سامع شتيمته بأذنه باسم
في دقائق معدودة كان الأتوموبيل أمام دار مصطفى باشا كمال، فخرجا منه ودخلا بين الحراس، ودخل رجاء مع نميقة إلى غرفة خاصة بسيطة وقال: انتظري هنا يا عزيزتي. سيأتي المشير فوزي باشا لمقابلتك حالًا.
وبقيت نميقة وحدها خافقة الفؤاد وهي تجيل نظرها في الغرفة، فلا ترى فيها إلا بعض الأسلحة المعلقة في الجدران كتحف، ومنضدة وبعض كراسي ومقعد.
وبعد نحو عشر دقائق دخل رجاء يصحب الغازي مصطفى باشا وهو في ثوب جندي برتبة مشير، وقال له: حضرتها الآنسة تريزا بريسكا الروسية يا دولة المشير فوزي باشا. وقد وصلت الآن لكي تقدم لك معلوماتها.
ثم جلس الغازي في مقعده لدى المكتب وتريزا لديه، وقال: إني شاكر اهتمامك أيتها السيدة المحترمة في إعطائنا المعلومات الثمينة، التي يتوقف على إعطائها تقرير المصير. فتكرمي بها الآن.
فقالت تريزا — أو نميقة: إن معلوماتي يا سيدي جاءت عرضًا إلي، ولا بد من رواية حكاية اتصالي بها بالاختصار الممكن، لأني أخاف يا دولة المشير أن يفوت وقت الحاجة إليها.
– لا تخافي، لقد اتخذنا الاحتياطات اللازمة.
فقالت: إني يا سيدي فتاة روسية من أودسا، ولكن أبويَّ أقاما في الآستانة، فأصبحت كأني تركية وتعلمت في مدارس الآستانة.
– أنعم بك من روسية تركية.
– ثم رزئت بوالديَّ وأصبحت ولا ملاذ لي إلا الله ونفسي. وقد عني أبي بتعليمي فتعلمت بعض اللغات والعلوم جيدًا، وكنت أسعى أن أشتغل في تدريس دروس خصوصية. وأخيرًا نمى إلي أن في الآستانة دوقة روسية متنكرة وأنها غنية وتحتاج إلى كاتبة أسرار.
فقاطعها المشير قائلًا: ما اسمها؟
– قيل يا سيدي: إنها تدعى الدوقة مريم رومانوف، وإنها بنت الغراندوق نقولا أو حفيدته والله أعلم. وإنما كانت تَنَكَّرُ باسم المدموازال دلزل. وكانت تغني في أحد الملاعب لأن صوتها بديع. ولما كنت أنا أعرف اللغة الروسية جيدًا قصدت إليها وعرضت نفسي كاتبة سر لها. فقبلتني بكل سرور ولاطفتني جدًّا. ولكني ما لبثت أن شعرت أن منزلها مزار للكبراء والأمراء ممن يتحببون إليها ويتوددون. فقلت لها: «إني أود أن أكون منفردة في مكتبي ولا أود أن أختلط مع أحد من زوارك يا سمو الدوقة، فإذا كنت تحتاجين إليَّ في خدمة أو عمل فأرجو أن تشرفي إلى المكتب.»
فقال الغازي: ونعم الشرط! فعسى ألا تكون قد أبته.
– كلا، بل كانت مسرورة بشرطي هذا. واغتنمت فرصة مناسبة ذات يوم وقالت لي: إنها تثق بأمانتي واستقامتي، ولهذا لا تتخوف من اطلاعي في بعض الأحيان على أسرارها. وأفهمتني أنه ليس لها من الأسرار والمساعي ما يخالف الضمير والعدل، وإنما هي تسعى لصيانة مقامات الكبراء التي صار يُخشى عليها من تطاول عامة الشعب. فشكرت لها حسن قصدها، وفهمت أنها طريدة البلشفيك، وأنها تسعى لعقد جمعية سرية أو شبه سرية لجمع كلمة الأمراء والكبراء في كل البلاد لاتخاذ كل الوسائل المشروعة لوقاية مقاماتهم.
فقال المشير الغازي: نِعم المسعى! وهل عندك بينات ومعلومات عن هذا المسعى؟
– نعم، فقد استكتبتني ذات يوم دعوة عمومية لعديد من الأمراء والكبراء لعقد اجتماع أو مؤتمر عندها. وعندي نسخة منه.
وفتحت تريزا — نميقة — حقيبتها واستخرجت عدة أوراق، وانتقت منها تلك الورقة وقدمتها للمشير الغازي، وكان رجاء إلى جنبه يطلع عليها معه. فإذا هي نسخة نفس الدعوة التي وجدوها بين الأوراق. ثم قال مصطفى باشا: وهل عندك أوراق أخرى؟
– نعم، سأُري دولتكم كل شيء. ثم قدمت لي الدوقة ذات يوم ورقًا منضدًا بكل عناية، وأمرتني أن أكتب عليه أسطرًا قليلة مكتوبة على ورقة أخرى، فكتبت.
– ماذا كانت الكتابة؟
– لا أتذكرها بالحرف الواحد لأنها غامضة، وإنما يستدل منها أنها رسالة من أحد الأمراء لها. فاستغربت الأمر كل الاستغراب. ثم كلفتني بكتابة أسطر أخرى على ورق آخر منضد، أعني عدة صفحات بعضها فوق بعض، وبينها أوراق أخرى من غير شكلها، ولاحظت أيضًا أن هذه الأسطر كرسالة من شخص لآخر. وفي ذات يوم قدمت لي رسالة مكتوبة وقد قُطِع منها العنوان والإمضاء، وسألتني إن كنت أستطيع أن أكتب خطًّا مشابهًا لخط هذه الرسالة. فمارست الكتابة حتى استطعت أن أكتب خطًّا مشابهًا لها. وعند ذلك أمْلَت عليَّ كلامًا كتبته على أوراق منضدة أيضًا. وقد تكرر الأمر واستكتبتني أسطرًا مختلفة على أوراق مختلفة، حتى ارتبت فيها وأوجست منها وشغل بالي شغلها هذا. وفي ذات يوم عثرت على مكتبي بنضيد من هذا الورق كأنها نسيته، وعليه كتابة من خط يدي. فقلبت الورقة التي كتبت عليها فإذا تحتها ورقة من ورق الكربون الجيد جدًّا البنفسجي اللون، فقلبت هذه الورقة فظهرت كتابتي تحتها تمامًا كأنها مكتوبة بحبر بنفسجي. والغريب أني رأيت في آخر الكتابة إمضاء أحد الأمراء مع أني لم أكتب إمضاء. فاستغربت كل الاستغراب كيف جاء هذا الإمضاء في آخر الكتابة؟! وبعد تفكير قليل أدركت أن الإمضاء كان مكتوبًا من قبل على الورقة المغطاة بورقة الكربون التي كانت تحت الورقة التي كتب عليها، وأن كتابة الإمضاء نفسها كانت بلون الكربون، كأنَّ ذلك الأمير أمضى إمضاءه على ورقة غير تلك التي كانت فوق الكربون. فظهر الإمضاء على الورقة التي تحت الكربون. ولكن لماذا أمضى ذلك الأمير إمضاءه؟ وفي أي حال وكيف؟ هذا هو السر الذي بقي غامضًا عندي.
وكان مصطفى باشا يسمع الكلام مستغربًا وينظر في رجاء ورجاء يبتسم. ثم قال: وهل بقي هذا السر مكنونًا؟
– كلا، بل اكتشفته أخيرًا.
فاشرأب الغازي وقال: كيف؟
فقالت: لما صرت أرتاب بأعمال الدوقة وحركاتها، صرت أحتاط لنفسي؛ بمعنى أني أتجنب ما أمكن أن ألبي أوامرها هذه، وصرت أفتكر في أن أنفصل عنها مخافة أن أقع تحت شبهة. ولكن قبل أن أبتَّ أمرًا قالت لي ذات يوم: «أرجو منك أن تأخذي إلى منزلك هذه الحقيبة وتنتظري مني رسالة أنبئك إلى أين توافينني بها، لأني مسافرة اليوم. وبعد يومين أو ثلاثة ترد إليك مني رسالة بتعليماتي. وهذه عشرة جنيهات لأجل النفقات.» فأخذت الحقيبة. وفي اليوم التالي علمت أن الحكومة قبضت عليها وعلى بعض الأشخاص الذين كانوا يزورونها. فدهشت وجزعت وخفت أن تكون الحقيبة التي عندي مشتملة على أذية لي. ففتحتها فإذا فيها أوراق كتلك الأوراق التي كانت تستكتبني عليها. فجعلت أفحص تلك الأوراق، فما لبثت أن فهمت الحيلة الشيطانية. فهمت أن تلك الدوقة كانت تغري أولئك الأمراء الساذجين السليمي النية وتقدم لكل زائر منهم ذلك الورق المنضد، وتلتمس منه أن يكتب أي جملة ويوقع تحتها لتحفظها كتذكار عندها، فكان يكتب هذا مثلًا: «الله جميل يحب الجمال» ويوقع اسمه تحته. وذاك يكتب: «العدل أساس الملك» ويوقع اسمه تحته. وكانت تضع تحت الورقة ورقة صغيرة من ورق الكربون الجيد اللون في نفس النقطة التي يوقع عليها كاتب الجملة، بحيث لا تظهر الجملة على الورقة التي تحت الكربون بل يظهر الإمضاء فقط. ثم كانت تضع تلك الورقة — التي أصبحت ممضاة على بياض — تحت ورقة الكربون وتضع فوق ورقة الكربون ورقة بيضاء وتستكتبني عليها الأسطر التي تريدها. وكانت تعين لي المكان الذي يجب أن أكتب عليه حتى تقع الكتابة فوق الإمضاء لا بعيدة عنه ولا طامسة عليه.
فتمايل مصطفى باشا في مكانه وقال: يا للعجب! يا للدهاء! ولكن ماذا كان غرضها من هذه الأوراق التي تزوِّر فيها رسائل من الأمراء، وهي تزعم أنها تريد جمع الأمراء في جمعية تعمل حرصًا على حقوقهم؟
– الحق يا سيدي المشير أني تحيرت بدهاء هذه الماكرة وعملها. فخطر لي أنها ليست دوقة كما تدعي. وقد تكون جاسوسة لذلك الكافر الملحد المتبلشف مصطفى باشا كمال.
فاختلج الغازي ونظر إلى رجاء وهما يتباسمان، فقال رجاء: لو كانت هذ الدوقة جاسوسة الغازي مصطفى باشا لما كان يأمر بالقبض عليها.
فقالت نميقة: وما أدراك أنه أطلق سراحها وكان قبضه عليها تمويهًا. ألا تظن كذا يا فوزي باشا؟
فقال مصطفى باشا: لا يهمنا أمرها، وإنما يهمنا أن نطلع على هذه الأوراق الآن.
ففتحت نميقة الحقيبة وجعلت تستخرج تلك الأوراق التي شرحت أمرها. وكانت تُشفع كل ورقة بشرح خاص. وأخيرًا قالت: ترى يا دولة المشير فوزي باشا أن هذه الأوراق إذا أظهرت بإزاء أوراق كمال وعصمت التي يرومون بها أن يثبتوا تهمة الخيانة على الأمراء أظهرت كالصبح لذي عينين فساد تلك. وأمكنك يا دولة فوزي باشا أن تفقأ حصرمة في عيون مصطفى وعصمت وأنصارهما.
فقهقه مصطفى باشا ورجاء، وقال الأول: أود أن أعلم يا آنسة ما الذي حملك على حفظ هذ الأوراق وتقديمها لنا لكي ندفع بها التهمة عن الأمراء؟
– الضمير والحق يا سيدي. علمت أن الأمراء سيطردون مظلومين مضطهدين بتهمة مزورة. وفي يدي براهين على براءتهم. أفلا أكون لئيمة أو شريرة أو بلا مروءة إذا كنت لا أظهر هذه البراهين؟
– بارك الله غيرتك يا آنسة. بقي أني أود يا سيدتي أن أعلم: ألست أنت التي أرسلت ذلك التلغراف بلا إمضاء إلى البرنس سناء الدين تحذرينه من زيارة الدوقة؟
فامتقعت نميقة وحارت ماذا تجيب وبقيت صامتة. فقال مصطفى باشا: إنما أسألك هذا السؤال لأن ذلك التلغراف هو الذي جاء بالنكبة على الأمراء؛ بسبب أنه كان مفتاحًا لفتح باب المكيدة. ذلك التلغراف نبه الحكومة لتفتيش بيت الدوقة والعثور على تلك الرسائل التي تثبت الخيانة على الوزراء.
فقالت: ما زلت مستغربة يا سيدي فوزي باشا أن الدوقة لم تضع تلك الرسائل في الحقيبة مع سائر الأوراق التي رامت تهريبها؟! ولهذا اعتقدت أنها كانت تكيد المكيدة للأمراء؛ لكي توقعهم في يد الحكومة، فكانت تشتغل لأجل مصطفى كمال. ولا ريب أن تلك الأموال التي كانت تنفقها بغزارة كانت من خزينة حكومة مصطفى كمال اللص البلشفي.
فامتقع لون مصطفى باشا وهو يسمع شتيمته بأذنيه صامتًا، وإنما أخفى امتقاعه بضحكة مصطنعة اشترك بها رجاء، وقال: إذن كانت الرسالة منك للبرنس سناء الدين، وأستغرب أنك خصصته بها دون غيره من الأمراء.
– اختصصته بها إكرامًا لروح بنته التي كانت صديقتي في أيام المدرسة.
فقال الغازي: يظهر أن هذه العشرة الطويلة جعلت خطك كخط بنته نميقة، حتى إن البرنس لما رأى نسخة التلغراف الأصلية صاح: «هذا خط بنتي! إن روح بنتي حاضرة.» أليس هكذا حدث يا رجاء الدين أفندي؟
فقال رجاء الدين: لم أسمع بهذه الحكاية يا باشا. ربما حدثت حين كنت سجينًا.
فضحك الغازي وقال: لا. لعلك لم تسمع بها لأنها لم تنشر في الصحف، وأنت لا تعرف إلا أخبار الصحف. أظن حضرة الآنسة قد جادت بكل ما عندها.
فقالت نميقة: نعم يا سيدي المشير، وأظن هذه المعلومات كافية لتبرئة الأمراء، فحبذا أن ترغم بها أنف مصطفى كمال.
فقال رجاء: إن دولته لعامل اليوم على إرغام الأنوف يا آنسة. ولك الآن أن تقترحي على دولته المكافأة التي ترغبينها.
فقالت نميقة: لا أطلب إلا إنقاذ الأمراء مكافأة وحسبي.
فقال مصطفى باشا: ثقي أن سناء الدين أبا صديقتك لا يمسه الضر. وفوق هذا لك يد رجاء مكافأة، فهل تكتفين بها؟ ومعها أيضًا وظيفة عالية له. فما قولك؟
فأطرقت نميقة ولم تجب. فقال الغازي: السكوت خير جواب. قم يا رجاء واستدع المأذون لعقد زواجكما، فهو منتظر أمرنا الآن.
وفي بضع دقائق كان المأذون معهم يكتب عقد الزواج والغازي شاهد. فلما طلب المأذون إلى الغازي أن يوقع شهادته على عقد الزواج كتب هذا إمضاءه، وقدم العقد لنميقة لتطلع على الإمضاء. فلما رأت أنه اسم الغازي مصطفى باشا كمال انتفضت وصاحت: ويلي! أهكذا خدعتني يا رجاء؟ ويحك!
ولطمت خديها. أما الغازي فصافحها قائلًا: أهنئك بهذا الزوج الداهية الذي لا يصلى له بنار.
فصاحت: ويلي! والأمراء يا باشا؟
– وعدتك بألا يُمس أبواك بضر وإني على الوعد. وأما سائر الأمراء فاطلبي حياتهم من رجاء.
وخرج الغازي وبقيت نميقة مع رجاء تصيح وتصخب: ويحك! ما هذا الخداع؟ الأمراء. الأمراء! الخليفة!
فقال لها: اشكري الله أن الغازي منحك سعادة أبويك. أما سائر الأمراء والخليفة فغدًا يبرحون الآستانة، ونرتاح من وطأة غطرستهم. قلت لك: إني منتقم. وقد انتقمت. ولولا الغازي لسحقت أبويك أيضًا، فهما أعدى أعدائي وبسببهما وجهت نقمتي للأمراء كلهم. فاشكري الله أنهما في حمى الغازي.
•••
في ذلك المساء ذهب رجاء بزوجته نميقة إلى دار السفارة الروسية، فاستقبلهما السفير وعيلته بكل ترحاب واحتفلوا بهما وأولموا لهما وليمة فاخرة. وقال السفير: أهنئك يا رجاء بسليلة السلاطين.
فقال رجاء: وأنا أهنئك يا سيدي ببلشفة تركيا. ها قد انضم إلى عقيدتكم عضو جديد، هو الشعب التركي.
فقال السفير: العُقْبَى للشعوب الأخرى، بهمتك يا رجاء.
في تلك الساعة ضرب جرس التلفون، فتناول السفير السماعة.
– من؟
– مصطفى باشا كمال.
– أهلًا يا دولة الغازي.
– ها. هل سكتت ثورة نفسكم يا سعادة السفير؟ لقد نفذنا كل برنامح اتفاقنا الشفهي. فهل تريدون بلشفة أقوى من هذه؟
– لا لا. كفى كفى! إني أصافحك يا باشا سلكيًّا، وموسكو تصافح أنقرة لاسلكيًّا!