المَوْت
راكبَ الأَعوادِ١ إلى أَيْن؟ يا بُعْدَ غايةِ البَيْن،٢ ويا قُرْبَ الميلادِ من الحَيْن؛٣ وَيْحَ قَومِك! هل انتبهوا مِنْ نومِك،٤ ولمسوا عِبْرَةَ الدهرِ بيومِك؟٥ حَمَلُوكَ على حَدْباء،٦ يقعُد الأبناءُ منها مَقْعَدَ الآباء، هي أعدلُ — إذْ تضَعُ٧ — من حَوَّاء، تُلْقِي حَمْلَها فإذا الملَكُ والسُّوقَةُ سواء؛ حقيبةُ
المنيَّة٨ كلَّ يومٍ في ركاب، من مناكبَ٩ ورقاب، تحمِل الشِّيبَ والشباب، إلى رَحَى البِلى في اليباب،١٠ فيدورُ عليهم الدُّولاب،١١ فإذا هم حَصًى وتُرَاب؛ ومن عَجب يعدلونَها بك إلى السَّبيل،١٢ وما هي لعَمْرُ أبيك إلا الدَّليل، في موكَبٍ غيرِ ذي صوت، أَضْفى١٣ عليه جلالَهُ الموت؛ أنت فيه جِدٌ في لَعِب، وصِدقٌ في كذِب؛١٤ لكَ فيه عُلُوُّ المتبوعِ في التَّبَع،١٥ واللواءُ في الخميس١٦ والخطيبُ في الْجُمع، بَيْدَ أن ذلك لا يمنَعُك من الأرض،١٧ ولا يَنْفَعُك يومَ العَرْض،١٨ لستَ والله صاحِبَ الآخرة،١٩ وإن كنتَ صاحبَ الجِنازة الفاخرة، حتى تُشَيَّعَ بيتيمٍ مُضَيَّع، أو بائس، من
ورائك يائس، أو وَطن يبكيكَ عقلاؤه، ويضجُّ عليك فضلاؤه، ويمشي بنورك أبناؤه، ويُضيءُ
حُفْرَتَكَ ثناؤه، انظر — رحِمك اللهُ — هل ترى غيْرَ باكٍ كضاحِك المزْن،٢٠ ليس وراءَ دمْعَه حُزن؟ أو وارثٍ مشغولٍ بما مَلك، أو فضوليٍّ، يسألُ كم تَرك؟
زُخْرُفُ جنازة، وينفضُّ دونَ المفازة،٢١ وضجَّةُ الخروج من الدُّنيا وزورِها، وآخر عَهْدِكَ بباطلِ الحياة وغرورِها،
ولو أطلَلْتَ على فانٍ طالما حمَلَك،٢٢ وباطلٍ بالأمس شَغَلَك، وقليلِ متاعٍ قَتَلك، ثم لَمْ يبق لك: لم تر غير حُلْمٍ
بُتر،٢٣ ومَلْعَبٍ سُتِر، وماءٍ عُبِر،٢٤ وظِلَّ هُجِر، ومالٍ خُسر، ووارثٍ مُنْشَمِر؛٢٥ يسيرون بك إلى المُنْفَرَق،٢٦ وسواءِ الطُّرُق؛ ويأخذون بك ناحيَةَ الحق، وسبيلَ الخَلْق، وقصبَةَ السَّبْق؛
هُوَّةُ البِلى، وغَمْرَةُ الفَلا؛٢٧ والميعاد، ومدينةُ عاد، وعَرَصَاتُ المعَاد،٢٨ والبلدُ الذي ابْيَضَّت فيه الأكباد،٢٩ وخُلِّفَتْ بظاهرة الأحقاد، وصحَا الفؤاد، عن الأموال والأولاد؛ كلُّ مكانٍ فيه
مَضْجَع، وكلُّ زمان فيه رُقاد،٣٠ ثم إذا أنتَ ببيت٣١ لا ينزلُه إلا مَيْت؛ اختطَّهُ الباطلُ وبناه، لنزول الحقّ وسُكناه؛٣٢ كل حجَرٍ فيه من جدار، مشاعٌ٣٣ بين الدَّارِ والدَّار؛ حتى إذا أُطرق٣٤ الجَمْع، وأُطلِق الدَّمْع، وفَرِق البصرُ والسَّمْع؛٣٥ قُذِف ما في السَّرير،٣٦ فتلقَّفَهُ الحَفير،٣٧ ووُكِلْتَ لِمُنْكَرٍ ونكير، لا بل لرحمة الملِك القدير.
فيا عَبْدَ المال، أضرَّك أنَّك عُتِقْت؟٣٨ ويا أسيرَ الآمال، أما سَرَّكَ أنكَ أُطْلِقْت؟٣٩ ويا كثيرَ التحوُّلِ والتقَلُّب، قَلِّبْ إن استَطَعْتَ جَنْبَيْك؛ ويا مُديمَ
التَّطَلُّعِ والتَّطَلُّب، اطلب من البِلى نورَ عينيك؛ ويا مُزَحْزح الصمّ٤٠ الصِّلاب، زحْزحْ عن رأسكَ هذه الظُّلمة؛ ويا فاتحَ المغالق الصِّعاب، افتَحْ
لَكَ اليومَ ثُلْمةَ.٤١ كأني والله بالدَّهر وقد خلا، وبالمحزون وقَدْ سَلا،٤٢ وكأني بِكَ وقد فَرَغَ مِنكَ الثَّرى، وقامتْ عنكَ الرَّحى،٤٣ فإذا أنت عِظامٌ، كما اخْتُرِطَ العُنْقُود؛٤٤ ثم إذا رَغامٌ٤٥ جَفَّ الماءُ وذَهبَ العود.
١
الأعواد: كناية عن النعش، والخطاب للميت.
٢
البين: الفراق، وهذه الجملة إشارة على بعد الزمن ما بين الموت والنشور.
٣
الحين: الموت، وهنا إشارة إلى قصر الحياة.
٤
أي هل اتعظوا به.
٥
العبرة: العظة. ويومك: أي يوم موتك.
٦
نعش.
٧
أي تلد، والمراد إذ تسلم الأموات إلى القبور.
٨
كناية عن النعش.
٩
المناكب: الأكتاف.
١٠
اليباب: القفر والخراب. والمراد برحى البلى هنا: القبر، إذ فيه يتم
الفناء.
١١
الدولاب: الآلة الدائرة، والمراد بها هنا: دولاب الفناء.
١٢
يسيرونها كيفما شاءوا، مع أنها هي التي تقودهم إلى طريق الحق.
١٣
أضفى: أفاض.
١٤
الآخرة جد والدنيا لعب، وهي صدق والدنيا كذب. فهو بينهم ميت في وسط أحياء، فوصفه
بأوصاف الآخرة كما وصفهم بأوصاف الدنيا.
١٥
التابعين.
١٦
اللواء: العلم. والخميس: الجيش.
١٧
الأرض: القبر.
١٨
القيامة.
١٩
أي صاحب الجزاء الحسن فيها. والمراد بهذه الجملة وما يليها: أنك لن تنال ما ترجوه
من نعيم الله حتى تشهد لك دموع اليتامى من بعدك، وبكاء اليائسين على قبرك، وعبرات
الفضلاء يوم مصرعك، وأحزان الوطن لفراقك.
٢٠
المزن: السحاب الغزير الماء، والغرض أنك لا تجد حولك إلا دمعًا كذبًا وحزنًا كله
رياء.
٢١
المفازة: الفلاة المهلكة لعدم وجود الماء، والمراد بها هنا: موضع المقابر. يقول:
كل ما خرجت به من الدنيا موكب مزين ينفض قبل أن يواروك التراب.
٢٢
جواب «لو» قوله «لم تر غير حلم بتر».
٢٣
قطع.
٢٤
عبر الماء: قطع من شاطئه إلى شاطئه.
٢٥
انشمر: مر جادًا أو مختالاً.
٢٦
مكان الفصل بين الدنيا والآخرة، والمراد بهذا وما بعده: أوصاف للمقابر عامة، أما
وصف القبر خاصة فسيأتيك بعد قليل.
٢٧
الفلا: الأرض القضاء الموحشة. والغمرة: المزدحم، والمراد أن المقابر هوة يكون فيه
الإفناء وأرض يزدحم فيها الأموات.
٢٨
العرصات: الفضاء بين الدور، والمعاد: موضع العود والنشور.
٢٩
سواد الكبد: كناية عن الحقد والحسد، وبياضه: طهره من كل هذه الأرجاس.
٣٠
يقضي الميت مدته فيه كلها في رقاد طويل.
٣١
القبر.
٣٢
الإنسان الموجود في الدنيا دار الحق والإرشاد.
٣٣
مشاع: مشترك.
٣٤
أطرق برأسه: أماله إلى الأرض حزنًا.
٣٥
فرق: فزع وخاف.
٣٦
السرير: النعش.
٣٧
الحفير: القبر.
٣٨
الاستفهام هنا إنكاري.
٣٩
الاستفهام هنا تقريري يقرر ما بعده.
٤٠
الصم: الحجارة الصماء.
٤١
ثلمة فتحة، وكل ما تقدم الغرض منه إظهار نهاية عجز الإنسان بعد الموت، وكأنما
يقول (وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه).
٤٢
سلا: أي تعزى وترك.
٤٣
أي لم يبق منك ما يصلح للطحن كناية عن تماما لفناء.
٤٤
اخترط الرجل العنقود: وضعه في فيه وأخرج عوده عاريًا.
٤٥
الرغام: التراب.