أمنية لن تتحقق
أقرأ لكُتابٍ كثيرين، وأتحسَّر على حظِّهم العاثِر الذي فرض عليهم أن يكونوا كُتابًا يعرضون عقولهم وثقافتهم وأسلوبهم وعِرضَهم على الملأ وعلى الأجيال. وأتمنى لو أنهم قرءوا ما يكتبون بعد كتابته. وأتصور أن الله لو كان يريد لهم الستر لكان هؤلاء الكُتاب كُتاب أرشيفٍ في إحدى الوزارات؛ يُقيِّد الواحد منهم الصادر والوارد في دقائقَ معدودات، في تلك الغرفة الرطبة المتهالكة التي تعوَّد الأرشيف أن يختارها لمقامه، والتي تقوم جُدرانها من الدوسيهات التي كوَّمَتها السنون.
وينتهي الكاتب من قيد الصادر أو الوارد ثم يفرغُ لزملائه ويقول، وحينئذٍ يُتاح له ما لا يجوز أن يُتاح لكثيرٍ من الكُتاب الذين أقرأ لهم في الصحف؛ لأنه إذا كان موظَّف أرشيفٍ فإن من حقه أن ينتقد ما حلا له النقدُ دون أن يكون في حاجةٍ إلى تبرير نقده. وما حاجتُه إلى التبرير إنما المهمُّ أن يقول وأن ينتقدَ ويدشَّ، حتى إذا انتهى من النقد والشتم والسب والتهجُّم، تكلَّم في كل المواضيع التي يطيب له أن يبدو أمام زملائه أنه على علمٍ بها، فيتكلَّم في الذرة وبقايا الذرة وكيف ينبغي أن تُدفَن، ثم يتكلَّم في الأيونات، ثم يعرج إلى القمر والصعود إليه، وكيف ينبغي لمصر أن تسارع باعتلائه. ولا بأس عليه إذا تكلَّم أيضًا عن الصعود إلى الشمس. وليس يعنيه معقولية ما يقول أو عدم معقوليته. ثم يتكلَّم عن الاقتصاد وكيف نُعالجه في مصر؛ وحينئذٍ سيتكلَّم بطبيعة الحال في الاقتصاد في جميع أنحاء العالم؛ فهو والحمد لله يتكلَّم إلى إخوانٍ له ليس يعنيهم من كلمة الاقتصاد إلا التوفير ليُزوِّج الواحد منهم ابنته ويسترها، أو ليدفع مَهْر ابنه ويؤدي واجبه نحوه كما أدَّى أبوه هو واجبه؛ فهو إذن حين يسمع زميلَه يتكلَّم عن اقتصاد بولندا لن يناقشه، وإنما سيتركُه يقول ما يشاء دون أي معارضة.
ولكن الوقت طويل، والسنة ثلاثمائة وخمسة وستون يومًا وأحيانًا ستة وستون، وهذه المواضيع كلها لا تكفي لقطع الوقت، على الرغم من الإجازات الكثيرة التي تنفرد بها مصر دون سائر بلدان العالم، مثل عيد الوحدة الفاتح من سبتمبر، وأعياد النصر الذي تمَّ في وسائل الإعلام وحدَها، وغير ذلك من أعياد الأحزان في مصر. على الرغم من كل هذه الإجازات تبقى الأيام متطاولة، وحينئذٍ لا يجد كاتب الأرشيف مناصًا من أن يتكلَّم في الدين ويُفسِّر القرآن كما يفهمه هو. وليس الكاتب محتاجًا أن يقول إنَّ من حق كل إنسانٍ أن يفسِّر القرآن؛ فإن أحدًا لن يُطالِبه بالمراجع حتى يقول هذه المقالة؛ فهو سيُفسِّر وهم سيصمُتون، فالوقتُ المتطاول عليه متطاولٌ عليهم أيضًا، وما داموا لا يجدون شيئًا يصنعونه، فما عليهم لو أنهم استمعوا إلى أي حديثٍ، حتى إذا انتهى من تفسير القرآن بادئًا من الفاتحة وسورة البقرة منتهيًا إلى سورة الناس، دلَف إلى السياسة الدولية، فإذا ضاقت به سبُلُها بدأ يتناول وزاراتِ مصر الواحدة تلو الأخرى، وراح يُفيضُ في مقترحاته، ولا عليه إن كانت هذه المقترحاتُ كفيلةً بمشيئة الرحمن أن تكون قاصمة الظهر لمصر، ولكن لا بأس عليه؛ فإن شيئًا من مقترحاته لن يخرج من باب الأرشيف.
وأتصوَّر هذا الموظَّف متزوجًا من سيدةٍ تظل طوال النهار تطهو له طعامه، حتى إذا عاد تصدَّرَت هي مكانَ الحديث، فتروحُ تُكلِّمه عن أسعار الخضار واللحم والأدوات التي استلَفَتها من جاراتها وما استلفنَه منها. وأذكُر شطر البيت: «وما من ظالم إلا ويُبلى بأظلم». فزوجتُه بالعدل الإلهي تنتقم لزملائه بالديوان منه، ويظل هو صامتًا طَوال غدائِه، ثم ينام قليلًا ليرتاح من حديثه الذي قاله، ومن حديث زوجته الذي استمع له أو لم يستمع، حتى إذا صحا من القيلولة ذهب إلى المقهى ليلعب الطاولة، راحت زوجتُه تلُفُّ على الجيران تجمع الأخبار والأسرار، ويلتقي الزوجان في الموهن الأول من الليل، وتروح زوجتُه تنفضُ على مسمعه حصيلة دورانها على الجارات، حتى إذا تعبَت من الحديث راح هو يُحدِّثها عن الأيونات وينتقد لها الساسة والسياسيين في شرق وغرب، ويُفسِّر لها القرآن ويشتم إليها الوزراء، ويعرضُ عليها مقترحاتِ التغيير، وهي تتفوَّق على زملائه في الأرشيف بأنها دائبةٌ على الإعجاب به تُحصِّنه بالحي القيوم، وتذودُ عنه العين باسم رب الفلَق، وتَحرسُه وتضمنُه باسم النبي.
كاتب الأرشيف هذا أحسُدُه على النعيم الذي يقضي فيه صباحه وعصره ومساءه. وأتمنى للكُتاب الذين يعرضون آراءهم على الناس لو كانوا جميعًا هذا الموظَّف حتى لا يذيعَ جهلهم، ولا يفشُوَ بين الناس ما ينبغي أن يُستر من عيبهم وعجزهم، ولكن الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو كتَب عليهم أن ينشُروا ما يخُطُّون على الورق، وأن يُطبع هذا الذي يخُطُّون ويقرأَه الناس فيما يقرءون. والأمر من قبلُ ومن بعدُ لصاحب الأمر. وحسبنا الله ونعم الوكيل.