جوزفين مصطفى
وكأنَّ رجاء الدين أفندي كان نبيًّا، فإن حرم عصمت باشا كانت تخاطب دولة الغازي بالتلفون لأن عصمت باشا ضعيف السمع، فسألت: هل عند دولتكم أخبار جديدة من الآستانة؟
فأجاب الغازي: نعم يا هانم. سلي سعادة الباشا هل يمكنه أن يأتي إلى هنا الآن. هل ورد له خبر؟
– نعم، ورد تلغراف من حاكم الآستانة الدكتور عدنان بك.
– إذن هو نفس نص التلغراف الذي ورد إليَّ. قولي للباشا أن يحضر. هل يقدر؟
– لقد انتصف الليل يا باشا.
– نعم. ونحن ما تعودنا أن نفرق بين الليل والنهار يا هانم.
وحدثت فترة خاطبت الهانم فيها عصمت باشا، ثم قالت: نعم، الباشا يقول أنه في برهة قصيرة يكون عندكم.
ثم خاطب الغازي كلًّا من سيد بك وزير الحقانية، وشكري بك نائب أزمير، وطلب إليهما أن يأتيا إليه.
ثم دخل إلى قسم الحريم فوجد لطيفة هانم زوجته لا تزال مستيقظة. فنظر فيها ونظرت فيه، وقال: ما بالك يقظة؟ لماذا لم تنامي؟
فأجابت: وأنت ما بالك متجهمًا هكذا؟ إن من يراك يظنك تبتغي المصارعة.
فحاول الابتسام وقال: نعم، إني أستعد لاحتمال نقمة ثلاث مائة مليون.
– ثلاث مائة مليون ليرة ورق أو ذهب؟ دع هذا الحمل على رأس وزير المالية أو على المجلس الوطني الكبير.
فقهقه مصطفى باشا بالرغم من اضطراب مقلتيه في وقبيهما بسبب خفقان فؤاده، وقال: لله منك! ألا تلهجين بغير الذهب؟ ولكنك معذورة، فإن النساء نساء حيثما كُنَّ وكيفما كن، لا يخلب ألبابهن إلا بريق الذهب والجواهر.
– إذن ضعوا هذه المسئولية على أعناق السيدات وكل واحدة تنزع عقدها من جيدها وتقدمه للوطن. وأنا أفعل ذلك في مقدمتهن.
– بورك بك وطنية غيورة يا عزيزتي. لست أقصد ثلاثمائة مليون ليرة، بل ثلاثمائة مليون نفس سأتعرض لنقمتها.
فهبت لطيفة هانم من مكانها مذعورة، وقالت: ويلاه! لماذا؟
فقال الغازي ممازحًا: لكي أجعلك إمبراطورة في قصر طولمة بغجة. ألا تريدين؟
فتورَّدت لطيفة هانم زوجته وقالت: بالله ماذا تقول يا مصطفى؟
فقال متظاهرًا بالجد: أقول: سأخلع الخليفة والخلافة معًا، وأطرد كل بني عثمان من تركيا الجمهورية. فاستعدي لكي تتوجي إمبراطورة في الآستانة.
فقالت ومقلتاها تضطربان في وقبيهما اضطراب الزئبق في كف الأشل: أتمزح يا مصطفى؟ إن كثيرًا من المزاح يتحول إلى جد. لقد كان نابليون يمازح جوزفين قبل أن صار إمبراطورًا.
فكادت نشوة الغرور ترفع فؤاد بطل أنقرة إلى أعلى صدره. ولكن فخر رجال اليوم بالزعامة أعظم من فخر رجال الأمس بالتيجان، فقال مستدركًا غرور زوجته: نحن نهدم إمبراطورية لكي نبني جمهورية يا لطيفة. ولا محل لإمبراطور في الجمهورية.
فقالت: ولكن في عهد نابليون احتاجت فرنسا الجمهورية الجديدة إلى إمبراطور، فولَّت نابليون. أو هو تولى وخلع سلطة البابا عن أوروبا كلها. أفلا يحتمل حدوث ذلك في جمهورية تركية لعهد مصطفى كمال نابليون تركيا؟
فقال باسمًا ومبالغًا في الممازحة: ولكني أخاف أن تنوئي تحت تاج الإمبراطورية التركية يا لطيفة!
فقالت: أما زلت تظن هذا مستحيلًا والناس يعتقدونك نابليون تركيا الذي ليس في قاموسه لفظ المستحيل؟ ليتك تفكر في المسألة بجد يا مصطفى. إن عرش تركيا الجديدة يكاد يكون تحت قدميك. الفرصة سانحة فلا تضيعها.
فقال الغازي مبالغًا بالممازحة: وتريدين أن تكوني جوزفينًا لنابليون تركيا؟
فقالت: لا وربك. أتجهل ماذا كان حظ جوزفين مع نابليون حين صار إمبراطورًا.
فطوق عنقها بذراعه وقبَّلها قائلًا: معاذ الله أن يكون حظك كحظها؛ لأنه لا يوجد لنابليون تركيا «أنَّة» بنت ملك نمسا. فأنت «أنَّة» مصطفى و«جوزفينه» معًا.
فنظرت إليه نظرة دلال وقالت: إذا لم توجد «أنَّة» بنت ملك نمسا فتوجد نميقة بنت الأمير سناء الدين.
– ما الذي جعلها تخطر على بالك الآن!
– الحديث. والحديث أعاد ذكرى ماضية.
– أي ذكرى؟
– أتتجاهل أن نميقة كانت في قائمة العرائس اللواتي افتكرت فيهن.
– انا لم أفتكر بواحدة. وإنما عرضت عليَّ فتيات كثيرات فما اخترت سواك.
– أوما كانت نميقة من جملتهن؟
– لقد حاول أبواها أن يصاهراني فلم أرد.
– عجبًا! كيف ترفض أميرة معروضة عليك عرضًا كالسلعة؟
– لأني لا أريد أميرة مؤمرة، بل أريد أن أبدع أميرة أنا أؤمرها.
– هل رأيت نميقة؟
– لا، حتى ولا أبويها، ولا أعرفها.
– إنها جميلة.
– أتعرفينها؟
– نعم، كنا معًا مدة في مدرسة واحدة.
– إذن تعرفين كثيرًا من أحوالها.
– نعم، إنها تمثال الكبرياء والحسد والغيرة والغرور والتهور والطيش.
– عجبًا عجبًا!
– نعم، وأمها قبلها. وإذا تسنى الآن لنميقة أن تذبحني فلا تتأخر.
– خَسِئَت. لا تستطيع أن تنال منك قلامة ظفر.
– بل استطاعت.
– عجبًا! كيف؟
– لما ذهبنا بعد زواجنا إلى الآستانة، زارتني بعض البرنسات وبعض حريم الباشاوات، إلا هي، فقد استنكفت أن تزورني. وبعض الزائرات نقلن إليَّ حديثًا جرى في مجلس البرنسيس سنية هانم أم نميقة حرم البرنس سناء الدين، مفادهُ أنها تحتقر كل أميرة تزورني. وكانت تقول: من هي هذه الحقيرة لطيفة التي تزرنها! ومتى كانت أميرات آل عثمان يزرن عبيدهن؟ ومن هو مصطفى كمال حتى تصبح زوجته، وهي من عامِّيات أزمير، مزارًا للأشراف والأميرات؟! ما هو إلا جندي متمرد. بمثل هذا الحديث كانت سنية وبنتها نميقة تتدفقان.
فقهقه مصطفى كمال باشا وقال: خففي من حقدك يا عزيزتي، إن سنية هانم وبنتها معذورتان أن تهيجا غضبًا وحقدًا بعد أن رفضْتُ أنا نميقة زوجةً.
فتدللت لطيفة هانم وقالت: من يدري أن لا تتزوج نميقة وتجعل أباها خليفة، فيكون مؤتمرًا بأمرك.
– هذا ما كان يحلم به البرنس سناء الدين فيما أظن، ولكن لم أُنله وطره.
– ليس ما يمنع أن تنيله إياه يا مصطفى إذا اقتضت السياسة، كما اقتضت سياسة نابليون أن يتزوج «أنَّة» بنت ملك النمسا.
– يستحيل. لأننا قررنا في قانون الجمهورية تحريم تعدد الزوجات.
– نابليون لم يتزوج «أنَّة» إلا بعد أن طلق جوزفين.
– وقررنا في قانون الجمهورية تحريم الطلاق إلا لسبب يقتضيه. وحيث يوجد حب فلا يكون طلاق.
– ما أظن نابليون أحب امرأة كما أحب جوزفين. ومع ذلك طلقها لأن السياسة اقتضت ذلك.
– نابليون كان مغرورًا يريد ولي عهد، فما بقي ملكه ولا ولي عهده.
– إن ولي العهد في يد الله يا عزيزي.
– لست أطلب منك إلا الحب يا لطيفة، وأعاهدك على أن أقلب ملك آل عثمان عن العرش … أظن عصمت باشا جاء، فيجب أن أقابله الآن.
وخرج مصطفى من خدر زوجته إلى بهو المقابلة.