رسالة من عالم الأرواح
نعود ثانية بالقارئ الكريم إلى الآستانة أم مدائن الشرق الأدني، التي كانت — ولا تزال — أوسع مسارح السياسة وأكثر المسارح غرفًا خلف الأستار للمكايد والدسائس.
في تلك الأثناء وافى إلى نامق بك رسول من قبل صديقه الحميم البرنس سناء الدين يدعوه لحاجة به إليه.
وفي نحو نصف ساعة كان نامق بك في مجلس البرنس سناء الدين، وهذا يدخن النارجيلة. فقال نامق: أراك تفرط بالتدخين يا سيدي البرنس، فأشفق على صدرك.
فتنهد البرنس والدمع يكاد يطفر من موقيه، قال: آه يا نامق! إن نميقة تركت فى قلبي حسرة لا تزول. وأحاول أن أخففها بالتدخين. لقد جرنا عليها والذنب ذنبنا، فلا أجد تكفيرًا لذنبنا.
ثم تناول البرنس ورقة من جيبه وقدمها لنامق قائلًا: أرجو منك أن تقول لي ماذا تفهم من هذا التلغراف يا عزيزي نامق؟
سمو البرنس سناء الدين أفندي
حاذر أن تزور الدوقة!
ثم نظر نامق وقال: بلا إمضاء؟
– بلا إمضاء. هذا هو التلغراف الذي ورد بعينه كما تراه، فما علمت من هو مرسله ولا فهمت منه شيئًا؟ لعل في المدينة أميرًا آخر باسم سناء الدين.
– كلا يا مولاي. والأرجح جدًّا أن التلغراف موجه إليك شخصيًّا ولا خطأ فيه.
– إذن من هي هذه الدوقة. هل سمعت بخبر دوقة في ستمبول؟
فنظر نامق بالبرنس مبتسمًا قليلًا وقال همسًا: لاح لي خاطر قريب الاحتمال جدًّا يا مولاي. لعلك سمعت بمدموازال دلزل.
فهزَّ البرنس رأسه وقال: كلا، لم أسمع بهذا الإسم. فمن هي هذه المدموازال؟
– هي ممثلة في جوقة أفرنجية الآن في ستمبول، تدَّعي أنها ألزاسية من أصل ألماني. وهي على غاية من جمال الوجه والصوت، ومن رشاقة الحركات والرقص، ومن لطافة المعشر والحديث، حتى افتتن بها كثيرون من الكبراء والأمراء، وهم يتزاحمون في مجلس زيارتها، وهي تتيه تارة وتتلطف أخرى. وسمعت أخيرًا أن بعض الأمراء اكتشف انها دوقة روسية قريبة النسب للقيصر نقولا، آخر قياصرة روسيا. وبعضهم يدَّعي أنها بنت الغراندوق نقولا عم القيصر، وبعضهم يقول: بل حفيدته. والله أعلم.
– هل رأيتها يا نامق؟
– نعم، رأيتها في التياترو تغني وترقص وتخلب الألباب بجمالها ودلالها.
– هل حضرت مجلسها؟
– لا. لم يتسنَّ لي؛ لأنها لا تقبل زيارة أحد إلا بعد وسائط، كأنها سلطان البرين وخاقان البحرين، وإلى الآن لم يحظ بزيارتها إلا بعض الأمراء.
– والأغنياء أيضًا طبعًا.
– كلا؛ لأنها ليست من النساء اللواتي يبذلن أنفسهن لأجل الليرة. وقد رووا عنها حكايات تدل على تعففها وكبر نفسها، مما يرجح دعواها السرية أنها دوقة حقيقة. وإنما تتنكر باسم حسناء ألزاسية ألمانية؛ تحاميًّا لغدر البلاشفة بها. فلعل لمقصود بالدوقة في هذا التلغراف هذه المرأة.
– والتلغراف يحذر من زيارة الدوقة، فهل في زيارتها من خطر؟
– لا أدري يا مولاي الأمير. ولا أعلم أن زائرًا من زوارها وقع في خطر. فما زارها زائر إلا عاد معجبًا بنبلها وشرف نفسها وعفافها، وهو يقول: حقًّا إنها دوقة، يقينًا إنها نبيلة. وقد اعتادت كلما زارها أمير أو عظيم أن تطلب منه أن يكتب جملة حكمية أو أي جملة جميلة في دفتر مذكراتها ويمضي بإمضائه، وتحفظ ذلك كتذكار عندها.
– هل يمكن أن يكون الخطر في هذه الكتابة يا نامق؟
– لا، لا أظن. ولعل الخطر في زيارتها من التعرض لانتقام البلاشفة؛ إذ لا يخفى عليك أن البلاشفة لا يزالون يطاردون أفراد هذه الأسرة القيصرية. وهي في ستمبول تحت خطرٍ منهم أكثر منها في أي مكانٍ آخر؛ إذ لا يخفى عليك أن أصحابنا الكماليين جعلوا البلاد دارًا للبلشفيك.
– معقول. ولكن من أرسل هذا التلغراف يا ترى؟ لا بد أن مرسله أدرك أن في زيارة هذه الدوقة خطرًا إن كان يعنيها ولا يعني سواها …
– لا يهمك مرسل التلغراف قدر ما يهمك التلغراف نفسه. فلا تزر هذه المرأة والسلام.
– بالطبع لا أزورها، ولا خطر لي أن أزورها أو أزور غيرها وأنا في إبان حزني. ولكني أود أن أفهم أسرار هذا التلغراف.
– لا تهتم كثيرًا به يا سيدي البرنس، دع الأيام تفسر لك أسراره. فإن الأمور مرهونة بأوقاتها.
•••
عند ذلك أبلغ الخادم البرنس أن رجلًا وضابطًا من ضباط البوليس يرجوان مقابلته. فأذن لهما بالدخول، فالتمسا مقابلته وحده، وفي الحال نهض نامق وخرج. ثم قال أحد الرجلين: داعيكم موظف في مصلحة التلغراف. وقد ورد تحت يدي في السهرة أمس تلغراف معنون باسم سموكم. فهل هو لكم؟
فقال البرنس: عسى أن يكون التلغراف مرسلًا لي خطأ يا هذا.
– هل هنا أمير آخر باسم البرنس سناء الدين أفندي؟
– لا أعرف أميرًا غيري بهذا الاسم.
– إذن التلغراف لكم بلا جدال. فهل تعرفون سموكم من أرسله لكم؟
– كلا. لهذا شككت أنه لي.
– هذا هو أصل التلغراف بخط مرسله، فهل تعرفون هذا الخط؟
فما وقع نظر البرنس سناء الدين على أصل التلغراف حتى انتفض انتفاضة المجفل الفازع، وقال: ويحكم. هذا خط … خط يد يشبه … خط … يد … بنتي … آه بنتي … آه بنتي … أحقيق؟
وجعل البرنس ينتفض كمن أصيب بنوبة عصبية.
فقال التلغرافي: أتذَكَّر أن الذي قدم لي هذا التلغراف مع قيمة أجرته غلام في العاشرة من العمر، وأرجح أنه أجنبي. وقد كلمني بالفرنسية. وكانت النقود ملفوفة بورق التلغراف. تناولتها منه وفحصت النقود فإذا هي على قدر الأجرة تمامًا. أما الغلام فمضى في الحال.
وكان الأمير لا يزال مضطربًا، فقال متلجلجًا: أجل هذا الخط يشبه خط بنتي كثيرًا. آه بنتي. هل يمكن أن تكون في قيد الحياة؟
– أين هي بنتك يا مولاي البرنس؟
– آه. أرجو منك أن تنادي نامق بك، فهو يجاوبك عني، لقد كنا الآن في حديث التلغراف. بربك لا تسألني مزيدًا. لا أحتمل هذا، إني أرى طيف بنتي يلوح أمامي الآن.
فنادى الضابط نامق بك من البهو. فوافي هذا سريعًا، وجزع إذ رأى البرنس في حالة تأثر شديدة وهو يقول: نعم، نعم، إن طيف نميقة يتمثل أمامي يا نامق، انظر، هذا خطها. هل هي في قيد الحياة؟ أو هل هي روحها تظهر لي؟ رباه، لقد ظلمتها. لقد قسوت عليها.
وكاد البرنس يغمى عليه من شدة التأثر، فسأل نامق بك: ما الخبر؟
فقال له التلغرافي: هل اطلعت على التلغراف الذي ورد إلى البرنس صباح اليوم؟ البرنس يقول: إنكما كنتما في حديثه الآن.
– نعم.
– وهذا هو الأصل. وقد جئت به إليه لكي نسأله بشأنه، فلما نظره قال: إنه خط بنته. فأين هي بنته؟
– أما قرأت يا سيدي في الصحف أنها غرقت في البحر وأكلتها الحيتان، وما ظهر أخيرًا غير بعض ملابسها ممزقة.
فنظر التلغرافي في الضابط وقال: أجل، إني قرأت هذا الخبر ولم أنتبه للأسماء جيدًا.
فقال الضابط: وأنا قرأته.
فقال التلغرافي لنامق بك بصوتٍ واطئٍ: هل ترى أن هذا الخط يشبه خط المرحومة؟
فنظر فيه نامق وقال: الحق أني لم أر خط المرحومة إلا نادرًا، فلا أدري إن كان هذا الخط يشبهه. أريه للأميرة حرم البرنس. ولكني أخاف من تأثرها أيضًا.
فقال البرنس وهو لا يزال متأثرًا شديد التأثر: أجل هو خطها، أو خط روحها، آه نميقة! هل روحك تزور الأرض أم أنت في قيد الحياة؟
فقال نامق: حقق الله ظنك يا سيدي الأمير.
فقال البرنس للتلغرافي: ألا تعرف الغلام الذي جاءك بهذه الورقة. ابحث عنه، فلا بد أن يكون عارفًا بمقر بنتي. آه! بربكم أين الغلام؟
فقال التلغرافي: لو أمكن أن نعرف الغلام لما جئنا إليك يا سيدي البرنس. فماذا خطر لك يا سمو البرنس حين ورد لك هذا التلغراف؟ أما خطر لك خاطر عمَّن أرسله؟
– كلا البتة. بل كنت في حيرة لا أدري سره؛ ولهذا استدعيت صديقي نامق بك ليحل رموزه.
– من هي هذه الدوقة المشار إليها هنا؟
– لا أعرف دوقة يا ابني. أخبره يا عزيزي نامق الحكاية التي قلتها لي.
فانتفض نامق، ونظر في البرنس كأنه يلومه على هذا الافصاح. فقال البرنس: لا بأس يا عزيزي نامق. قل له ما تعرفه. لا أنت ولا أنا ممن لهم شأن في دسائس أو مؤامرات.
فاضطر نامق بك أن يروي حكاية المدموازال دلزل الممثلة وأنها تدعي لبعض زائريها أنها دوقة.
فقال الضابط: وماذا تظن غرض مرسل هذا التلغراف من إنذار سمو البرنس؟
– لا أظن شيئًا يا سيدي. ولا أعرف مدموازال دلزل إلا كما يعرفها كل من حضر رقصها وسمع غناءها.
ولما لم يستفيد الضابط والتلغرافي شيئًا، ودَّعا البرنس والبك وخرجا.