حين يشيخ البحر
مرَّت بنا في الإسكندرية أيامٌ خُيِّل إلينا فيها أن البحر قد شاخ، وأنه أصبح عاجزًا عن أن يموج ثانية. كانت المياه منه تصل إلى الشاطئ عاجزةً لاهثة، كأنها حيوانٌ أخذ منه الجهد مأخذه؛ فهي ترتمي على الرمال ارتماءَ مَن يتشبَّث بالحياة، ويُنشِب فيها أظافرَ يائسةً مرتعشةً تُوشِك أن تموت.
وكان الهواء قد مات فعلًا، حتى لقد خُيِّل إلينا أنه يبتسم أبدًا.
وإذا كان هذا حالنا ونحن على شاطئ البحر في الإسكندرية، فالله في عونِ البعيد عن الشاطئ.
في هذا الجو يجمُل بنا أن نتناول حديثًا بعيدًا عن السياسة؛ فالسياسة إن أعجبَت قومًا أغضبَت آخرين، وإن رَضِي بحديثها بعضٌ ضاق به بعضٌ أكثر.
والأخذ في غير حديث السياسة أَمتعُ للقارئ وأيسر للكاتب، وخاصة إن كان الكاتب مثلي مَرنَ على كتابة الرواية والقصة، وعُرف بهذا اللون بين الناس، وأصبح عُذْره بين يدَيه إذا هو قدَّم إلى قارئه من حينٍ إلى آخر حكاية. وقد يسألُ مَن يسألُ: فما لكَ لا تصوغُ هذه الحكاية قصةً قصيرةً تُضاف إلى مجموعةٍ جديدة، أو روايةً طويلةً تُضاف إلى ما كتبتَ من روايات؟
وأيسرُ إجابةٍ على ذلك أن أبطال هذه الحكاية يُفسِدون الحبكة الروائية، ويُدمِّرون الصدق الفني؛ فهم بأعمالهم الخارقة للعادة يَحولُون دون جعل قصصهم أعمالًا فنية؛ لأنها أعمالٌ يرفضها التصديق ويأباها المنطق، ولا بد للعمل الفني أن يتسم بالصدق جميعًا.
ومع كل هذا فالحكاية التي أُقدِّمها قد وقعَت في الحياة فعلًا؛ ذلك أن الحياة لا يعنيها في كثير أو قليل أن يصدِّق الناس ما تؤلِّفه من قصص وروايات، وإنما يعنيها أن تؤلِّف، وليس يعنيها من يستقبل العمل الفني.
•••
ولعل أبياتَ شوقي في قصيدته الخالدة مصاير الأيام خيرُ دليلٍ على ما أذهب إليه.
وهذه القصة — مع كل المقدِّمة التي قدَّمتُها عن السياسة — ما زلتُ لا أدري أهي سياسةٌ أم غير سياسة.
•••
تبدأ القصة حيث تنتهي الأفلام المصرية بزواج فتًى مهندسٍ شابٍّ بفتاةٍ ثريةٍ واسعة الثراء.
ولكن المهندس بارعٌ في النفاق فهو يضع رجله دائمًا حيث ينتفع من وضعها، ويمُد يده دائمًا لينال مالًا أو منصبًا. وهو لم يُعمِل نفاقه على ذوي السلطان فقط، وإنما أعملَه وأجاد إعمالَه على زوجته الغنية، حتى استطاع أن يُحوِّل أموالَها كلَّها إلى حَوزته، فأصبح مالكًا لكل ما كانت تملكُه.
ولمَّا كان النفاق يُجهِده غاية الجهد، فقد تعرَّف بسيدةٍ أخرى أخذَت عليه مسالك تفكيره كلَّها، فأصبحَت تأمر فيُنفِّذ أمرها. وكانت السيدة متزوجة. ولم يكن طلاقها سهلًا، ولكنها — لأنها قادرة — استطاعت أن تجعل زوجَها يُطلِّقها. وصوَّرَت هذا الطلاق للمهندس المنافق على أنه تضحيةٌ من أجله كبرى. ولم يكن المهندس محتاجًا لإقناع؛ فقد استنفَد أغراضه من زوجته بعد أن أصبح المال كلُّه مالَه هو. طلَّق زوجتَه وتزوَّج السيدة الأخرى.
وكما تَدين تُدان.
استطاعتِ السيدةُ الأخرى أن تبتلع ماله هو جميعًا؛ أقصد المالَ الذي استلَبه من زوجته الأولى استلَبَته منه زوجتُه الثانية جميعًا.
وكان في هذه الفترة قد بلغ منصبًا تستطيع هي أن تنتفع به، كما استطاع هو أن ينتفع. وبمعرفة قادرة استطاعت أن تصبح السيدة الجديدة مستأجرةً لخمسٍ وثلاثين شقةً خالية من الأثاث؛ أثَّثَتها هي وأصبحَت تؤجِّرها جميعًا مفروشة. والشقق جميعًا باسمها. وهكذا أصابَتِ المالَ والشققَ جميعًا. ولم يبقَ للمهندس إلا منصبُه. ولكن متى دامت المناصب حتى تدوم له؟ ما هي إلا دورةُ زمنٍ حتى أُبعد عن منصبه. وحينئذٍ وجدَتِ الزوجة المخلصة — المخلصة لنفسها — أنَّ الأوان قد حان ليُطلِّقها. وإذا كانت قد استطاعت أن تحصُل على طلاقها الأول فهي على طلاقها الثاني أكثرُ قدرة. وطلَّقَها.
وهو اليوم رهينُ المحبسَين من فقر وبطالة.
أما هو فقد نال جزاءه وهو بعدُ على قيد الحياة. أما هي فأغلبُ الأمر أن جزاءها سيكون في الحياة الثانية، و«إن ربك لبالمرصاد».
تُرى أوجدتَ النغْمة السياسية الخافية في هذه القصة؟ ما أحسبُ أنها فاتت ذكاءكَ.
فقد صنع هذا المهندسُ مالَه وشققَ زوجتِه ومنصبَه في عهدٍ كان النفاق فيه هو البضاعة الوحيدة في السوق.
وأخشى أن أمضيَ في الحديث إلى أبعدَ من هذا، فأجدَ القلم قد انغرس في أسماء الأشخاص، وتنقلبَ الحكاية إلى نميمة. وما أشتهي هذا لنفسي ولا لقلمي.
تُرى هل استطعتُ أن أُخفِّف عنكَ وطأة الحر. إن لم أكن فاذكُر أن هذا عهدٌ قد مضى وأنه لن يعود. وحين تذكُر هذا ستُحِس نسمةً من أمنٍ ومن ريحٍ طيبةٍ رُخاء ترطِّب حَولكَ أعباءَ الحياة.