الأسَدُ في حَديقَة الحَيَوَانَات
يا جارَ الجيزة وأسير الحديقَة، سَرَت الهُمومُ فلم تَنَمْ؛ أرَّقَتْني شئونٌ وشجون،
وذكرياتٌ مما تَرَكتِ السَّنُون، وأرَّقَك حَزُّ القيد، وضَغطُ الحديد؛ وأثارَكَ ذكرى
الصَّيْد، والحنين للبيد؛ سبحان المعزِّ بالحرية المذلِّ بالرّق؛ ما أرَّقك بالأسحار،
وكان
غَطيطُكَ أرَقَ الصَّحار،١ وفَرَقَ٢ السُّمَّار٣ في الأكوار، وما بالُ زَئيرك ينام عليه الطيرُ ملءَ جفونِه، ولا يتحرَّك له
ليلُ الجيزة من سُكونِه؛ أصبح أقلَّ من النُّباح؛ وأذلَّ من النِّياح، وكان بالأمس يُرْعِدُ
البطاح، ويُسقِطُ من يد البطل السلاح؛ وأين أبا لِبْدَة طلعةٌ كانت تَعقِل الفرس والفارس،
فأصبَحتْ يدعو العيونَ إليها الحارس؛ يُطيفُ بها النَّشَأ،٤ ولا تخفيف الرشَأ. عزاءً مَلِكَ البيد، ابنَ الفاتك الصِّنْديد، وأبا
الخالة٥ الصِّيد؛ وإن لم تَزِدْني علمًا بالدُّولة كيف تزول، ولا بما عند الناس للنعمة
المنكوبة، والبطولة المقهورة، والأخلاق المخذولة، والعروش المثلولة، فقَبْلَك ضاقتْ «أغمات»
على سجينها، وأخنتْ «أمير جُون»٦ على قطينها،٧ وأضرَّت (القديسة هيلانة) برهينها،٨ أجوادٌ نزل بهم الدَّهْر، وأحرارٌ أناخ عليهم الأسر، وأملاكٌ٩ جرى عليهم النهي والأمر؛ وأنت في صَحَارِك أطول في الملك بنيانًا، وأعرض في
الأرض سلطانًا، وأوسع شهرة وأنْبَهُ مكانًا؛ عرشك أبا الأشبال، على السهل والجبال، وكل
دابٍ١٠ على الرمال، رعية لك أو مال؛ تمثال القوة، ومثال المروَّة؛ نَفْسُ بهيمة،
وأخلاق عظيمة؛ ألست أبا لِبْدَة تحمي العرينة، وتُحْسِن عشرة القرينة، وتبني الذُّرِّيَّة
المتينة؛ وتعفُّ عند الشِّبَع، وتفضلُ على التَّبع؛ وتذهب مذهَبَ الأقمار، فتطلع بالليل
وتستسرُّ بالنهار؛ ولك قبل البطش جَلجَلَة١١ منذرة، وبهنسةٌ١٢ مَحذِّرَة؛ وغيرك في السباع خَتَل وخَتَر،١٣ وجاء القَرَن١٤ على خمر،١٥ من أجل هذا ومثله في الأخلاق ضَرَبت الأممُ بك الأمثال، ونحتوا على صورتك
التِّمثال، واستعاروا أسماءَك للأبطال، وأشباه الأبطال، حتى قيل للإخشيدي١٦: أسد القلب، وقيل للصليبي١٧: قلب الأسد، شُبِّه بِك كلُّ شجاع ولم تُشَبَّه من الشجعان بأحد؛ عطف بقلبي على
صغارك أبا الأشبال، أنهم كصغاري ولدوا في الرق وشبوا على مسِّ هوانه، كلا النشأَين مغلوبٌ
على دياره، مَرْزُوء بالتشريك في وجاره،١٨ مغامرٌ في صحراءِ الحياة بغير أظفاره؛ وألان لك فؤادي أبا لِبدة هذا الذلُّ بعد
العز، وهذا الرسف١٩ في الضيق بعد المَرَح في السِّعة؛ واستأواني قيدُ الحديد، بَعْد تاج البيد. وما
أسفي والله على ظُفرك المقلوم، ولا على نابك المحْطُوم، فإني وجدتُ البغيَ ليس يدوم؛
ولَسْت
أُنكُر عليك شدّة لم ينكرها الناس على الحضارة وهم يروْن ظُفْرَها يقطر من دم
الجبل،٢٠ ويَرَوْنَ نابهًا يَقْطُر من دم الريف؛٢١ وإنما أسَفي أبا الأشبال على تلك الشخصية المتظاهرة، وتلك الروحة القاهرة؛ وعلى
حضْرَة كأنها مجلس الحكم. ونظْرَةٍ كأنها الأمرُ النَّافذ، وعلى صيحة تأتيكَ بالصَّيْد
مشكولاً، متهيئًا من نفسه مأْكولاً؛ أدوات زعامة، وآلات سيادة؛ مما يهب الله لأفراد البشر
أحيانًا، ويُلْقي على آحاد الرجال آنًا فآنا؛ فإذا هم القامة والسادة، وإذا الأمم تأتيهم
منقادة؛ وقد زادك الله عليهم رعيةً سُلِبَتْ منها العقول، فاسترحت من الرأي وصراحته،
والفكر
وشجاعته، والمبدأ وصلابته؛ وكُفِيتَ سيوفًا بيْنا هي لك، إذا هي عليك؛ وأقلامًا مأجورُها
أسيرك، وطليقها أنت أسيره؛ أعلمت أبا الأشبال إلى أي الآجام نُقِلْت، وفي أي الآطام
اعْتُقِلت، أسمعتَ عن أسَدٍ نَجَم،٢٢ في هذا الأجم، وضرغامةٍ غاب، عن هذا الغاب؛ أذلَّت الحوادث بالأمس عرْنينَه،
واحتلت الخطوب عَرينَه، وعطَّلَتْ نكبتُهُ الدنيا من زينَة، وغادَرَتْها بَعْدَ فَرَح
حزينة؛ وكان أكثر من آبائك أسماء، وأطول من عشيرتك في العز سماء، وأمنع واديًا وأعزَّ
ماء؛
منَعكم القرارَ بالصحراء صهيلُه،٢٣ وخَلَفَ زئيركم عليها صَليلُه؛٢٤ وغلبكم على أطرافها؛ فكل ماء بها ماؤه، وكل يبس غيلُه؛ وكانت هذه
الحرجات٢٥ تحته أجَمَة الأغلب الهصور، وكانت نَظْمًا من قصور، لم تر أمْثاله العصور؛ فلا
«الجعفري»٢٦ حكاه، ولا «الزهراء»٢٧ أُعْطِيَتْ حُلاَه، ولا الإيوان ساواه، في شَرَفه وعُلاه. وكانت هذه الجنات
وَشْيَ دوره، وحِلْيَ قصوره، وكانت هذه العيون محاجر العين من حُوره، ومعاصم ريمه
ويعفوره؛٢٨ وكانت الساحة، سماءَ الندى وأرض السماحة؛ جناتٌ وقصور، ونعيم وحُبُور، وعِينٌ
حُور، يطأن المسك والكافور؛ مرمرٌ راع مسنونة بلقيس٢٩ الزمان، فكشفَت عن ساقَيْها بين يَدَيْ سُلَيمان.
١
الصحار: واحدها صحراء.
٢
الفَرَق: الخوف.
٣
السمار: أي المتسامرين في الرحال.
٤
النشأ: الأحداث.
٥
الخالة: المتخايلون من الخيلاء.
٦
أمير جون: قصر الخديو إسماعيل في منفاه بالآستانة.
٧
القطين: القاطن.
٨
رهينها: يعني به نابليون.
٩
الأملاك: جمع ملك.
١٠
داب: ساعٍ.
١١
الجلجلة: الزئير.
١٢
البهنسة: التبختر.
١٣
ختل وختر: أي غدر.
١٤
القرن: الخصم.
١٥
على خمر: على غفلة.
١٦
الإخشيدي. هو كافور. وقوله: «أسد القلب» هو من قول المتنبي: أسد القلب آدميّ
الرواء
١٧
الصليبي: هو ريتشارد ملك إنكلترا الملقب بقلب الأسد.
١٨
الوجار: جحر السبع، والمراد به هنا الوطن.
١٩
الرسف: مشي المقيد.
٢٠
الجبل: هو جبل الدروز.
٢١
الريف: هو وطن عبد الكريم وقومه.
٢٢
نجم: ظهر. والمراد بالأسد هنا: الخديو إسماعيل.
٢٣
صهيله: أي صهيل خيله.
٢٤
صليله: أي صليل سيوفه.
٢٥
الحرجات: الخمائل.
٢٦
الجعفري: قصر المتوكل.
٢٧
الزهراء: قصر الخليفة الأموي بالأندلس.
٢٨
اليعفور: الظبي.
٢٩
يشير ببلقيس: إلى الإمبراطورة «أوجيني» نزيلة هذه القصور بالأمس.