المعاهد المصرية في بيت المقدس
وقال عند بحثِه عن هيئة المسجد الأقصى في زمن الخليفة الظاهر: «إنَّ حدود المسجد الشَّمالية كما بناها الخليفة الظاهر الفاطمي، كانت ولا بد في محلها الذي نراها فيه الآن، ثُمَّ ينتهي من ذلك بأنَّ قسمًا كبيرًا من بناء المسجد الأقصى الحالي، لا بد أن يرجع إلى عهد الخليفة الفاطمي الظاهر.»
وقد استمر اهتمام ملوك مصر وأمرائها بالمسجد الأقصى في عهود الأيوبيين والمماليك — البرجيين والبحريين – الأتراك والجراكسة — ومحمد علي باشا، والمغفور له الملك فؤاد الذي تبرَّع بخمسة وعشرين ألف جنيه ذهبية لإصلاح المسجد الأقصى، وحذا حذوه الملك الصالح فاروق، وأمراء وأميرات البيت العلوي الكريم.
هذا ولم يقتصر اهتمام مصر بالمسجد الأقصى وحده، على خطورته وقداسته، طيلة هذه العصور؛ إذ أخذ ملوك مصر وأمراؤها وأميراتها يتنافسون في بناء المدارس، والرُبَط، والزوايا، والخوانق، والترب في بيت المقدس، مما لا يزال قائمًا حتى الآن.
وقد جاء ذكر هذا المعهد في أبي الفدا المتوفى سنة (٧٣٢ﻫ/١٣٣١م)؛ إذ قال: وزاد — أي السلطان صلاح الدين — في وقف المدرسة — أي المدرسة الصلاحية — التي عملها في القدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تُعرَف ﺑ «صَنْدحنة»، ويذكرون أنَّ فيها قبر حنة أم مريم، ثُمَّ صارت في الإسلام دار علم قبل أن يملك الفرنج القدس، ثُمَّ لمَّا ملك الفرنج القدس سنة (٤٩٢ﻫ/١٠٩٨م) أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلمَّا فتح السلطان القدس سنة (٥٨٣ﻫ/١١٨٧م) أعادها مدرسة، وفوَّض تدريسها ووقفها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد.
وقد سبق العباسيون الفاطميين في تأسيس دُور العلم هذه، ومنهم جعفر بن حمدان الموصلي الذي أسس في بلده دار علم (٣٢٣ﻫ/٩٣٤م)، والقاضي ابن حيان المتوفى (٣٥٤ﻫ/٩٦٥م) أسس دار علم في نيسابور وخزانة كتب، وأبو علي بن سوار الكاتب سنة (٣٧٢ﻫ/٩٨٢م) بنى دار كتب في هرمز، وأخرى في البصرة، كما أسس أبو نصر سابور بن أزدشير دارًا للعلم في الكرخ غربي بغداد (٣٨٣ﻫ/٩٩٣م). وكانت هذه الدُور تُشبه النَّوادي العلمية والمكتبات العامة والمعاهد العلمية المعروفة اليوم بالأكاديميات، بالإضافة إلى أنَّ الفاطميين اتخذوها مراكز دعاية من الطراز الأول للمذهب الشيعي، وظلَّ هذا المعهد عامرًا حتى سقوط القدس بيد الصليبيين سنة (٤٩٢ﻫ/١٠٩٨م).
ومن المعاهد الكبرى الفاطمية المصرية ببيت المقدس، البيمارستان الفاطمي، وقد أشار إليه الرَّحالة الإيراني «ناصر خسرو» في رحلته عند زيارته القدس سنة (٤٣٧ﻫ/١٠٤٥م)، وهو أوَّل بيمارستان — مستشفى — أُسِّسَ في بيت المقدس، على ما نعلم.
وقد نَحَا السلطان صلاح الدين نحو الفاطميين؛ فأنشأ البيمارستان الصلاحي عند فتحه بيت المقدس سنة (٥٨٣ﻫ/١١٨٧م)، ولعلَّ الصليبيين اقتبسوا من الفاطميين هذا البيمارستان، فأنشأوا «اسبتارهم»؛ أي مستشفاهم، بين (٤٩٢ﻫ–٥٨٣ﻫ).
ومنها الخانقاه الصلاحية، وهي تقع لصق كنيسة القيامة من الجهة الشَّمالية، وكانت هذه الخانقاه دارًا للصوفية، ورباطًا للمجاهدين، وقد مَرَّ ذِكر البيمارستان الصلاحي الذي كان يُداوي الجرحى من الجنود والمرضى من الأهالي، ويوزِّع الأدوية والعقاقير على النَّاس بلا مقابل.
وتنافس بنو أيوب في بناء المدارس والمعاهد والإنفاق عليها، وقد حذا حذوهم المماليك الأتراك، والمماليك الجراكسة، وملوك الدولة العلوية، وأمراؤهم وأميراتهم.
ولسنا في مجال أن نأتي على ذِكر جميع هذه المعاهد، وما أدت من الخدمات الجُلَّى في القرون الوسطى خاصة؛ فالزائر للحرم الشريف يستطيع حتى الآن أن يُشاهد حوله تلك المدارس والرُبَط والزوايا والسبل، مما يُعدُّ بحق من مفاخر الإسلام، بل من بدائع فَنِّ المعمار.
فمن أشهر هذه المعاهد الزاوية الجراحية؛ نسبةً للأمير حسام الدين الجراحي أحد أمراء الملك صلاح الدين، وإليه يُنسَب حي الشيخ جراح في القدس الآن، وهو حي يقع إلى ظاهر القدس من جهة الشمال، وقد تُوفي الأمير الجراحي سنة (٥٩٨ﻫ/١٢٠١م).
ومن مآثرهم: «دار الحديث» في بيت المقدس، بناها الأمير الهكَّاري على غرار دار الحديث الكاملية في القاهرة، وذلك سنة (٦٦٦ﻫ/١٢٦٧م).
ومنها الرباط المنصوري، الذي أنشأه الملك المنصور قلاوون الصالحي، سنة (٦٨١ﻫ/١٢٨٢م)، وأوقفه على الفقراء وزوار القدس. وكانت هذه الرُبَط أو الأربطة تقوم بخدمة أولئك الزوار وتزوِّدهم بالطعام، وتغذي أجسادهم وأرواحهم، فكانوا ينقلبون جنودًا محاربين إذا ما دعا داعي الجهاد، بل كان فيها عنصر ترفيه؛ إذ كان الجنود المتطوعون يأوون إليها بعد أن يعودوا من ساحة القتال، ومنها الرباط الكردي الذي أوقفه المقر السيفي كرد، صاحب الديار المصرية، سنة (٦٩٣ﻫ/١٢٩٣م).
ومنها المدرسة الدويدارية — دار الصالحين — أوقفها الأمير المجاهد علم الدين أبو موسى سنجر الدويدار الصالحي سنة (٦٩٦ﻫ/١٢٩٦م)، وجعلها للعرب والعجم من المتصوفة. ومنها المدرسة السلامية التي أوقفها الخواجا مجد الدين السلامي من كبار التجار في عهد الناصر بن قلاوون بعد السبعمائة للهجرة ١٣٠٠م، ومنها التربة الجالقية المنسوبة لركن الدين العجمي المعروف بالجالق سنة (٧٠٧ﻫ/١٣٠٧م).
ومنها المدرسة الكريمية التي أنشأها كريم الدين، ناظر الخواص السلطانية الناصرية، وقد ذكرها ابن بطوطة في رحلته سنة (٧٢٥ﻫ/١٣٢٤م)، واجتمع بشيخها، وهو يعدها خانقاه — أي رباطًا — وواقِفُها كريم الدين هذا كان قبطيًّا فأسلم، وكان وقفها سنة (٧١٨ﻫ/١٣١٨م).
ومنها المدرسة التنكزية، والخانقاه التنكزية؛ نسبةً إلى الأمير سيف الدين أبو سعيد تنكز، نائب السلطنة المصرية بالشام، وذلك سنة (٧٢٩ﻫ/١٣٢٨م)، وهو من كبار الرجال العمرانيين ممَّن ندر أمثالهم؛ فقد عَمَّر في دمشق دارًا للقرآن، وكانت له دار تُعرَف ﺑ «دار الذَّهب»، وقد أنشأ في القدس مدرسةً ورباطًا، وعَمَّر سور القدس، وساق الماء إليها، وأدخله الحرم الشريف، وعَمَّر فيها حمامين، وبنى في صفد بيمارستانًا، وله خان جلجوليا، وعَمَّر خان المنية على بحيرة طبريا، وكان المسافرون من دمشق ينزلون فيه في طريقهم إلى بيت المقدس، ووَسَّع الطرقات وعَمَّر القنوات بدمشق، وبالجملة فهو من مفاخر الإسلام.
ومن المعاهد المصرية الأخرى الخانقاه الفخرية، عَمَّرها فخر الدين بن فضل الله المتوفى سنة (٧٣٢ﻫ/١٣٣١م)، وكان ناظرًا للجيوش المصرية، أصله قبطي فأسلم، والخانقاه هي زاوية أبو السعود الخلوتي الآن.
ويضيق بنا المقام عن تعداد جميع المعاهد الأخرى، فنكتفي بذكر أسماء أشهرها مع أسماء واقفيها؛ فمنها المدرسة الجاولية، لواقفها الأمير علم الدين سنجر الجاولي، نائب غزة، والمتوفى سنة (٧٤٥ﻫ/١٣٤٤م).
ومنها المدرسة الفارسية، أنشأها الأمير فارس البكي نائب السلطنة المصرية بالأعمال الساحلية، ومن أوقافها قرية طور كرم — هي مدينة طولكرم الآن — وتاريخ وقفها سنة (٧٥٥ﻫ/١٣٥٤م). والمدرسة المنجكية، وهي خانقاه ومدرسة، لواقفها الأمير منجك نائب الشام سنة (٧٦٢ﻫ/١٣٦٠م). والمدرسة والزاوية اللؤلؤية في أواخر القرن الثامن. والمدرسة البرقوقية، ونرجِّح أنَّها للظاهر برقوق (القرن الثامن). والمدرسة الجهاركسية، وهي للأمير جهاركس أمير آخور الملك الظاهر (٧٩١ﻫ/١٣٨٨م). والمدرسة الطولونية؛ نسبةً إلى شهاب الدين الطولوني الناصري، أُنشِئَت قبل الثمانماية؛ أي (١٣٩٧م). والمدرسة الباسطية؛ نسبةً إلى زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش سنة (٨٣٤ﻫ/١٤٣٠م). والمدرسة الغادرية؛ نسبةً إلى الأمير ناصر الدين دلغادر، عَمَرتها زوجته مصر خاتون (٨٣٦ﻫ/١٤٣٢م). والمدرسة الحسنية؛ نسبةً إلى الأمير حسن الكشكيلي ناظر الحرمين ونائب السلطنة سنة (٨٣٧ﻫ/١٤٣٣م). والمدرسة المزهرية، أنشأها أبو بكر بن مزهر صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية (٨٨٥ﻫ/١٤٨٠م). إلى غير ذلك مما يضيق المقام عن ذِكره.
ولعل من أفخم وأجمل الآثار والمعاهد، المدرسة السلطانية الأشرفية، التي عمرت سنة (٨٨٥ﻫ/١٤٨٠م)، والتي بنيت في بادئ الأمر للملك خشقدم، ثم لما توفي سئل الملك الأشرف قايتباي في قبولها فقبلها، ولكنها لم تعجبه لما رآها، فأمر بإعادة بنائها من جديد وجلب لها المهندسين والمعمارين والرخامين من مصر، وكان المهندس المشرف على بنائها قبطيًّا نصرانيًّا. ويقول مجير الدين: كان الناس يقولون قديمًا مسجد بيت المقدس به جوهرتان: قبة الجامع الأقصى، وقبة الصخرة الشريفة، وإن هذه المدرسة صارت جوهرة ثالثة في حسن المنظر ولطف الهيئة، وظلت هذه المدرس عامرة حتى القرن الثاني عشر للهجرة، فقد ذكرها الرحالة عبد الغني النابلسي ونزل فيها (١١٠١ﻫ). كما ذكرها الرحالة الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي، ودرَس فيها عند زيارته بيت المقدس (١١٤٣ﻫ)، ثم هدمت بفعل الزلازل والإهمال، فسبحان مغير الأحوال! ولا تزال تتبين عظم بنائها وإتقانه إذا وقفت في صحن الصخرة ونظرت إلى الغرب؛ فهي تقع بين بابي السلسلة والقطانين، وهي آخر مدرسة عمرت في بيت المقدس في عهد المماليك قبل الفتح العثماني سنة ٩٢٢ﻫ. هذا ما يتسع له المقام، وقد نعود إلى الحديث عنها في فرصة أخرى.
ولمَّا جاء العهد العثماني سنة (٩٢٢ﻫ/١٥١٦م) أخذت هذه المدارس تضعف وتتلاشى، وكان بعضها قد اندثر في زمن المماليك، وأصبح بيوتًا استولت عليها بعض عائلات القدس، أو الأوقاف الإسلامية، ومع أنَّها بطلت أن تكون معاهد علمية، إلا أنَّها لا تزال آثارًا ناطقة فنية يجدر الاعتناء بها وإصلاحها، وإعادتها إلى حالتها الأولى.
بقي علينا أن نأتي على ما قام به المغفور له القائد العظيم إبراهيم باشا، الذي استولى على فلسطين بين (١٢٤٦ﻫ–١٢٥٦ﻫ/١٨٣٠م–١٨٤٠م)، ولسنا نعرض في هذا البحث إلى فتحه البلاد، وما قام به من الإصلاح الإداري، وكيف وطَّد الأمن ونَشَرَ العدل؛ فهذا مما أصبح البحث فيه من قبيل تحصيل الحاصل؛ إذ ما زلنا نسمع من شيوخنا عن آبائهم القصص والحوادث التي تدل على عبقرية هذا المصلح الكبير، الذي يرجع إليه وإلى والده الفضل قبل كل أحدٍ في إيقاظ النهضة الحديثة في بلدان الشرق الإسلامية خاصة.
وإنَّما نكتفي بذِكر ما قام به من الأعمال العمرانية، وما شيَّد من الآثار، رغم انشغاله الكلي في الشئون العسكرية. ونكتفي الآن بالإشارة إلى أهم آثاره التي ما زلنا نتتبع دراستها.
جاء في كتاب الدكتور أسد رستم، عند ذِكره أسوار عكا، قال: لم يغيِّر في مركز أو تصميم أسوار عكا، بل رمَّمها وأعاد بناءها وقوَّاها، وقد فصَّل في شرح ذلك.
ومن آثاره أيضًا سلسلة القِلاع أو الأبراج، التي بناها للحراسة على طريق يافا-القدس، وقد هدم بعض هذه القِلاع، ولا يزال البعض الآخر قائمًا يمكن مشاهدته لكلِّ مَن يسير بين القدس ويافا. ومعلوم أنَّ هذه الطريق كانت ولا تزال ذات أهمية عظمى؛ لأنَّها الطريق الرئيسي الساحلي المؤدِّي لبيت المقدس. وقد عمَّر أيضًا قلعةً في وادي الجوز إلى شمال القدس، وأخرى بين وادي الجوز والطور، كما جدَّد عمارة قشلاق البوليس في القدس ووسَّعها وأضاف إليها، وكذلك القلعة الكبيرة قرب برك سليمان على طريق الخليل بين الكيلو ١٢ و١٣.
ومن آثاره الخالدة أبنية حمامات طبريا المعدنية الشهيرة، التي عمَّرها بعد أن كانت أنقاضًا باليةً، وهي الآن ملك الوقف الإسلامي والمعارف وبلدية طبريا تُدرُّ عليها مالًا وفيرًا. ومن آثاره الزاوية الإبراهيمية، وهي قرب مقام سيدنا داود على جبل صهيون، وقد سُمِّيت باسمه لنزوله فيها وترميمه إياها، كما عمَّر غرفة في مسجد الخليل الإبراهيمي.
هذه لمحة عُجلَى تبين بعض الآثار المصرية في بيت المقدس، خاصةً من عهد الفاطميين إلى عهد الدولة العلوية، وهي آثار ناطقة باهتمام ملوك مصر وأمرائها وأميراتها المتواصل، بهذه البقعة المقدسة التي هي مهوى أفئدة المسلمين وقرَّة أعينهم، والتي أُسرِيَ إليها رسول الله، والتي شرَّفها الله في القرآن بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ.
فلا غرو بعد هذا أن يهتم ملوك مصر وأمراؤها والشعب المصري بها، فإنهم إنَّما يسيرون على نهج آبائهم العِظام، ويقتفون آثار السلف الصالح في هذا المنهج القويم متمثلين بقول الشاعر: