واشرح هواك فكلنا عشاق
نعود إلى السجين الذي رمى القنبلة على فخامة الغازي في أزمير ولم تنفجر. وقد نُقل إلى أنقرة ووُضِع في سجن انفرادي، فضجر وابتأس وتمنى النهاية الفاصلة، فعزت عليه. وقد عاوده المحققون مرارًا فلم يأخذوا منه حقًّا ولا باطلًا. وأحيانًا كانوا يهينونه ويتهددونه بالعذاب لكي يقر بما يعلمه عن المؤامرة، فلم يقل شيئًا. ثم أعيد إلى سجن أزمير ثانيةً.
وفي ذات يوم وهو في سجن أزمير أدخلوا إلى غرفته سجينًا آخر وهو ينحب ويتضرع ويستغيث ويقول إنه مظلوم بريء. ولكن ليس من يرثى ولا من يرحم. وبقي يندب حظه ويعول ويولول حتى تضايق منه السجين الأول، وسخط به قائلًا: ويحك! هل أنت خلوٌ من أخلاق الرجال تولول كالنساء والعيال وتنحب كالأطفال! لقد أزهقت روحي. إني أرى فيك شكل الرجل، أفلا تخجل أن تبكي هكذا؟
فأجاب السجين الثاني: والله يا صاح ضقت ذرعًا. فكل يوم يأخذونني لدى الضابط فيحقق معي ثم يردونني. وبعد أيام قليلة يأخذوني لدى ضابط آخر فيستجوبني فأعيد نفس الكلام فيردونني إلى السجن، وهلم جرَّا. ولم أعلم إلى الآن متى تكون نهاية هذه الرواية؟ زهقت روحي، ضاق خلقي. حرت كيف أقنعهم أني بري؟ في أيام عبد الحميد ما ذاق الناس مثلما أذوق.
– بماذا يتهمونك؟
– والله يا سيدي إلى الآن لا أدري.
– إذن بأي حالة قبضوا عليك؟
– كنت في ذات يوم سائرًا في الطريق، فإذا بي أرى أوتوموبيل الغازي مسرعًا ثم توقف بغتةً، وسمعت بعض المارة يقولون: «قنبلة»! فأسرعت هاربًا من تلك الناحية، ولكن ما ركضت عشر خطوات حتى كان أحد الناس قد قبض عليَّ وطوق صدري بذراعين كأنهما كلَّابٌ من حديد. ثم ساقوني إلى المخفر.
– وهل أصيب أحد بأذى من القنبلة؟
– كلا؛ لأن القنبلة لم تنفجر.
– إذن أنت متهم برمي القنبلة؟
– كلا البتة. بل قالوا لي: إنهم قبضوا على رامي القنبلة.
– إذن لماذا قبضوا عليك؟
– لأني هربت خوفًا من القنبلة ومن عواقب المسألة. قلت لهم كذلك فقالوا: بل هربت؛ لأنك شريك رامي القنبلة ولك شركاء. فأقسمت لهم بكل إله ونبي أني لا أعرف رامي القنبلة ولا رأيته. ولكنهم أصروا على أني شريك الجاني وأن لنا شركاء.
– قل لهم عن شركائك.
– عمن أقول؟ ومن أظلم؟ وأيُّ شخص أساء إليَّ حتى أرميه بهذ المصيبة. لا يا سيدي، لا أريد أن أظلم أحدًا.
– خفف من غمك يا صاح، إن الدنيا مملوءة مصائب ومظالم.
– أظن حضرتك مثلي متهم بريء.
– بل أنا مجرم وما أنكرت جرمي. أنا رامي القنبلة الذي قبضوا عليه متلبسًا بالجريمة.
– ويحك! إذن … بربك قل لهم إنك لا تعرفني ولا علاقة لك بي. هل تقابلنا يا سيدي غير اليوم! بربك خلصني بكلمة أنا مظلوم.
– أعدك أني أقول إن كانوا يصدقون.
– أحمد الله أني وجدت رفيقًا في هذا السجن أستأنس به. لقد قضيت أيامًا وحدي في سجنٍ آخر فكدت أجن من العزلة.
– من أي بلدٍ أنت؟
– من أزمير.
– وماذا تشتغل فيها؟
– أستاذ في المدرسة العليا، أدرِّس الطبيعة والرياضيات. ولي كتاب في كلٍّ منهما.
– إذن كان يجب أن تكون طويل البال؛ لأن حرفة التعليم تعوِّد المرء على طول البال والصبر.
– إني يا سيدي طويل البال، إلاَّ في السجن.
وما انقضى يوم حتى ائتلف السجينان واستأنسا، وشعر السجين الثاني الدخيل أن رفيقه ليس ضعيفًا إنما هو ذو عواطف رقيقة يتأثر لأقل شيء. فقد استشف من أحاديثه أنه على ذكاء وعلم وأخلاق. وفي خلال الحديث سأله: إلى الآن لم تشرفني باسم حضرتك أيها الزميل.
– هذا ما يريد المستنطق أن يعرفه.
– هل حضرتك من أزمير أيضًا؟
– وهذا ما يود المستنطق أن يفهمه أيضًا.
– عجبًا! وماذا يصير لو أخبرتني اسمك وبلدك و…
– كل هذا يدفع ثمنه المستنطق غاليًا.
– يا أخي نحن صديقان.
– المستنطق أقدم عهدًا بصداقتي منك. فقد اجتمع بي إلى الآن عشر مرات. وأما أنت فمنذ أمس فقط.
– إذا كان يضرك أن تقول اسمك وبلدك وحرفتك فلا تقل؛ لأن معرفة هذه الأمور لا تزيدني اعتبارًا لشخصك. فقد فهمتك ذا نبل. ولعل لك عذرًا فيما فعلت.
فبقي السجين الأول ساكتًا. ثم قال الثاني: يلوح لي أنك شاعر أو تحب الشعر، لأني أراك تزج في حديثك أشعارًا.
– لا أنظم الشعر وإنما أحبه.
– أظنك عاشقًا.
– ومن لا يعشق؟ أما عشقت أنت؟
– أنا الآن عاشق. وما صعب عليَّ إلا أن عشيقتي تندب حظي الآن. آه لا أود الحياة إلا لأجلها!
– يلوح لي أنك لم تتلوَّع في الحب قبل الآن.
– كيف يكون التلوُّع في الحب؟
– اعني أنك لم تقع في حب خليلة كانت تتيه عليك أو أعرضت عنك أو خانتك مثلًا؟
فتنهد الثاني وقال: لا.
– إذن لماذا تتنهد؟
– لأني وقعت في حب حبيبة تحول حبي لها إلى بغض.
فقال الأول: أظنها خانتك.
– لا أقدر أن أقول: إنها خانت.
– إذن لم تكن تحبك.
– كلا بل كانت تحبني.
– إذن أنت ظالم. وإلا فما علتها؟
فتنهد الثاني وقال: تغلبت طاعة أبويها على حبها لي. مع أن الحب يجب أن يكون فوق كل سلطان.
– صدقت. أظنها تزوجت سواك.
وترقرق الدمع في عيني السجين الثاني، وقال وهو يغص في القول: لا. لا.
فقال الأول: إذن بقيت محافظةً على عهدك.
– لا أدري. دعني من هذا الحديث.
وشعر السجين الأول أن ضيفه الجديد أصبح شديد التأثر. فأحجم عن تساؤله. وأمهله ريثما ملك روعه وقال: أظنك تعني حبيبة غير حبيبتك الحالية.
– نعم. نعم.
– يظهر أنك تحب تلك أكثر من هذه.
– كنت أحبها حبًّا شديدًا، لم يذق أحد حبًّا مثله. والآن أكرهها.
– عذرًا وعفوًا. ألعلها عالية المقام جدًّا حتى حال أبواها بينكما؟
– لك أن تقول: إنها ملكة.
– يالله! كل حبيبة لعاشقها ملكة.
لا لا. إنها لفي مقام ملكة. فهل عشقت في حياتك ملكة لكي تدرك قيمة حبي؟
فتمطَّى السجين الأول كأن أعصابه تتشنج، ثم قال: إنك يا هذا تثير فيَّ شجونًا كانت آخذة بالسكون.
فقال الثاني: تعني أنك عشقت ملكة؟
فقال الأول متململًا: أجل، عشقت عشيقة كنت أجهل أنها شبه ملكة. فلما بدأْت أكتشف حقيقتها أفلتت من يدي.
كنت كآدم في الجنة. فلما أكلت من شجرة معرفة الخير والشر طردني الله من الفردوس.
فقال الثاني راثيًا: الحق أن مصيبتك أعظم من مصيبتي. فماذا فعلت؟
– لا تسل. كدت أجن، بل جننت. آه، إن قصتي قصة يا صاحبي. تؤرخ كتاريخ.
فقال الثاني: يا أخي، لكل إنسان قصص.
– لا لا. مثل قصتي لم يحدث.
– وأنا أقول لك قصتي وانظر.
فقال الأول يريد اختصار الحديث: تريد أن تقول لي إنك أحببت بنت ملك أو بنت أمير أو بنت ذات مثلًا، وهي لحداثة سنها أظهرت لك الحب ثم لما كبرت شعرت أنها أخطأت فأعرضت؟
فقال الثاني: لا لا. بل لما شعر أهلها بحبنا زجروها وبقيت تحبني. أليست هذه قصة أليمة؟
فقال الأول متبجحًا: لا لا. هذه حادثة بسيطة تحدث كل يوم. أما حكايتي أنا فلا مثيل لها. فاسمع واعتبر.
فاشرأب عنق الثاني وقال: ها أنا سامع.
فقال أول: كنت في مدينة عظيمة.
– في استمبول؟
– لا لا. دع هذا التحقيق. لا أود أن أقول أين. كنت في مدينة عظيمة وتعرفت بِمَرْأَةٍ جميلة الصوت وبارعة في فن الموسيقى. وكانت تُدرِّس الغناء والبيانو في المنازل. وقد أعجب معارفها بآدابها ونبالة أخلاقها وسمو مبادئها. وما مضى على تعارفنا برهة حتى وقعنا كلانا فريسة للحب. وأما أنا فشعرت أن حياتي هي حب هذه المرأة. فإذا قتل هذا الحب ضاعت الحياة.
فتبسم السجين الثاني وقال: يا أخي كل حب حقيقي هكذا يكون.
فتمرمر السجين الأول وقال ساخطًا: سمعًا يا سيدي سمعًا. رضيَت مني كل شيء، ولبَّت كل طلب إلا الزواج. فاستغربت أمرها؛ لأن الزواج كان من مصلحتها. وكانت في أصبعي مثل الخاتم في الخنصر. انتقلت بها من بلد إلى بلد ومن حيٍّ إلى آخر، ومنعتها من تعليم البيانو، فطاوعتني. وقد رجوتها بكل جوارحي أن نتزوج حتى أضمن بقاءها لي، فذهب كل رجاء كالهباء.
– لعلها كانت مرتبطة بسواك.
– لو كانت كذلك لما تجاسرت أن تستسلم لي كالنعجة، بل كانت تؤكد لي أنها غير مقيدة مع أحد. في ذات يوم وقع في يدي خطاب وارد لها كان في درج المكتب نسيته خطأ. فكان فضولًا مني أن أفتحه وأقرأه، فدهشت؛ إذ هو مبدوءٌ هكذا: حضرة صاحبة السمو الدوقة فلانة الفلانية.
وبعد ذلك خطاب من مرأة كانت خادمة لها، تقول لها إنها تود مقابلتها لأمر. ثم دخلت ورأتني أقرأ الخطاب. فاستاءت جدًّا؛ لأني اطلعت على الخطاب. وبالغت بالاعتذار لها. ولكن الاعتذار لم يجد؛ لأن اطلاعي على الخطاب كان كاشفًا لسرها، ولم يعد ممكنًا إخفاء السر عني. منذ ذلك الحين فهمت لماذا لم تشأ أن تتزوجني؟ أجازت لنفسها أن تعيش كسائر الناس وهي في الظاهر من عامة الناس، وإنما حسبت حساب أن تعرف بعدئذٍ دوقة أو أن تود أن تعود إلى طبقة الأريستوقراط. فرامت أن تبقى مطلقة الحرية.
وكان السجين الثاني قد سمع منصتًا مستغربًا، فقال: يا عزيزي عفوًا، لقد كنت فضوليًّا في أن تقرأ خطابًا لها وهي ليست زوجتك.
فلطم السجين الأول خديه، وقال: أي نعم، كنت فضوليًّا، وقد كلفني هذا الفضول كل سعادتي. في اليوم التالي اختفت من الوجود. بحثت عنها فلم أجدها لا في سماء ولا في أرض.
– يالله! كيف استطاعت أن تختفي عنك؟ أين الحب؟ أين الدهاء؟ أما استطاع فؤادك أن يطير وراءها حيثما كانت؟
فتنهد السجين الأول — رامي القنبلة — ملء صدره، وأنَّ وقال: أجل، طار قلبي شعاعًا. طفت المدينة العظيمة كلها. ثم انتقلت إلى مدن أخرى. ولكن هل إذا طفت العالم كله باحثًا عنها أجدها؟ هذا شبه المستحيل. فوكلت أمري للقدر والقدر خدمني.
فاشرأب السجين الثاني قائلًا: وجدتها؟
– حلمك. دخلت ذات يوم إلى ملعب كبير فخم أنيق، بغية أن أسرِّي عن نفسي؛ لأني كدت أذوب غمًّا. وفي الفصل الثاني ظهرت على المسرح امرأة آية في الجمال والأبهة، وجعلت تغني غناءً شجيًّا. فحدثتني نفسي أن تكون هذه المرأة دوقتي. الملامح ملامحها بيد أنها ازدادت أبهةً وجمالًا. والعينان عيناها بيد أنهما أشد بريقًا. والقامة قامتها على أنها أرقُّ خصرًا. وما غالطت نفسي قط؛ لأن الصوت صوتها وقد ازداد شجوًا. لم يبقَ عندي ريب في أنها هي. فطار لبي شعاعًا وهاج قلبي خفوقًا، وخفت أن يستخفني الطيش فأثب إلى المسرح؛ لأني لم أكن بعيدًا عنه. ما صدقت أن انتهى الفصل حتى خرجت وقصدت توًّا إلى جناح الممثلين في الملعب، وطلبت مقابلة «كوكب المسرح» مقدمًا بطاقتي. فقال حارس الباب: إنها لا تقبل زوارًا هنا بتاتًا. فقلت: لا بأس أعطها هذه البطاقة وانظر ماذا تقول؟
فعاد بالبطاقة وقال: إنها لا تقبل بطاقات.
فقال السجين الثاني: ألا تشعر أنك أخطأت بتقديم بطاقتك لها وهي نافرة منك؟ أما كان يجب أن تباغتها مباغتة في منزلها مثلًا؟
– نعم. نعم. كذا كان يجب أن أفعل. وقد ندمت بعدئذٍ على تسرعي هذا. سألت عن منزلها فأنكر الحارس أنه يعرفه. فصبرت حتى انتهى التمثيل وترصدتها عند باب الجناح الخلفي في أوتوموبيل. فإذا بها خارجة يختصرها شخص، فهمت حينئذٍ أنه من العظماء؛ لأن الذين كانوا وقوفًا هناك أعظموا قدره في التحية. فاعترضت في طريقهما لكي أكلمها، فانتهرني ذلك الرجل العظيم قائلًا: «يا لقلة الذوق والأدب!» فخجلت وارتددت وأنا أقول بصوتٍ خافتٍ تسمعه هي: أهكذا تعاملين فلانًا يا فلانة؟
– وماذا بدا منها حين رأتك أو سمعت كلامك؟
– تصرفت كأنها تجهلني بتاتًا. فذبت غيظًا ووجدًا. وركبت أتوموبيلًا مع ذلك الرجل العظيم. فتبعتهما في أوتوموبيلي وراءهما إلى أن وقف أوتوموبيلهما لدى قصر فخم، فحسبته قصر ذلك العظيم. ولكن لما دخلا فيه ترجلت من أوتوموبيلي وسألت البواب عن صاحب القصر، فقال: هذا قصر الممثلة فلانة. فاستغربت ذلك كل الاستغراب، وقدمت بطاقتي للبواب وطلبت إليه أن يقدمه لها في الحال؛ لأني أود أن أقابلها لأمر ذي شأن.
فعاد البواب بالبطاقة يقول: إنها لا تقابل أحدًا قط. فكدت أجن من شدة الغيظ. وعدت أفكر ماذا أفعل لكي أحصل على لقاء بها؟ ففي تلك الليلة كتبت كتابًا مسهبًا لها أشرح فيه ما قاسيته من العذاب لهجرانها. وبالغت في الاستغفار منها والاعتذار عن فضولي، وفي الاستعطاف والتذلل والترجي والتمني والتوسل، إلى غير ذلك مما يمكن أن يحرك قلب المعشوقة عطفًا على العاشق. وفي صباح اليوم التالي أخذت هذه الرسالة وأعطيتها لبواب القصر لكي يقدمها لها. فما لبث أن عاد وردها لي مختومة كما أخذها وقال: إنها رفضت قبولها ولا تريد أن تأتي ثانية. ثم قال البواب من نفسه: أرجو يا هذا ألا تعود ثانية إلى هنا؛ لأني لن أدخل بطاقتك ولا رسالتك إليها لكيلا أسمع كلامًا باردًا كما سمعت الآن.
ثم أرسلت الرسالة في البريد مسجلة. وصرت أحضر التمثيل وأنا أتقلَّى على مثل الجمر. وكلما ظهرت في المسرح وغنت كانت تهيِّج كل بلابلي. ومتى خرجت أتبعها إلى دراها والبواب يزجرني قائلًا: حاذر أن تدنو من هنا. فبقيت أحوم حول ذلك القصر وأنا أستغرب كيف أنها تعيش في قصر عظيم كهذا؟ فمن أين لها المال حتى تدفع أجرته وتفرشه وتنفق هذه النفقات الوافرة؟ هل تكسب ما يوازي هذه النفقة؟ وهل ينفق عليها هذا العظيم الذي يرافقها إلى منزلها؟ بيد أني فهمت أنه ليس غنيًّا كثيرًا. وبقيت بعد ذلك أسبوعين على هذا الحال: أحضر التمثيل في الملعب، ثم أتبعها إلى منزلها، وأحوم حول قصرها حتى يتولاني الكلال والملال، فأعود حزينًا وأكتب لها متضرعًا فلا تجيب. ثم كتبت لها ذات يوم مهددًا أن أفعل كل منكر إذا لم تسمح بمقابلتي. فأوعزت للبواب أن يسمح لي بالدخول، فدخلت إلى مجلسها فإذا عندها رجل. فقالت: إلى متى هذا الجنون؟ ما هذه الخطابات التي ترسلها إلي؟ وما هذه الحكايات التي تلفقها؟ متى عرفتك ومتى التقيت بك؟
فقلت لها: إن الذين يعرفوننا معًا كثيرون يا فلانة، فأستغرب أن تتجاسري على الإنكار.
فسخطت بي قائلة: أين هم الذين يعرفونني ويعرفون أني أعرفك؟ لا أعرف شيئًا من هذه الأسماء التي تذكرها والمحلات التي تشير إليها في رسائلك هذه. لعلك تعني امرأة أخرى غيري!
فتململت وقلت لها: لا بأس يا سيدتي، إذا شئت فنرجئ الحساب والعقاب إلى حين آخر. وقصدت بذلك أن يكون اجتماعنا وحدنا وليس معنا غريب. فقالت: بل الآن أود أن أصفي هذا الحساب الثقيل. فإما أنك يا هذا غلطان تعني امرأة أخرى غيري تشبهني، أو أنك مجنون. وأنا غير مسئولة عن عواقب جنونك أو أخطائك. فإن كنت تحرك أقل ساكن بعد الآن فثق أني أقدم كل هذه الرسائل التي أرسلتها لي إلى المدعي العمومي وأقاضيك. إني أحفظها لهذا القصد. تفضل يا سمو الأمير اقرأ رسائل هذا الأحمق واحكم!
وناولَت الرسائل كلها إلى ذلك الضيف لكي يقرأها. فذبت خجلًا وكدت أغالط نفسي.
فقال الثاني: لا ريب أنك غلطان؛ لأن الناس يتشابهون كثيرًا. فلطالما حدثت مثل هذه الأغلاط بسبب المشابهة.
– مستحيل أفندم، مستحيل. غالطت نفسي فلم تقبل المغالطة: المرأة التي عشت معها أكثر من عامين وكانت كل دقيقة من دقائق ملامحها، وكل نبرة من نبرات صوتها، وكل حركة من حركاتها مطبوعة في أعماق ذاكرتي، يستحيل أن أضل عنها. هي هي بعينها، فما أنا سكران ولا مجنون. وإنما هي رامت أن تنكر شخصيتها السابقة بتاتًا.
فقال الثاني: يلوح لي أن قلبها تغير عليك.
– نعم نعم. وثقت حينئذٍ أنها لم تعد تحبني ذلك الحب.
– لعل نسق المعيشة الجديدة الذي حصلت عليه كان السبب.
– نعم، إني لا أستطيع أن أجعلها في مثل ذلك البذخ ولا في مثل ربعه. ولكنها لما فارقتني لم تكن تحلم بمثل هذا البذخ. ولا أعتقد أن الحب تؤثر عليه …
فقاطعه الثاني قائلًا: آ … يا … يظهر يا صاحبي أنك قليل الخبرة أو جديد في عشرة النساء. إن البذخ والترف عند المرأة فوق الحب، بل هما غذاء الحب لها.
– لا أدري يا أخي لا أدري. آه! لا تقدر أن تتصور ماذا كان تأثير هذا الجفاء الهائل عليَّ. شعرت أنها لم تعد تحبني، وأن الاستعطاف لا يلين قلبها. فصرت أتمنى علاجًا ناجعًا لشفائي من حبي. فماذا تفعل لو كنت مكاني؟
فتمايل الثاني في مجلسه قليلًا، ثم قال: أنا مكانك أبغضها إلى حد الحقد وأنتقم منها شر نقمة. أقل ما أفعله أني أفرغ رصاصة في صدرها.
فهزَّ الأول رأسه وقال: إذن أنت لست من طائفة العشاق، بل من طائفة محبي النفس القساة. لقد لاح لتلك المرأة أني قد أنتقم منها فأغدر بها فأقامت حرَّاسًا لها. فكتبت لها كتابًا يلين الحجر لو يحب، وقلت لها فيه: إني أحبك إلى حد أن أضحي بنفسي لأجلك، فإذا علمت يومًا أني انتحرت فثقي أني لم أجد علاجًا لمرض حبي غير الانتحار.
فقال الثاني: حقًّا إن الناس أصناف في الحب. أنا لا أستطيع أن أفعل هكذا مهما عظم حبي واشتد وجدي. إذا عظم الأمر أقتلها وأقتل نفسي على الأثر.
فتنهد الثاني ملء صدره، ثم سكت كمن يأخذ هدنة.