الفصل التاسع
توثَّقتْ صلة بهجت بكريمة؛ فقد أصبح هو وحده المسئول عن أموالها، وكان كثيرًا ما يلتقي بها ليُبلِغها بتصرفاته في الأرض أو العمارة، ومر على ذلك قرابة العام ولماذا لا؟ إنها الآن وحدها وواضح أنها مقبلة عليَّ، وتعاملني بكثيرٍ من الاحترام، ولكن الاحترام شيء وما أفكِّر فيه شيءٌ آخر، وماذا أخسر إذا عَرضتُ؟
وهل سيقبل أبوها؟ …
رأى بهجت أن يتريث بعض وقتٍ، ولكن الأيام لا يعنيها ما يدور في نفوس أبنائها من خواطر. ما لبِثَت الأحداث أن توالت.
خرج الباشا من الوزارة، وطبعًا لم يصبح بهجت سكرتيرًا للوزير الجديد، وإنما نُقل إلى الشئون القانونية بحكم شهادته، وظل محتفظًا بموقعه من الشركة.
ولم تكتفِ الأيام بهذا، بل فاجأت الباشا وبيته، بأن أصابتِ الباشا بجلطةٍ في المخ أصبح معها عاجزًا عن الكلام أو الحركة.
ومن شأن هذا المرض أنه يجعل صاحبه على قيد الحياة ولكن بلا حياة.
وهكذا اجتمع رأي الأُسرة على أن يقوم حمدي عمران زوج ميرفت بشئون الباشا المالية؛ فهو وإن كان زوج أصغر البنات إلا أن بقاءه في القاهرة مؤكَّد، وليس معرضًا للتنقُّل في بلاد العالم مثل وحيد القناوي الذي يعمل بالخارجية، ويظل دائمًا على شفا العمل بالسفارات في الدول المختلفة.
وكان من الطبيعي أن يستعين حمدي ببهجت، وسارت الأمور في طريقها المرسوم وتمضي الحياة؛ لأنها لا بد أن تَمْضي مهما تكاثَرتْ بها الأحداث.
لم تمنع معاونة بهجت لحمدي أن يظل وثيق الصلة بكريمة، ولم تمنعه من مداومة التفكير فيما يهفو إليه.
انتهز فرصةً كان منفردًا فيها بكريمة.
– كريمة هانم، هل أتجرأ على عرض ما أفكِّر فيه، وصمتَت كريمة لحظاتٍ وقالت: لا أحسبه خافيًا عليَّ، ولكني أتعجَّب له.
– وفيم العجَب؟
– لننظر أولًا فيما تفكِّر فيه؛ فربما كنتُ مخطئة.
– بل إنكِ على صواب.
– فصرِّح، ولا داعي للألغاز.
– أتُرى لو طلبتُ الزواج منكِ أكون قد جاوزتُ حدِّي؟
وصمتَت كريمة ثانيًا ثم أدغمَت الكلمات، وهي تقول: أي حد الذي تكون قد تجاوزته؟
– هوانُ شأني وعظمةُ شأن …
– أي شأنٍ تقصد؟
– أقربها المكانة الاجتماعية.
وقالت كريمة في استحياءٍ: أنت لستَ أقلَّ من حمدي ووحيد.
– ولكني لستُ في مثل وضعهما الاجتماعي.
– أنتَ والدُكَ رجلٌ محترم.
– ليس في مثل احترامِ والدَي زوجَي أختَيكِ.
– ليس للاحترام موازين في مثل الدقة التي تتصوَّرها أنتَ، والدكَ رجلٌ من الأعيان وأنت حاصل على شهادةٍ عالية، ولكِ عملٌ ثابت.
وفي نشوةٍ بالغة: إنكِ توافقين؟
وقالت كريمة في حسم: أنا لم أتكلم عن موافقتي أو عدم موافقتي، وإنما أُصحِّح لك فكرتك عن مكانتك الاجتماعية.
– إذن لا مانع لديك؟
– بل هناك مانع وأنا لستُ موافقة، ولكن السبب ليس كما تصوَّرتَ أنت.
– الوالدة قد ترفض؟
– الوالدة لا تتدخل في شئوني، ثم إني أرملة.
وتلعثَم بهجت لحظات وهو يقول: الوالد — شفاه الله — ليس في حالٍ تسمح له بإبداء الرأي.
– ليس هذا أيضًا هو السبب.
– إذن …
– ألا تعلم؟
– على قَدْر تفكيري.
– إذن فكِّر أكثر.
– أنا عاجز.
– ألم تفكِّر في فارق السن؟
وصمت بهجت وراحت الأفكار تعصف به. إنه يعلم أن ثَمَّةَ فارقًا في السن، وقد كان يعتمد على هذا العنصر كل الاعتماد في أن تقبله كريمة؛ فهو الأصغر، وفي تدبُّرٍ وخبث قال: أنتِ أكبرُ مني بسنواتٍ قلائل.
– ليست قلائل.
– على كل حال ليس الفارق بعيدًا.
– هل يرضى والدك أو ترضى والدتك أن تتزوج أرملةً وتكبرك في السن أيضًأ بفارقٍ ليس صغيرًا.
– أنت لا تعرفين قَدْر نفسك.
– اترك لي فرصةً للتفكير.
– إلى متى؟
– لا تأتِ إلى هنا لمدة أسبوع.
– أمرك.
وبعد الأسبوع قالت كريمة في حسم: أنا وحدي الذي أُقرِّر أمر زواجي ما دام أبي ليس في حالةٍ تسمح له أن يكون صاحب رأيٍ فيه؛ فالأسرة جميعها لا شأن لها بهذا الزواج.
وقال بهجت وفي صوته بارقةُ أمل: أفهم من هذا أنك …
فقاطعته قائلةً: لا تفهم شيئًا على الإطلاق؛ فأنا لم أُكمل كلامي بعدُ.
– أنا آسف.
– يأتي والدكَ ومعه والدتكَ إلى هنا، ويطلبان مني الموافقة على الزواج بك.
أمي! وهل أستطيع أن أجعلها ترى أمي … أبي معقول ولكن أمي، ثم علا صوته في شبه لعثمة: يا كريمة هانم، نحن فلاحون، والستات عندنا …
فقاطعته مرةً أخرى قائلة: أنا أعرف أنك لا تريدني أن أرى والدتكَ، ولكنني مصممة أن أراها، وأنا واثقة تمامًا أنها لم تترك القرية، وأُقدِّر ما سأجدها عليه من مظاهر الفلاحات، ولكني فهمتُ من كلامك عنها أنها سيدة عاقلة ومحترمة وهذا يكفيني؛ ولذلك أنا مصمِّمة على أن تأتي مع أبيك.
– أمرك، ولكن هل أستطيع أن أعرف سبب هذا التصميم.
– إذا تم هذا الزواج فأريده أن يكون طبيعيًّا، ولو كان أبي بصحته لصمَّمتُ أن يذهب والدك ووالدتك إليه ويطلباني لك منه. أما في حالة أبي هذه فهذا الطلب لا بد أن يكون مني أنا؛ فأمي مشغولةٌ عنا بحياتها الاجتماعية، وأختاي الاثنتان أصغرُ مني، وعلى كلٍّ فهذا هو شرطي الأساسي.
سافر بهجت في نفس اليوم إلى والده بالهندامة، ولم يكن مجدي بالبيت فقال لأبيه بمشهدٍ من أمه: ما رأيكما إذا كنتُ أريد الزواج؟
وصاحت الحاجة عايدة: والنبي صحيح؟ … ألف مبروك.
وقال الحاج سعيد: انتظري يا حاجة … هل اخترت العروس؟ إذا لم أقل لهما إنني أطلبها فسيعرف أبي أنني أكذب عليهما أو على الأقل أبي لن يفوته أنني أُموِّه عليه، وربما استهول أن أتزوج أنا ابنة الباشا، ورفض التقدُّم حتى لا يتعرَّض للخزي، أحيانًا الصراحة تكون أخبث من المُداوَرة.
– الحقيقة يا أبي أني كلَّمتُها فعلًا، ولكنها أصرَّت ألا يطلبها للزواج إلا أبواي.
وفي لمحة ذكاءٍ قال الحاج سعيد: إذن تكون كريمة هانم؟
وانتتر بهجت واقفًا.
– بسم الله الرحمن الرحيم.
– اهدأ … اهدأ … أتعرفين كريمة هانم يا حاجة؟
– أعرف أن بنت الباشا الكبيرة اسمها كريمة.
– إنها هي.
– ألم تكن متزوجة؟
وأكمل الحاج: وزوجها تعيشين أنتِ.
– نعم، سمعتُ شيئًا كهذا، ولكن يا بهجت يا ابني أليست كبيرةً عليك.
– بسنواتٍ قلائل.
– ولماذا يكون أول بختك امرأة؟
فقاطعها بهجت مستنكرًا: امرأة!
– آسفة، سيدةٌ أرملة وأكبر منك أيضًا.
وحسم الحاج سعيد الحوار: على بركة الله يا بني، توكل على الله.
– ولكنها تريدكَ أنت وأمي أن تذهبا لتطلباها لي.
– نطلبها من الباشا …؟
– الباشا لا يقابل أحدًا … منها هي.
– ولماذا لا نذهب؟ … يا زين ما اخترت.
وقالت الحاجة: ولكن يا حاج …
– الأمر انتهى … يا بهجت متى تريد أن نذهب؟
– إن كان عليَّ فأنا أريد أن نذهب الآن.
– غدًا، إن شاء الله، نسافر معك أنا ووالدتك.
– على بركة الله.
وأدرك بهجت أن أباه يريد أن يقنع أمه على انفرادٍ، فقال: أقوم أنا لأستريح قليلًا.
– على راحتك يا ابني.
وحين خلا المكان بالزوجَين الكبيرَين قال الحاج سعيد: ماذا جرى لك يا حاجة؟
– أنا التي أسأل: ماذا جرى لك أنت؟
– أكنتِ تحلُمين أن يتزوج ابنُكِ بنت كمال باشا وجدي؟
– أكبر منه وأرملة أيضًا.
– وإن لم تكن كذلك فلماذا تقبله؟ شاب في أول حياته، لولا أبوها لكان حتى اليوم بلا وظيفة، وثروتي مهما كانت فهي على قَد بلدتنا. أما نحن في الحقيقة إلى جانب ثراء كريمة هانم وأمثالها فنُعتبر شحَّاذين، فبالله عليكِ إن لم تكن أرملة وأكبر منه فلماذا تقبله يا حاجة؟ … الدنيا أخذٌ وعطاء.
– كنتُ أريد أن أفرح به.
– وماذا يمنعكِ؟ افرحي على آخر ما عندك، وعندما نعود من مصر اجعلي كل أهل البلدة يملأن الأجواء بالزغاريد.
وتزوج بهجت من كريمة، وعاش معها في بيتها بمصر الجديدة، وقابل أعضاءُ الأسرة نبأ زواج كريمة في غير رضًى ولا استنكار.
وقال حمدي: كان لا بد لها أن تتزوج، فليكن زواجها ممن نعرفه؛ فهو أحسن من الذي لا نعرفه.
أما الأم فلم تُعلِّق بشيءٍ، وكذلك فعل وحيد والأختان …