قصة من بئر النسيان (السلطان والبهلوان)
هذه قصةٌ طوَتْها يد النسيان من قصص ألف ليلة وليلة. ربما رواها الرواة ولكنَّها لم يكن لها حظُّ الإثبات بين دفَّتَي كتاب، ولستُ أدري أسمعتُها فأرويها أم شهدتُها فأحكيها أم تخيَّلتُها كما يتخيَّل المؤلِّفون فسعيتُ إليكَ بها. أقصُّها عليكَ فيما تعوَّدتُ أن أقُصَّ عليك.
يُحكى أنَّه في زمنٍ من الأزمان وَلِي الحكم سلطانٌ طاغية جبار، لا يطيب له الحكم إلا بالحديد والنار. يقتُل الناسَ لأهون الأسباب، ويغتصب الأموال فهي له أسلاب. ويستحل كل حرام، ويعامل الناس بالإجرام. نشر جواسيسه في كل مكان، وبث عيونه بجميع الأركان. والويل والثبور لمن قال لا إله إلا الله، فالموت ينتظر كل أهله وذوي قرباه. أمر السلطان ألا يغادر أحدٌ البلاد ومعه أمواله، فاضطُر كل فرد في الشعب أن يرضى بحاله. وأقفل جميعهم فمه حتى لا يُريق الجبارُ دمه. وصار الناس لا يتكلَّمون إلا همسًا، فإذا مرَرتَ بالديار فلن تسمع حسًّا. وامتُنع عن الاجتماع في الأماكن العامَّة؛ فقد كانوا يخشَون إذا اجتمَعوا أن تقع عليهم الطامَّة. وكان المكان الوحيد الذي يُضطَرون أن يحتشدوا فيه هو السوق، وهو مكان مرموق. لا يجرؤ فيه أحدٌ أن يتكلم في غير التجارة؛ فقد كانوا يعلمون أن الجواسيس قد تكون في جداره، وأن عيون السلطان تُحصي أنفاسَهم، تكاد تُمسِك الكلمة التي تدور في أذهانهم.
وكان للسلطان وزيرٌ على شاكلته، يُحبِّب إليه كل ظلم، ويُجمِّل له كل قبيح، فإذا حرَّم الله فهو يبيح، وإن منع الشرع فهو يُتيح. كان كلبًا عقورًا، ويظل طول ليله مخمورًا. حتى إذا صحا الصباح لا يشعر به الوزير إذا لاح؛ فهو من خمر الأمسِ سكران، وإن بدا وكأنه يقظان؛ فهو مفتوح الأجفان، ولكن بعقلٍ نعسان. يلوح لمن يراه كأنه يفهم ما يُقال، بينما هو من السُّكر في شر حال.
نزل السلطان والوزير إلى السوق متخفِّيَين، يريدان أن يريا الناس رأى عِيان. ولم يطُل انتظارهما؛ فسرعان ما شهدا الناس لا تقول إلا ما يسُر الطاغية، وما يجعل نفسه راضية. ولم يحاول واحدٌ منهما أن يشهد الحزن الذي يتحرَّك فيه الناس، ولا البؤس الذي يسيطر عليهم من شدة اليأس؛ فعينُ الطاغية ومعاونيه لا ترى إلا ما يُرضيها ويُرضيه.
وبينما السلطان والوزير يتخذان من مكانهما ستارًا خفيًّا، رأيا بهلوانًا يطوي السوق طيًّا. ويقف إلى جانب حصانٍ هزيل، له صاحبٌ أشد منه هزالًا فهو في وقفته يميل. واقترب رأس البهلوان من المالك المتهالك، ثم اعتدل الرأسان وقد وضحَت أمامها المسالك. وبدا البهلوان يصيح، مفتريًا صفات البطولة للحصان القبيح؛ فهو الأسد الواثب، وهو في الميدان هو الغالب. وتقاطَر الناس من كل حدب، وتجمَّعوا حوله من كل صوب. وراح هو يُجمِّل الحديث في كذب مفضوح ويُسوِّيه، حتى وجد الحصان من يشتريه. وفرح البائعُ أي فرح، وأعطى البهلوان نصيبًا من الثمن فأكرمَ وسجَح.
ثم رأى السلطان البهلوانَ ينتقل إلى حمارٍ شأنه شأن الحصان الواهن الضعيف، ويقول عن الحمار فيُزيل من هُزاله وإلى قوَّته يَزيد ويُضيف. ويُباع الحمار، ويجني البهلوان الثمار. ويتكرَّر فعل البهلوان، والسلطان والوزير مندهشان.
قال السلطان لوزيره: أُريد هذا البهلوان.
وقال الوزير: لك الأمر وعليَّ الطاعة، ولكن هل لي أن أسأل سؤالًا حائرًا في نفسي لا يجد إجابة.
وقال السلطان: القاعدة الأصيلة أنكَ لا تملكُ السؤال فهو ليس حقَّك، ولكن وقد قُلتَ ما قُلتَ فإنكَ أثرتَ في نفسي حب الاستطلاع، فاسأل سؤالكَ على سبيل الاستثناء لا القاعدة، والاستثناء كما تعلم لا يُقاس عليه ولا يُتوسَّع فيه.
– فيم تُريد هذا البهلوانَ الحقير، وهو إنسانٌ لا قيمة له لم نسمع منه إلا كذبًا، ولم يقل إلا الزور والبهتان؟
– كنتُ أحسبُ أنك فهمتَ.
– لا وحياتك ما فهمتُ.
– لو لم تكن طُولَ ليلكَ سكرانَ ما فاتَكَ ما قصدتُ له ولا غبِيتَ ما هدفتُ إليه.
– أنا الآن على الأقل لستُ في حالة سُكر.
– بل أنتَ في حالة خمارٍ دائم من مخلَّفات السُّكر ومما تصنعه بك الخمر؛ فشرابُ المساء تبدو عليكَ آثارٌ منه شديدةٌ في الصباح.
– لا أستطيعُ أن أعارضكَ.
– ولا يستطيع أحد.
– ولكنَّني ما زلتُ لا أدري فيم تُريد البهلوان.
– ألم ترَ كيف هو ماهرٌ في إتمامِ الصفقات؟!
– ولكنَّكَ يا مولاي السلطان لا تعقد صفقاتٍ؛ فإنكَ إذا أردتَ شيئًا من ملكِ غيركَ أخذتَه بالأمر من غير شراء، وإن أردتَ أن تبيع فرضتَ الثمَن ونلتَه، ففيمَ انتفاعُكَ بالبهلوان وأنت لا بيع عندك ولا شراء.
– ففيمَ إذن؟
– إذا خالط هذا البهلوانُ الناس، ودخل البيوت وراح يمتدح السلطانَ جعل الناس يصدِّقون مديحه ولا يكرهون السلطانَ ولا يُبغِضونه.
– ومنذ متى يا مولاي تهتم برضاء الناس أو سخطهم؟
– أليس من الأحكم أن أصنع بهم ما أشاء ومع ذلك أجعلهم يمدحون بدلًا من أن يذُمُّوا.
– وهل يجرؤ أحد على ذمِّك؟
– إنهم جميعًا يذُمُّون السلطان في دخيلة نفوسهم.
– وماذا يهمُّك من دخيلة النفوس؟
– أن تكون راضيةً خيرٌ من أن تكون ساخطة.
– وهل تظُنها سترضى؟
– ربما.
– أيستطيع هذا البهلوان أن يصل إلى خافية الصدور؟
– يستطيع على الأقل أن يجعلَهم يلتمسون العذر لأنفسهم، فلا تبدو نفوسهم أمامهم مهينةً ويُهيِّئون لأنفسهم أنهم يقبلون حكمي وهم به راضون، وأنهم ليسوا جبناءَ ولا ضعفاءَ مهازيل.
قلتَ الصواب يا مولاي السلطان.
– فالتمِس لي هذا البهلوان.
– سأُحضِره من فوره، ولكن هل أخبره من يريده؟
– بل اكتم حقيقتي عنه.
– فماذا أقول؟
– قل تاجر من كبار التجار واسع الثراء، موفور المال. وانصرف الوزير الوسنان، وما لبث أن عاد بالبهلوان، ووضعه بين يدَي السلطان.
– ما اسمُكَ أيها البهلوان؟
– عبدُكَ يا مولاي.
– أوَعرفتَني؟
– منذ شرَّفتَ السوق يا مولاي.
– يا لكَ من داهية!
– دهائي كله ملكُكَ.
– إذن؛ فأنت تعرف فيمَ أريدك.
– إذا لم أكن قد عرفتُ من أول وهلة فلستُ جديرًا باستدعائكَ لي.
– فهل تستطيع أن تقوم بما انتدبتُك له؟
– وأكثر.
– قبل أن تذهب إلى الأكثر، قل لي فيمَ أردتُكَ لأختبر مقدار ذكائك.
– تُريدني أن أجعل الناس يمتدحونك في دخيلة نفوسهم، كما يطيعونكَ في جهير أقوالهم.
– أصبتَ، فهل تستطيع؟
– لكَ أن تُجرِّبني.
– وما الأكثر؟
– أن أجعلكَ أنتَ دائم السرور موفور الحبور.
– بالكذب والتحايل؟
– بل برواية دخائل الناس ومجنون أسرارهم وكل ظريفٍ طريفٍ من أحوال معيشتهم.
– هل أنت أيضًا صاحب حكاية؟
– لن أقول لا أو نعم حتى تشهد لي.
– ولكنكَ لم تقل ما اسمُك.
– خادمك الأمين حسونة هنداوي.
– ومتى تبدأ عملَك؟
– لقد بدأتُه فعلًا يا مولاي.
وضحك السلطان في سرور واستظراف. واستأذن حسونة في إلطاف. وما لبث أن بدأ العمل في غير تأخُّر ولا مهل. وراح يندَس بين الجموع، ويختلق المحامد للسلطان ويذيع. ولم يلحظ الأبلَه الموهوم، أن الناس تستمع إليه في وجوم، وأنها تدعو للسلطان في الظاهر؛ لأنها لا تملكُ أن تقول ما يدور بالخاطر. وكما فشا حسونة في الشعب، أضحك السلطان من القلب. وجهل أنه قد يستطيع أن يضحك سلطانًا، ولكنه لا يستطيع أن يخدَع إنسانًا.
ومَرَّ الزمان واستدار. وجاء موعد السلطان لملاقاة الجبار القاهر فوق عباده، والذي لا يخرج شيءٌ عن مراده.
وانقلَب الحال إلى حال جديد، وانتهى زمن حسونة والوزير غير الرشيد. وذهب الوزير إلى كسرة من زاوية النسيان، ولكن حسونة أراد أن يُغالِب الزمان، فنزل إلى الناس في السوق، فإذا هم يضربونه ضربًا لم يذُقه مخلوق، وهو يجري أمامهم مذعورًا، ويتخاضَع لهم مذلولًا مدحورًا.
وأصبح دأبُ حسونة منذ ذلك اليوم أن يظل قابعًا في بيته بعض الوقت، ثم يعود إلى الناس آملًا في أن يكونوا قد نسُوا ما أحاطهم به من وهم، ولكنهم كلما عاد أثخنوه ضربًا وشتمًا، وحمَّلوه ما يطيقون ولا يطيق غمًّا وهمًّا. وظل هذا حاله وسنَّته، حتى توارى في تُربته.
وهكذا ترى أن دولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
قصة وقعَت في يدي بعد أن أخطأَت طريقها إلى مؤلِّفي ألف ليلة وليلة. نقلتُها إليك راجيًا رضاءك، آملًا أن تقع من نفسك في خير مكان.