المَسْجدُ الحَرَامُ
الساحةُ الكُبرى، والدار اللَّمُوم،١ والمَوْسِمُ الحاشر،٢ المُنْتَدى والمؤتَمر، ومثابَةُ الزُّمَر؛٣ غبرَةُ المُبْحِر، ونَجْمُ المُصْحِر؛٤ قِبْلَةُ البَدَوِيِّ في قَفْرِه، ووجهةُ القَرويِّ في كَفْره؛٥ حَرَمُ الله المُطَهَّر، وبَيْتُهُ العتيقُ المُسَتَّر؛٦ الذي وجَّهَ إليه الوُجوه، وفَرَضَ على عباده أن يَحُجُّوه؛ نَظَرتْ إليه
المساجِدُ في كلِّ خَمْس،٧ وقامَت إليه قيامَ الحِرْبَاء٨ إلى الشَّمْس؛ بناهُ الله بمكة على فضاءٍ زكيّ لم يتنفَّسْ فيه الناس،٩ وخلا إلا من جُحر أو كِناس؛١٠ فلا الدُّنْيا سَحَبَتْ عليه غُرُورَها، ولا النفوسُ نَقَّلَتْ فيه شُرُورَها،
ولا الحياةُ أزَارَتْهُ باطِلَها وزُورَها، لو شاءَ اللهُ لبنَى بيتَهُ بالشام بين
الجدَاوِل المظلَّة، والرُّبَى المكَلَّلة١١ والغصون المهدَّلة، والقُطوف المذَلَّلة،١٢ ولو شاء اللهُ جلَّتْ قُدْرَتُهُ لرفَع بيتَهُ على أُنوفِ الجبابِرَة، ملوكِ
الأعْصرِ الغابرة، وفوقَ هام آلِهَتِهِمْ وهي ممهَّدةُ مُنضَّدَة،١٣ في الغُرَف المشَيَّدَة، والقِبابِ المُمَرَّدة،١٤ ولكنه — تعالى — نظر إلى أمِّ القرى،١٥ فرأى بها ذُلاًّ لعِزِّ سُلطانِه، وافتقارًا إلى غناهُ وإحسانه، ورأى خُشوعًا
يستأنِس به الإيمان، وتَجَرُّدًا تسكنُ إليه العبادَة، ورأى انفرادًا يجري في معنى
التَّوحيد، فأمرَ إبراهيم حَواريَّه،١٦ ونبيَّه وخَليلَه وصَفِيَّه: أن يرفع بذلك الوادي رُكْنَ بَنِيَّتِه،١٧ وينصُبَ بين شِعابِه١٨ مَنارَ وحدانِيَّتِه، بُنيانٌ قَامَ بالضَّعْف والقوّة،١٩ ونَهضَ على كاهِل الكُهولةِ وساعدِ الفُتُوَّة، واشتركتْ فيه الأبُوَّةُ
وبالبُنُوَّة، فكنتَ ترى إبراهيمَ يزاوِل،٢٠ وإسماعيلَ بينَ يديْهِ يُنَاول، حتى بنيا حقًّا أعْيَا المعاول، وعَجَز عنه
الذي دمَّر تَدْمُرَ وأبلى بابل،٢١ فانظر إلى صُفَّاحِ البَاطلِ كيف باد، وإلى آجُرِّ الحقِّ٢٢ كيف أفنى الآباد؛ وتأمَّلْ عجائِبَ صُنْع النِّيِّة، وكيف ظفرتْ
لبنَةُ٢٣ التوحيدِ بصَخْرةِ الوَثنيَّة؛ بُنِيَ البيتُ وإذا الجلال حُجُبُه وأستارُه،
والحقُ حائِطُه وجدَارُه، والتَّوحيدُ مَظْهرهُ ومَنَارُه، والنبيُّون بُنَاتُه
وعُمَّاره.٢٤ واللهُ عزَّ وجلَّ ربُّه وجاره؛ اطَّلعت به «صلاح»،٢٥ اطِّلاعَ المشكاةِ٢٦ بالمصباح، فَزهَرَ فأضَاءَ البَرَاح، وانتظمَ الهِضابَ والبِطَاح؛ أضْوأ من
الشمس ذبالَة، وأبْهر من القمر هالَة، في منازلِ الشَّرفِ والجَلالَة؛ قد حازَ الله له
من
نباهةِ الذِّكر، وفخامة الشَّأن، ما لم يَحُزْ لقَديمٍ من معالمِ الحقِّ ولا حديث — بِرُّ
العِبادة، وفضيلُة الحج، وشرف الباني، ورَوْعةُ العِتْق، وجلالَةُ التاريخ؛ يقول الغُوَاة:
لو كانتِ الكعبةُ من ذهبٍ أو فضَّة، ويقولون: لو كانت كبيع النَّصارَى في عواصم الغَرْب:
رفعةَ بناء، وديباجةَ فنّ ووَشْيَ زُخْرُف!. وأقولُ للغُواة: لو تُرِكَتْ الكعبة على
فِطْرتِها الأولى، فلم يُطَوَّلْ بناؤها، ولم تُزيَّنْ بالذهب أجْزَاؤها، ولم تتعدَّدْ
في
الزُّخرُف أشياؤها؛ لكانَ بعبقريَّتها، وبروحَانيَّتِها أشبه؛ وأخلق؛ وفي تقدير
قُدُسِها٢٧ غاية ونهاية.
١
اللموم: التي تجمع الناس.
٢
الحاشر: الجامع.
٣
المثاب: مجتمع الناس بعد تفرقهم ومنه المثابة. قال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا والزمر:
الأفواج المتفرقة بعضها في إثر بعض.
٤
المبحر: راكب البحر. والمُصحِر: المسافر في الصحراء، وعادة المبحر أن يهتدي إلى
سبيله ببيت الإبرة «البوصلة»، وعادة المصحر أن يهتدي إلى غايته بالنجوم، وقد شبه
المسجد الحرام بالإبرة والنجم، بجامع هداية السائر الحائر فيهما.
٥
الكفر: القرية.
٦
المستر: المغطى بالأستار.
٧
الخمس هنا: الصلوات.
٨
الحرباء: حيوان يستقبل الشمس ويدور معها، ويتلون بلونها.
٩
القضاء الزكي: الصالح، وتنفس الناس كناية عن وجودهم.
١٠
الكنائس: بيت الظبي في الشجر.
١١
الربى. الأراضي المرتفعة. والمكللة. المتوجة، والمراد أنها متوجة بالزهر
والأعشاب.
١٢
القطوف: الثمار، والمذللة، المدلاة، ومنه قوله تعالى: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً.
١٣
الهام: الرءوس. والمنضدة: المتراصفة، والمراد بالآلهة هنا: الأصنام.
١٤
الممردة: الطويلة الملساء.
١٥
مكة المكرمة.
١٦
الحواري: الرسول.
١٧
البنية: الكعبة.
١٨
الشعب: الطرق.
١٩
ضعف الكهولة وقوة الشباب الماثلان في إبراهيم وإسماعيل.
٢٠
زاول الشيء: عالجه.
٢١
تدمر: قلعة مشهورة، وبابل: بلد بالعراق ينسب إليه السحر والخمر، والذي أهلك
«تدمر» وأبلى هو الدهر.
٢٢
الصفاح: الحجر العريض. والآجُرّ: ما يبنى به، وهو المعروف «بالطوب».
٢٣
اللبنة: ما يضرب من الطين للبناء.
٢٤
العمار: السكان.
٢٥
لقب من ألقاب مكة المكرمة.
٢٦
المشكاة: الطاقة.
٢٧
القدس: الطهر.