الوفاء بالعهد
لم تنسَ الربَّتان، هيرا وأثينة، صنيعَ باريس فيهما، وكيف ضنَّ عليهما بالتفاحة الذهبية، وآثرَ عليهما الربَّة أفروديتي؛ لذلك كانتا تتحينان الفرصة لتمكُرا به أشدَّ المكر. فما إن فعلَ فَعْلته حتى أرسلتا إلى مينيلاوس في كريت رسولَ الآلهة إيريس لتخبِرَه بالواقعة، ولتثيرَ غيظَه وحفيظتَه على هذا الذي استضافه في قصرِه، فلم يرعَ له حقًّا ولا ذِمة، وإنما خانه بإغراء زوجته، بالهرب معه إلى طروادة. وما كان مينيلاوس في حاجة إلى مَن يثيره، فهو يحب هيليني حبًّا جمًّا. ومن ثَم وقع الخبرُ عليه وقوعَ الصاعقة، وضاقت عليه الأرض بما رَحُبت، وراحت كلُّ ذرة في كِيانه تطالبه بالانتقام والثأر لكرامته، والذود عن شرفه. ولكن كيف؟ إن طروادة بعيدة، وتحتاج مجهودًا جبارًا كي يصل إليها. كما أن ملِكها برياموس رجلٌ قوي الشكيمة، شديد البأس، واسع النفوذ، لا يُؤتى من ضَعف، ولا يُغلب من قلة العدد والعُدة. فليذهبْ إلى أخيه أغاممنون — ملكِ موكيناي — يلتمِس عنده الرأي والمشورة والمعونة.
وصل مينيلاوس إلى قصرِ أخيه أغاممنون، فوجده يتحدَّث إلى الملك العجوز الحكيم نسطور، الذي كان ملِكًا على بيلوس، وكان يعرف هيليني معرفةً جيدة، ويدرك مدى تعلُّق مينيلاوس بها، ويدرك ما في هذا العمل الذي اقترفه باريس من نذالةٍ وخسَّة، وما يُلحِقه بمينيلاوس من ذل وعار. فقام من فوره يسعى بين أمراء إسبرطة الذين تعاهدوا على معاونة مَن تختاره هيليني زوجًا لها على الاحتفاظ بها، ليذكِّرهم بما تعاهدوا عليه، وليستنجزَهم وعدَهم الذي قطعوه على أنفسهم لأبيها. وأسعفته في ذلك الربَّتان هيرا وأثينة؛ إذ أوغرتا صدورَ الأمراء على باريس، الذي انتهك حرمةَ وطنهم، وداس كرامته؛ فقد كانتا تمقُتان باريس أشدَّ المَقت. وإذا الأمراءُ يلبُّون ما طلب نسطور الملك العجوز الحكيم، ويهُبُّون مسرعين لنجدة مينيلاوس، ويتنادَون للاستعداد بالسفن والرجال والسلاح.
واحتشد الجيش الإغريقي في أوليس، فوق شاطئ البحر، وتجمَّعت السفن، واستعدَّت لتمخُر عُبابَ البحر. وألقى أغاممنون نظرةً على هذا الجيش الضخم، الذي اختاره الأمراء قائدًا له، فامتلأت نفسه ثقةً في النصر، فلن يُغلبوا اليومَ من قلةِ عدد وعُدة. لقد خرج الأمراء جميعًا، لم ينكُص على عَقبِه منهم أحد، ولم يحنَث في عهده منهم أمير. حتى نسطور الملك العجوز خرج معهم، ينير طريقَهم بحكمتِه، ويسدِّد خطاهم بمشورته. وكذلك خرج ولداه الشجاعان، وأخيليوس ملك المورميدونيين، الذي تُروى عن شجاعته الأساطير، وسارت بذكرِها الرُّكبان؛ فهو ابن بيلوس وربَّة البحر ثيتيس.
ويقال إن ثيتيس عرفَت أن الأقدار كَتبت على ابنها أخيليوس أن يقضيَ نَحبَه في المعارك، وهو في رَيعان الشباب، فأرادت أن تحصِّنه وتهَبَه البقاءَ والخلود، فحملته منذ مولده إلى نهر ستوكس، ذلك النهر المقدَّس في العالم السفلي العظيم، وغمسته فيه، ما عدا عَقِبَه الأيمنَ الذي كانت تمسكه منه، فلم يمسسه الماء المقدَّس. ومن ثَم لم يكن لسلاحٍ بشري أن ينفُذ فيه، ولا أن ينال منه مَنالًا، إلا إذا أصابه في ذلك الجزء الصغير الدقيق من جسده، الذي فات ثيتيس أن تبلِّله بالماء المقدَّس، فكان مصدرَ خطر عظيم، وشرٍّ مستطير عليه. وصار «عَقِبُ أخيليوس»، بوصفه نقطةَ ضعف، مَضرِب الأمثال.
أما أوديسيوس ملكُ إيثاكا، فقد كان الأمراء يتوقَّعون تثاقلَه عن الحرب؛ فقد كان متزوجًا حديثًا ببينيلوبي، فما كان يُطيق لها فِراقًا، ولا عنها ابتعادًا؛ فقد استهواه جمالها، وأسَرَته فِتنتها، واستكان إلى حياة الدَّعَة في ظلالها. وقد صحَّ ما توقَّعوه، وإذا به يحتال حيلةً — ظنَّها ماكرة — تُتيح له التخليَ عن المشاركة في الحرب، دون أن يكون هناك ما يشوِّه سُمعته. لقد تظاهر بالجنون، وراح يحرُث رمالَ البحر بزوجٍ من الثيران؛ كي يعتقد الأمراء اختلاطَ عقله، فما عاد يميِّز بين الأرض الخِصبة التي تصلُح للحرث، وبين الرمال البحرية التي يضيع الجهد فيها هباء.
بيْد أن أحد الأمراء الأذكياء لم تنطَلِ عليه الحيلةُ، وأراد أن يردَّ عقله إليه، فعمَد إلى الطفل تيليماخوس ولدِ أوديسيوس، ووضعه أمام المِحراث، فما كان من أوديسيوس إلا أن توقَّف عن الحرث، ولم يستطِع أن يمضيَ في ادعائه الجنونَ إلى المدى الذي يحرُث معه ابنَه، ويقضي عليه بيديه. وهنا عاد إليه صوابُه، ومضى يتجهَّز هو وقومه للإسهام في معركة استعادة هيليني من طروادة.
واكتمل الأسطول الإغريقي عددًا وعُدة، فأصدر أغامِمنون أمرَه بتحرُّك الأسطول، وزحفِه إلى طروادة. فأقلعت السفن ميمِّمة شطْرَها؛ كي تثأرَ للكرامة التي أُهدرت، وتنتقم للشرف الذي أُهين. وما إن بلغت جزيرةَ تينيدوس حتى رأى الإغريق أن يتريَّثوا قليلًا، وأن يبدءوا العمل العسكري بمطلبٍ سلْمي، تجنبًا لويلات الحرب، وصونًا لدماء الفريقين. وطلبوا إلى مينيلاوس أن يذهب إلى الطرواديين، ويطلب إليهم أن يردُّوا إليه زوجته وكنوزه المنهوبة، وأن يصطحب معه في هذه المهمة أوديسيوس، ليشدَّ أزْره؛ فقد كان من أفصحِ ملوكهم وأحكمهم، وأقدرهم على المحاورة والاحتجاج.
وبلغ مينيلاوس وأوديسيوس طروادة، فصادفا ترحيبًا بالغًا من أنتينور الأميرِ الطروادي، الذي أكرم وِفَادتهما، وتحدَّث إليهما فأجاد الحديث، وأنبأهم أنه والملك برياموس لا يودَّان إراقةَ الدماء، ولا يجِدان مانعًا من إعادة هيليني وما حملَته من كنوز، ولا يريان في ذلك غضاضة ولا مذمَّة، بل يريان فيه إعادةً للحق إلى نِصابه. ولكن العقبة الكئود التي تعترض طريقهما، هي أن باريس لا يريد التفريطَ في هيليني بأية حال.
وحاول أوديسيوس — بكلِّ ما أُوتي من فصاحة — أن يخلُب لبَّ الطرواديين بكلماتِه الناعمة، ويستميلهم بقدرته البارعة على الحوار، ولكن محاولاته باءت بالفشل؛ فلم يجِد من باريس والأمراء الذين رافقوه في رحلته إلى إسبرطة أذنًا صاغية، ولا عقولًا واعية؛ بل تميَّزوا منه غيظًا، واستشاطوا عليه غضبًا، وهمُّوا به وبمينيلاوس ليقتلوهما، لولا أن تداركهما شيوخُ طروادة فصدوا الأمراء عن اقتراف هذا الفعل الشنيع.
وعاد الاثنان خائبَين، وفي صدريهما مقتٌ فظيع للطرواديين، الذين لم يَرعَوا حرمةً ولا ذمة، وفي نفسيهما اقتناع قوي على أن استرداد هيليني يعني الاستيلاء على طروادة.
وأيقن الطرواديون أن الحرب قادمة، خاصة أنهم سمِعوا عن الجيش الجرَّار الذي يتقدم صوبَهم؛ لذلك لم يركَنوا إلى الدِّعة، وإنما راحوا يستصرخون جيرانهم، ويَعدُّون للأمر عُدته.
وكان من بينهم هكتور أكبرُ أبناء برياموس وأشجعهم وأصبرهم عند اللقاء، وإلى جانبه أينياس بن أينخيسيس، والربة أفروديتي صاحبة المشورة على باريس، والعملاق كوكنوس ابنُ رب البحر بوسيدون، وكثيرون هبُّوا لنجدته، تقاطروا من طراقيا في أقصى الشمال، ومن لوكيا في الجنوب بقيادة ملكِهم ساربيدون ابن الإله زيوس نفسه. كما بعث الطرواديون إلى الملك ميمنون، ملك أثيوبيا، يطلبون منه الغوثَ والنجدة، ولكن بلده كان بعيدًا جدًّا، فلم يكن من المؤكَّد عند الطرواديين أنه سيخِفُّ إلى نجدتهم، فإن طول الطريق، وبُعد الشُّقة، قد يُقعدانه عن ذلك.
وكانت المفاجأة المرعبة تنتظر الإغريق، فما إن وطئت أقدامُهم اليابسةَ حتى وجدوها قد غصَّت بالجيش الطروادي وحلفائه متأهبًا لقتالهم. ودارت معركةٌ رهيبة قاسية، حمِي وطيسُها، وراح هكتور والعملاق كوكنوس يحصدون الإغريق حصدًا، كأنهم سنابل قمح حان قطافها. حتى وقع بصر أخيليوس، وهو في عربته يدفعها بمحاذاة خط القتال الطروادي، على العملاق كوكنوس وهو يفعل بالإغريق الأفاعيل: يفرِّق صفوفهم، ويمزِّق جيوشهم. وراح أخيليوس يطعنه برُمحه الطعنةَ تلو الطعنة، ولكن الرُّمح لا ينفُذ فيه، وكأن جسدَه صخرةٌ صمَّاء لا تنبثِق منه قطرةُ دم واحدة؛ فقد كان العملاق ابنًا لبوسَيْدون، فهو محصَّن من كل سلاح بشري. وهنا ثارت ثائرة أخيليوس، وغلَى الدم في عروقه، وإذا هو يطوِّح بسلاحه بعيدًا، ويهبِط من عربته، ويشتبك مع العملاق في عِراك باليد المجرَّدة. ولا يزال به حتى يمزِّق خوذته، ويحطِّم حُلقومَه، ولم تتراخَ عنه قبضةُ يديه إلا بعد أن لفظ أنفاسه مخنوقًا.
كان ربُّ البحر بوسيدون يرقُب ما يجري لابنه، ويألَم لما ينزِل به. فلما لفظ أنفاسه تلبَّث قليلًا حتى غفَل عنه أخيليوس، والتقط جثَّته. واستدار أخيليوس ليرفع جثَّة غريمه إلى عربته، فكم كانت دهشته حين لم يجِد غيرَ حُلة العملاق الحربية فارغة! لقد تلاشى العملاق فاستبدَّت الحَيرة بأخيليوس، ولكنه نظر إلى الفضاء فرأى شيئًا عجبًا! رأى بجعةً برِّية تسبَح في زرقةِ السماء الصافية! لقد تحوَّل كوكنوس إلى بجعة، ومنذ ذلك الحين التصقت به صفةُ الطائر السماوي، حتى إن الإغريق أطلقوا اسم كوكنوس على البجعة!