قردة
يأتي على القرد لحظات يُخيَّل إليه أنه أصبح إنسانًا أو قريبًا من الإنسان. وتُعاوِد هذه الحالة بالذات القردة المعروضة في حدائق الحيوان؛ ذلك أن الأطفال وأحيانًا الكبار يتحلَّقون حولها، ويُلقون إليها بأصابع الموز إن أرادوا إكرامها، وبحبَّات الفول إن أرادوا أن يشهدوا حركاتها وهي تُقشِّره وتأكله.
فإن زادت حلقاتُ الناس خُيِّل لبعض القرود أنهم أصبحوا على قدْرٍ من الأهمية، فترى القرد منها يُشيح عن الإنسان الذي أكرمَه، ويصرفُ عنه وجهه واهتمامه، واهمًا أنه أصبح أعظم منه شأنًا وأرفع منزلة.
وترى القرد منها يتقافَز على أعراف الشجر الصناعية وينُط على أسياخ الحديد، فإذا هو في أعلاها، وحينئذٍ يُخيَّل إليه أنه أصبح أعلى قامةً من الإنسان. ولو لم يكن قردًا لأدرك أنه مهما يتقافَز ينُط فسيظل قردًا، ويظل الإنسان إنسانًا، كما يظل أيضًا النجم نجمًا والقمر قمرًا.
وفي عالم الأدب نجد شاشة التليفزيون قد جعلَت بعض القرود يظنُّون أنفسهم آدميين. ولو راغوا إلى أنفسهم من أعين الناس ومن عقولهم لأدركوا أن الناس لا تراهم إلا قردةً مهما يتقافزوا وينطُّوا، ولكنهم هم يَرونَ أنفسهم من داخل أنفسهم ومن عيون ذواتهم، ولكم تُخادِع نفسها النفس، ولكَم تكذبُ العينُ صاحبَها فتُوهمه أنه أصبح شيئًا وما هو بشيء، وأنه يستطيع أن يُصدِر الأحكام ويقسم الأقسام، وهو هو نفسه لا يجوز أن يكون موضوع حُكمٍ؛ لأن الحكم لا يكون إلا على موجود وهو غير موجود، والأقسام لا تكون إلا بين كياناتٍ قائمة وهو لا كيان له وكينونة.
الناس تراهم داخل آلة التليفزيون قردةً داخل أقفاص. ولن يُجديَهم شيئًا صوتٌ كمُواء القِطَط، كما لن يُجديَهم شيئًا تصنُّع في النطق وتمشيط لشعر الرأس وترجيل للحواجب وحركات للأيدي مرسومة في تكلُّفٍ بغيض وفتحٌ للفم وإقفالٌ له بمسطرة وبرجل ومنقلة، ولو درُوا أنهم بهذا يقتربون إلى عالم القردة أكثر مما يقتربون إلى عالم الإنسان لكفُّوا، ولكن من أين لهم أن يدروا؟
أغلب الأمر أن القارئ الآن سيقول ألغزتَ فأفصِح، ولكن المؤكَّد أن أغلب القُراء من مشاهدي التليفزيون سيقولون أفصحتَ فاستُر. وعهد عليَّ لهم ألا أزيد الأمر إبهامًا أو إيضاحًا؛ فالقردة لا يُقال عنها إلا قردة، والقرد لا يُسمَّى. وإن كان له اسم فإني أربأ بقلمي أن يجمع من حروفه اسمًا.
ولكن كل ما أستطيع أن أقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل.