ملبسٌ أجرب لزمنٍ ممزق
ما هذا الزمان الذي أصبحَت فيه القذارة هي مظهر الأناقة، والصعلكة هي التطور، والملابس الممزَّقة هي مجاراة العصر، ومظهر إشراقه وجماله؟ لقد تمزَّق العصر وظهر تمزُّقه على الملابس، وأصبحَت القيم هي الأخرى جرباءَ فأصبح الملبس أجرب.
رأيتُ نساءً حليقاتِ الشعر كأنهن الرجال، بل رأيتُ في التليفزيون الفرنسي امرأةً ملوَّنة بلا شَعر على الإطلاق. وما زال كثيرٌ من الشباب — وإن كان أقل من ذي قبل — يُطلِقون شعورهم، فما أثار منظرٌ اشمئزازي قَدْر منظر المرأة بلا شَعر، ومرأى الرجل يُطلِق لشَعره العِنان.
ورأيتُ في لوزان آنسةً كان يمكن أن تكون جميلةً، ولكنها راحت تُحارب ما وهب الله لها من جمال بشتى الوسائل والحيل حتى نجحَت فيما قصدَته، وبلغَت من أهداف القبح ما سعت إليه؛ فشَعرها منفوش يُوحي بالقذارة، وملبسُها مُترهِّل عن عمدٍ لا عن فقر، فواضحٌ أنه قد كلَّفها من المال كثيرًا وإن كان لم يُكلِّفها من الذوق شيئًا.
ورأيتُ شبابًا لحاهم مُهمَلَة؛ فلا هي حليقة ولا هي مُطلَقة وإنما شيء بين الاثنَين، لا أدري كيف يحافظون عليه على حاله هذه دون تغيير.
وأرى كثيرًا من مدَّعي الفن يطلقون لحاهم عَلِم الله أنهم يُريدون أن يلفتوا إليهم الأنظار، وقعدَت بهم مواهبهم أن يلفتوا الشهرة إليهم بأعمالهم، فحاوَلوا ذلك بلحاهم، ولن يهب الله فنًّا لمجرَّد لحية.
وإن كانوا يحتجُّون بالحرية فإن أحدًا لا يمنعهم أن يصنعوا بشعورهم وملابسهم ومظهرهم ما يشاءون، ولكن ما داموا يَرونَ أنهم مارسوا حريَّتُهم بهذا القَدْر فليسمحوا لنا أن نقول نحن أيضًا رأينا مستعملين حقَّنا في الحرية نفسها.
إنكم تُثيرون القرف والاشمئزاز والتقزُّز وإن كان هذا ما سعيتُم إليه فبُشراكُم قد بلغتُم من الدنيا مُناكم وبئستِ المُنى.
وهنيئًا لكم زمنكم الأجرب الذي اغتال الزعيم الوحيد الذي حقَّق نصرًا للعرب في العصر الحديث، وبأيدي أقوام يدَّعون حِرصَهُم على دين العرب.
وعَلِم الله ما دعاهم إلى القتل إلا التكالُب على الفانية وليس النظر إلى الباقية، والحرص على الدُّنيا والرفض للعُليا، والسعي إلى المنصب والرئاسة والتحكُّم في عباد الله بما لا يُرضِي الله.
وهنيئًا لكم زمنكم الأجرب الذي سمَح لهَناتِ الناس وبُغاثهم أن يهاجموا الأثمة الشُّم الذين أدَّوا رسالاتِهم أكرمَ ما تؤدَّى الرسالة وأوفَى ما يكون القيام بالأمانة.
فهذا عميدُ الأدب العربي الذي تخرَّج الأدبُ الحديث على يدَيه «طه حسين» يواجه حملةً ضارية من المجاهيل الضائعين يريدون هدمَ مجده ونسفَ ركنه ومَحوَ الشامخ من بنائه. ويصيحُ بهم الحقُّ أن ما سطَّره التاريخ لا يمحوه الصغار ولا حتى الكبار.
وهذا شاعر الأجيالِ الحديثة جميعِها «شوقي» يعتدي على عرشه الهوفُ والحمقَى ومدَّعو الشِّعر، يريدون أن يُنزِلوه عنه ويجذبوه من قمته التي لم يقتَعِدها شاعرٌ قبله ولا شاعرٌ بعده هناك في ذؤابة الشعر العربي كله. ووسيلتُهم إلى ذلك كلامٌ لا هو من الشعر ولا هو من النثر، ولا هو شكلٌ ولا هو معنًى. وإنما ترجحُ بين السقم والضحالة، وبين العِيِّ والفهامة، وبين العُجمى والفُصحى، وبين العربية باللفظ والغربية بالفكر والانتماء.
زمانٌ أجرب اتخذ الملبسَ الأجرب لِقيَمٍ جرباءَ ولفظ أكثر جربًا.
الفن فيه صوتٌ لا يؤدِّي معنًى، ونغمٌ ناشز، وصخبٌ في غير حلاوة، وضجَّة في غير طرب.
يقول المُغني الهذاءَ والسخفَ والألفاظ التي لا تركِّب جملة، والحروف التي لا تكوِّن لفظًا فتنسكبُ عليه أموال الإعجاب ويصبح اسمه علمًا على عصره … وقد وافق شنٌّ طبقَة، وتلاءم غناؤه وتفاهةَ الزمن، وتواكبا واصطحبا، واشتُهر غليظ الصوت بجمال النغمة، وأصبحَت الحشرجةُ طربًا والقُبحُ حُسنًا والخرَفُ فنًّا.
زمانٌ سقطَت فيه القِيَم وعلا فيه الانحطاط. وهان فيه الرفيعُ من شِيَمنا، وساد فيه الدنيء من أخلاقنا.
وسقطَت المثل الرفيعة، ليحيا المال وحدَه بغير عِنانٍ من شَرفٍ يلوي به عن السرف أو مسكةٍ من ضمير تُوقِف جبروته وطغيانه؛ فهو وحده المعبود وهو وحده السيد المتصرف. بطانتُه الجهلُ والجنسُ والجبروتُ والتكبُّر بلا كبرياء والترفُّع بلا رفعة والتطاوُل بلا طول والاعتداء على كل مقدَّس، والقتل لكل فضيلةٍ أو فاضل، والبُعد كل البُعد عن المرحمة والحب والإنسانية، ولا أقول النورانية، فهيهاتَ.
لهم الله المؤمنون المحسنون من أبناء العصر؛ فلولا إيمانهم بالله عميقٌ لم يبقَ فيها من خير، ولتركوها مختارين رافضين أن ينتظروا حتى يطويَهم ما أصبحوا يتوقون إليه لينقلهم هناك عند عزيزٍ رافع السموات صاحب العرش والكرسي؛ حيث تُرعى عنده، وعنده وحده سبحانه، حرماتٌ شاء أن تُصان، وإنها ببعض قليلٍ من عباده مصونة وإن رغِم أنف الزمن الأجرب.