الصوت المرتفع والتليفون والفن
تعوَّد أبناء الريف أن يرفعوا صوتهم إلى أعلى الدرجات حين يتكلَّمون في التليفون. ولا شك أن هذه العادة قد لازمَتْهم من أيام تليفونات المركز المتصلة بالعمدة. وهي — بالمناسبة — ما زالت موجودة حتى اليوم. وكان الخفير لا يكاد يسمع محدِّثه حتى كان يرفع عقيرته إلى القمة. وأغلب الأمر أنه كان حين تنتهي المكالمة يرتمي إلى أقرب مقعدٍ أو مصطبةٍ مقطوعَ الأنفاس وكأنه جرى مائة كيلو بغير توقُّف.
وكان المرحوم أحمد عبد الغفار «باشا» فلاحًا لم تتخلَّ عنه أخلاق الفلاحين ولا عاداتهم رغم تعلُّمه في أكسفورد ورغم كرسي الوزارة الذي تبوَّأه.
وفي يومٍ كان أحد الزوار يجلس عند سكرتيره في الوزارة، وكان صوت الوزير عاليًا جدًّا حتى كان الزائر يسمع كلَّ كلمةٍ يقولها صارخةً في أذنه، وأحس السكرتير بحرجٍ فنظر إلى الزائر وكأنه يعتذر.
– أصل الباشا بيكلِّم تلا.
فرد الضيف بسرعةٍ ذكية.
– ولماذا لا يُكلِّم الباشا تلا عن طريق التليفون؟
هذا الصوت المرتفع نلتقي به كثيرًا في الأعمال الأدبية، وهو عيبٌ أجمع النقاد على أنه ينال من العمل الفني ويغُضُّ من قيمته.
فالعمل الفني بطبيعته همسة تتسلَّل في ذكاءٍ شديد ولباقة إلى أبعد أغوار النفس الإنسانية، وتُرسي فيها ما يشاء أن يُرسيَه الكاتب من معانٍ.
والصوت المرتفع لغة المقال وليس لغة العمل الفني؛ فحين يعلو صوت الفنان في عملٍ أدبي ينقل عملَه من قصة أو رواية إلى مقالة أو خطبة.
ولكننا مع ذلك نجد أعمالًا كثيرة لأدباء يرتفع فيها صوتُهم إلى درجة الإزعاج. وتسقط هذه الأعمال وتُمنى بالفشل. والكُتاب الذين ترتفع أصواتهم غالبًا ما تكون كتاباتهم بتوجيهاتٍ صادرة إليهم فيرتفع منهم الصوت ليُسمِعوا من أصدر التعليمات؛ لأن هؤلاء المُصدِرين للتوصيات لا يُحسنون أن يسمعوا الفن؛ فصِلتُهم بالفن مقطوعة، وإلا فكيف يُصدِرون الأوامر إلى الفنانين؟
الشعر وحدَه هو الذي نستطيع أن نسمح له باللغة المباشرة والنغمة العالية؛ لأن الشعر العربي يعتمد في تُراثه على المدح والذم والغزل والهجاء وغير ذلك من أبواب الشعر المعروفة، فحين يأتي الشعراء المحدَثون ويسيرون على نفس النهج الذي سار عليه الأوائل فلا جُناح عليهم، بل إننا قَبِلنا هذه النغمة المباشرة في المسرحيات الشعرية التي قدَّمها شوقي ومن بَعدِه عزيز أباظة، فحين يقول:
يقبل الناس منه هذا الكلام ويُردِّدونه من بعده إلى اليوم. وحين يقول عزيز أباظة في العباسية:
نقبل منه هذا الكلامَ ونُردِّده من ورائه.
وحين يرتفع صوتُ الشرقاوي في رواياته يقبل منه الناس هذا الصوت المرتفع في مسرحياته؛ الفتى مهران، ووطني عكا، والنسر الأحمر، وغيرها، وينظرون إلى مسرحه في تقدير.
والواقع أن الشعر الحديث في المسرحية يقع في المكان الذي خُلق له؛ لأنه يُضفي على الحوار نوعًا من الموسيقى والجرْس، مع تحرُّر الشاعر من القافية، وإطلاق يدَيه في تنويع الحوار، والسير إلى حيث تبتغي المَشاهِد والمواقف.
ولهذا لم يكن عجيبًا أن تنجح مسرحياتُ الشرقاوي، ويتخلَّج الشعر الحديث على الطريق ولا يستطيع أن يبلُغ من نفوسِ الناس ما بلَغه الشعر.
وعَودًا إلى الصوت المرتفع. أعتقد أن القُراء أنفسهم يُحبُّون في العمل الفني أن يصلوا إلى خوافي معانيه بشيء من الجهد يبذلُونه مع الكاتب، حتى إذا أغناهم الكاتب الروائي أو القاصُّ عن هذا الجهد انصرفوا عن العمل جميعًا في غير احتفاءٍ ولا تقدير.