اختطاف هيليني
كانت مدينة إسبرطة — إحدى مُدن الإغريق — تعيش هادئةً وادعة آمنة، يجلس على عرشِها مَلك أُوتي بسطةً في الجسم والحكمة والعلم، يُدعى تِنداريوس. وكان يقيم العدل بين أفراد قومه، ويرفع الجورَ عن أبناء شعبه. وشاءت الأقدار أن تَهَبه أطفالًا أربعة: ولدين أسماهما كاستور وبوليديوكيس، وبنتين أسماهما كلوتمنسترا وهيليني.
نشأ الأطفال الأربعة في قصرِ أبيهم الملِك، ينعمون بما يغدِقه الوالدان عليهم من حنان، وما يحوطانِهم به من رعاية؛ فتنمو أجسادُهم، وتنضُج عقولهم، وتتفتح كما تتفتح الزهور اليانعة في رعاية بستانيٍّ ماهر.
وما إن بلغت البنتان سنَّ الشباب حتى توافد الأمراءُ الراغبون في الزواج، يخطبون وُدَّهما، ويتمنى كلُّ واحد منهم أن يحظى بواحدة منهما. وقد حالف الحظُّ أغامِمنون ابنَ ملِك موكيناي ففاز بكلوتمنسترا، وتزوَّجها. أما هيليني فظلَّت تتمنَّع على الراغبين، وتُدِلُّ عليهم بجمالها وجلالها؛ فقد كانت آيةَ عصرها، وفتنةَ دهرها جمالًا ودَلالًا. وإذا تمنُّعها ودلالها يزيد الأمراء إصرارًا على التقرُّب منها، ويزيد رغبتهم في الزواج بها اشتعالًا، حتى إنَّ أحدهم تستبد به هذه الرغبة، فيقسِم أن يقتلها ويقتل مَن يتزوَّجها لو كانت من نصيبِ غيره. ولكنَّ أباها الملِك، وقد راعَه ما يشهد من رغبة الأمراء، ومن إلحاحهم في الطلب، خشي أن يحدُث بينهم ما لا تُحمد عقباه، فآثر أن يحسِم الأمرَ بطريقة ذكية لبِقة. لقد اقترح على الأمراء أن يدَعوا الأمرَ لهيليني، تختار شريكَ حياتها، ورفيقَ دربها، على أن يتعاهدوا على الإذعان لرأيها، واحترام قرارها، والوقوف صفًّا واحدًا إلى جانب مَن تختاره من بينهم زوجًا، ومساعدته بكل قوَّتهم على الاحتفاظ بها. واستجاب الأمراء لمُقترحه، ونزلوا عند رأيه؛ فقد رأوا فيه مَخْرجًا من الضيق، ومنقذًا من التطاحُن والهلاك، واستدامةً لهدوء وطنهم ورخائه.
وما إنْ أخذ الملِك على الأمراء العهدَ والميثاق، حتى فوَّض الأمر لابنته هيليني، فوقَع اختيارها على مينيلاوس شقيقِ أغاممنون ورَضِيَته زوجًا لها. واحترم الأمراء رغبتها، واستوثق بعضهم من بعض أن يكونوا عند عهدهم الذي قطعوه، وألا ينقضوا الميثاق الذي أخذوه، وأن يبذلوا ما استطاعوا من جهد للوفاء به.
في ذلك الحين كانت الشيخوخة قد أخذَت تزحف على الملِك تنداريوس — والدِ هيليني — بمتاعبها ومشكلاتها وذكرياتها؛ فآثر أن يتخفف من أعباء المُلك، ويُلقي بها على كاهل مَن يستطيع النهوض بحِمْلها، والوفاء بتَبِعاتها، ويحسِن تدبيرَ شئون المُلك، ويجيد تصريف أموره، ويَسوس الرعية خيرَ سياسة، ويقودها أفضلَ قيادة. فلم يجِد خيرًا من صهره مينيلاوس زوجِ هيليني، فتنازل له عن العرش. ومنذ ذلك الوقت أصبح مينيلاوس ملِكًا لإسبرطة.
وعلى بُعدٍ بعيد من إسبرطة، عبْر البحر الإيجي، كانت تقع مدينة طروادة. وهي مدينة ذائعة الصيت، واسعة الشهرة، يتربَّع على عرشِها الملك برياموس. وهو ملِك عظيم، عريض الثراء، شديد البأس، بالغ القوة والنفوذ، أنجبت له زوجته هيكابي ولدًا هو هِكتور. ولما حملت للمرة الثانية رأت حُلمًا مزعجًا، سبَّب لها ولزوجها الملِك كثيرًا من الفزع والهلع. فقد رأت أنها أنجبت شعلةً متوهجة من النار، سرعان ما انتشرت في أرجاء طروادة؛ فأتت على الأخضر واليابس، وتركتها رمادًا تذروه الرياح.
خشي الملِك برياموس على نفسه وعلى عرشه، كما خشي على زوجته ووطنه، ونفرَت نفسه من هذا الجنين أشدَّ النفور. فلما وضعته هيكابي تقاذفتهم الأفكار، وتناوشتهم الخواطر: ماذا يصنعون به؟ وكيف يتخلَّصون منه؟ حفاظًا على أنفسهم من شرِّه، وعلى طروادة من ضُرِّه. وكانت فكرة قتْله أشدَّ الأفكار سيطرةً عليهم، ولكنهم لم يجدوا الشجاعةَ الكافية لتنفيذها، ففكَّر الملك في وسيلة أخرى ينقذ بها نفسَه وزوجه وعرشه وبلده، فحمل الطفل بين ذراعيه، وذهب به إلى خارج المدينة، وهناك فوق قمَّة جبل إيدا ترك حِمْله على الأرض؛ أملًا في أن تفترسه الوحوش الضارية، أو تلتقمه الطيور الجارحة، أو يهلِك من الجوع والعطش. ولكنَّ ظنونه ذهبت بددًا؛ فقد عثر عليه أحدُ الرعاة، فالتقطه ليكون له ولدًا، وأحاطه برعايته وعنايته بين أبنائه، وسمَّاه باريس.
عاش باريس في كنَفِ هذا الراعي حياةَ الرُّعاة البسيطة، يحترف حرفتهم، وينطلق بين أحضان الطبيعة انطلاقَهم. لا يعرِف إلا أنه واحد منهم، وأنه ابنٌ لذلك الراعي البسيط، ولا يدري أنه أمير جليل، وابنٌ للملك برياموس العظيم. وكذلك مَن حوله لا يدْرون عن حقيقته شيئًا! حتى إذا ما اشتد عُوده، وأزهر شبابه، واستحصدت قوَّته، وقع حادثٌ كان له أكبر الأثر في توجيه حياته، وتغيير مسارها؛ فقد تزوَّج بيليوس ملكُ المورميدونيين ثيتيس إحدى ربَّات البحر، وأُقيم لهذا الزواج حفلٌ رائع باهر، شهِده الأرباب جميعًا، يتقدَّمهم زيوس، ربُّ الأرباب وكبير الآلهة، ومعه زوجته هيرا، وكذلك أثينة، ربَّة الحكمة، وأفروديتي، ربَّة الجمال والحب. كلهم بارك هذا الزواج، وسعِد به، غيرَ ربَّة واحدة لم تُدْعَ إلى الحفل، هي ربَّة الشِّقاق إيريس؛ خشيةَ أن تفسِد بهجته، بما قد تبذُره من بذور الخلاف. فعزَّ عليها إهمالها، وأوغَر صدرَها عدمُ الاهتمام بها. فأضمرت في نفسها شرًّا، وعقَدت العزمَ على إفساد متعتهم بالحفل وهي غائبة عنه. فليس ضروريًّا لكي تنفُث سمومها أن تكون بين المدعوين بشخصِها، ولكنها ستكون حاضرةً بينهم بحقدِها. ولذلك ألقت على المائدة التي يجلس إليها المدعوُّون تفاحةً ذهبية، كتبت عليها عبارةً مثيرة مغرية بالاختلاف والنزاع: «إلى أجمل النساء طُرًّا»، وهي تعرِف ما يمكن أن تشعله هذه الجملةُ في نفوس الربَّات من غَيرة وشقاق، فكل واحدة منهن تظن نفسها أجملَ النساء، سواء كان الجمال جمالَ البشرة والجسد، أو جمالَ العقل والحكمة، أو جمالَ السمو والرِّفعة. وما واحدة منهن براغبةٍ في أن تتنازل للأخرى عن التفاحة؛ إذ كل واحدة منهن تود أن تحظى بهذا اللقب الجميل المثير.
وحدث ما توقَّعته ودبَّرت له ربَّة الشقاق من نزاع واختلاف بين الربَّات، كاد يتطور إلى شجار وعِراك. ولكن زيوس كبيرَ الآلهة أراد أن يحسِم النزاع، فأصدر أمره بأن يَحكم في هذا النزاع باريس راعي جبل إيدا. وأرسل إليه التفاحةَ مع إيريس، وأمرها بأن تخبره بأن يقدِّم التفاحة للربَّة التي يراها تفوق الأخريات جمالًا في نظره.
بينما كان باريس، راعي جبل إيدا، يرعى أغنامه عصرَ يوم من الأيام، إذا بمفاجأة تذهله، وتكاد تفقِده وعيه. فقد شاهد الربات الثلاث يقفن أمامه، ومعهن إيريس تنبِئه بما وقَع، وتبلِّغه رسالةَ زيوس. وعندئذٍ تكلمت هيرا، فقالت له: «أيْ باريس، إنك تجهل حقيقةَ أمرك. إنك أمير عظيم، ولست الراعي الخامل الحقير. أنت ابنُ ملك طروادة برياموس، ولسوف أجعلك — إذا أعطيتني التفاحة — أقوى الملوك بأسًا، وأوسعهم ثراء، وأبسطهم جاهًا ونفوذًا؛ فلا يكون في الدنيا كلِّها مَن يضارعك.»
وهزَّه قولها، فقد كشفت له عن حقيقته. فطالما أحسَّ إحساسًا غامضًا مبهمًا، لم يستطِع تحقُّقه ولا تصوُّره؛ أنه لم يُخلَق لهذه الحياة التافهة الخاملة، حتى جاءت هذه الربَّة فأماطت له اللثامَ عن حقيقة أمره. إنها — إذًا — جديرةٌ بهذه التفاحة! وهمَّ أن يمنحها التفاحة، لكنَّ خاطرًا هتف به أن يتريث في الأمر، وأن يتلبَّث حتى يستمع إلى قول أثينة وأفروديتي.
ووقفت أثينة في كبرياءَ وجلالٍ تقول له: «أيْ باريس، إذا أعطيتني التفاحة فسأعلمك كيف تكون أرجحَ الناس عقلًا، وأحسنهم تدبيرًا، وأرزنهم حِلمًا، وأكثرهم حكمة. سأجعل منك رجلًا عظيمًا، يهابه الناس ولا يعصون له أمرًا، لا من خوف ورهبة، بل عن حب ومودَّة.»
وكاد باريس يعطيها التفاحة، فقد رغِب فيما عندها من الحكمة والرشد، يسوس بهما الناس، وفيما وعدَته به من حبِّ الناس له، يعطِف قلوبَهم نحوه. ولكنه فوجئ بأفروديتي — ربَّة الجَمال والحُب — تقِف في دَلال، وتتقدَّم منه في خُيلاء، وترنو إليه بابتسامةٍ رائعة، لم يستطِع لسحرها مقاومة، ولا عليه امتناعًا، وتقول له بصوتٍ ندي رخيم، كأنما يعلن به الحبُّ عن نفسه: «أيْ باريس، أعطني التفاحة، وسوف أهَبُك أجملَ امرأة في العالم؛ لتُصبح زوجةً لك!» ولم يتمالك باريس نفسه، ولم يخامره التردُّد لحظة، بل اندفع مسرعًا، وأعطى أفروديتي — ربةَ الجَمال والحُب — التفاحة.
•••
أصبح باريس ضائقَ الصدرِ بهذه الحياةِ التافهة الخاملة — حياةِ الرعي والرُّعاة — هذه الحياة التي تَحصره في أن يغدو بقطيع أغنامه إلى المرعى، ويروح به إلى المأوى، ولا همَّ له فيما بين ذلك إلا الجلوس منصتًا إلى ثُغائها، أو شارِدًا في مجالِي الطبيعة، أو خامدًا خاملًا، لا فكرَ في ذهنه، ولا نشاطَ في جسمه.
ضاقت نفسُه بهذه الحياة، وخاصة بعد أن علِم حقيقةَ أمره، وأدرك أنه لم يُخلق لهذه الحياة البائسة، وإنما خُلق لحياةٍ ناشطة ساعية. فاعتزم التخلي عن حياة الرعي، وشخَص إلى طروادة؛ ليتعرَّف على أبيه وأمه، وليحيا حياةَ الأمراء في قصور الملوك. وما إن طالعته طروادة، حتى أحسَّ نسائمَ الحياة الجديدة تصافح وجهَه، ودماءها تجري في عروقه، وفورةً من النشاط تدِبُّ في جسده. فأغذَّ السيرَ كي يدخلَ المدينة من أوسعِ أبوابها، وأن يقدِّم نفسه لوالديه. وما إن ألقى نفسه بين يديهما، وأماطَ اللثامَ عن شخصه، حتى بلغ منهما السرورُ كلَّ مبلغ، وانزاحت عن قلبيها كلُّ آثار الخوف والضيق، وانقشعت عن نفسيهما سُحُب الكآبة التي كانت تخيِّم عليهما منذ أن تركه أبوه فوق قمَّة الجبل. فقد كانا يظنان أن ابنهما قد تخطَّفته الطير أو نهشته السِّباع، ولكن ها هو ذا شاخصٌ أمامهما بلحمه وعظمه. لقد غمرتهما الفرحة، وعمَّت أرجاء المدينة، وسادها جوٌّ مفعَم بالحبور والغبطة، لم تَذقه منذ سنوات عديدة.
كانت الرغبةُ التي أثارتها أفروديتي — ربةُ الجمال والحب — في نفس باريس لا تزال مشتعلة، والوعدُ الذي وعدَته به لا يزال ماثلًا بين ناظريه. وعليه أن يسعى لتحقيق رغبته، ويبذلَ جهدَه للحصول على ما وُعِدَ به، ويحشد كلَّ إمكانات السلطة في سبيل ذلك. ومن ثَم راح يعمل هو وإخوته في جمْع الأخشاب لبناء سفينةٍ يجوب بها البِحار، بحثًا عن أجمل امرأة في العالم، تلك التي وعدَته بها أفروديتي. وما كان لربة الجمال والحب أن تَخيس في وعدها، أو تحنَث في عهدها! لكن أخته كاسندرا حذَّرته مما قد ينجُم من عواقبَ وخيمةٍ عن فِعله، وتوسَّلت إليه أن يكُفَّ عن البحث، ويصرِف جهده إلى ما يفيد نفسه ووطنه. ولكنه — وقد سيطر هذا الأمل على نفسه — سخِر من تحذيرها، وتهكَّم على ضَعفها، وآثرَ أن يمضيَ في طريقه.
وتقاذفته البِحار حتى ألقت به قريبًا من شواطئ إسبرطة. ولما علِم مينيلاوس ملِكُها بقدومه، خفَّ مسرعًا إلى الشاطئ لاستقباله والترحيب به، واقترح عليه أن ينزلَ عنده ضيفًا عزيزًا. وهناك لقي باريس هيليني زوجةَ مينيلاوس. وما إن وقَع بصره عليها حتى بهَره جمالها، وسحرَته فتنتها، واستحوذ حبُّها على فؤاده. فما عاد يستطيع عنها تحولًا، ولا يجِد عنها مُنصرَفًا. لقد أصبح مشدودًا إليها بقوة خفية، لا يدري كنْهها، ولا يستطيع مقاومتها. لقد كانت آيةً في الجمال، وفتنةً للناظرين. إنها هي التي وعدَته بها أفروديتي — ربة الجمال والحب — فما يظن أن هناك على وجه الأرض مَن هي أروعُ منها جمالًا، أو أشدُّ سحرًا ودلالًا! فقرَّر أن يعود بها إلى طروادة مهما كانت الصِّعاب التي تقف في سبيله، ومهما كانت العقبات التي تحول بينه وبينها. إن عليه أن يَقهر الصعاب، ويتخطَّى العقبات، ويحطِّم الحواجز والسدود في سبيل تحقيق هذه الرغبة.
وانتهز فرصةَ خروج الملِك مينيلاوس في رحلةٍ بحرية إلى جزيرة كريت، وراح يتقرَّب من هيليني، ويُطري جمالها، ويفصِح عن حبِّه لها. وما زال يتملَّق عواطفها، ويغريها بالذهاب معه، حتى استجابت له، ونقلت كلَّ ما استطاعت من كنوز قصر زوجِها الملِك مينيلاوس إلى سفن الطرواديين. ثم أبحرت السفنُ تتهادى بهيليني وما حملَت من تحفٍ وكنوز، وباريس في سفينته وإلى جانبه مَن كان يحلُم بها، يكاد يطير من شدة الفرح. وبلغت به السعادة مبلغًا لا يحيط به الوصف، وتعجَز الكلمات عن تصويره؛ فقد ظفر بمن كان يريد، ظفر بما وعدته به أفروديتي — ربة الجمال والحب — فلا يَعنيه ماذا تكون العاقبة، ولا يَعنيه ما قد يصنعه الملك مينيلاوس. لقد حجبت الغشاوةُ بصره وبصيرته عن التفكير في العاقبة.