للنص حسب فهم السامع أو القارئ، فهناك العامة التي لا تدرك إلا بالحس والخيال، ويقوم إيمانها على الترغيب والترهيب، ثم هناك الخاصة التي تدرك جوهر الأشياء بالعقل الاستنباطي ويقوم إيمانها على الحصول على المعقولات والمعارف الذهنية، ثم هناك خاصة الخاصة التي تدرك جوهر الأمور بالقلب ويقوم إيمانها على الحصول على السعادة القلبية والمعرفة المباشرة وهي مستويات ثلاثة لليقين: علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين، وقد رجعنا نحن خطوة للوراء بوقوعنا في حرفية التفسير أو ماديته وردنا الوقائع المادية إلى النصوص أو بلجوئنا إلى التفسيرات الخرافية والأسطورية التي لا سند لها من حس أو عقل أو قلب ونحن أحوج إلى التفسيرات الوجدانية الاجتماعية التي تقوم على تحليل التجارب الاجتماعية.١٠
- (هـ)
ظهور كثير من القيم السلبية التي تدعو إلى القيام بمعركة مع النفس قبل أن تقام مع العالم الخارجي والتي تدعو إلى النكوص عن العالم والتراجع إلى الذات لا إلى الدخول في العالم والإقدام من الذات، فالصبر والخوف، والخضوع والرضا، والحزن والبكاء إلى آخر ما هو معروف من الأحوال والمقامات تدل كلها على اتجاهات سلبية نحو الواقع وهي القيم التي ما زالت تفعل في عصرنا الحاضر دون ما رد فعل لتغييرها إلى قيم إيجابية مثل العمل، والثورة، والجهاد، والمقاومة، والرفض، والنضال، والصراع.
- (و) الحصول على معنى جديد للتوحيد، واعتباره عملية فردية هو الحلول أو الاتحاد أو عملية كونية ذاتية وهي وحدة الشهود أو عملية كونية موضوعية هي وحدة الوجود، وتصور العالم كله بعين الوحدة فلا فرق ولا جمع، فإذا كان الكلام والفلسفة والأصول كل ذلك يقوم على القسمة العقلية فإن التصوف يقوم على التوحيد بين المتمايزات، وقد آثر عصرنا الحالي توحيد المتكلمين وترك توحيد الصوفية مع أنه كان بإمكانه تطوير توحيد الصوفية إلى عملية اجتماعية تاريخية توحد فيها الشعوب والأجناس وتتوحد فيها الطبقات الاجتماعية، وتتوحد فيها قوى الإنسان من فكر، ووجدان وقول، وعمل، وبالتالي يعبر التوحيد عن متطلبات العصر،١١ وتبدو صلة العلوم التقليدية الأربعة بعضها بالبعض الآخر كالآتي:١٢
- (١)
الكتاب والسنة محور الحضارة ومركزها ومنشأ العلوم العقلية الأربعة.
- (٢)
علم أصول الدين، أي علم الكلام كدائرة أولى حول المركز للتأسيس الداخلي.
- (٣)
علوم الحكمة أو الفلسفة كدائرة ثانية حول المركز أوسع وأشمل للتأسيس الخارجي.
- (٤)
علم أصول الفقه أو التنزيل كمنهج نازل من الوحي إلى العالم.
- (٥)
علوم التصوف أو التأويل كمنهج صاعد من العالم إلى الله.
- (١)
- (أ)
أما العلوم الرياضية فهي لا تعتبر علومًا دينية عقلية بل هي علوم عقلية خالصة؛ إذ إنها تخضع لنظرية في العقل الخالص ولو أننا نستطيع أن نجد بواعثها وموجهاتها في توجيهات الوحي، وفي تصورات الله خاصةً في التنزيه؛ فنظريات الضوء عند ابن الهيثم مثلًا ترتبط إلى حد ما بتصوره العام للنور، وتعريف الله من حيث هو نور، وتصور الرياضيين للأعداد وحساب اللامتناهي يرتبط أيضًا بتصورهم للتوحيد وبوجه خاص للواحد. فالعلوم الرياضية تمثل عقلانية خالصة استطاعت أن تزدهر بفضل التنزيه، وتضع مشكلة مستقلة عن العلوم الدينية العقلية الأربعة التي خرجت من الكتاب والسنة والتي ترتبط بالإنسان، حياته وسعادته، وهي تمثل التيار الصوري الذي تمثله العلوم الرياضية في التراث الغربي. وإعادة بناء هذه العلوم لا يتم إلا عن طريق التكامل في النظرة لها، إذ لا يمكن بتر جانب يراد التركيز عليه، وإعطاء الأولوية له على حساب جانب آخر يراد نسيانه وتجاهله بل والتنكر له والقضاء عليه، فلا يمكن النظر لابن الهيثم باعتباره رياضيًّا فقط ومحاولة تفسير أعماله بأنها علمية أو موضوعية؛ إذ إن تحليلاته للمناظر جزء من موقف فكري عام تدخل فيه الرياضة وغيرها كأحد مكوناته، ولا يمكن اعتبار الخوارزمي رياضيًّا فقط بل تدخل تحليلاته في علم الجبر كجزء من موقف أعم وأشمل، يكون الجبر فيه أحد عناصره التكوينية، ولا يمكن اعتبار الكاشاني عالمًا رياضيًّا فقط، بل إن تحليلاته في علم الحساب جزء من موقف أعم وأشمل يكون الحساب أحد عناصره الأولية، والمطلوب منا ليس فقط إحياء التراث الرياضي بل محاولة إدخاله ضمن هذا الموقف الحضاري العام من الكشف عنه، ويكون السؤال: هل تعبر هذه العلوم عن مستوى صوري خالص للتحليل تجد العلوم الدينية العقلية فيها ذاتها وموضوعيتها العقلية وهو ما نشعر بإمكانه؟ وبتعبير آخر: هل يمكن رد الصوري إلى الإنساني أم الإنساني إلى الصوري؟ وبتعبير ثالث: هل يمكن رد التنزيه إلى التشبيه أم رد التشبيه إلى التنزيه؟ وبتعبير آخر: هل يفهم الله بالرجوع إلى الإنسان أم يفهم الإنسان بالرجوع إلى الله؟ وماذا يعني التوحيد إلا أننا أمام حقيقة واحدة تظهر على مستويات عدة، مستوى صوري مجرد، ومستوى آخر إنساني حي؟
والعلوم الطبيعية أيضًا كالعلوم الرياضية لم تخرج مباشرةً من الكتاب والسُّنة ولم تنمُ نموًّا علميًّا خالصًا، ولو أننا نستطيع أن نجد بعض البواعث عليها مستمدة من نواة الحضارة مثل التجريب والدعوة إلى التأمل في الطبيعة، والتوجيه نحو اكتشاف العام، فهذه العلوم أيضًا جزء من موقف حضاري عام، فلا يمكن مثلًا رؤية جابر بن حيان باعتباره كيمائيًّا فقط، إذ إن موقفه كعالم كيمياء ما هو إلا جزء من موقف أعم وهي موقفه كمفكر مسلم حتى في الميادين التي تبدو لأول وهلة بعيدة كل البُعد عن الأصول الأولى في الوحي، كالرياضيات والطبيعيات، خاصةً إذا فهم الوحي نظريًّا باعتباره بناءً فكريًّا موضوعيًّا مكونًا من القَبلي وهو الشرعي، والعقلي، والواقعي، وهو ما يظهر في اللغة كنظرية للمعاني الثلاث للفظ: الشرعي أو الاصطلاحي، واللغوي أو الاشتقاقي، والعرفي أو الشائع. وما يظهر في بعض جوانب التفكير الإسلامي من اتفاق صحيح المنقول مع صريح المعقول، أو كوحدة النقل والعقل، أو وحدة ما في الأذهان وما في الأعيان، فإذا كانت الرياضة قائمة على اتساق العقل فهي إذن تخرج من العقل الموجود في الوحي، وإذا كان العلم قائمًا على اتساق الواقع فهو يخرج إذن من الواقعي الموجود في الوحي. وإذا كانت العلوم الدينية العقلية كالكلام والفلسفة والأصول والتصوف قائمة على الشرعي فهي تخرج من القبلي أو الشرعي المعطى في الوحي، ويكون المطلوب ليس دراسة العلوم الطبيعية منفصلة عن العلوم العقلية الأربعة بل إدخالها ضمن موقف عام، ويكون السؤال: هل العلوم الطبيعية يمكن ردها إلى العلوم العقلية الأربعة أم أن العلوم العقلية الأربعة يمكن تطويرها بحيث تكون علومًا طبيعية؟ وبتعبير آخر: هل دراسة الطبيعة هي في حقيقة أمرها دراسة للإنسان بصورة غير مباشرة أم أن دراسة الإنسان هي في حقيقة أمرها دراسة للطبيعة بصورة أقل جرأة وعلمية؟ وبتعبير ثالث: هل نحن أمام موضوعين مختلفين، العلوم الطبيعية والعلوم الدينية العقلية أم أننا أمام موضوع واحد يظهر في مستويين الطبيعي المادي والإنساني الحي؟
أما ما يسمى بلغة العصر «العلوم الإنسانية» فهي أيضًا مستقلة عن العلوم الدينية العقلية الأربعة حسب نوعية كل منها؛ فالجغرافيا مثلًا كما وضحت عند الإدريسي وغيره من الجغرافيين المسلمين مستقلة نسبيًّا من العلوم الدينية العقلية، ولو أننا نستطيع أن نجد البواعث عليها من توجيهات الوحي العامة لاكتشاف الأرض والسياحة فيها، والتأمل في السماء، والاهتداء بنجومها، وكثيرًا ما يتحدث الوحي عن المطر، والجبال، والأنهار، والزرع، والأشجار، والريح، والدواب، وهي كلها موضوعات في الجغرافيا بأنواعها المتعددة وفروعها المختلفة، أما التاريخ فإن الوحي يشير إليه باستمرار لا سيما وأن الوحي نفسه نظرية في تطور التاريخ وحركته كما هو واضح في قصص الأنبياء، ويحتوي على وصف لتطور التاريخ وتتابع الأمم وأسباب قيامها وسقوطها، وقد كان الوحي بالفعل أساسيًّا عند المؤرخين المسلمين في الاستشهاد به، وبالاعتماد على قوانينه، وفي توجيه حوادث التاريخ به، ويمكن القول بالمثل في علوم اللغة والأدب، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأخلاق، وعلم القانون، وعلم السياسة، وعلم الاقتصاد، وعلم المنطق، وعلم الجمال، كلها علوم مرتبطة بالوحي وإن لم تظهر كعلوم مستقلة مثل العلوم الدينية الأربعة المذكورة، بل إن كثيرًا من هذه العلوم قد تدخل في أحد العلوم الأربعة؛ فالمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع يدخل في الفلسفة، وعلم السياسة وعلم الاقتصاد يدخل في الفقه، وعلم الجمال أُدخل في الأدب وفنون الشعر والنثر والخطابة، وهي أيضًا فنون ارتبطت بالوحي لا سيما أن الوحي ذاته نظرية في الفن بالإضافة إلى أنه عمل فني، وتكون مهمتنا نحن في وصف الوحي باعتباره علمًا كليًّا يشمل كل هذه العلوم، وإرجاع هذه العلوم الإنسانية إلى مصدرها في الوحي، ويكون الوحي بالتالي هو العلم الإنساني الشامل.
أما العلوم الدينية التي قامت من أجل ضبط الوحي كتابةً فهي علوم مؤقتة تنتهي بانتهاء دورها مثل علوم القرآن والحديث، فهي مرتبطة بالأصول ذاتها، وتحرص على بقائها في كليتها بعيدًا عن التحريف واللحن؛ فهناك علم القراءات واللهجات الذي نشأ من أجل ضبط قراءة النص، وعلم الحديث الذي نشأ من أجل ضبط الرواية، وهي علوم انتهت بانتهاء مهمتها أو باقية ببقاء مناهج النقل التاريخي وعلوم التاريخ وطرق التوثيق وإن شئنا إقامة علوم أخرى مثل العلوم الإنسانية نظرًا لأن الدين يتناول في جميع قضاياه مشاكل من العلوم الإنسانية، بل إن الدين نفسه موضوع للعلم الإنساني، وهو تاريخ الأديان المقارن، وعلم التفسير نشأ من أجل ضبط معاني النصوص والحصول على معاني الوحي طبقًا لحاجات كل عصر وبناءً على اتجاهات المفسر؛ فهناك التفسيرات اللغوية، والتاريخية، والجغرافية، والفلسفية، والكلامية، والصوفية، والفقهية، وهناك التفسيرات الاجتماعية، والتفسيرات الثورية، والتفسيرات من أجل الإبقاء على الأوضاع القائمة. والتفسير علم متجدد لأنه يعبر عن حاجة كل عصر، وهو مرتبط بعلوم القرآن، ومع ذلك يمكن إعادة بناء العلوم النقلية الخالصة مثل علوم القرآن والتفسير وعلم الحديث والسيرة وعلم الفقه من أجل اكتشاف دلالات جديدة للعلوم القديمة مثل المكي والمدني (التصور والنظام، وأسباب النزول، أولوية الواقع على الفكر)، والناسخ والمنسوخ (الزمان والتطور) أو من أجل إعادة بناء هذه العلوم طبقًا لحاجات العصر مثل نقد الحديث من حيث المتن (الاتفاق مع العقل والحس)، وإرجاع السيرة إلى الحديث من أجل القضاء على التشخيص في الوحي، وإعطاء الأولوية لفقه المعاملات على فقه العبادات وتأسيس الدولة الإسلامية.
(٢) العلوم العقلية باعتبارها ظواهر فكرية
وتخضع هذه الظواهر الفكرية لبعض العمليات العقلية والحضارية التي تحدد طبيعتها وتكوينها، فالظاهرة الفكرية ظاهرة حية بالنسبة للنص نفسه باعتباره موقفًا إنسانيًّا في أصله أو بالنسبة لشعور المفكر الذي تعيش فيه الظاهرة أو بالنسبة للبيئة الثقافية الداخلية أو الخارجية التي يعمل المفكر بها، لها أو ضدها، ففي علم أصول الفقه مثلًا تحول النص الديني إلى حكم شرعي عن طريق القياس، وتحول الوحي كله إلى منهج، وفي علم أصول الدين تحول النص إلى معنى عن طريق الفهم أو التفسير، وفي التصوف تحول النص إلى سلوك خلقي عن طريق الزهد والرياضة الروحية، وفي الفلسفة تحول النص إلى نظرة للكون وتصور للعالم لاحتواء نظريات كونية وتصورات للعالم من بيئة ثقافية أخرى، وهذه العمليات إما أغفل الباحثون عنها أو أساءوا فهمها وأصدروا أحكامًا تعسفية تهدف إلى إفراغ الظاهرة من مضمونها كما حدث ذلك في الدراسات التي تبنت المنهج التاريخي، مهمة الباحث إذن هو العصور على منطق لهذه العمليات يمكن أن يكون قانونًا لهذه الظواهر الفكرية، ويمكن أن يكون عناصر لبعض جوانب المنهج الإسلامي، وهو الهدف الأقصى لكل باحث في العثور عليه، وهو أيضًا الهدف الأقصى من «التراث والتجديد» كله، قد تظهر هذه العمليات في أحد العلوم بصورة أوضح مما تظهر في علم آخر، ولكن مهمة الباحث هو تقصي هذه الظواهر في كل علم على حدة، والتعرف على عمليات عامة خضعت لها العلوم كلها بلا استثناء.
وتصاحب هذه العمليات الطبيعية بعض الظواهر الإيجابية والسلبية، فعندما يتحول النص الديني إلى فكرة، والوحي إلى حضارة، تظهر العلوم الدينية العقلية كأبنية نظرية تقوم على فهم نظري للوحي ابتداءً من تفسير عقلي للنص، فبناء العلوم التقليدية يرجع في تقييمه إلى مصدر نشأته وهو النص الديني، الظاهرة الإيجابية هي الظاهرة الفكرية التي تصدر من النص الديني بعد فهمه أو تفسيره ثم تعود إليه دون أن يكون لها بقايا يرجع أصلها إلى التاريخ أو إلى بيئة ثقافية أخرى باستثناء الألفاظ والمصطلحات، وبتعبير آخر، الظاهرة الإيجابية هو النص الديني نفسه بعد امتداده في صورة فكر، ويمكن لهذا الامتداد أن يرجع إلى أصله لو غاب سبب التوتر والشد، فمثلًا في عالم أصول الفقه ومن قبل في علم الحديث، تحول الحديث إلى منطق تاريخي للنقل، التواتر والآحاد للسند، والنقل بالمعنى والوضع بالمعنى للمتن، كما تحول النص القرآني إلى منطق علة قائم على تعدية حكم الأصل، وهو حكم النص في الواقعية المثالية، إلى الفرع، وهو الواقعة الجديدة لاتحادهما في العلة، كما تحول النص الديني بوجه عام إلى منطق للفعل بعد ظهوره على مستويات خمسة للسلوك، وهي أحكام التكليف، وفي علم أصول الدين تحول النص أيضًا إلى معنى أو إلى موضوع نظري مثل النظر والعمل، العقل والنقل، الحرية والاختيار، الذات والصفات … إلخ، وفي الفلسفة تحول النص الديني إلى نظرة شاملة إلى الكون، وإلى تصور فلسفي عام، وإلى وضع الإنسان بين عالمين، الفكر والواقع، وهي قسمة الفلسفة إلى منطق، وطبيعيات، وإلهيات، وفي التصوف تحول النص الديني إلى بناء وتطور للشعور، وإلى علم وصف للمعطيات الشعورية، فالظواهر الإيجابية هي التي تكون البناء النظري للعلم وهي التي يجب البحث عنها واستقصاؤها وذلك بالرجوع الدائم إلى النص الديني ثم بالخروج منه، فالظاهرة الفكرية هي هذا الشد والإرخاء من النص الديني وإليه.
أما الظواهر السلبية فهي الظواهر التي لا أصل لها في النصوص الدينية والتي لا يمكن أن ترجع إليها، وبتعبير آخر هي الظواهر المتبقية والتي يرجع أصلها إما إلى التاريخ أو إلى أصول أخرى والتي لا يمكن إرجاعها إلى النص الديني، وتحدث هذه الظواهر السلبية عندما تفقد الظاهرة الفكرية تكامل عناصرها أو نتيجة لعمل الفكر نفسه، فإذا كان تحول النص الديني إلى معنى عقلي ظاهرة إيجابية لحياة حضارية ناشئة فإن ترسب هذا المعنى وسكونه في حضارة ما ظاهرة سلبية لحياة منتهية، ففي علم أصول الفقه تحول النص إلى حكم عن طريق منطق استقرائي ذي طابع عقلي صارم، متشبع بقسمة عقلية تتشعب إلى قسمة عقلية أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، فظاهرة التشعب الفكري ظاهرة سلبية وذلك لأن النص لم يعد معنى حدسيًّا عن طريق الفهم، وفي علم أصول الدين تحول المعنى المستخرج من النص إلى حجة عقلية، تنقسم إلى حجج ثانية، وهذه إلى ثالثة إلى ما لا نهاية، فظاهرة الاستدلال المستمرة ظاهرة سلبية لأن المعنى لم يعد مستخرجًا من النص بالفهم الحدسي المباشر، صحيح أن التنظير ظاهرة إيجابية، ولكن تشعب التنظير وصوريته ظاهرة سلبية، وفي التصوف تحول معنى النص إلى وجدان على وجدان حتى انتهى إلى تحليلات لا تنتهي للشعور الإنساني في أدق جوانبه في حين أن النص الديني شعور ولكنه شعور يتجه نحو الفعل، وتشخيص العواطف والانفعالات وتجسيمها وتجسيدها ظاهرة سلبية كذلك لأن المعنى الشعوري يظل معنى ولا يتشخص إلا من عاجز عن تحقيق هذا المعنى كبناء مثالي للعالم، والرجوع إلى الداخل أو الصعود إلى أعلى ظاهرة سلبية ثالثة لأن معنى الوحي وإن كان يبدأ من الشعور الداخلي إلا أنه يتوجه نحو الخارج كي يتحقق كبناء اجتماعي، وهدفه هو تحقيق ذلك إلى الأمام وليس إلى أعلى، وقد يكون التصوف هو أكثر العلوم احتواءً على الظواهر السلبية، وأخيرًا في الفلسفة تحول النص إلى تصور للعالم محدد بالزمان والمكان، والنص الديني لا يساوي هذا التصور فإنه أقل حكمًا على العالم، وأكثر شمولًا لجوانب أخرى، معنى السلب إذن هي المغالاة في الطابع العام للنمط الفكري، وهي نتيجة للفكر نفسه، فلا توجد حضارة تقدم ظواهر إيجابية دون أن تقدم معها ظواهر سلبية، وهذا هو معنى تحول الوحي إلى حضارة.
وقد ترجع الظاهرة السلبية إلى نقص في توازن الظاهرة الفكرية باعتبارها ظاهرة متكاملة تعبر عن معنى النص الديني وعن الوحي باعتباره بناءً نظريًّا شاملًا، كما تنتج أيضًا من عمل الفكر في النص، والتاريخ في الوحي، فالنص في طبيعته حقيقة متكاملة تحوي تحليلًا موضوعيًّا لجميع جوانب الواقعة التي يتعلق بها، والفكر بطبيعته ذو جانب واحد مهما دنا من نظرة متكاملة للأمور، يظل الفكر وجهة نظر ورأيًا شخصيًّا مهما قيل في موضوعيته وحياده، ومعظم الانتقادات التي توجه من علم تقليدي إلى علم آخر توجه أساسًا لهذه الظواهر السلبية باعتبارها خارجة عن معنى النص أو عن المعاني العامة للنصوص أي عن روح الشريعة وجوهر الوحي، فمثلًا في علم أصول الفقه تحول مجموع النصوص إلى قوانين وأحكام مع أن المعاني العامة لهذه النصوص ليست مقصورة على ذلك، ومن هنا أتى هجوم التصوف على الفقه كله باعتباره حرفيًّا، خارجيًّا، مائتًا، فارغًا، عقيمًا، سطحيًّا، ساكنًا … إلخ، وفي التصوف تحول النص إلى وجدان وقلب، وحب وعشق، واتحاد وحلول مع أن النص ليس مقصورًا على ذلك، ومن هنا أتى هجوم الفقهاء عليه باعتباره ذاتية، وظنًّا، وتجسيمًا، وتشبيهًا، وفي علم أصول الدين، تحول النص إلى معنى نظري أقل اتساعًا من النص، وأكثر تحديدًا لما لم يحدده النص مثل: الله، وخلق الأفعال … إلخ، ومن هنا جاء الرفض للفرق الكلامية باعتبارها لا تمثل إلا أمزجة شخصية لمفكريها أو اختيارات سياسية لمواقف محددة، وفي الفلسفة تحول النص إلى معنى وإلى تأمل يؤدي إلى التقوى العقلية التي يتم بواسطتها تحويل النص كله إلى خاصة العقلاء وليس إلى جمهور المؤمنين، ومن هنا أتى هجوم الفقهاء على الفلسفة باعتبارها إعلاء للعقل على الحس، وللتقوى الباطنية على الأعمال الخارجية، فالعلوم العقلية تصحح ظواهرها السلبية بعضها بالبعض الآخر مع أنها كلها ردود فعل مشتركة بينها جميعًا، وتكون مهمة «التراث والتجديد» حينئذ إبراز الظواهر الإيجابية، والقضاء على الظواهر السلبية في العلوم العقلية.
(٣) «التراث والتجديد» وقضية توحيد العلوم
بالرغم من أن التراث أعطانا علومًا عقلية أربعة متمايزة هي الكلام والفلسفة والتصوف وأصول الفقه، إلا أن الغاية النهائية من «التراث والتجديد» هو توحيد العلوم كلها في علم واحد يكون مرادفًا للحضارة نفسها، فالعلوم كلها تحاول فهم الوحي وتحويله إلى نظرية كما هو الحال في الكلام والفلسفة أو إلى منهج كما هو الحال في الأصول والتصوف، ولكن الغاية النهائية هو تحويل الوحي ذاته إلى نظرية أو إلى علم أو إلى منهج أو إن شئنا إلى «منهاج».
وتوحيد العلوم أمر ممكن لأن كل علم يشير إلى العلوم الأخرى بالمقارنة وغالبًا بالتفنيد والنقد، ففي علم الكلام نقد للفلسفة خاصةً فيما يتعلق بالأفلاك والمعاني والعقول وقِدم العالم، وفيه أيضًا نقد للتصوف وأفكاره عن الزهد والاتحاد والحلول، ويتضمن أحيانًا بعض المباحث الفقهية والأصولية في خبر الواحد، والمباحث اللغوية والقياس والاجتهاد، وفي الفلسفة نجد إشارات مقتضبة إلى علم الكلام بالرفض لأنه ما زال علمًا تقليديًّا لا يفيد الذكي ولا ينتفع به البليد، يقوم على النص وليس على العقل الخالص، ما زال واقعًا في التشبيه والتشخيص، ولم يستطع أن يتصور الله على أنه وجود، كما تشير الفلسفة إلى التصوف وتتحد بها في الإشراقيات خاصةً عند الفارابي وابن سينا، ولكنها نادرًا ما تشير إلى المباحث الأصولية إلا فيما يتعلق بمناهج التفسير، وأخذ جانب المجاز، والمتشابه، والمجمل، والمؤوَّل، والمطلق وتفضيله على جانب الحقيقة، والمحكم، والمبين، والمقيد، والظاهر حتى يستطيع الفيلسوف تأويل النص بما يتفق مع العقل، وفي التصوف نجد إشارات مستمرة إلى الكلام والفلسفة والأصول بالرفض والتفنيد، فالله ليس كما تصوره علماء الكلام منزلها، والحقيقة ليست كما تصورها الفلاسفة عقلية مجردة أو كما تصورها الأصول على أنها شريعة بل الله عياني، والحقيقة قلبية، والمعرفة كشفية، وأخيرًا في أصول الفقه نجد إشارات أخرى إلى التصوف فيما يتعلق بالأحوال وكيف أنها لا تصح أن تكون سلوكًا عامًّا للناس جميعًا أو إشارات ثالثة إلى الفلسفة في بعض المباحث المنطقية، فوحدة العلوم ممكنة من خلال صورة كل علم في العلم الآخر.
وتوحيد العلوم أمر ممكن، فالتراث والتجديد مع أنه دراسة في الفكر إلا أنه يقوم على منهج فقهي بمعنى أنه يطبق على الفكر القياس الفقهي، ويعتمد على الاجتهاد في الفكر، فكل ما يتفق مع الصالح العام في التراث القديم يبقى ويثبت، وكل ما يخالف الصالح العام يرفض وينقد، فالصالح العام هو الأصل وأحد مصادر الشرع، بل إن الشرع ذاته قائم على أساس المحافظة على المصلحة التي سماها الأصوليون الضروريات الخمس: الدين، والحياة، والعقل، والعرض، والمال، «التراث والتجديد» دراسة فقهية يقوم بها فقيه في الحضارة الإسلامية ككل وليس في الفقه وحده، وقد كان هذا سلوك الفقهاء من قبل عندما كانوا يفتون في الفقه، ويضعون قواعد الأصول ثم يطبقون القياس الشرعي في الأفكار المتداولة في بيئتهم الثقافية في الكلام أو الفلسفة أو التصوف، وبهذا المعنى كان الفقهاء حراس المدينة، وكانوا هم الحريصون على أصالة القديم وجدته المستمرة، فتوحيد العلوم إذن قائم لحساب الفقه والأصول أي لحساب المصلحة العامة التي هي في نفس الوقت مقياس التراث، وأساس الوحي، ومطلب العصر.
وتوحيد العلوم أمر ممكن وذلك بأخذ كل ما أعطته العلوم التقليدية وما لبى مطالب العصر، فتأكيد الحرية في علم التوحيد، والعقل، والعمل، والشورى، كلها أفكار تعبر عن أهم ما أعطى علم التوحيد القديم وما يلبي نداءات العصر، وتشوقه نحو التحرر والعقلانية، والعمل، وحكم الشعب لنفسه، وتأكيد العقل وإمكانياته التي لا حدود لها في التفسير والفهم وهو أهم ما أعطته الفلسفة وهو في نفس الوقت تلبية لاحتياج العصر إلى عقلانية وتنظير، وتأكيد رسالة الإنسان في الحياة وإحساسه بالدعوة والغاية، وعمله لتحقيقها، ووهب حياته كلها لذلك، وهو أهم ما أعطاه التصوف، هو أيضًا تأكيد لمطلب العصر، وتحقيق لإحساسنا بالرسالة، وقضاء على الترهل والانسياب والخواء السائد في العصر، توحيد العلوم إذن أمر ممكن بناءً على ما أعطته هذه العلوم في التراث وبناء على احتياجات العصر.
وإذا كان التراث قد أعطانا علومًا عقلية عبر فيها عن آخر ما وصلت إليه قدراته من تعقيل للنص، وتنظير للوحي، وإذا كان التجديد باستطاعته تحويل هذه العلوم التقليدية إلى علوم إنسانية، فإن العصر الحاضر يود القيام بخطوة أكثر تقدمًا وهي تحويل العلوم الإنسانية وريثة العلوم التقليدية إلى أيديولوجية، وتلك هي الغاية القصوى من «التراث والتجديد» فإذا قال القدماء: الإنسان حيوان ناطق فإننا نقول: الإنسان حيوان أيديولوجي، فالعلوم العقلية القديمة بتحويلها إلى علوم إنسانية معاصرة يمكن بعد ذلك تحويلها إلى أيديولوجية تجيب مطالب العصر، والأيديولوجية ليست مجرد مجموعة من الآراء والنظريات تعطينا تصورًا للعالم قائمًا على أساس التاريخ والطبقة، ولا تطابق الواقع في شيء بل الأيديولوجية علم، وعلم نظري وعملي على السواء، الأيديولوجية علم نظري لأنها تعبير نظري عن مطالب الواقع، وعلم عملي لأنها تعطي وسائل تحقيقها بعفل سلوك الجماهير، فإذا كانت بداية العلوم العقلية التقليدية هو الوحي فإن نهاياتها هي الأيديولوجية، «التراث والتجديد» في النهاية إن هو إلا تحويل للوحي من علوم حضارية إلى أيديولوجية أو ببساطة تحويل الوحي إلى أيديولوجية، وارتباط الأيديولوجية بالواقع، وتعبيرها عن عصر معين لا يعني أنها متطورة ومتغيرة باستمرار، فالوحي أيضًا علم للمبادئ العامة التي يمكن بها تأسيس العلم ذاته وتأسيس العلوم الجزئية، والتي يمكن أن تكون الأساس العقلي للأيديولوجية، تكون مهمة «التراث والتجديد» إذن تحويل الوحي إلى علم شامل يعطي المبادئ العامة التي هي في نفس الوقت قوانين التاريخ وحركة المجتمعات، فالوحي هو منطق الوجود.
(٤) الخطة العامة لمشروع «التراث والتجديد»
«التراث والتجديد» هو العنوان العام للبحث كله لأنه لا يعالج فقط مناهج البحث في التراث القديم بل يعالج التراث ذاته كمشكلة وطنية هي مشكلة الموروث وأثره النفسي على الجماهير وموقفنا بالنسبة له، ووسائل تطويره وتجديده، فالمعركة الحقيقية الآن معركة فكرية وحضارية ولا تقل أهمية عن المعركة الاقتصادية أو المعركة المسلحة إن لم تكن أساسها، وإن الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية كما أنها هزيمة عسكرية، وإن الخطر المدهم الآن ليس هو فقط ضياع الأرض بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد، وانجرارنا إلى نقد الأصالة في تراثنا القديم ونقدنا المعاصرة التي حاولها تراثنا القديم مع الثقافات المعاصرة له، «التراث والتجديد» هو مشروع الأصالة والمعاصرة التي لم نستطع أن نحققها حتى الآن، وبعد توالي الهزائم، ولم نكن نلمسها إلا دعاية أو ادعاء.
ويشمل التراث والتجديد ثلاثة أقسام، تعبر عن موقفنا الحضاري الحالي الذي يحدد اتجاهات الدراسة والبحث.
(٤-١) القسم الأول: موقفنا من التراث القديم
ويهدف هذا القسم إلى إعادة بناء العلوم التقليدية ابتداءً من الحضارة ذاتها، بالدخول في بنائها، والرجوع إلى أصولها لبيان نشأتها وتطورها، سواء بالنسبة إلى كل علم أو بالنسبة لمجموع العلوم، ويتم ذلك بالإشارة إلى هذه الأصول نفسها، والبدء منها واستعمال لغتها، والتفكير مع مؤلفيها بدون أية إشارة إلى عوامل خارجية من ظروف أو تأثرات إلا إذا اعتبرت هذه الظروف كمثيرات وهذه التأثرات كتشكل كاذب، وهي العملية التي تتم بين اللغة والفكر، التعبير عن مضمون الفكر بلغة جديدة، فلا توجد أية إشارات إلى حضارات أخرى معاصرة قديمة أو حديثة لأن هذا القسم الأول يعيد العلوم التقليدية من الداخل وليس بإرجاعها إلى مصادر خارجية عنها أو تطويرها بتطبيقها على علوم في حضارات أخرى، كل ما يهدف إليه هذا القسم هو أن تدور عملية الحضارة، وأن تسير من جديد حتى يعاد ربط الفكر بالواقع، والعلوم بالتاريخ، أما ما يبدو وكأنه صادر لا محالة من حضارة أخرى سواء في اللغة أو في المفاهيم أو في المناهج، وكان الأمر كذلك، فإن ذلك كله له أصوله في التراث وله واقعة في واقعنا المعاصر إما من حيث المطلب أو من حيث الثقافات الشائعة المتداولة السارية في ثقافتنا المعاصرة، لقد أصبح ذلك كله جزءًا من وجداننا المعاصر، ولم يعد دخيلًا عليه، واستعمال ألفاظ الفكر، والواقع، والشعور، كل ذلك له ما يرادفه في التراث القديم، وله ما يبرره في تحليلات الواقع وإن كان لها ما يشابهها في الثقافات الأخرى المجاورة التي دخلت ثقافتنا المعاصرة بفعل التقاء الحضارات، وذلك لا يتعدى استعمال أساليب العصر وليس استعمالًا لأساليب مستعارة.
ويشمل القسم الأول من «التراث والتجديد» وهو «موقفنا من التراث القديم» ثمانية أجزاء، كل جزء خاص بعلم قديم، ثم جزء ثامن على النحو الآتي:
الجزء الأول: علم الإنسان
الجزء الثاني: فلسفة الحضارة
وهي محاولة لإعادة بناء الفلسفة التقليدية، وتوضيح طبيعة العمليات الحضارية التي حدثت في الفلسفة الإسلامية القديمة نتيجة لتقابل الحضارة الإسلامية الناشئة مع الحضارة اليونانية الوافدة مع تناول ما حدث في عصرنا الحاضر منذ القرن الماضي من موقف مشابه من التقاء الحضارة الإسلامية الناهضة مع الحضارة الأوروبية الغازية، ومع أن الفلسفة الإسلامية آخر العلوم التقليدية في الظهور لأنها لم تنشأ إلا بعد عصر الترجمة في القرن الثاني إلا أننا قد ثنَّينا بها لأنها تشارك علم أصول الدين في طابعه النظري في مقابل التصوف وأصول الفقه كعلوم عملية، ولأنها تغلب عليها مباحث الكلام خاصةً في الإلهيات وفي الطبيعيات، ولأنهما معًا، الكلام والفلسفة، متصلان من حيث النشأة عند الكندي، فالفلسفة إن هي إلا علم كلام متطور، ومن حيث النهاية عند الإيجي حيث ابتلعت المباحث الفلسفية المباحث الكلامية، ولأن الفلسفة بثنائياتها تمثل خطورة كبرى على التوحيد.
الجزء الثالث: المنهج الأصولي
الجزء الرابع: المنهج الصوفي
وهي محاولة لإعادة بناء علوم التصوف باعتباره الممثل للمنهج الوجداني، وظهور الإنسان أخيرًا فيه كبُعد مستقل، واكتشاف الشعور كنقطة بداية لتأسيس العلم، ويجيء التصوف أخيرًا لأنه كان رد فعل على أصول الفقه والفقه والمناهج العقلية بوجه عام في الكلام والفلسفة، كما أنه لم يتأسس كعلم قبل القرن الرابع، ولو أنه من حيث النشأة ظهر مبكرًا كحركة زهد وعبادة وبكاء وتحسر أيام الحكم الأموي كحركة مقاومة سلبية للداخل ومتجهة إلى أعلى وليس إلى الخارج ومنطلقة إلى الأمام، والأصول والتصوف كلاهما يمثلان الفكر المنهجي في مقابل الكلام والفلسفة اللذين يمثلان الفكر النظري، والتصوف يمثل خطورة كبرى على وجداننا المعاصر وسلوكنا القومي، تعادل خطورة الكلام، بما يمثله من قيم سلبية من صبر، وتوكل، ورضا، وقناعة، وخوف، وخشية، وبكاء، وحزن إلى آخر ما هو معروف من مقامات وأحوال.
الجزء الخامس: العلوم النقلية
وفيه تتم إعادة بناء العلوم النقلية الخمسة: علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، من أجل إسقاط المادة القديمة التي أصبحت بغير ذي دلالة مثل الآيات التي نسخت قراءتها وحكمها أو تاريخ المصاحف وجمعها وإبراز الموضوعات ذات الدلالة مثل أسباب النزول (أولوية الواقع على الفكر) الناسخ والمنسوخ (الزمن والتطور) … إلخ، أما علم التفسير فإنه أيضًا يُعاد بناؤه بحيث يتم تجاوز التفسير الطولي (سورة سورة وآية آية) وتجاوز التفسيرات اللغوية والأدبية والفقهية … إلخ، وبداية التفسير الموضوع بوصف بناء الشعور ووضعه في العالم مع الآخرين ووسط الأشياء، أما علوم الحديث فإنه يتم فيها تحليل الشعور، شعور الراوي من خلال مناهج الرواية ثم تجاوزها إلى النقد العقلي والحسي للمتن، وفي علوم السيرة يتم الانتقال من الشخص إلى الكلام حتى يتم القضاء على التشخيص وعبادة الشخص في حياتنا العامة.
أما علم الفقه فإنه يتم إعادة بنائه بحيث تعطى الأولوية للمعاملات على العبادات ولنظم الدولة على قانون الأحوال الشخصية.
الجزء السادس: العلوم العقلية
وفيه يتم إعادة بناء العلوم الرياضية من جبر وحساب وهندسة وفلك وموسيقى بحيث يتم اكتشاف موجهات الوحي الشعورية التي أدت إلى الاكتشافات النظرية في هذه العلوم وبالتالي يتم معرفة وظيفة التوحيد في الشعور في البحث عن المفارق والمتعالي وما يعنيه من تقدم مستمر في البحث العلمي، كما يتم إعادة بناء العلوم الطبيعية من كيمياء وطبيعة وطب وتشريح ونبات وحيوان وصيدلة من أجل معرفة وظيفة الوحي في توجيه الشعور نحو الطبيعة وتحليل قوانينها، وهو ما سمي في دراساتنا الحديثة تاريخ العلوم عند العرب وهي العلوم الإسلامية التي نشأت أيضًا بتوجيه الوحي نحو العقلي ونحو الطبيعي، وتكون مهمة هذا الجزء تجاوز الصوري والمادي والعودة إلى الشعوري.
الجزء السابع: العلوم الإنسانية
وفيه يتم إعادة بناء علوم النفس والاجتماع والسياسة والتاريخ والجغرافيا واللغة والأدب بحيث يتم التعرف من خلالها على وظيفة التوحيد في الشعور وتوجيهه إياه نحو الإنساني الفردي والاجتماعي، وبالرغم من أن هذه العلوم قد ظهرت من قبل في العلوم الدينية الأربعة إلا أنها حاولت أن تكون علومًا مستقلة تعتمد على البحث والاستقصاء دون الاعتماد على الحجج النقلية، مهمة هذا الجزء إذن هي معرفة كيفية توجيه الوحي للشعور نحو الإنساني وكيفية تحويل الوحي ذاته إلى علم إنساني.
الجزء الثامن: الإنسان والتاريخ
(٤-٢) القسم الثاني: موقفنا من التراث الغربي
ويشمل هذا القسم خمسة أجزاء، كل جزء خاص بفترة حضارية معينة لحضارة ذات طابع تاريخي خالص لا مركز لها في الوحي إلا من حيث قوة الطرد الذي يمثله لها.
الجزء الأول: عصر آباء الكنيسة
الجزء الثاني: العصر المدرسي
وهي محاولة لتاريخ الفكر الغربي في مرحلته الثانية وهي العصر المدرسي، أو العصر الوسيط المتأخر، وأهميتها أنها هي الفترة التي كانت وعاءً للحضارة الإسلامية بعد أن تمت ترجمتها، وتعرف عليها اللاتين، وتأثروا بها، ونشأت لديهم الفلسفات العقلية والاتجاهات العملية، واهتزت السلطة الدينية والعقائدية، وفي نفس الوقت ظلت السلطة الدينية ممثلة للدجماطيقية والمدرسية حتى حدث بعدها وبفعل التنوير الإسلامي أكبر رد فعل عنيف عليها في العصور الحديثة، وهي أيضًا الفترة التي ظهرت فيها الفلسفة اليهودية العقلية لأول مرة في تاريخ اليهود، ضمن إطار الفلسفة الإسلامية، وهي الفترة التي تواكب ازدهار الحضارة الإسلامية وبلوغها أوجها.
الجزء الثالث: الإصلاح الديني وعصر النهضة
وهي محاولة لتاريخ الفكر الأوروبي إبان الإصلاح الديني وعصر النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وفيها تمت، بعد عصر الإحياء في القرن الرابع عشر، أول محاولة لرفض سلطة القديم في العصر المدرسي، واحتكار الفكر، ورفض السلطة الدينية، وبداية إثبات الحرية والعقل والإنسان كحقائق أولية، وبداية كشف الإنسان بجهده الخاص للعلوم والفنون والصناعات، ورفض تغليف الواقع باسم الدين أو باسم السلطة، ولكنها أيضًا هي الفترة التي بدأت فيها أوروبا في الخروج عن حدودها والاستيطان على سواحل آسيا وأفريقيا وأمريكا، وما سمته الكشوف الجغرافية، وهي بالنسبة لنا بدايات الاستعمار الاستيطاني، وهي الفترة التي تعادل بداية التوقف في حضارتنا بعد ابن تيمية وابن خلدون، وبداية عيش الحضارة الإسلامية على تاريخها، وظهور الموسوعات الكبيرة، وحركة الشروح والملخصات، فبينما يبدأ الفكر الغربي في النهوض تبدأ حضارتنا نحن في التوقف والانحسار، وتنشغل بالتأريخ لنفسها.
الجزء الرابع: العصر الحديث
وهي محاولة لبداية تاريخ الشعور الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر ابتداءً من واقعة الكوجيتو، وبداية الفصم في الشعور الأوروبي بين الاتجاه العقلي الصوري والاتجاه المادي الحسي. وهذان الخطان اللذان سيظلان منبعجين منفرجين حتى يُلمَّ شملُهما من جديد في القصدية الشعورية، وهو العصر الذي يحاول فيه الشعور الخاص اكتشاف الحقائق العامة مثل: التنزيه، والعقل، والحرية، والتقدم، والإنسان، والفردية، والغائية، والمثال، كما وضح ذلك في الفلسفة العقلانية في القرن السابع عشر وفلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، وهما دعامتا الليبرالية الأوروبية، وهي الفترة التي تواكب استمرار توقف حضارتنا وعيشها على ذاتها وتدوينها لتاريخها.
الجزء الخامس: العصر الحاضر
وهي محاولة لتأريخ الشعور الأوروبي في لحظته الأخيرة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين حيث تحاول مذاهب القرن التاسع عشر ضم الاتجاهين السابقين اللذين أفقدا الشعور الأوروبي توازنه في رؤية للظواهر حتى أتت الفينومينولوجيا فاكتملت المثالية الأوروبية وعاد الخطان المنفرجان إلى الشعور من جديد، وتحوَّل الموضوع داخل الذات حتى قضى نهائيًّا على الصورية والمادية، ولكن بدايات الانهيار ظهرت أيضًا في القرن التاسع عشر بانتشار الوضعية، وظهور فلسفات التاريخ التي تعبر عن العنصرية والقوة والسيطرة من أجل المجال الحيوي للقوميات العرقية، وهي الفترة التي بدأت فيها حركاتنا الإصلاحية في القرن الماضي محاولة نقل حضارتنا إلى طور جديد، بادئة بالإحياء ثم الإصلاح.
(٤-٣) القسم الثالث: نظرية التفسير
ويشمل هذا القسم ثلاثة أجزاء طبقًا لوضع الوحي في التاريخ.
الجزء الأول: العهد الجديد
الجزء الثاني: العهد القديم
وفيه يتم تحليل العهد القديم الكتاب المقدس عند اليهود والتمييز بين كتبه وكتب التوراة، وكتب التاريخ (كتب الملوك وكتب القضاة) وكتب الأنبياء وكتب الحكمة … إلخ، ومعرفة ما قاله الأنبياء وما قاله الأحبار والملوك، ثم دراسة تطور العقائد عند بني إسرائيل الذي لا ينفصل عن تاريخهم القومي: عصر البطاركة، عصر الأنبياء، عصر التدوين، والعصر الوسيط والعصر الحديث. وقد كانت هذه سُنة علمائنا القدماء في التعرض إلى نقد الكتب المقدسة، وما زال المطلب قائمًا فنحن ما زلنا في مواجهة أهل الكتاب بمواجهتنا لمخاطر الاستعمار والصهيونية.
الجزء الثالث: المنهاج
انظر أيضًا كتابنا: Religious dialogue and revolution pp. SS.
ولفظ المنهاج مذكور في القرآن لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ٥: ٤٨.
وقد تأخر تنفيذ المشروع ما يقرب من عشر سنوات نظرًا لظروف العمل في مصر داخل الجامعة وخارجها؛ فقد كان المفروض أن يخرج هذا الجزء الأول «علم الإنسان» بعد رسالتنا عن «مناهج التفسير» التي هي تحقيق للجزء الثالث عن المنهج الأصولي، ولكن تأخر للآتي:
- (١)
ضرورة إخراج كتاب في الفلسفة المسيحية هو «نماذج من فلسفة المسيحية في العصر الوسيط» الذي صدر سنة ١٩٦٩م كي يساعد الطلاب على قراءة النصوص.
- (٢)
ضرورة تعريف المثقفين والباحثين والمواطنين بأبحاث الغير وجرأتهم الفكرية على السلطة، دينية أو سياسية، والتي جعلتنا نقدم نصًّا آخر هو «رسالة اللاهوت والسياسة» لسبينوزا، والذي صدر سنة ١٩٧١م.
- (٣)
ضرورة مخاطبة الشعب في مقالات عدة خاصةً بعد هزيمة يونيو والتي جعلتنا نقضي ما يقرب من عامين لتحقيق هذا الغرض والتي جمعناها في قضايا معاصرة، ج١؛ وفي فكرنا المعاصر، ج٢؛ وفي الفكر الغربي المعاصر سنة ١٩٧٦م.
- (٤)
سفرنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية هربًا من الإرهاق في كتابة المقالات ورغبةً في التفرغ للجزء الأول من «التراث والتجديد» على مدى أربع سنوات قمنا خلالها بعدة مقالات نشرناها في «الحوار الديني والثورة» بالإنجليزية في ١٩٧٧م.
- (٥)
انشغالنا من جديد منذ رجوعنا من الخارج في ١٩٧٥م وعلى مدى خمس سنوات في التصدي لقضايا التنوير من أجل الحفاظ على الثورات المعاصرة واستمرارها وإقالة عثراتها وإعدادنا ذلك الآن في: قضايا معاصرة، ج٣ «في الثقافة الوطنية»؛ ج٤ «في اليسار الديني».
- (٦)
استمرارنا في إعطاء نماذج من الفكر الغربي للتنوير الديني في «تربية الجنس البشري» للسنة ١٩٧٧م، ولبداية الوعي الأوروبي ونهايته في «تعالي الأنا موجود» لسارتر ١٩٧٧م تمهيدًا لأفكار «التراث والتجديد».
- (٧)
هذا الجزء من «التراث والتجديد» كان في الأصل مقدمة أولى للجزء الأول «علم الإنسان»، وقد نشر في طبعة مستقلة نظرًا لأنه يحتوي على المقدمات النظرية للمشروع كله، ويكون أشبه بمقدمة ابن خلدون بالنسبة لكتابه «تاريخ العرب والبربر …» ولكنه هذه المرة عن النهضة وليس عن الانهيار.