مقدمة

كتبتُ ونشرتُ هذه المجموعة من الدراسات والمقالات بين عامَي ۱۹۹۳م و١٩٩٤م في مجلة «القاهرة» وجريدة «الأهرام» ومجلة «الوطن العربي»، وقصدتُ بهذا النشر الواسع قبل ضمِّها بين دفتَي كتاب أن أشارك في المعارك الفكرية والسياسية الدائرة في وطني مشاركة حتى لا يُقال إننا صمتنا في زمن، الحوار وإننا غِبنا وكنَّا حاضرين، وحتى تصل كلمتنا صريحة كاملة إلى أوسع قطاعات الرأي العام.

وإذا كنتُ اليوم أقدِّم هذه الصفحات كما كتبتُها في المرة الأولى، دون تغيير في هذا الكتاب، فلا يرجع ذلك إلى شهوة إبراء الذمة أمام التاريخ أو تسجيل المواقف، وإنما لأن تعدُّد المنابر التي سبق أن نشرت فيها لا تتيح للقارئ أن يحصل على الرؤية الكاملة والمنهج الموحد فيها جميعًا. ولأن معظم الدراسات التي أوردتها هنا كُتبَت في الأصل فصولًا طويلة مسلسَلة في حلقات، تساءل الكثير — متفضِّلين ومشكورين — متى تأخذ شكلها الطبيعي في كتاب. لا أستثني من ذلك سوى القسم الثالث الذي يمنح الفرصة لاختبارات الحوار وجدواه، وخلفياته المستترة أحيانًا، ولكن السياق العام هو الذي يربط بين الكلمة الأولى والكلمة الأخيرة في تجانسٍ واضحٍ دون إقحام أو نتوء.

وقد يجد القارئ في هذا الكتاب امتدادًا لبعض مؤلفاتي الأخرى ككتاب «أقنعة الإرهاب: البحث عن علمانية جديدة»، أو امتدادًا أعمق في كتاب «النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث»، أو خاتمة كتابي «دكتاتورية التخلف العربي» أو فصل «اليمين الديني يحمل السلاح» في كتاب «الثورة المضادة في مصر».

قد يرى القارئ هذه الامتدادات كامنة في كل صفحة، وربما في كل سطرٍ من هذا الكتاب لسببَين رئيسيَّين؛ أولهما أن القضية التي أُعالجها في تلك المؤلَّفات السابقة هي قضية مركزية تفكيري، أي قضية النهضة المرادِفة في التطبيق لإقامة المجتمع المدني والدولة الوطنية الحديثة، ومجمل التحديات والانتكاسات التي واجهتها هذه النهضة على مدى قرنين. وأما السبب الثاني فهو وحدة المنهج في أعمالي التي عالجت هذه القضية، بالرغم من كل ما طرأ على هذا المنهج من تجديدٍ لعناصره، بالإضافة والحذف والتعديل. وهي تعديلات أضافتها متغيِّرات العصر في أدوات البحث العلمي، وخاصة في مجال علم اجتماع المعرفة بمتفرعاته في علم الاجتماع الثقافي وعلم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع الديني وغيرها من العلوم الاجتماعية الظافرة بكشوفٍ من المعرفة لم تكن متاحة من قبل. غير أن المنهج في بِنيته الأساسية ظل كما كان دائمًا: إعمال العقل في اكتشاف الظواهر، والربط بينها واستيضاح أقصى ما توفره المعلومات من دلالاتٍ كامنة وامتحان الفروض النظرية في الواقع الحي، وطرح كافة الاحتمالات والبدائل دون يقين معجِز، أو قصدية مسبَقة، والاعتراف المتبادَل بين الخصوصية والتعميم والجدل الذي لا يصادر على المطلوب بين الوعي ومنظومات القيم وبين الفرد والجماعة وبين الجماعة والمجتمع وآليات الإنتاج الاجتماعي.

في هذا الإطار المنهجي تحتل «ثقافة الفعل» حيزًا مرموقًا، فثقافة النظر، بالرغم من أهميتها الفائقة، تتوقف عند الحدود المرسومة أكاديميًّا للافتراض، وإذا تجاوزت الخط الأحمر فإنها بالكاد تصل إلى مرحلة الاقتراح. أما ثقافة الفعل، فهي صاحبة المشروع القادر على تغيير منظومة القِيَم الاجتماعية برفقة الطموح لتغيير النظام الاجتماعي.

وثقافة الفعل في مصر الراهنة متعددة الأطراف والرؤى والفاعلية، ومن فوق السطح يبدو المشهد السلفي المعاصر كما لو كان الطرف الأقوى والرؤية الأفعل. وتبدو أحيانًا بعض الأطراف الأخرى كما لو كانت نقيضًا للسلفية الراديكالية (أو الأصولية أو الإسلام السياسي … إلخ) وتبدو أحيانًا أخرى كما لو كانت مخترَقة، وينعكس ذلك على الثقافة عبر ازدواجية التفكير وتعدد المواقف للمفكر الواحد أو الجماعة الثقافية والسياسية، بما في ذلك أجهزة الدولة التي لا تحكمها استراتيجية واحدة، ولا حتى الجهاز الواحد تحكمه استراتيجية واحدة.

والاستراتيجية الواحدة لا تعني الانفراد بالرأي الواحد أو الشمولية، ولكنها تعني الدولة أو الحزب أو المؤسسة أو الجماعة في ظل افتراض الإجماع على الديمقراطية. إن التوجه العام للتعددية الفكرية والسياسية هو ترسيخ هذه الديمقراطية بما يرسخ آليات المجتمع المدني والدولة الوطنية المُراد تحديثها باتجاه التقدم والنهضة. بينما الذي حدث ويحدث أننا انتقلنا من نظام الحزب الواحد إلى النظام العشوائي، فالمناطق السكانية الموصوفة بالعشوائية ليست أكثر من رمزٍ متواضعٍ لنظامٍ اجتماعي واقتصادي وثقافي كامل. في ظل هذا النظام ليس هناك اختراق من أحدٍ لأحد، وإنما هناك بِنية عشوائية لا تعرف الحدود بين الداخل والخارج، ولا بين داخل وداخل، أو بين خارج وخارج. ومن ثَم فالجميع شركة قابضة على خناق المجتمع دون ضوابط أو قيود على حركة رأس المال الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. ولأنه لا بد من حراسة الكعكة المتعددة مصادر التمويل — النفطي أساسًا — كانت المليشيات الخاصة ظاهرة طبيعية أيًّا كانت اللافتات: فبدءًا من حراسة الراقصة في «كابريه» إلى حراسة الباشا الجديد في شركة، إلى حراسات التهريب والاختلاس والرشوة والمخدرات وتجارة السلاح وسرقة أموال البنوك وأراضي الدولة والإرهاب باسم الدين، هناك مليشيات تُسقِط الحواجز بين الشرعية واللاشرعية، لأنك تستطيع زيارة السجون لتعرف أن هناك عنبرًا للقضاة وآخر لمدراء المصارف وثالثًا لبعض العاملين في أجهزة الشرطة ورابعًا لبعض نواب مجلس الشعب، وخامسًا لبعض رؤساء الأحياء أو المدن، وهكذا تستطيع أيضًا زيارة بعض عواصم العالم لتصافح «كبار القوم» من الذين هربوا بأموالهم أو الذين يهرِّبون الأموال والسلاح والرجال إلى الداخل. ليست هناك دولة داخل الدولة — كما يُطلَق على جماعات الإرهاب — بل عدة دول داخل الدولة الواحدة، وهذا هو النظام العشوائي، شركة واحدة من أطراف متعددة لكلٍّ منها مليشيا مالية وثقافية وعسكرية، فكان لا بد من أن يكون العنف هو الطابع السائد لمثل هذا المجتمع، مجتمع الجريمة الشاذة من قبل الإرهاب وبعده، مجتمع الإدمان، مجتمع الانفجار السكاني، مجتمع ما دون مستوى الفقر.

ليس من اختراقٍ متبادَل، وإنما هي العشوائية الأقرب إلى الغابة؛ ولهذه العشوائية ثقافتها الملونة بمختلف الأزياء: بدءًا من النفط، وانتهاءً بالاستراتيجيات الأجنبية. وهل هناك أكثر عشوائية من أنماط السلوك وأساليب الحياة التي فَرضت على المصريين خليطًا عشوائيًّا من منظومات القِيَم العثمانية والبدوية والأوروبية (في الأزياء وطريقة السير في الشوارع والأسلوب المعماري والطعام والموسيقى والغناء وإعلان التديُّن والحب والزواج والعلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل … إلخ). هذه ثقافة الفعل التي تفتقر إلى تجانس الألوان وهارموني الإيقاعات مهما تعددت، بل هي الفوضى المخيفة التي تشكِّل البِنى الثقافية لمجتمع العنف، حتى لتصبح الثقافة في أحد وجوهها تشبه المليشيات العسكرية وصفقات السمسرة.

وقد لعب النفط والاستراتيجيات الأجنبية بأنواعها الإقليمية والدولية دورًا نشيطًا في إعادة تشكيل المجتمع المصري، وإعادة ترتيب أوراقه الثقافية، حتى يتسق الدور مع إعادة رسم خريطة المنطقة في سياق الصورة الجديدة المُراد تثبيتها لخرائط العالم الموشِك على الولادة بعد الانهيار السوفييتي وحرب الخليج والتفتُّت اليوغسلافي والصومالي واليمني. حالة سيولة دموية عرقية وطائفية وجغرافية وأيديولوجية لم يسبق لها مثيل، كان لنا منها نصيبٌ لأسبابٍ تخصُّنا، وأخرى تخص غيرنا، وهي متغيرات تجرف الثوابت أحيانًا، بدءًا من الأرض والإنسان وانتهاءً بالأفكار والقيم.

في هذه المعمعة الرهيبة بدَت الثوابت الوطنية وكأنها في مهب الرياح والعواصف التي تنذر بالخطر، وأضحت الهُوية الوطنية ذاتها موضعًا للأخذ والرد والضغط على أوتارٍ بالغة الحساسية. كان الظن كل الظن أن بعض الأفكار والقِيَم، وبالرغم من كل الانتكاسات، قد غدت من البديهيات كإقامة الدولة المدنية والمجتمع المدني وحق المواطنة وحقوق الإنسان وبقية الحريات الديمقراطية. ولكنها في السنوات الأخيرة لم تعُد من المسلَّمات التي ينعقد حولها الإجماع أو يُكتَب بها العقد الاجتماعي.

كان لا بد إذن من البحث عن الجذور، وهو الموضوع الذي يتصدَّر هذا الكتاب؛ ففي هذا القسم الأول نستكشف البِنية الأساسية للدولة والمجتمع الذي نعيش فيه منذ كان «فكرة» في خيال الطهطاوي، و«مشروعًا» عند محمد علي. ثم نتوقف في القسم الثاني عند ثلاثة خطابات يضمرها وأحيانًا يعلنها النظام العشوائي المستجَد في زمن السيولة الإقليمية والدولية، زمن النفط وملوك الطوائف، وفي القسم الثالث نتوجه ببعض الخطابات البديلة لبعض الرموز التي تُخفي الوجوه خلف أكثر الأقنعة لمعانًا.

وبالطبع فأصل الأصول هو الاقتصاد الذي يفرز الظاهرة ونقيضها، ولكن الخيوط التي تشتبك وتتشابك منها حِبال المشنقة لهذا الوطن أكثر تعقيدًا وحربائيةً وذكاءً من أن تفسح مكانًا بارزًا للألوان الاقتصادية المغطاة في مهارة فائقة بالألوان السياسية والثقافية والدينية الأكثر بريقًا.

ليكن واضحًا إذن أنه إذا كنا قد عُنينا بالدلالات الثقافية وأنساق القيم ومنظومات المعرفة، فإن ذلك كان وفاءً لمنهجنا الذي تخصَّصنا فيه دون إهدار لأية عناصر منهجية مغايرة يمكنها أن تضيف إلى رؤانا المزيدَ من الكشوف.

غالي شكري
القاهرة ٢٦ /٦/ ١٩٩٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥