تقديم

وهل يحتاج غالي شكري إلى تقديم للقارئ؟

لقد قدَّم نفسه — بأعماله المتدفقة — إلى القارئ ومنذ زمن.

وهل تحتاج كتاباته إلى تقديم؟

لقد قدَّمت نفسها، وتقدَّمت على كتاباتٍ أخرى كثيرة.

لكننا نحن وما نعاني، نحتاج إلى تقديم؛ فمصر ونحن، الوطن ومستقبله، كل ما أبدعه العقل المصري، من فنٍّ وعلم ومعرفة وحضارة، كل ما أنتجه القلم المصري من أحرفٍ وكتابة، نثر وشعر وتشكيل، بل العقل المصري نفسه مهدَّد بالإزالة، والحواجز التي تتراكم حوله وفوقه توشك أن تحرمه إمكانية البقاء، وكأن مخططًا جرى تخطيطه لإنهاء العقل، وما أُنتج على أرض مصر. كل هذا يحتاج إلى كتابة … وإلى صراخ، وإلى محاولة لضرب الركود المخيِّم على ساحة الفكر والكتابة، وهو ركود خائف، أو هو خوف راكد.

ومعركة العداء للعقل والإبداع المصري والمجتمع المدني ومؤسساته تجتاح سوق الفعل وسوقية الكتابة، فتغمرنا الكتابات والمقولات والفتاوى المتأسلمة لتفرض علينا — أو تحاول — قِيَمًا وأفكارًا ترتد بنا قرنًا أو قرنين إلى الوراء. وأموال كثيرة تُرصَد، وعيون تترصد، كي تمنع الفكر المصري المنتهَك من استعادة حيويته وقدرته على المقاومة، وتحاول أن تخترق جهازه المناعي لتصيبه «بإيدز» متأسلم يصعب الشفاء منه.

والمثقفون المصريون — وهم كثير — البعض يقبل، والبعض يتقبَّل، والبعض يقبض، والبعض يتحوَّل إلى سمسار مثقفين، كما أن هناك سماسرة «لتوبة» الفنانات. والبعض يرفض محتفظًا لنفسه، أو متحفظًا عليها بحلية الصمت غير الحكيم؛ فيتبع سياسة إحناء الرأس للعاصفة، ناسيًا أن العاصفة إن أتت فسوف تقتلع الصامت والمتحدث، الساكت والمتكلم، الهارب والفاعل، وسيكون الفارق هو ما تبقى في قبضة الإنسان من شرفٍ وشجاعة، والقليل القليل هو من: يقول ويفعل، ويرفض بشجاعة التحدي، ويتصدى للعاصفة فترتد أمام كلماته عاجزة.

القليل … القليل هو الذي تتلمذ على حكمة شبلي شميل الحكيمة «الحقيقة أن تُقال، لا أن تُعلَم.»

فما قيمة أن تعرف الحقيقة، وتضن بها على شعبك الذي يحتاجها؟

ما قيمة أن تمتلك حزمة من ضوء القمر وتحرم منها وطنك ليفرض عليه التيار المتأسلم ظلامه وظُلمه وظلمته؟

ما قيمة أن تستضيء أنت تاركًا شعبك جانبًا للمعرفة، بل ما قيمة أن تستضيء تاركًا خصمك يقيم سرادق الظلام فوق رأسك ورأس وطن بأكمله.

«الحقيقة أن تُقال … لا أن تُعلَم.»

هذه الصيحة الشجاعة أطلقها شميل قبل مطلع القرن عندما قدَّم للمصريين ترجمة رائعة ومُحكَمة «لشرح بوخنر على نظرية النشوء والارتقاء لداروين» … في زمنٍ كان اسم داروين محرَّمًا أن يهمس به أحدٌ حتى لنفسه. واستشعر البعض من أصدقائه شفقة على هذا المغامر؛ فلقد تفترسه وحوش الظلام. ولقد تنطلق ضده أقاويل التخلُّف، لكنه اكتفى بحكمته الحكيمة، وتحصَّن بها وانتصر.

ومن بين مثقفين قلائل في هذا الزمن المجلل بالعار، كان غالي شكري … يمتلك شجاعة أن يعرف الحقيقة، شجاعة أن يمتلكها (أليست محرمة وحرامًا في نظر المتأسلمين؟) ثم يمتلك شجاعة امتشاقها حسامًا يُشهِره في وجه أعداء العقل.

لكن الشجاعة التي يحتاجها غالي شكري مضاعَفة؛ فهو مثقف (وهذه جريمة)، ويجهر بالحقيقة (وهذا جُرم أكبر) ثم هو فوق هذا وذاك مسيحي (نصراني ذمي بلغة عصرنا السعيد).

فكيف يتجاسر؛ فيخوض معركة العقل ضد البعض من متأسلمي التخلف والتجهيل؟ لكن غالي شكري فعلها، وامتلك الجريمة المثلثة.

بل إنه لم يكتفِ بذلك، بل امتلكت كتابته في هذه الكتابة ملَكة التصدي للمشكلة مكتملة؛ فشنَّ هجومه أيضًا على سياسات الحكم التي أنجبت ما أسماه «المجتمع العشوائي» … وهو تعبير يحتاج إلى تأمُّل … لأننا — فيما أعتقد — إزاء عشوائية مخطَّطة مدبَّرة، وليست مبعثَرة بلا ضابط، وهكذا يحمل غالي صليبه على كتفه، ويمضي … صارخًا في البرية.

«في البرية» … نعم.

وكأننا نعود للوراء قرونًا، حيث الكلمة معول يدق في الصخر، وبلا صدًى …

لكنه قدَرنا، أن نمضي بلا تردُّد، حاملين أعباء معارك متراكِمة ضد قوًى متناقضة …

وعبر مسارٍ مشتبك ومختلطة خيوطه … لكننا وبرغم ما في الطريق من شوكٍ شائكٍ نمضي واثقين من إشراقة الغد.

وفي مسيرتنا الصعبة نحتاج حكمة قبل الشجاعة، وشجاعة قبل الاقتدار، وقدرة قبل القول، وقولًا عالي الصوت … يصرخ في البرية، كي يلد ورودًا وأزهارًا تتحدى مطارق التيار المتأسلم … وتحلم بغدٍ مصري … وطني … لمصر كلها، مسلميها ومسيحييها، على قدم المساواة، غدٍ يمتلك العقل العاقل، ويعرف كيف يصوغ منه سلاحًا تستنير به مصر، ويتوحَّد به بنوها، وتمتلك به جسارة التقدم نحو ديمقراطية وعقل وعلم وحضارة وفن ومعرفة … جسارة التقدُّم نحو مستقبلٍ يليق بمصر القرن الحادي والعشرين، في تحدٍّ لهؤلاء الذين يريدون أن يسحبوا مصر إلى الخلف قرونًا عديدة.

ومن هنا تمتلك كتابة غالي شكري قيمتها الحقيقية، فهي فعل فاعل في معركة جسورة … تستهدف فك القيود عن العقل المصري، ومواجهة دعاة التأسلم والارتداد.

ومن هنا يستحق هذا الكتاب التحية … ويستحق كاتبه … أكثر.

د. رفعت السعيد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥