بين باريس ومينيلاوس
صلَّت ثيتيس صلاة خاشعة للإله زيوس، وتوسلَّت إليه أن يرحم ابنها أخيليوس مما نزل به من ضيق. فاستجاب لصلاتها، وألهم أغاممنون حلمًا كاذبًا، أنه عليه أن يستنفر الأمراءَ الإغريق، ويحشدِهم لحرب الطرواديين عند الأسوار.
وفي صباح اليوم التالي جمع أغاممنون الأمراء، وكشف لهم عن مضمون الحلم الذي ألهمه إياه زيوس كبير الآلهة، وحثهم على استئناف القتال، مغريًا لهم بأن النصر سيكون حليفهم. ولكن الأمراء لم يكونوا عند حسن ظنه، فقد خيبوا أمله بتقاعسهم عن القتال. حتى إن أحدهم ويُدعى ثيرسيتيس، وكان سيئ المنظر، قبيح الوجه، صاح في أغاممنون: «ماذا تريد أيها الملك الجشع؟ إن خيامك غاصة بالإماء الجميلات، مكتظة بالجواهر الثمينة، التي غنمناها لك من بلاد الطرواديين. ولكنك نهِم لا تشبع ولا تقنع، وإنما دائمًا هل من مزيد، فماذا تريد؟»
ثم التفت إلى الأمراء موجهًا الحديث إليهم: «لقد أرهقنا هذا الملك من أمرنا عسرًا، وحملنا من ويلات الحرب وتَبِعاتها فوق ما نطيق. فمن الخير لنا أن ننقلب إلى بلادنا، ونخلي بين هذا الملك الجشع وبين الطرواديين، يصنعون به ما يشاءون. لقد أهان أشجعَ جنودنا طرًّا.»
وران على الجميع صمتٌ ثقيل، وتهامس بعضهم إلى بعض. غير أن أوديسيوس قطع حبال هذا الصمت الرهيب، وصاح في الرجل: «أيُّهذا الأحمق، كيف تجرؤ على مخاطبة قائدنا وملكنا أغاممنون بهذه الطريقة؟ كفَّ عن سفاهتك، والزم الصمت.»
وما إن نطق أوديسيوس بهذه الكلمات، حتى بادر ثيرسيتيس بضربة شديدة عاتية بين كتفيه أقعدته، وألزمته الصمت. وراح يجفف الدموع التي اغرورقت بها عيناه، يحول بينها وبين أن تفضح شجاعته، وتفصح عن جبنه ونذالته.
ثم التفت أوديسيوس إلى القوم، وقد تعلقت به أبصارهم، وقال: «أيها الأمراء الإغريق، إنه لمن العار أن نحنَث في عهدنا الذي أعطيناه تينداريوس والدَ هيليني، وإن كبرياءنا سوف تُمرَّغ في الوحل لو عُدنا بدونها. ولكنَّا لا يمكننا البقاء على هذه الحال طويلًا، فعلينا — إذًا — أن نتذرَّع بالصبر، وأن نقسِم على البر بعهدنا، وعلى ألا نعود إلى بلادنا إلا بعد أن نستولي على طروادة، ونسترد هيليني وما اغتصبوه منا.»
وبث هذا القول الحماسة في نفوس الأمراء، وطابت له نفس أغاممنون. فأمر الإغريق أن يتناولوا فطورهم، ويستعدوا للقتال، بشحذ رماحهم، وصقل سيوفهم. فقد عقد العزم على ملاقاة الطرواديين اليوم، كما ألهمه زيوس.
واحتشد الجيش الإغريقي، وشرع يزحف نحو أسوار طروادة. على حين كان الملك برياموس — ملك طروادة — يجلس هناك فوق قمة القلعة، قرب أحد الأبواب، يرقُب ما يحدث، ويتجاذب أطراف الحديث مع بعض رفاقه وقرنائه من الشيوخ. ولاحت منه التفاتة فأبصر هيليني تسير نحو السور، فناداها في رفق ومودة. فلما اتجهت نحوه، ورآها رفاقه، تهامس بعضهم مع بعض: «حقًّا إنها لرائعة الجمال كالربات! وليس من العار أن يتقاتل الإغريق والطرواديون من أجلها. ولكن من الأفضل لها ولنا أن تعود إلى وطنها، فما كان للجمال — مهما كانت روعته — أن يكون سببًا في إشعال نيران الحروب، التي نشقى بها نحن، ويشقى بها أطفالنا من بَعدنا، وتجر على البلاد الخراب والدمار!»
وقال برياموس لهيليني: «أي طفلتي العزيزة! أنا لا ألومك على ما حدث، ولا أحمِّلك وزرَ ما يحدث. إنها إرادة الآلهة، ولا بد لها أن تنفُذ. لكن أخبريني يا طفلتي العزيزة: مَن ذلك الأمير القوي الواقف هناك؟ إنه يبدو جنديًّا شجاعًا نبيلًا.»
ونظرت هيليني حيث أشار برياموس، ثم أطرقت، وقالت: «حماي العزيز، كم أحسُّ بالخجل الشديد وأنا ماثلة الآن بين يديك؛ فقد جلبت بقدومي مع ابنك باريس، عليكم وعلى قومي، هذه الحربَ الطاحنة. ليتني متُّ قبل هذا، وكنت نسيًا منسيًّا! إن ذلك الأمير الذي تشير إليه يا حماي العزيز هو أغاممنون شقيق مينيلاوس، الذي كان زوجًا لي ذات يوم.»
– «لا لوم عليك يا طفلتي العزيزة، فهذا من تدبير الآلهة، ولا حيلة لنا في دفعه، ولا بد أن يمضي إلى مداه. أخبريني، مَن ذلك الرجل الآخر الواقف هناك؟ أترين حيث أشير؟ إنه ليس فارع الطول كأغاممنون، ولكنَّ منكبيه أعرض وأقوى، وهو يتأهب لارتداء حلَّته الحربية. إنه يسير بين القوم يحمِّسهم ويحفِزُهم إلى القتال فيما يبدو.»
– «إنه أوديسيوس ملك إيثاكي، أرجح الإغريق عقلًا، وأرزنهم حِلمًا.»
وكانت هيليني تتحدَّث إلى الملك برياموس ومشاعر الندم والحسرة تجتاحها، والدموع تترقرق في مآقيها، حزنًا على ما وقع منها من فعلٍ سوف يجرُّ خرابًا ودمارًا على القوم، يظلان مقترنين باسمها مدى الدهر!
وأنهى الإغريق استعدادهم، وزحفوا بهدوء نحو أسوار طروادة. وخرج الطرواديون من أسوارهم يصيحون صيحات مدوية، يقودهم باريس في حلَّته الحربية، معلقًا قوسه على منكبه، عارضًا رمحه، مدليًا سيفه إلى جانبه، وكأنما يظن الأمر نزهةَ صيد ممتعة.
وبلغ الطرواديون السهلَ المكشوف، والتحم الجيشان، ودارت المعركة، وحمي وطيسها. وفي أثنائها وقع بصر مينيلاوس على غريمه باريس، فظن أن الفرصة قد واتته، وأن ساعة انتقامه لشرفه وكبريائه قد حانت؛ فها هو ذا غريمه أمام عينيه، وعليه أن يظفر به، كي يَشفي بقتله غليلَه، ويُذهِب غيظَ قلبه. ولذلك قفز مسرعًا من عربته، وهجم على باريس يود أن يفتك به، ويمزقه بيديه، ويترك جسده أشلاء للطيور. ولكن باريس ما إن وقعت عيناه على مينيلاوس، ورأى الشرر الذي تقدحه عيناه، حتى دبَّ الرعب في صدره، وطارت نفسه شعاعًا، فأسرع يتوارى خلف الرجال.
ونظر هكتور إلى أخيه نظرة غاضبة مستنكرة، وقال له: «أيها التعيس، ما هذا التخاذل الذي يبدو عليك؟ وما هذا العار الذي تجلل به هامتَك، وتسحبُه علينا معك؟ أإلى هذا الحد خار عزمُك؟ ماذا سيقول عنك الإغريق؟ كيف ارتضيت لنفسك وأنت هذا الجبانُ الرعديد أن تستدرج معك رجالًا شجعانًا من قومنا، وتصحبهم عبر البحر؛ لتغري زوجةَ رجل آخر، وتختطفها من بين قومها، وتجلِب على أبيك ومدينتك وقومك ما لا قِبلَ لهم به من الهم، وها أنت ذا الآن تضع نفسك موضع السخرية.»
وذاب باريس خجلًا أمام لوم أخيه، وأجاب: «أيْ هكتور، إنك لعلى صواب في كل ما قلته، وأنت تعلم أنني لا أستطيع الاحتفاظَ بشجاعتي، مثلك، ويكاد الرعب يشلُّ حركتي في كثير من الأحيان. إذا أردتني أن أقاتل ببسالة فلتطلب إلى الإغريق والطرواديين أن ينحازوا عن القتال، ويخلوا بيني وبين مينيلاوس نتقاتل رجلًا لرجل، وأيُّنا يحرِز النصر على الآخر تكون هيليني من نصيبه. وبذلك نكفي الجنود شرَّ القتال، ونصون دماءهم، ويعيشون في أوطانهم في دَعة وسلام وأمان.»
أُعجِب هكتور بمقالة باريس، وملأت قلبه غبطةً وسرورًا، وفي الحال طلب من الفريقين هدنة. وفي المسافة التي تفصل بين الفريقين وضع الملك برياموس والملك أغاممنون شروط القتال.
وأحضر برياموس كبشين قربانًا للآلهة، في حين شهر أغاممنون سيفه، وصاح قائلًا: «إنْ يقتل باريس مينيلاوس فله الحقُّ في أن يحتفظ بهيليني، وعلى الإغريق أن يعودوا من حيث أتَوا. أما إذا قتل مينيلاوس باريس فستكون هيليني من نصيبه، وعلى الطرواديين أن يردوها إليه ومعها الكنوز، وفاء بما قطعوه على أنفسهم من عهد، وما ارتبطوا به من وعد. فإذا ما رفضوا الوفاء، وحنَثوا في العهد فأُقسِم بجميع الآلهة أننا لن نعود أدراجنا حتى نبيدَ طروادة وسكانها أجمعين.»
وما إن أتمَّ قوله حتى احتزَّ بسيفه عُنُقَي الكبشين، وأقبل الجنود — الذين كانوا يصغون إليه — يصلون في ضراعة للإله زيوس.
أما برياموس فقد عاد إلى عربته، وقفل عائدًا إلى طروادة، فما يستطيع أن يشهد ولده الحبيب باريس وهو يلتقي في عِراك مميت مع مينيلاوس الشديد البأس، الممتلئ غيظًا على غريمه.
وقاس هكتور وأوديسيوس الأرض؛ ليحدِّدا المساحة اللازمة ميدانًا للمبارزة، وليقف الجنود خلفها ترقبًا لما تنتهي المعركة إليه بين الرجلين. في حين تجهَّز كلٌّ من مينيلاوس وباريس بسلاحهما، وأعدَّا عُدَّتهما للنزال، الذي قد يُنهي الحرب.
وبدأت المعركة بين الرجلين بضربة رمح من باريس، لكنها لم تصنع شيئًا في مينيلاوس؛ إذ تحطَّم الرمح فوق درعه، والتوى طرفه. وهز مينيلاوس رمحه كما لم يهزُّه من قبل، وعاجل باريس بطعنة رمح عاتية، اخترقت دِرعه، وجرحته جرحًا طفيفًا. وحينئذٍ استل مينيلاوس سيفه، ووجَّه ضربة قاسية لغريمه، ولكن السيف تحطَّم فوق خوذته، فاستشاط مينيلاوس غضبًا، وثارت نفسه ثورة عارمة، وأطبق على باريس بيديه، وقبض على ريشة خوذته المصنوعة من شعر الخيل، ولفَّها حول عنقه، وأخذ يجره جرًّا عنيفًا، ويسحبه سحبًا قويًّا نحو معسكر الإغريق. وكاد سيرُ الخوذة يخنُقه، ونظر الأمراء والجنود بعضهم إلى بعض، وفي قلوبهم نشوةٌ مكتومة من الفرح؛ فقد آذنت الحرب بالانتهاء، وأصبح النصر على مرمى رمح من مينيلاوس.
لكن ربَّة الجمال والحب — أفروديتي — عزَّ عليها أن يُهزَم باريس، فقطعت سيرَ الخوذة قبل أن يختنق بها، وتشكَّلت في صورة سحابة حملته بعيدًا إلى طروادة، حيث كان يلعَق جراحَه وهو بين ذراعَي أفروديتي، ويعزِّي نفسه بتدخلها في المعركة، وإنقاذها له من الموت المحقق. وما ذلك إلا لأنه أثيرٌ لديها، وما كانت لتفرِّط فيه، وتنسى أنه فضَّلها ذات يوم على الربات الأخريات، ومنحها التفاحةَ الذهبية.
أما مينيلاوس فقد اندفع ثائرًا هائجًا، يبحث بين الطرواديين عن غريمه، لكنه لم يَعثر له على أثر، ويصرخ فيهم أن يدُلُّوه عليه. وما كانوا يستطيعون ذلك؛ إذ هو لا وجودَ له بينهم، ولو رأوه أو عرفوا مكانه لأسلموه. فما أحد منهم يرغب في إخفائه، والحيلولة بينه وبين مصيره، فكلهم ضائق به، لما جلبه عليهم من شرور وويلات.
وتكلَّم أغاممنون مخاطبًا الطرواديين: «إن مينيلاوس هو الذي فاز على خَصمه، فهيا كونوا أوفياء لما قطعتم على أنفسكم من عهد، وما أعطيتم من مواثيق. هيا رُدُّوا علينا هيليني وكنوزَنا المنهوبة؛ لِتَكفوا أنفسَكم مئونةَ القتال.»
ورحَّب الإغريق بكلماته، والتفوا حوله مناصرين مؤيدين.