الحَقيقَةُ الوَاحِدَة
يا مُتابعَ المَلاحِدَة، مُشايِعَ العُصْبةِ الجاحدة، منكرَ الحقيقة الواحدة:١ ما للأعمى والمرآة، وما لِلمُقْعَد٢ والمِرْقاة،٣ ومالَكَ والبحثَ عن الله؟
قُم إلى السماءِ تَقَصَّ٤ النظر، وقُصَّ الأثر،٥ واجمع الخُبْرَ والخَبَر٦ كيف ترى ائتلافَ الفَلَك، واختلافَ النسور والحَلَك.٧ وهذا الهواء المشترك، وكيف ترى الطيرَ تحسَبُه تُرِك، وهو في شَرَك،٨ استهدَف فما نجا حتى هَلَك،٩ وتعالى الله! دلَّ المُلْك على المَلِك!. وقِفْ بالأرضِ سَلْهَا من
زَمَّ١٠ السحابَ وأجراها، ورَحَل١١ الرياحَ وعَرَّاها،١٢ ومن أقعد الجبالَ وأنهضَ ذُراها،١٣ ومن الذي يَحُلُّ حُباها،١٤ فتخِرُّ له في غدٍ جِباها؟ أليس الذي بدأها غَبَرات،١٥ ثم جمعها صخّرات، ثم فرَّقها مُشمَخِرَّات؟١٦ ثم سَلِ النملَ مَنْ أدَقَّها خَلْقا،١٧ ومَلأها خُلُقا،١٨ وسَلَكهَا طُرُقا١٩ تبتغي رزقا؟ وسلِ النحلَ مَنْ أَلْبَسَها الحِبَر،٢٠ وقَلَّدها،٢١ الإبَر، وأطعْمَها صَفوَ الزَّهر، وسخَّرَها طاهيةً٢٢ للبشر؟ لقد نبذتَ الذَّلولَ٢٣ المُسْعِفَة،٢٤ وأخذتَ في معامِي٢٥ الفَلْسَفَة، على عَشواءَ من الضلالِ مُعْسِفَة.٢٦ أوْلاَ فَخبِّرْني: الطبيعةُ من طبَعَها٢٧ والنُظُم٢٨ المتقادمَةُ مَنْ وضَعَها، والحياةُ الصانِعَةُ مَنْ صَنَعهَا، والحركة
الدافعةُ مَن الذي دَفَعَها؟! عرَفْنا كما عرفتَ المادَّة، ولكنْ هُدينا وضَلَلْتَ
الجادّة،٢٩ وقُلنا مِثَلكَ بالهَيولَى٣٠ ولكنْ لَمْ نَجْحدِ اليدَ الطُّولَى٣١ ولا أنكرْنا الحقيقةَ الأولى.٣٢ أتينا العناصرَ مِنْ عُنْصُرها،٣٣ ورَدَدْنا الجواهرَ إلى جوهرِها؛٣٤ اطَّرَحنا٣٥ فاستَرَحْنا، وسلَّمْنا فَسَلِمْنا، وآمَنَّا فأُمِنَّا؛ وما الفَرقُ بيننَا
وبينَك إلا أنكَ قد عَجَزْتَ فقلتَ: سرٌّ مِنَ الأسرار، وعَجزنا نحن فقلنا: اللهُ وراءَ
كل
سِتار!!
١
الحقيقة الواحدة: وجود الله سبحانه وتعالى، ولعل المؤلف يشير إلى قول
لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
٢
المقعد: الذي يشكو القعاد: وهو داء يقعد المصاب به عن المشي.
٣
المرقاة: السلم.
٤
أرسله إلى أقصاه.
٥
قص الأثر: اقتفاه.
٦
الخُبر: الاختبار بالمشاهدة والخبر: الرواية بالسماع.
٧
الحلك: الظلام.
٨
تظنه حرًا طليقًا، وهو أينما حل في متناول قبضة الصياد.
٩
استهدف: أصبح غرض السهام. والمراد أنه لا يكاد ينجو من سهم مصوب إليه حتى يدركه
الموت من سهم آخر.
١٠
زم الناقة: خطمها.
١١
رحل البعير: شد على ظهره الرحل تمهيدًا للمسير.
١٢
عراها: جردها مما فيها من أمطار.
١٣
أقعد الجبال: ثبت قواعدها في الأرض. وأنهض ذراها: أي رفع عاليها شامخة في
السماء.
١٤
يحل حباها: أي يفكها من حبوتها وينهضها من ربضتها.
١٥
غبرات: جمع غيرة — بتسكين الباء — وهي ذرة الغبار.
١٦
فرقها: في الأرض. ومشمخرات: أي باذخات.
١٧
أدقها: صيرها دقيقة.
١٨
خلق النمل: تلك النظم المتسقة التي يوحي لها بها الإلهام.
١٩
سلكها طرقًا: جعل لها طرقًا تسلكها.
٢٠
الحبر: جمع حبرة كعنبة، وهي برود يمنية ملونة، وقد شبه بها المؤلف تلك الألوان
الزاهية التي يتخايل بها النحل تحت أشعة الشمس.
٢١
قلده السيف: وضع حمالته في عنقه.
٢٢
طاهية: طابخة تطبخ للناس في بطونها عسلاً.
٢٣
الذلول من الدواب: ما كانت سهلة القياد، والمراد بها هنا الشريعة السمحة.
٢٤
المسعفة: التي تسعف أبناءها باليقين والإيمان.
٢٥
المعامي: المجاهل.
٢٦
العشواء: العمياء وأعسف: خبط في السير.
٢٧
طبعها: خلقها وهنا يبدأ المؤلف في تعجيز الملحدين.
٢٨
النظم المتقادمة والحياة الصانعة والقوة الدافعة، وكل هذه قوى يظن الملحدون كفرًا
أنها هي الأصل في الكائنات.
٢٩
الجادة: الطريق القويم.
٣٠
الهيولى: مادة، وشبه الأوائل طينة العالم بها.
٣١
اليد الطولى: يد الله التي أبدعت هذه الطينة ونفخت فيها الروح.
٣٢
الحقيقة الأولى: وجود الله.
٣٣
العناصر: جمع عنصر، وهو أولاً بمعنى المادة البسيطة، وثانيًا بمعنى الأصل
وأتيناها: أي بحثنا فيها.
٣٤
الجواهر: جمع جوهر، وهو الحجر يستخرج منه شيء ينتفع به. والجوهر ثانيًا بمعنى
الأصل والجبلة.
٣٥
اطرح الحمل: ألقاه عن عاتقه، والمقصود من هذه الجملة وما بعدها: آمنا بالله
وتركنا ما دون هذا من التفكير العقيم الذي لا نهاية له والبحث الضال الذي لا يؤمن
فيه العثار..