ويل لشتاء بلا ربيع
عرفتُها وهي تبدأ حياتها في العمل رقيقة، تُحسِن إدارة الحديث في ذكاءٍ ولَباقة، يُعينها لسانها الفرنسي بالتعليم، والعربي بالمَولِد والنشأة والثقافة؛ فهو يعرف كيف يعرض الأمور في حلاوة وفهم وبيان.
ومضى بها العمل ومضت به. وطغى على الجهة التي تعمل بها ما طغى على كثيرٍ من المرافق من رشوةٍ وشراءِ ضمائر وهوان نفس، ولكنها ظلَّت هي بعيدة عن مظنَّة تمسُّ نزاهة يدها من قريب أو بعيد.
ومن طبيعة الأمور أن تُصبِح مثلها كريهة عند اللصوص. ولمَّا كان اللصوص هم المسيطرون على أقدَرِ الناس في هذه الفترة الحالكة من حياة مصر فقد استطاعوا أن يُقْصوها عن كل مسئولية. وأصبح أمرها كبورصة النقود في أحيانٍ تتصدَّر وفي أحيانٍ تنطوي، تظهر فتُصبِح ذات شأنٍ وسلطان، وتختفي فتصبح نسيًا من الناس والزمان.
وكنتُ أراها في هذه الفتراتِ وتلكَ فأرى عجبًا. إذا طوَّحَت بها أيدي الرؤساء إلى زوايا الخفاء تصبح وديعةً تسيل رقَّة وعذوبة، وتعود إلى تلك الفتاة التي شهدَت بداياتُ حياتها العملية صورةً مُشرِّفة لحوَّاء، إذا ما تثقَّفَت حوَّاء.
وإذا عادت إلى مكانٍ فيه مسئولية أو بعض مسئوليتها كشَّرَت عن أنياب ذئبٍ وشمَّرَت عن سواعدِ نمر، وانقلبَت من مثقَّفة إلى طاغية ومن رقَّةٍ وادعة إلى خشونةٍ مقيتة.
حتى ملامح الوجه منها تنقلب، فلا ترى في قسماتها وجه سيدةٍ تكتهل فتُثير الأنس، وإنما وجه وحشٍ تقلَّصَت قسماته.
مسكينةٌ هذه السيدة؛ فإن مثيلاتها يجمعن من أغصان الربيع وزهوره دثارًا يُضفي عليهن الدفء والأُنس عند الشتاء. وهي لم تستطع أن تجمع هذه الأغصان ولا هذه الزهور وإنما خمشَتها بأظافرَ حِدادٍ فجفَّت في الربيع وازدادت جفافًا مع الأيام؛ فهي في شتائها المتربِّص بها من قريبٍ بلا دثار يهيِّئ لها الدفء؛ فقد استطاعت في مهارة شرَّتها أن تحطِّم أيضًا قلوب أُسرتها كما حطَّمَت قلوب أصدقائها وزملائها. ومَن لا أُسرة له ولا صديق ويلٌ له من الشتاء … لهَفي عليها، لكَم أحزن كلما ذكرتُ الغد الذي ينتظرها، لكَم أحزن! فإن الكثيرين والكثيراتِ ينتظرون وينتظرن هذا الشتاء ليكون لهم ولهنَّ أنسًا وهناءً ويَجْنون منه ما زرعوه على مدى الأيام … أما هي فلم تزرع إلا البغضاء. وكم أرجو ألا تجني ما زرعَت، ولكنَّني واثقٌ على كلٍّ أنها في شتائها لن تجد الهناء.