الفصل الأول
صلى الحاج سيد العزوني المغرب في بيته وقام عن السجادة، وجلس إلى كرسيه الأثير في بهو بيته بقرية هندامة، وراح يَسْبح في قنوتٍ وإخبات، حتى إذا استكمل ما يفرضه على نفسه من تسبيحٍ بعد الصلاة مدَّ يده إلى المصحف الذي يحرص أن يكون دائمًا بجوار كرسيه، وراح يقرأ في صوتٍ لا هو بالجهير ولا هو بالخافت، ولم تطُل به القراءة فقد سمع طَرقًا على الباب الرئيسي فتَمتَم: «صدق الله العظيم، لا حول ولا قوة إلا بالله.» ثم صاح: يا بدوية.
وظهرت بدوية من داخل الدار وهي تصيح: نعم.
– شوفي من يخبط بالباب.
وفتحَت بدوية الباب وكان واقفًا إزاءه طُلبة عمران الذي صاحت بدوية باسمه لتعلن سيدها به، فقال متوخيًا أن يرفع صوته؛ ليسمع القادم ترحيبه به: يا أهلًا وسهلًا ومرحبًا.
ودخل طُلبة، رجل في الخمسين من عمره، يرتدي الجلباب البلدي، وفوقه مِعطفٌ واضح لمن يراه أنه رجل يحترم نفسه ويعتني بمظهره.
جلس إلى الحاج سعيد الذي كان يرتدي هو أيضًا جلباب البيت ومِعْطفًا، ولو أن ما كان يرتديه ساعة ذاك لا يمثل حقيقة ملبسه.
فهو عند الخروج من البيت يتخذ الملابس الإفرنجية رداءً له.
فالحاج سعيد حاصل على الابتدائية القديمة، وقد ورث عن أبيه أربعين فدانًا، وكان هو الوارث الوحيد، فحين مات أبوه لَزِم الأرض وأتقن زراعتَها، وأصبحت الأربعون فدانًا خمسين ومعها مالٌ موفور سائل.
ولم يكن لسعيد همٌّ في الدنيا إلا استثمار أرضه وزيادة أمواله بكل الوسائل، كما كان أيضًا حفيًّا بزوجته عايدة وهي ابنة عمه، تزوَّجَها في حياة أبيه الذي شَهِد مولد ابنَيه بهجت ومجدي.
تبادَل الرجلان الجُمل المعتادة ولم تطُل بهما المجاملات، وبدأ طُلبة الحديث فيما جاء بشأنه.
– صليت بنا على النبي.
– عليه الصلاة والسلام.
– أنت تعرف طبعًا الخسارة التي حدثَت لي العام الماضي في تجارتي.
– التجارة يا طُلبة يا حبيبي فيها المكسب والخسارة، وأنت سيد العارفين.
– معك حق يا حاج، ولكن خسارتي كانت شديدة.
– أعرف ذلك.
– وأريد أن أُعوِّض هذا العام.
– بارك الله لك.
– بارك الله لك.
– حُفِظتَ، ولكن الفلوس مقصرة.
– كان عليكَ يا طُلبة ألا تغامر بكل رأس مالك.
– التجارة مجنونة يا حاج سعيد، وكلما خسر التاجر استمر في المضاربة، وزاد حرصه على أن يظل بالسوق، في محاولةٍ منه لتعويض الخسارة أو تحديدها على الأقل.
– المهمُّ ربنا إن شاء الله يكرمك هذا العام.
– ليس لنا إلا وجهُه يا حاج.
وهمسَت نفسُ سعيدٍ له موجِّهةً حديثها الصامت إلى طُلبة: ما دام ليس إلا وجهه فلماذا جئتَ إلى هنا يا كذَّاب يا منافق؟! المهم لنسمع ماذا تريد، ولو أنني متأكد من النهاية التي سينتهي إليها حديثك. وكان طُلبة في فترة الهمس هذه يُغمغِم بما لم يسمع سعيد الذي أفاق من سرحته، قائلًا وكأنه ما حادث نفسه: سبحانَه!
– إلا أنه جل شأنه جعل لِقَدَره أسبابًا.
– طبعًا.
– من أجل هذا جئتُ لك.
– وصَلْنا، ولو أنكَ تأخَّرتَ كثيرًا.
ثم أبَان قائلًا: يا مرحبًا.
– تسلفني؟
– وما له؟
– خمسة آلاف جنيهٍ.
– مرة واحدة؟
– السوق متوحشة وإن لم أبدأ مبكرًا برشِّ العرابين تضيع عليَّ السنة.
– ولكن المبلغ كبير جدًّا.
– ليس بالنسبة لك.
– وهو كذلك؛ على أن تَردَّ الخمسة ستة.
– ماذا؟
– ما سمعت.
– أنا أعرف أنك تُسلِّف بالفائدة، ولكن لم أتصورها فاحشةً إلى هذا الحد. إنني سأرُدُّ المبلغ بعد شهرَين أو ثلاثة على الأكثر.
– ليس هذا من شأني … هذا شأنُكَ أنتَ.
– أتكون حاجًّا ومقيمًا للصلاة وقارئًا للذكر الحكيم وتسلِّف بالربا؟!
– أعوذ بالله بيننا وبين الربا … حدَّ الله … أعوذ بالله … أعوذ بالله … إذا كنتَ تعتبره ربًا فلا داعي للعملية كلها، ونفضها سيره.
– يا عَمِّ الحاج سعيد، إذا لم يكن هذا هو الربا فماذا يمكن أن يكون؟
– مشاركة معك في التجارة.
– أنعم وأكرم، فهل تخسر معي إذا خسرت؟
– ما هذا الذي تقول؟! أهذا كلامٌ معقول؟!
– فكيف تكون مشاركةً إذا لم تتحمل الخسارة كما تستفيد بالربح؟!
– وكيف أتحمَّل الخسارة وأنت وحدكَ الذي تعمل في السوق؟!
– اعمل معي.
– وهل أنا تاجر؟
– المسألة بسيطة … تصبح تاجرًا.
– أنا لا أعرف في التجارة شيئًا …
– إذن.
– إذن أعطيكَ المال وشأنك والسوق، إذا كسبتَ عشرين ألفًا مبروكة عليك، فقط تَرُد لي مالي ومعه شيءٌ مما ربحته.
– فإذا خَسِرتُ؟
– إنكَ أنتَ الذي تتاجر.
– أهذا كلامك الأخير؟
– وليس عندي غيره.
– متى أجيء إليك لآخذ المبلغ؟
– أنا تحت أمرك.
– بكرة.
– اجعلها بعد بكرة.
– وهو كذلك، ولو أنكَ كنتَ قاسيًا عليَّ كل القسوة.
– بالربح إن شاء الله.
– كله بأمره، البنك كان أرحم.
– البنك لا يسلِّف إلا ملَّاك العقارات فأي بنك تقصد؟
– المهم بعد بكرة إن شاء الله.
– إن شاء الله.
وحين خلا الطريق بطُلبة راحتِ الهواجسُ تدور بنفسه غاضبةً ثائرة على هذا الرجل، الذي يُقرِض بالربا الفاحش ولا يكتفي بهذا، بل هو في جحودٍ يُحلِّل الذي يفعله وينفي عنه الاعتداء على حدود الله.
عاد الحاج سعيد إلى قراءة المصحف ولم يطُل به الوقت؛ فقد أتى إليه ابنه بهجت فختم قراءتَه والتفَت إلى ابنه.
– أهلًا. أين كنتَ من الصبح؟
– أقطع الوقتَ الطويل المُمِل مع أصحابي.
– وماذا بعدُ؟
– إني أنا الذي أسألك: ماذا بعد؟
– هل أنتَ مُصمِّم على رفض ما أعرضُه عليك؟
– يا أبي، مستحيل! وهل أخذتُ شهادة الحقوق لأُشرِف على زراعة الأرض، كان أَوْلى بي أن أبقى هنا، ولا أدخل كلية الحقوق، وإن كان لا بد من تعليمٍ عالٍ كنتُ أذهب إلى كلية الزراعة، ولو أن هذا مخالف لميولي كل المخالفة. أما الأرض فالبركة فيكَ وفي أخي مجدي.
– كان عندي أمل أن تتخرج بتفَوقٍ فتُعيَّن في النيابة، ثم تُصبِح قاضيًا.
– يا أبي، أنا لا أُريد أن أكون قاضيًا.
– هل هناك خرِّيج حقوق يرفض أن يكون قاضيًا؟!
– أنا.
– عجيبة!
– ولا عجيبة ولا حاجة؛ القاضي يظل تلميذًا طُول حياته.
– ماذا؟ ماذا تقول؟!
– أليس عليه أن يدرس القضايا وينظر في الأحكام السابقة، ورأي الفقهاء ومختلف التفسيرات للمواد التي تنطبق على القضية؟ … مصيبةٌ سوداء.
– إذن، لماذا وافقتَ على كلية الحقوق؟
– أولًا: إطاعة لك، وثانيًا: لم أكن راغبًا في دراسةٍ أخرى، وما دام الأمر شهادة فلتكن الحقوق وشأنها عندي شأن أي شهادة أخرى.
– إذن، أنت مصمم على وظيفة.
– أي وظيفة؛ فإن الفراغ سيقتلني.
– لماذا لا تقرأ مثلًا؟
– يا أبي، لو كنتُ أحب القراءة لتخرَّجتُ في الكلية بتفوُّق. أنا لا أجد متعةً في القراءة، وكنتُ أذاكر الكتب وأنا في غاية الضيق بها، فكيف أقرأ باختياري؟
– المهم، ماذا تريدني أن أفعل؟
– ألا تعرف؟
– أعرف وأمري إلى الله، ولو أن كمال باشا ليس في الوزارة الحالية.
– كمال باشا وجدي نفوذه خارج الوزارة مثل نفوذه في الوزارة.
– على رأيك.
– اعمل معروفًا يا آبا، إن لم تكن عونًا لابنك فلمن تكون؟
– توكَّل على الله.
– متى تسافر؟
– أنا مشغول بكرة وبعده، أسافر بعد ذلك إن شاء الله.
– وهو كذلك.
– توكَّل على الله.
– المهم يعرف الباشا أنك مهتم بالأمر، وأنك لا ترجوه لمجرد أداء واجب.
– ستكون راضيًا بإذن الله.
– يا رب.