عواطف وأفكار في عالم الخفيات والأسرار
هنا نرانا مضطرين أن نعود بالقارئ برهة قصيرة إلى أنقرة؛ تقريرًا لحادث حدث شديد العلاقة بهذا التاريخ الخاص. وقد غير مجرى الحوادث تغييرًا جوهريًّا.
ورد إلى دولة الغازي مصطفى باشا كمال في أنقرة من دائرة البوليس في الآستانة أن البوليس السري اكتشف مؤامرة سرية يشترك فيها جانب من الأمراء، والغرض منها قلب الجمهورية.
فاضطرب فخامة الغازي أي اضطراب، ولا يخفى أن البناء العالي أكثر تأثرًا بالزلزال من الأبنية الواطئة. فأمر دولته في الحال بالقبض على كل من تقع عليه الشبهة، وبإرسال الأشخاص الذين يعدون زنبلك الحركة إلى أنقرة واعتقال الآخرين، إلى حين تصدر أوامر أخرى.
فتنفذ الأمر بلا ضوضاء ولا جلبة حسب إيعاز فخامته. وما هي إلا بضعة أيام حتى كان ثلاثة من المقبوض عليهم في أنقرة وما وصلوا حتى جعل الغازي يستدعيهم واحدًا واحدًا. ولما دخل الشرطة بالشخص الأول منهم عليه، دهش إذ وقعت عينه على عينه، وقال: يالله! رجاء أفندي كاتب السفارة الروسية؟
– نعم يا فخامة الغازي.
– عحبًا. هل تركت السفارة لكي تعقد مؤامرات ضد الجمهورية؟
– نعم يا مولاي.
– عجبًا. وبكل قِحَة تعترف بذلك!
– أجل يا مولاي؛ لأني لست أكذب في أعمالي. إن الصدق يريحني أكثر من الكذب.
– ولكنك وعدتني غير ذلك.
– بل إني أفعل كما وعدتك.
– لله منك. تعقد مؤامرة وتقول: إنك تفعل كما وعدتني.
– نعم يا سيدي. هل تستطيع أن تعاقب أحدًا قبل أن يجرم؟
– لا. طبعًا لا.
– أنا أدبر لك مجرمين، وأنت عاقِب.
– كيف ذلك؟
– أنت تريد أن تثل عرش آل عثمان، فكيف تستطيع ذلك إذا لم يجرم الأمراء وتعاقبهم ولو بالنفي على الأقل؟ فأنا كنت أمهد سبيل الإجرام للأمراء. ولكنك أفسدت عملي قبل أن ينتهي وأضررت نفسك.
– كيف ذلك؟ أما كان في الآستانة مؤامرة؟
كلا. بل كان فيها استعداد لعقد مؤتمر. والمؤتمر أُحوِّله إلى مؤامرة. على أن جواسيسك تسرعوا، وهم يظنون أنهم بهذا التسرع يبرهنون على سهرهم على مصلحتك.
– لا تقل: مصلحتي، بل مصلحة الجمهورية. فأخبرني الآن ماذا كان من أمر هذه المؤامرة؟
– قلت لك يا سيدي أن لا مؤامرة حتى الآن بل مؤتمر. وقد شرعت أن أطبخ الطبخة فما انتظرتم حتى تنضج، بل سكبتموها نيئة. لست أطلب منكم جزاءً ولا شكورًا حتى ولا مصاريف. لا أطلب إلا أن تكفوا مراقبة جواسيسكم عني وكفى. السلام عليكم الآن.
وهمَّ رجاء أفندي أن يقوم لكي يخرج، فأمسك الغازي بيده قائلًا: إلى أين؟ أنسيت أنك معتقل؟
– لا لا ياسيدي. لا تقدر الجمهورية التركية بكل ما لها من حول وطول أن تعتقل أصغر صعلوك بلشفي. فكيف إذا كان هذا الصعلوك موظفًا في السفارة الروسية؟!
– عجبًا. ألا تزال في السفارة؟
– نعم، وإلاَّ فبأي حول وطول ومال أشتغل وأخدمكم يا سيدي الباشا.
فاستغرب الغازي حديث هذا الماجن، ثم دخل إلى غرفة أخرى وتناول التلفون وخاطب السفارة الروسية: هالو. حضرة السفير؟
– نعم، فخامة الرفيق الغازي؟
– نعم، هل رجاء الدين أفندي لا يزال موظفًا في السفارة؟
– نعم نعم، هل تعرف أين هو؟
– هو عندي الآن.
– إذن أرجو أن ترسله حالًا؛ لأني في حاجة شديدة إليه. أستغرب أن يذهب إليكم قبل أن يأتي إلى السفارة. هذا ذنب يعاقب عليه.
– بل أرجو أن تعذره؛ لأنه جيء به إلينا معتقلًا.
– عجبًا! كيف تعتقلون موظف سفارتي بلا إذني؟
– عذرًا يا سعادة الرفيق السفير، لقد حدث الأمر خطأ.
– إذن أرجو أن ترسله حالًا.
ثم عاد الغازي إلى رجاء وهو يقول في نفسه: ما هذه السفارة الروسية إلاَّ بؤرة شياطين وأبالسة. ما معنى كل هذا؟ يدفعون الأموال ويعرضون الرجال للأخطار والأهوال في سبيل قلب بني عثمان عن عرش السلطنة والخلافة. فلماذا؟ وماذ يهمهم من الخلافة؟ إن هذه الدعوة البلشفية سر من الأسرار التي لا يفهمها أهل هذا الجيل. أما رجاء أفندي فداهية من أكبر الدهاة، يجب أن أحاذر منه بقدر ما أرجو منه النفع بل أزيد. ما الذي يدفعه إلى خدمة بلاشفة الروس وهو تركي؟
ولما دخل إلى الغرفة قال لرجاء: إذن تقول: إن الطبخة لم تنضج بعد.
– نعم، وقد «دلقتها» يا مولاي قبل أن تنضج.
– وترى أن المقبوض عليهم أبرياء؟
– إذا شئت نصيحتي فأطلق سراحهم من غير تحقيق حالًا. ولا تدعهم يفهمون التهمة التي اعتقلوا لأجلها؛ وبذلك تسهل لي أن أطبخ طبخة أخرى.
– أشكرك. إن سعادة السفير ينتظرك، ففي إمكانك أن تذهب إليه الآن.
– قبل أن أذهب أقول: إن لي عليكم قضية لا أدري كيف أقاضيكم بها؟
– ما هي؟
– إن اعتقالكم إياي أفضى إلى ارتكاب انتحار هائل.
– انتحار؟ ماذا تعني؟
– أعني انتحار الأميرة نميقة بنت البرنس سناء الدين أفندي.
فاختلج الغازي وقال: الأميرة نميقة انتحرت؟ كيف ذلك؟
– نعم، وُجِدَت ملابسها على شاطئ البحر بعد اختفائها يومين. وظهر أنها أثقلت جسمها بسلسلة حديدية حتى لا تستطيع أن تعوم. ولعل الحيتان أكلت جسمها.
– يالله! كيف عرفت ذلك؟
– قرأته في الجريدة التي ابتعتها بعد اعتقالي بيومين، وحين أخذوني من الآستانة.
– وكيف كان اعتقالك سببًا لهذا الانتحار؟
– لأني لو لم أعتقل لتلافيته.
– إذن أحِلِ المسألة على القضاء والقدر يا رجاء أفندي، فقد اعتدنا أن نصب على رأس القضاء والقدر كل مصيبة تصيبنا. أليس كذلك؟
– إذن تقضون يا مولاي ببراءتكم من هذا الإثم؟
فأجاب الغازي مصطفى باشا باسمًا: الإثم الذي نرتكبه على غير علم منا لا يعد إثمًا، وإن عد إثمًا فلا يستحق عقابًا. يلوح لي أنك تعرف هذه الأميرة.
– أظن أني ذكرت لك مرة أني كنت سكرتير أبيها في حينٍ من الأحيان، ولهذا كان في إمكاني أن أنقذها.
– ترى ماذا كان سبب انتحارها؟
– أظن سببه أن أبويها كانا يرغمانها على زواجٍ لا تريده.
– وكيف كان يمكنك إنقاذها؟
فوجم رجاء عن الكلام كأنَّ غصة وقفت في حنجرته، وقطرت عيناه دمعتين كأنهما بقية ما بقي من دموعه التي ذرفها في مدة السفر، ثم قال متلجلجًا: يلوح لي يا باشا أنك تستلذ الحديث في هذا الموضوع.
– الحديث يجر بعضه بعضًا يا رجاء أفندي. فهل يسوءك أن أتحرَّى شكل الذنب الذي ارتكبناه باعتقالك. أود أن أعلم هل كان اعتقالك سبب انتحارها أو مانعًا لك من إنقاذها.
فتمهل رجاء وقال: لا ريب يا باشا أنك داهية في التحقيق والاستجواب. سواء كان اعتقالي هذا أو ذاك فهو ذنب في عنقكم؛ لأنه كان سبب انتحار الفتاة ومانعًا من إنقاذها معًا. ولا أدري كيف أقتص منكم أو كيف تستطيعون أن تكفروا عن هذا الذنب العظيم؟
– دع الاقتصاص والتكفير للأقدار يا رجاء أفندي، وما علينا إلا أن نترحم على تلك الفتاة.
– هل كنت تعرف هذه الأميرة يا باشا؟
– كلا.
– إن زوجتكم لطيفة هانم تعرفها، ولا بد أن تكونوا قد سمعتم بخبرها.
فاختلج الباشا وبدا في وجهه امتقاع، وقال: هل كان لها خبر يسمع؟
– نعم، كانت مشهورة بجمالها العصبي لا العضلي، أعني أن جمالها لم يكن في شكل جسمانها بل في عواطفها. ومع ذلك فقد كانت في نظر البعض جميلة الصورة جدًّا. ولكن هذا لا يهمني أبدًا. وإنما كان يعجبني فيها توقدها: توقد عينيها وقلبها ولبها وعصبها. فعيناها تتواثبان دائمًا من محجريهما، وقلبها يندفع مع لسانها في كلامها، ورشاقة جوارحها تتبارى مع نباهتها ويقظتها ونشاطها. يقولون: إنها خفيفة؛ أي قليلة الرزانة، وهذا ما أستحبه أنا في المرأة، حتى لو قالوا: إنها متهورة، بل مجنونة، لزادوها قيمة في عيني؛ لأن التهور والجنون هو الطرف الأخير من النشاط. لقد أسفت على نميقة عظيم الأسف يا باشا.
– عزاك الله يا رجاء أفندي. وما زلت أنتظر خدمك الصالحة.
– لا تشك بخدمي الصالحة يا باشا؛ لأن غرضي متوقف مع غرضكم. الآن أرجو الإيذان لي بالخروج حتى لا يطول انتظار السفير.
ثم ودع رجاء الدين الغازي مصطفى باشا وخرج، وفي نفس كلٍّ منهما عواطف وأفكار لا تظهر إلا لعالم الخفيات والأسرار.
ثم أمر الغازي في الحال بإطلاق سراح المتهمين الآخرين، وبإطلاق سراح المقبوض عليهم في الآستانة جميعًا من غير تحقيق، بزعم أن القبض عليهم كان بناءً على سعاية كاذبة.