طويل ولكن!
حين يأذنُ الله لي بسَفرٍ إلى الخارج لا أتوقَّع في نفسي شيئًا لا من الناس ولا من المكان. ولا أُحب أن أرسم ما قد تستقبلُني به الدول التي سأزورها، فلا أنا أتصوَّر الفندق ولا أنا أُحب أن أتخيَّل الأشخاص، وإنما أترك البلدة التي أضع بها حقائبي تُطالِعني هي بجديدٍ منها في كل خطوةٍ أخطوها.
وليكن هذا الجديد متمثلًا في الناس وفي المكان، وفيما وهب لها الله من جمالِ معالمَ، وفيما حرمَها الله من نِعَم.
وبقَدْرِ ما كان هذا البياض الذي أفرضُه على مخيِّلتي يجعلُني أتمتَّع بكل ما هو ممتع، كنتُ أُفجَع فجيعةً مضاعفة فيما يُواجهُني مما لا إمتاع فيه.
ورحلتي هذه التي التقيتُ فيها بذلك الفتى الطويل الهايف كانت إلى دولةٍ من أكبر الدول الغربية. ووجدت ذلك الطويل ضمن الذين يستقبلون وفدنا، وعرفتُ أنه أحد الذين يمثِّلوننا تمثيلًا ثقافيًّا أو صحفيًّا أو شيئًا من هذا القبيل. ولم أتبيَّن مقدار هذه الهيافة في الفتى إلا حين بدأ يتكلَّم.
ولم يتكلَّم طويلًا؛ فما هي إلا جملٌ قليلة حتى وضح أمره واستبان، وردَّدتُ في نفسي ذلك العنوان الذي صدَّرتُ به هذه الصورة؛ فأنا بحكم الطول الذي وهبه الله لي أُحس ضعفًا نحو الطِّوال، وأرجو إذا تعرَّفتُ بجديد منهم أن يقول خيرًا إذا قال، أو يصمت فلا يقول شيئًا، فيصبح طوله ستارًا جميلًا يُخفي الفراغ الذي بداخله؛ فإن السذاجة التي يرمي بها الناس من كان طويلًا تجعلُني دائمًا حريصًا ألا تجد مؤيدًا عمليًّا لها من بين إخواني من الطوال.
ولهذا لم يكن عجيبًا أن أُفجَع في هذا الفتى حين تكلَّم؛ فقد لَقِيَنا بالتحية التي يقدِّمها أي إنسانٍ لقادمٍ عليه من بلاده. حتى إذا استقَر بنا المكانُ وتكلَّم بدأَت دَهْشتي تتصاعد مع كل كلمةٍ يُضيفها إلى الفراغ الذي يَبينُ عنه حديثه.
ثم قال عجبًا. لقد كان لي من أقاربه زميلٌ لولاه ما عرفتُ اسم أُسرته. وقد عرفتُ من هذا الزميل أن أُسرته ذاتُ مكانةٍ في قريتهم، ولكن هذه المكانة لم تصِل بها أن يصبح العمدة منهم؛ فهي أُسرةٌ ميسورة الحال في حدودٍ ضيقة يمكنها مالها أن تستُر ماء وجهها؛ فهي تستطيع أن تعيش دون أن تمُد يدَها لطلب عونٍ، ولكنها أيضًا لا تستطيع أن تمُد يدَها لتهَب عونًا.
دخل أحد أبنائها كلية البوليس، وتقطَّعَت به الأنفاس حتى أصبح مأمورًا في مديريةٍ بها أُسرة كبيرة العدد منتشرة في إقليمها وغير إقليمها.
ويأتي الفتى الهايف إلى جواري يُبالغ في تحيتي وينبسط به الحديث فيقول إن قريبهم المأمور حين ذهب إلى المديرية التي تُقيم بها هذه العائلة استدعى كبيرها وقال له أنا لا أخاف عائلتكم، وإذا لم تسيروا كما أريد فلن أؤدِّبكم بالوسائل البوليسية، وإنما سأطلُب رجالي من المجرمين في عزبتي وأجعلهم يضربونكم. ويزداد الفتى الهايف تبسُّطًا فيقول إن هذا الكبير خاف وارتعش وأذعن وسار طوعَ أمرِ المأمور البطل.
فهمنا طبعًا أن الكلام يرويه الفتى الهايف عن أيام الثلاثينيات. ويُفتَرض أننا سنُصدِّقه. وليس يعنيني من أمر هذه الحكاية إلا التفاهة التي بلغها هذا الأستاذ وهو يتشدَّق بهذا الحديث في سبعينيات القرن العشرين.
ليس يعنيني ما يقوله الفتى في ذاته، وإنما أن يتشدَّق رجلٌ ملء هدومه يعيش في بلدٍ من أعظم بلدان الغرب منذ سنوات، ويرى الحضارة وهي ترقى إلى القمر، ويظل الفخر عنده بإجرام أُسرته وقوَّتها؛ فهذا أمر يجعل الإنسان حائرًا مع البشر. إذا لم يتفاخر هذا الفتى الذي تُفتَرض فيه الثقافة والتحضُّر الإنساني بالعلم أو الفن أو الخلق فمن يتفاخر به؟ كيف يعيش في هذا القرن الباذخ العلم الشاهق الحضارة؟! فمتى حصَل على شهادة تعليمه العالي وعاصَر هذا العلم وتلك الحضارة في أرقى منابعها، ثم يتفاخر بالإجرام بلغةٍ جاهليةٍ قضى عليها الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا؟!
فالبشرية إذن عند هؤلاء جامدةٌ متحجرة لا تتطوَّر ولا تنمو مع العصر، ونحن إذن قوم نعالن العالم أن حضارته وثقافته لم تصِل بعدُ إلى أغوار نفوسنا، وأن فينا — لا نزال — هذه البداوة الجاهلية، وأننا حتى نختلقُ أحداث الإجرام لنُضفي بها على أنفسنا وأُسراتنا الجلال والهيبة. وبدل أن نبحث لهذه الأُسرات عن أثَر في الفن أو الحياة العامة أو الوطنية أو الأخلاق الرفيعة أو المُثُل العليا نختلق لها الفخر من أحقرِ ما ينبغي أن ينتسب إليه الإنسان. وهل هناك أحقر من الإجرام؟
ليكن هذا الفتى نفاجًا أو فشوشًا، وهو الأحمق كما يقول القاموس، ولينسجْ لأُسرته من الأمجاد ما شاء، ولكن أن يختار الإجرام بدلًا من الفضيلة في القرن العشرين فوا ضيعةَ الحضارة إذن! لو كان جاهلًا بعيدًا عن الحياة التي تطوَّرَت فتسنَّمَت قمةَ التاريخ الحضاري لحاولنا أن نجد له العُذر، ولكن وهو خرِّيج الجامعة، وهو من عاش في هذا البلد المتحضر سنواتٍ طوالًا، فهيهات هيهاتَ لنا أن نجد عذرًا، بل هيهاتَ هيهاتَ أن نختلق هذا العذر.
ثم هو غبي؛ فكل الذين كان يروي لهم أمجاد أُسرته يعرفون الحقيقة، فإذا كان يتبجَّح بها مع مَن يعرفونه فماذا هو فاعل إذن مع القوم الذين يمثِّلنا عندهم؟ لا أستطيع أن أتصوَّر.
ولكن لا بأس؛ فقد قرأتُ منذ قريبٍ أنه رُقِّي في وظيفته، فاطمأن خاطري وهدأ جزعي؛ فقد سارت أمور فيما تعوَّدَت أن تسير فيه. وحسبنا الله ونعم الوكيل.