مقدمة
يخشى الأستاذ سامي خشبة من تسمية كتابه «مصطلحات فكرية» بالمعجم أو القاموس أو دائرة المعارف الصغيرة، ليس من قبيل التواضع، وإنما لمزيدٍ من الدقة. فهو لا يترجم المصطلح، بل يستحضره وينحته أحيانًا في سياقه المركَّب من ثقافتنا وثقافات غيرنا. وتصل هذه الدقة أحيانًا أخرى إلى درجة الحذف والإضافة والتعديل أثناء النشر للمرة الأولى في «الأهرام»، وخلال الإعداد، وتصحيح تجارب الطبع في كتاب … انطلاقًا من متغيِّرات المعرفة الحثيثة، والتي لا تتوقف حتى بعد أن أصبح هذا الكتاب المهم بين يديك.
هذه الدقة العلمية لا تفرض على صاحبها التواضع الذي يستدرجه إلى وصف نفسه بأنه أحد الهُواة، إلا إذا أدركنا الوصف على وجهه الصحيح … بمعنى أنه من عشَّاق المعرفة المتيَّمين بمجهولها أكثر من معلومها. إنه لم يتعب قليلًا في «تحصيل» المعلوم، ولكنه يشقى كثيرًا في مطاردة المجهول، ولكن هذه المطاردة هي مصدر المتعة التي تدفعه للشعور بأنه من الهُواة، وهو يتابع الآفاق غير المحددة للمعرفة، والتي تتجدد يوميًّا: أفق يتوارى، وآخر يتراءى من بعيد.
ولا تكتمل «متعة» سامي خشبة بهذه المطاردة لآفاق المعرفة إلا بإشراكنا معه في هذه المتعة، أي بإشراك الثقافة القومية للأمة التي ينتمي إليها؛ لذلك لم تكن هذه المطاردة مجرد تحصيل «الجديد» من المعرفة في بلاد غيرنا، أو اكتشاف الجديد من قديم تراثنا، وإنما كانت وجاءت في هذا الكتاب على نحوٍ تركيبي، وليس على نحوٍ كَمي أو تراكمي.
إننا أمام أي مصطلح في «سياق» يتمثَّل أصله وفصله في ثقافة المنقول عنها، جنبًا إلى جنبٍ مع «قراءتنا» نحن له في ثقافتنا المعاصرة. وهذا هو الإبداع، ليس بحاصل جمع أو التوفيق أو التطعيم أو السرد المعلوماتي أو بإعادة الصياغة، وإنما باستكشاف مفهوماتنا للمصطلح كأداةٍ إدراكية وإجرائية للمعرفة، لمعرفتنا وليس أية معرفة أخرى.
وقد ركَّز سامي خشبة على ما يمكن تسميته بعلم الثقافة؛ فقدَّم إطارًا اصطلاحيًّا لمنهج المعرفة الحديثة، أيًّا كانت بذورها القديمة أو جذورها. وهو المنهج الذي يلبي احتياجًا قوميًّا أصيلًا في مختلف تخصُّصات ثقافتنا الممزَّقة بين النقل على اختلاف أنواعه عن ماضينا أو حاضر غيرنا، وهو بذلك الجهد الكبير يقدِّم مساهمة مؤثرة في إعادة ترتيب أوراق العقل العربي المعاصر، وهي أوراق اختلطت بعضها ببعضٍ اختلاطًا شديدًا لأسبابٍ عديدة، من بينها سطوة الأيديولوجيا على حياتنا، التحاق الثقافي بالسياسي في عملنا الفكري، والاضطراب العنيف بين تحيُّزات المصادر الثقافية الوافدة، وأساليب التلقي لتراثنا، واشتباك الأصوات بالأصداء في انعكاسات المتغيرات الاقتصادية والقِيَمية الإقليمية والانقلابات السياسية الدولية.
وليس «المفهوم» في مختلف هذه الأحوال محايدًا، ولكنه في جميع الأحوال أيضًا يرتكز على أسس معرفية دقيقة، فإذا كانت هذه الأسس ذاتها تفتقر إلى الدقة — وليس اليقين — فإنها تغدو من الهشاشة بحيث تصيب المفاهيم بالتشوُّه الخَلقي والإعاقة المكتسَبة معًا.
ومن هنا كانت المهمة الثقيلة التي فرضها سامي خشبة على نفسه فرضًا، وهي إعادة ترتيب أوراق العقل العربي المعاصر. لذلك كانت فكرة إعداد معجم أو قاموس أو دائرة معارف صغيرة أبعد ما تكون عن خاطرة بالمعاني اللغوية الشائعة لهذه المفردات؛ فهو لا يقصد مطلقًا مساعدة الباحث على استقصاء التعريف الاصطلاحي، ولا يقصد أيضًا إشباع الشهوة الذهنية للقارئ غير المتخصص لفهم «رطانة المثقفين». وإنما هو يعمد إلى «السياق المفهومي» بقاعدته المعرفية المتاحة، مستهدِفًا من رسم الملامح — أو صياغة المصطلحات — تعميم صورة للذات وصورة للعالم مضفورتين في جديلة واحدة. فهذا الكتاب «مصطلحات فكرية» ليس مجموعة من المصطلحات المرتَّبة أبجديًّا، وإنما هو لوحة ثقافية لعصرٍ تمنحنا في وقتٍ واحدٍ صورة عقلية عن أنفسنا متشابكة الخطوط والألوان بصورة أخرى عن العالم باعتباره جزءًا منَّا، وباعتبارنا جزءًا منه.
وليست «الثقافة» شيئًا آخر؛ فالصورة العقلية التي نكوِّنها عن أنفسنا والدنيا من حولنا هي ثقافتنا. وهذا الكتاب في مجمله، وبما سيليه بالضرورة من أجزاء، هو اقتراح بتغييرٍ ثقافي شامل لصورتنا عن أنفسنا، وصورتنا للعالم.
ومن هنا فهو عمل يشبه الفكرة التي ألحَّت على ديدرو في إصدار موسوعته مع فوارق عديدة تخص الزمان والمكان والإنسان المخاطَب. كان ديدرو مهمومًا بالانقلاب المعرفي الذي أحدثته كشوف العلم، ومهمومًا بأنساق القِيَم ومنظوماتها التي تعوق «الجماهير» عن التغيير؛ لذلك انصبَّ اهتمامه على العناية القصوى بإشاعة المعرفة الجديدة فيما يُعرَف بالفكر الموسوعي، وانصبَّ هذا الاهتمام أيضًا بتوجيه هذا الفكر نحو «مقدس» جديد يحل مكان المقدسات القديمة. وكان ذلك منسجمًا غاية الانسجام مع أفكار عصر التنوير، ومناخ التغيير الذي أحدثته الثورة الفرنسية.
لا يستهدف سامي خشبة في كتاب «مصطلحات فكرية» أية موسوعية أو إحلالٍ لمقدَّس جديد باسم العلم مكان مقدسات قديمة. وهو يدرك أننا لسنا في «عصر تنوير»، لا على المستوى القومي، ولا على المستوى العالمي؛ فالتنوير الذي شاع صيته، وذاع في السنوات الأخيرة أقرب إلى المعنى اللفظي الدارج. بينما التنوير في أصله الأصيل عصرٌ فلسفي كامل في القرن الثامن عشر الأوروبي لم نعرفه نحن، ولكننا عرفنا «النهضة» بمعنًى يغاير مدلولها في النهضة الأوروبية.
يشترك سامي خشبة مع الفكرة التي ألحَّت على ديدرو في أمرٍ واحدٍ هو إعادة ترتيب العقل، ثم يختلف صاحب «المصطلحات الفكرية» بعد ذلك وبالضرورة في كل شيء. فإعادة ترتيب أوراق العقل العربي في عصرنا قدَّمت له مادة مختلفة، ورؤًى مختلفة ووظيفة مختلفة وغاية مختلفة، هي البحث عن نهضة جديدة، أو البحث عن مدخلٍ جديدٍ للنهضة الممكنة، فتاريخنا ليس استنساخًا لأي تاريخٍ آخر؛ ولكن تأصيل المعرفة هو المنهج القادر على ملء الفجوة بين التخلُّف والتقدُّم، وبين الذات والعالم، وهذه هي الخطوة الأولى في اقتراح أية نهضة جديدة.
وهذا الكتاب هو إحدى المساهمات والمؤشرات البارزة على أن الاقتراح ليس مستحيلًا.
۱
يؤكد الأمرَ بأن هذا الاقتراح ليس مستحيلًا كتابان؛ أولهما عن التراث، والآخر عن العصر. أما الكتاب الأول فعنوانه «هوامش على دفتر التنوير» لجابر عصفور، وهو كتاب إشكالي من جهة وسجالي من جهة أخرى. فهو كتاب إشكالي من حيث القضية التي يعالجها والمنهجية التي يطرحها، وهو أيضًا كتاب سجالي من حيث الخطاب الذي يوجِّهه، فهو خطاب حواري يضمر في الطرف المخاطَب أنه خصم لأطروحة الكاتب سواء أكان خصمًا إيجابيًّا ناطقًا، أو خصمًا سلبيًّا صامتًا.
وقد حرص جابر عصفور أن يؤرخ للفصول التي نُشرَت أولًا في الصحف والمجلات قبل أن يضمَّها بين دفتَي هذا الكتاب، مما يزيدنا تأكيدًا بأنها كانت حصاد معركة فكرية معلَنة، بل إنها معركة تميَّزت بالصوت العالي داخل المجتمع الذي نعيش فيه، وصل ارتفاع صوتها أحيانًا إلى مرحلة أزيز الرصاص وانفجار القنابل والديناميت. وبالتالي فهي لم تكن معركةً فكرية محض، بل هي معركة سياسية اجتماعية تستقطب أوسع قطاعات الوطن. وهو القطاع المتعدد مستويات المعرفة والثقافة والتعليم. ولعل القطاع الأكثر اتساعًا، ولا يملك أحيانًا المستوى الأدنى من المعرفة، هو الذي اقتصرت آذانه على سماع الانفجارات وصراخ الدماء. وربما كان القطاع الأوسط الذي يعرف الأبجدية، ويتابع وسائل الإعلام هو الذي كان يتابع الفتاوى والتحليلات الصحفية السريعة، ويستمع إلى التليفزيون وميكروفونات نجوم العصر من المشايخ الأجلاء الذين انقسموا في ساحة الفعل الدموي بين مؤيدين ومعارضين، بالرغم من وحدة إطارهم المرجعي.
وكان هناك دائمًا هذه النخبة من المثقفين التي تجرد المسائل المطروحة في عناوين يتجاهلها غالبًا المستويان السابقان لما تنطوي عليه من ترفٍ في استخدام المصطلحات وتركيب المفردات والتعبيرات، كالأصالة والمعاصرة والتراث والتجديد والقديم والحديث، وغير ذلك من أدبيات حافلة بالرموز الفكرية ومُثقَلة بالمعارف المتنوعة. ومعروف أن مَن يحمل هذه الخلفية الثقافية يرى نفسه ويراه الناس من أهل الصفوة المحظوظة بالمعرفة «الرفيعة» أو العالية المستوى، وهؤلاء لا يختلفون عن غيرهم في المقدمات والنتائج، وهم أيضًا كغيرهم ينتمون إلى عقائد سياسية وفكرية متباينة.
وإلى هؤلاء يوجِّه جابر عصفور خطابه في كتاب «هوامش على دفتر التنوير»؛ لذلك كان عليه أن يرتِّب معجم الخطاب حسب المعجم المعرفي لخط المواجهة: التراث، الأصالة، القديم، الوهم، التخييل، العلم، العصر، التقدم، وغيرها من مفردات ومصطلحات معبَّأة بالمعرفة القديمة والحديثة.
ومنذ البداية يفرق الكاتب تفريقًا بدهيًّا بين المقدس والتأويل؛ فالتراث من حيث هو نسق تاريخي، جهد بشري لا ينسحب عليه التقديس، ولا يندرج في باب المقدس. ولأنه كذلك فهو قيمة تاريخية، وليس قيمة معيارية مطلَقة. وهو تجربة إنسانية تحتمل الصواب والخطأ في حدود الزمان والمكان، وليست إدراكًا مُطلقًا من قيود الزمان والمكان؛ ومن ثَم فتراثنا كتراث غيرنا من الأمم حقيقة نسبية في سياق التاريخ، ولكن هذه النسبية تتحوَّل في أوقات الأزمات إلى أطروحة «مطلَقة» يحوطها التقديس. ومن ثَم تستحيل الحقيقة وهمًا، أو جذرًا لأوهامٍ متعددة تعدُّد العصور والأزمات والقوى المستفيدة من إسقاط التراث على العصر.
والانتقائية من أدوات جميع المدارس الفكرية في بلادنا، تقدُّمية كانت أو رجعية؛ فاختيار واقعة أو قيمة أو رمز بشري من التراث والقياس عليه أو البناء فوقه هو أحد الأوهام التي يتورط فيها المفكرون العرب على اختلاف مناهجهم؛ لأن التراث «حمَّال أوجه» يمكن أن يستشهد به التقدُّمي والرجعي على السواء ما دام الانتقاء هو أداة الرؤية، أو العين التي تبصر. والتراث من هذه الزاوية أيضًا موظف في بلاط الدولة، قومية كانت أو دينية، مدنية كانت أو أوتوقراطية، عصرية كانت أو ثيوقراطية.
وَهْم آخر لا يقل خطورة هو أنه كلما ابتعد التراث في دائرة الزمان، أي كلما ازداد قِدمًا فهو أكثر مدعاةً للتقديس، وأكثر نقاءً وأكثر مثالية، وكلما أوغلنا في الماضي كان العصر الذهبي لذلك الماضي القديم أكثر بريقًا وأكرم عنصرًا، ويصبح القرب أو البعد عن هذا الماضي — والاستشهاد به أو القياس عليه — قيمة معيارية مطلقة. هكذا يتحوَّل الزمن إلى دائرة مغلقة تبدأ فيه «الأنا» مسيرتها من أقدم نقطة، أو ما يمكن اعتباره مجازًا بالنقطة الأولى، فتظل تدور حول نفسها دون أدنى احتمال لاختراق محيط الدائرة، وبعبارة أخرى دون أدنى احتمال للتقدم بل احتمالات عديدة للتخلف بإغراءات العودة إلى الاقتراب من العصر الذهبي.
ولأن دائرة الزمن مغلقة حول النقطة الأقدم، فإن الأنا — الوطنية أو القومية — ترى نفسها البداية والنهاية، ويغدو الانكفاء على الذات ورفض الآخر، خارج الدائرة، نوعًا من الأصالة، واليقين بأن كل ما هو خارج شرٌّ وتلوث وغزو وخطر محدق.
وكم وددت لو أن جابر عصفور طبَّق هذه الرؤية النقدية للمتحفين بالتراث على واقع تاريخي محدد يمدُّه بالفرضية التالية: ما دامت الأنا تحاصر نفسها بهذه الدائرة الوهمية للزمن المغلق، فإنها لن تتوقف عند الحدود الثقافية لرفض الآخر، بل سترى نفسها صاحبة حق طبيعي في غزوه والسيطرة عليه لأنها الأفضل والأعظم والأصوب، فهي الأحق بالعالم كله بأسره؛ هذا هو شرطها الوحيد لتوسيع الدائرة. أما الاقتناع بتعدد الدوائر في هذا العالم أو في هذه الأمة، أي داخلها أو خارجها على السواء، فهو ينفي صورتها الإطلاقية عن ذاتها المحاصَرة بإرادتها في الدائرة المغلقة.
هذا ما حدث للإمبراطورية أو الخلافة العثمانية فهي — وليس الغرب — التي قطعت ما بيننا وبين تراثنا العلمي في العصر الوسيط خلال ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. وكان الغرب — وليس هذه الخلافة — هو الذي وصل بين منجزات الحضارة الإسلامية والنهضة الأوروبية دون اكتفاء لأوروبا بذاتها أو انكفاء على نفسها. واكتفى العرب والمسلمون المحدَثون باجترار عظمة الماضي، وتكرار أن الغرب أخذ عنا. والغربيون لا ينكرون، بل يعلنون دومًا أنهم أخذوا عن أجدادنا وأجداد اليونان وأجداد الصين، وكل الأجداد الذين أبدعوا شيئًا ما لشعوبهم وللإنسانية. ولكن الغرب أبدع هو الآخر، وأضاف إلى ما أخذه عن الآخرين، أما التراثيون العرب من المعاصرين فهم يرَون كل ما يبدعه الآخرون «مسخَّرًا لنا» أو أنه في الأصل مأخوذ عنا. ويضرب جابر عصفور مثلًا جميلًا من ابن المعتز وطه حسين، بالرغم من طول الشُّقة بينهما، فالأول سيقول عن تجديدات بشَّار وأبي نواس وأبي تمام إنها قد ملأت أشعارهم فانتسبت إليهم دون أن يكونوا هم على وجه التحديد أصحاب الفضل فيها، والآخر سيقول إن أبا العلاء سبق كافكا وغيره من أصحاب مذهب العبث واللاجدوى؛ لأن اللزوميات حافلة بما جاء في «القضية» أو «القصر» باستثناء التفاصيل. وسيقول آخرون غير طه حسين إن الجرجاني سبق دي سوسير ورولان بارت، وهكذا، فنحن الأصل وغيرنا الصورة، نحن الصوت وغيرنا الصدى؛ وما دام الأمر كذلك فالعودة إلى الأصل أكرم من اللجوء الحضاري إلى الغير، أو السماح بالغزو الثقافي من جانب الآخرين.
أما أن تكون الحضارة الإنسانية وحدة واحدة ذات روافد متنوعة ودورات تاريخية متقدمة خارج الدوائر المغلقة فهذا ما لا يخطر على بال المتخلفين من العنصريين الذين يسلط جابر عصفور في كتابه المهم بعض الأضواء على كلامهم المستتر تحت راية التراث.
٢
ربما تنبع أهمية هذا الكتاب من «المنهج»، وربما كان ما يثير اللَّبس هو كلمة «التنوير». منهج الكتاب هو المنهج التاريخي، ليس بمعنى التراكم، وإنما بمعنى الإطار المرجعي الذي يضمن لأية ظاهرة خصوصيتها وعموميتها، ويكفل للدارس أدوات البحث العقلانية لنشأتها وتطورها في سياقٍ محدد. ويكفل أيضًا فتح الأبواب أمام الاحتمالات والوعود المخبوءة في طيات المستقبل، باعتبار أن الزمن قادر على تقديم ما يدعم الظاهرة أو يعدلها أو حتى يلغي قوامها المعرفي بما قد يُستجَد من وثائق لم تكن متوافرة من قبل، وباعتبار أن هذا المستقبل سوف يطرح من أدوات المعرفة وأساليب التدقيق والفحص والقياس ما قد يغيِّر قليلًا أو كثيرًا من المعرفة السابقة.
لذلك كان المنهج التاريخي في أكثر أشكاله تركيبًا وحداثةً هو العدسة البصيرة القادرة على رؤية الظواهر في أكثر تجلياتها تعقيدًا وغموضًا.
ومن هنا كان جابر عصفور حريصًا على استخدام ما يمكن تسميته بكاسحة الأوهام في حرث الأرض التي اختارها مجالًا للدراسة؛ وهي العلاقة بيننا وبين التراث. واكتشف المؤلف أن الأوهام كثيرًا ما تفوق البحث العلمي في هذه العلاقة، وأن أحد أخطر هذه الأوهام رؤية تعويضية، أي أننا في مراحل الضعف والعجز نستشعر حاجتنا إلى الماضي، نستنجد به ليؤازرنا في مواجهة الحاضر. ومعنى ذلك أن هذا الماضي هو الأقوى والأكثر إشراقًا، والأقدر على إسعافنا في مُلمَّات الحاضر ومصائبه. وقد تتوقف الرؤية التعويضية للتراث عند حدود «العزاء» بما كان عليه الماضي من أمجادٍ، وما أصبح عليه الحاضر من ضعف. وقد يتجاوز المعاصرون حدود التغني بأمجاد الماضي والتماس العزاء من أهوال الحاضر إلى حدود اليقين بأنه يمكن استعادة ذلك الماضي أو العودة إليه سواء في صياغة المدن الفاضلة شعرًا أو نثرًا، أي حلمًا وخيالًا، أو في هدم المدن المرذولة — بلادنا الراهنة — بالقوة الإرهابية المسلحة.
أي أن العنصر المنهجي الذي لازم جابر عصفور في هذا الكتاب هو طرد الأوهام من رؤى المعاصرين، وتنقية التاريخ من الإسقاطات المعاصرة. ومعنى ذلك مواجهة الأفكار المسبَقة التي ترى في التاريخ ما ليس فيه، ومقاومة «الانتقائية» التي تجعل الفرقاء المتصارعين في الحاضر يبحثون في هذا الجانب أو ذاك من التراث عن نصيرٍ لهم في معاركهم هنا والآن. والغايتان مرتبطتان بالذات الفردية أو الجماعية التي لا ترى في التراث إلا ما «ترغب» في رؤيته، ولا تستنجد من التراث عند احتدام الشدائد إلا ما تراه كفيلًا بنُصرتها على غيرها، والتراث التاريخي لا علاقة له بالرغبات الذاتية، فرديةً كانت أو جماعية، لأن الزمن يُبقي عليه «موضوعًا» مستقلًّا عن الأماني، قابلًا للبحث والدراسة في سياقه، وليس «نموذجًا» للقياس أو الاستلهام، وكان باستطاعة جابر عصفور أن يضيف أمرين إلى هذا المنهج العقلاني:
أولهما أن الدراسة الموضوعية للتراث البعيدة عن إسقاط الحاضر أو الانتقاء من الماضي من شأنها استنارة المعاصرين بقوانين التطور المضمرة في حركة التراث والتاريخ. وهي القوانين التي تفسر وقائعه ورموزه وضعفه وقوته وظُلماته وإشراقاته. والأمر الثاني هو أن حركة التراث كبقية حركات الكائنات الحية تعرف التطور من الولادة إلى الموت؛ ومن ثَم فهناك أجزاء من التراث قد ماتت، يمكن دراستها والفوز بمعرفة آليات موتها، ويستحيل في الوقت نفسه إحياؤها، وهناك أجزاء حية من التراث لا تحتاج هي الأخرى إلى إحياء، بل إلى «معرفة» آليات استمرارها إلى اليوم، في منظومات القيم وأنماط السلوك وأنساق التفكير بمستوياته المتعددة. وليست «حياة» هذه الأجزاء الحية دليلًا على أنها تستحق الحياة، وإنما يمكن القول إن سلبياتها تمكَّنت من اختراق الأزمنة، وقاومت بِنيات التقدم حتى استطاعت البقاء في عصرنا. أما الأجزاء الأخرى القليلة والثمينة في وقت واحد، وقد تواءمت مع آليات التقدم، بل ساهمت في صنعه فهي التي يمكن أن تشكِّل بعض عناصر الهُوية أو البصمة الوطنية والقومية التي تشكِّل الملامح الخاصة بوجهنا بين وجوه الحضارة الإنسانية.
أقول «بعض» عناصر الهُوية، لأن المقصود بالتراث في كتاب جابر عصفور هو التراث العربي الإسلامي باعتباره الراية التي ترفعها بعض الفِرق السياسية في الحياة العربية المعاصرة، ولكن الحقيقة التاريخية لأهل المنطقة تفرض مفهومًا زمنيًّا للتراث يسبق الفتوحات الإسلامية؛ ومن ثَم فالهُوية القومية والحضارية للمنطقة لا تكتمل فحسب بالأجزاء الحيَّة القليلة والثمينة من التراث الإسلامي وحده، بل لا بد من الإقرار بأن التراثات القديمة في مصر والمشرق والمغرب ما زالت بعض أجزائها تتمتع بالحياة، والتفاعل بينها وبين بقية العناصر العربية والإسلامية هو الذي يصوغ — على سبيل المثال — الوطنية المصرية والعروبة دون تناقض. بل لعل هذا التفاعل هو الذي يجيب عن أسئلة حائرة حول الهُوية المركزية والهويات الثقافية الفرعية، وحول المواطنة، وحول الواحدية والتعددية؛ هذه كلها وغيرها أسئلة مهمة وضرورية، ومناقشة التراث كأنه تراث مرحلة واحدة في التاريخ الطويل الممتد لا يفيد في محاولة الإجابة عنها. كذلك انحصار «تراث المرحلة الواحدة» في الدين، وتأويلات النصوص من الفقه إلى علم الكلام إلى البلاغة يُفقر «الهُوية» ويختزلها في الإيماني والمقدس والمطلقات، بينما الهُوية كبصمة ثقافية وحضارية تضم هذه المعاني وتتجاوزها إلى ما هو نسبي وبشري ومتغير … خاصة إذا ترتبت على «الهُوية» علاقات المواطنة المحلية أو علاقات المواطنة الإنسانية على ظهر هذا الكوكب.
على أية حال «كاسحة الأوهام» التي استخدمها جابر عصفور في منهجه التاريخي بكفاءة عالية تؤدي دورًا سياسيًّا واضحًا في رؤية ما تنطوي عليه أوراق الإسلام السياسي من خلطٍ واضطراب فادحَين، وأحيانًا فاضحَين. والنواقص المُشار إليها يمكن استكمالها بالمنهج ذاته، فهناك أصوات سياسية أخرى تلتحف بمرحلة واحدة من التراث تستنجد برموزها وأمجادها وتتعامل معها بالإسقاط والانتقاء، وتزدهر في أوقات الأزمات كالشعار الفينيقي في حرب لبنان، والشعار الفرعوني مع بداية عصر الانفتاح في مصر، والشعار البربري في أزمة الجزائر. وكأن الهويات الفرعية يمكن أن تحل مكان الهُوية المركزية، وبالمقابل كأن العنصر الديني يمكن أن يستحوذ على مقومات الهُوية الوطنية والقومية والحضارية.
ولا يقتصر منهج جابر عصفور على مناقشة الأوهام النظرية، بل يطوف بنا في أرجاء النشأة الأولى للدولة الحديثة في مصر، كمختبرٍ سياسي أو تشريعي لقيام المجتمع المدني. وهي الدولة والمجتمع اللذان واجها قضية التراث بما سُمِّي التحديث أو التجديد أو المعاصرة. وكم كنت أود لو أن جابر عصفور قام بمناقشة مصطلح «التنوير» الشائع في الوقت الحاضر حتى أصبح يدل على معناه اللغوي المباشر، وهو أبعد ما يكون عن «التنوير» بمعناه الاصطلاحي الذي لا ينطبق من قريبٍ أو من بعيدٍ على ما جرى في مصر أو غيرها منذ أوائل القرن التاسع عشر. وخطورة المصطلح كما يعرف جابر عصفور تمامًا، إنه يتحوَّل في السياق إلى قيمة معيارية، بالقرب منه أو البعد عنه. لذلك فضَّلت دائمًا استخدام مصطلح «النهضة» بالرغم من أنه لا علاقة لهذا المصطلح بالنهضة الأوروبية، غير أن تاريخنا ليس صورة منسوخة عن النمط الأوروبي.
وهذه هي نقطة البداية في رؤية العورات والثغرات التي عرفتها نهضتنا حتى آلت بين الانتصارات القليلة والانكسارات المتتالية إلى مرحلة «السقوط» التي لا يشفع التنوير لمواجهتها.
۳
لو أننا قارنَّا بين نصوص عصر النهضة التي عرض جابر عصفور جانبًا منها في كتابه ونصوص الجيل الراهن من أحفاد الرواد الأوائل، لفازت النصوص الأخيرة كمًّا وكيفًا. ليس لأن الجيل الراهن أكثر ذكاءً أو عبقرية من سابقَيه، بل لأن المعرفة وأدوات التحليل ازدادت غِنى بالتراكم، وأيضًا بالكشوف التي لم تكن معروفة من قبل، في مختلف مجالات العلم الطبيعي والاجتماعي والثقافي عامة.
ولكن المفارقة أن الأجيال الرائدة وجدت أرضًا ومناخًا صالحًا لغرس البذور ونمائها، بالرغم من أن هذا الغرس والنماء كان أشبه بالعمليات الجراحية الصعبة؛ فلم يكن تأسيس جامعة أو صحيفة أو مدرسة للبنات أو مطبعة أو حزب أو برلمان من الأمور الهيِّنة. كانت هذه الأمور وغيرها انقلابًا ثقافيًّا بقدر ما هي انقلاب اجتماعي، فقد غيَّرت في موازين القِيَم ومعايير الأخلاق والقوام الاجتماعي تغييرات عميقة أشبه بالصدمات لعلاقاتٍ اجتماعية راسخة منذ أزمانٍ تستظل أنساقها ومنظوماتها بمظلة شبه مقدسة من العادات والتقاليد «المقدسة» الواقية من احتمالات أو انفجارات التغيير.
ومع ذلك فقد وقع التغيير في السلوك الاجتماعي العام وآليات التفكير على السواء بفاعلية تلك البذور التي غرسها رواد النهضة وتعهَّدوها بالسقيا حتى أضحت، وهي بالغة البساطة والهشاشة أحيانًا، بديلًا شاملًا لما كان يتسم به المجتمع القديم من علامات الضعف.
ومعنى ذلك — أكرر — أن البذور الأولى للنهضة، بالرغم من كل هشاشتها وبدائيتها في بعض الجوانب، قد تمكَّنت، بدءًا من إنشاء أول خط حديدي إلى كتابة أول رواية أو مسرحية أو قصة قصيرة، من إجراء جراحة عاجلة وخطيرة في جسد اجتماعي معتلٍّ، وفي جسم دولة متخلفة، وأحيانًا محتلة بسلطة أجنبية.
أما في زماننا، والمعرفة قد اغتنت كمًّا وكيفًا، ولم يعُد لدينا أفراد نهضويون بل فِرق ومراكز بحثٍ مجهَّزة بأحداث منجزات العلم الحديث، فإننا نشهد جراحة عكسية في الجسد الاجتماعي والعقل الاجتماعي والخيال الاجتماعي، يكاد يصل بنا إلى ما قبل نقطة الصفر التي بدأ منها الرواد، وانتشرت منها النهضة.
وهذا ما يدعوه جابر عصفور بالانتقال من التنوير إلى الظلام أو محنة التنوير، وهو نفسه ما يتبلور في سؤال البعض: لماذا نعيد تقديم فكر طه حسين وعلي عبد الرازق وفرح أنطون ومحمد عبده وكأن الأسئلة القديمة ما زالت مطروحة، وكأن الأجوبة القديمة ما زالت ضرورية، وكأن الزمن لا يتحرك؟ أم أن هناك انقطاعًا بين النخبة المزدهرة بمعرفتها ومكانتها، وبين بقية القوام الاجتماعي الرازخ تحت أثقال الفقر والتخلف؟ أم أن وباء «اللامبالاة» قد اكتسح المجتمع بأسره؛ فلم تعُد تؤثر فيه الكلمة أو الفكرة حتى أصاب النخبة ذاتها الإحباط فآثرت، والمجتمع معها، الاستسلام لقدرٍ مجهولٍ أو معلوم يطحن العقل طحنًا؟
لا يطرح جابر عصفور هذه التساؤلات طرحًا مباشرًا، ولكننا نستطيع استخلاصها من جملة المفارقات والمواجهات والأمثلة التي يضربها فتدلنا على «المأزق» الذي نكابد أهواله، كيف اختفت «السماحة» من الحياة المصرية، وكيف توارى «التعقل» بكل ما يعنيه التساؤل عن اختفاء نسبية الحقيقة واختفاء الإيمان بتعدد زوايا النظر إلى «الحقيقة» الواحدة، واختفاء الاقتناع بحق الاختلاف، وغير ذلك من اختفاءات كان حضورها شائعًا في زمن «النهضة».
لم يهتم جابر عصفور بالنظر في النصوص وحدها، بل في الوقائع التي اشتملت عليها أيضًا، ولفرط تحديقه في التفاصيل وإقامة التناظرات بينها، واستبيان المفارقات التي احتوت عليها؛ فقد أبصر الشجرة ولم يرَ الغابة. ولكنه يعرف مكان الغابة وزمانها فيقول: «وبحث الجميع عن صِيغ توفيقية تصالح بين الأطراف المتعادية، وتجاوِر بين العناصر المتعارضة في سلامٍ يسمح بالحركة داخل نموذج الإصلاح السائد.» (ص ٣٠٦) والمؤلف يدرك جيدًا عاقبة هذه التوفيقية التي كانت سلاحًا ذا حدَّين (…) أكدت التراث العقلاني، وأحيت حضوره، وردَّت إليه الاعتبار، وجعلت من مبادئه تبريرًا لحضور الدول المدنية الحديثة (…)، ومن ناحية أخرى كانت تنطوي على الآلية المرجعية لكل عودة إلى الماضي لتبرير الحاضر-المستقبل به. فجعلت الحاضر-المستقبل صورة أخرى من الماضي، «صورة مؤوَّلة بالطبع، غير أنها صورة من هذا الماضي في النهاية.» (ص۳۰۷).
هذه الأسطر القليلة التي جاءت في سياق تطور الشيخ هي الإطار العام للغاية زمانًا ومكانًا، ولا تخص شيخًا بالذات، أو شيوخ النهضة في مجموعهم، وإنما تخص النهضة بأكملها من حيث الجوهر (التوفيق بين التراث والعصر). هذه التوفيقية كمنهجٍ هي لب لُباب النهضة المصرية والعربية الحديثة في مختلف تجلياتها النظرية والعملية، وهي سر الأسرار في انتصاراتها وانكساراتها، وخاصة انكساراتها، إنها بذرة النهضة والسقوط معًا، وخاصة السقوط، فهي التي تراءت على هيئة «الجامع المانع» أو «الوسط الذهبي» وهي أيضًا التي لم تصمد بوجه المعرفة والواقع على السواء، حين تعرضت لاختباراتٍ عسيرة، أصبحت المعادلة التوفيقية مع الزمن جرثومة السقوط في جسم النهضة التي كان من الممكن لجهاز المناعة أن يدفع عنها غائلة الموت في لحظات المد الوطني (كإحراز خطوة الاستقلال أو الديمقراطية أو العدل الاجتماعي)، ولكن هذا الجهاز كان من الهشاشة بحيث لا يستطيع أن يرد عنها غوائل الدهر المميتة، فكانت المعادلة الذهبية تنكسر طوال مراحل السقوط في براثن الدكتاتورية واحتلال الأرض والظلم الاجتماعي الفادح.
ولم يكن «كل شيء» يعود إلى نقطة الصفر كلما وقع السقوط، وإنما كان قِصر مراحل النهضة وطول مراحل السقوط يلعب دوره في التفاعل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، حتى وصلنا إلى ما يدعوه جابر عصفور بالإظلام أو محنة التنوير؛ وهي محنة النهضة مع المعادلة التوفيقية التي آلت دورتها إلى انتهاء.
٤
وفي الخاتمة لا بد من أن نكرر سؤال جابر عصفور، بل أسئلته: كيف حدث ما حدث؟ وإلى أين نتجه؟ وهل من مخرج لهذا المأزق؟
والكتاب بأكمله قد صِيغ مادةً ومنهجًا على هيئة سؤال، وهي سِمة العقل النقدي الأولى. وسواء انتميت إلى محاولة الجواب التي اجتهد الكاتب في تقديمها أو لم تفعل، فإنك قد ربحت في الحالَين زاوية النظر الجديدة، بما تطرحه من جهة نقدية للسؤال القديم، ومعرفة مغايرة بالسؤال الجديد.
لذلك أقول في اجتهادٍ مختلفٍ إن عدم وصول نهضتنا إلى «التنوير» — على ما هو شائع في استخدامات هذا المصطلح — هو البنية المعوِّقة للفكر العربي الحديث. وهي البنية التي حاول طه حسين المساس بها فرُدَّ على أعقابه حتى إن أحفاده — نصر أبو زيد — لم يستطع البدء من النقطة التي انتهى إليها طه حسين، أو النقطة التي بدأ منها. ومع ذلك قامت القيامة، وأصبح غاية المنى أن نفرق بين المقدس وتأويله حتى يمكن الانطلاق إلى نقد الفكر الديني، والمقصود هو التراث الفقهي القديم والمعاصر.
والمسألة برمتها لا تخص نصر أبو زيد أو جابر عصفور أو حسين أمين أو سعيد العشماوي أو خليل عبد الكريم أو سيد القمني، فمنذ ثلاثين عامًا حاول صادق جلال العظم في كتابه «نقد الفكر الديني» أن يقارب النتائج التي انتهى إليها طه حسين في أضيق نطاق، ولكنه هو الآخر رُدَّ على أعقابه من لبنان — منارة الليبرالية القديمة — بالزجر العنيف.
وتبقى محاولات شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى للانتقال بالنهضة إلى محطة التنوير، وباعتبارهم من غير المسلمين، فقد ظل تأثيرهم الحقيقي هامشيًّا في مجتمع إسلامي، وبقيت الشكوك تحيطهم إلى اليوم. وبقيت أيضًا المعوقات البنيوية التي تحُول دون النهضة والتنوير، وهي المعوقات التي أفرزت ما يشبه القانون؛ لا مجال للسكون والتوقف، فإذا لم تستقدم النهضة تخلَّفت، إنه قانون الحركة. وعندما تقتصر مراحل النهضة، وتستطيل مراحل السقوط، فإن ذلك يعني أن جرثومة «التوفيق بين التراث والعصر» قد كبرت وتضخمت وتمكَّنت — بطول التراكم السلبي — من الجسم بأكمله، حتى أصبح السقوط عنوان مرحلة كاملة على أنقاض النهضة التي كانت ولم تستطع، بأنها كانت المعادلة التوفيقية الرثة، الوصول إلى التنوير.
ولم تكن الإشكالية في يوم من الأيام خارج سياق التاريخ، لم تكن قصورًا في التفكير عند المفكرين، أو غياب الشجاعة من القلوب. وإنما أقبلت معادلة التوفيق بين التراث والعصر من صميم احتياجات المجتمعات الأكثر تقدمًا في العالم العربي، والتي كانت ترزخ طول القرن الماضي بين حَجرَي الرحى؛ الهيمنة العثمانية والاستعمار الغربي الحديث (فرنسا تحديدًا)، سواء في حملة قصيرة العمر كحملة بونابرت أو كاستعمارٍ استيطاني كما في حالة الجزائر. وكان كبار مُلاك الأراضي في مصر وتونس وسوريا ولبنان والعراق، هم أنفسهم الذين يتحوَّلون إلى التجارة في ظل نظام عالمي يفرض شروطه على هذه التجارة. ولكن التحول الجزئي أو الكلي عن الأرض إلى التبادل السلعي والمالي، خلق احتياجات لم تكن واردة من قبل، هي ما ندعوه بتحديث أسواق المستعمرات وأشباه المستعمرات. هكذا بدأ التحديث من أسفل، من البنية الأساسية للمجتمع بمد الخطوط الحديدية والبحرية، وإقامة المؤسسات اللازمة للمعاملات الداخلية والخارجية، وشق الطرق الجديدة التي توحِّد البلاد، واستيراد الآلات والماكينات القادرة على التفاعل مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة، وإعادة تأسيس شبكات الري، ونشر التعليم المهني أساسًا، وترجمة المصطلحات الوافدة، والترجمة عامة للتعبير عن المتغيرات الاجتماعية المتلاحقة. كذلك الأبنية المعمارية والهندسية التي تستجيب لهذه المتغيرات في هياكل الإنتاج والاستهلاك والتمويل والمحاسبات، وبرفقة البنية الأساسية للمجتمعات الزراعية-التجارية-الصناعية الوليدة، كان لا بد من بنية فوقية تحميها وتديرها، بسن التشريعات والقوانين والسياسات التي كان من شأنها تخليق ثقافة جديدة في مجال القيم والعلاقات الاجتماعية.
هنا كان يمكن أن يقع الصدام بين الواقع والوقائع، أما الواقع فكانت تحكمه منظومة من القيم العثمانية المختلطة بالعادات والتقاليد والعقائد الوافدة من أغوار سحيقة في الشرائح الاجتماعية التي تبرجزت تجاريًّا، والثروة الوطنية هي المصدر الداخلي للوقائع، وكانت رءوس الأموال والماكينات هي المصدر الخارجي، وكانت السوق نقطة اللقاء بين الوقائع الداخلية والخارجية.
وهي نقطة لقاء مغايرة كليًّا لما جرى في أوروبا؛ حيث نشأت البرجوازية في مواجهة الإقطاع على المستويات كافة؛ بكشوفها وفتوحاتها العلمية اخترعت وسائلها التكنولوجية لتغيير أدوات الإنتاج والقيم الاجتماعية والعقائد الدينية والسياسية، ولكنها أمور لم تقع في بلادنا، بسبب القطيعة الحضارية التي أحدثتها الهيمنة العثمانية لعدة قرون مع عصر الازدهار للحضارة الإسلامية. أي أن الانقطاع لم يكن بيننا وبين الغرب، وإنما كان بيننا وبين تراثنا بالذات، وهو التراث الذي أفاد الغرب في نهضته فتقدم، ولأننا لم نتصل به اتصالًا عضويًّا في الوقت المناسب تخلَّفنا. التواصل والتراكم هو الذي كان يكفل لنا التقدم، أما الانقطاع القهري في ظل الهيمنة العثمانية فقد أوقعنا أسرى التخلف عن العالم بعد أن كنا جزءًا طليعيًّا في تحركه نحو التقدم. ولأن الزمن لا يعرف الفراغ، فقد سبقنا الغرب بنهضته إلى التنوير، ثم إلى ثوراته التكنولوجية والاجتماعية والسياسية المتلاحقة. وكان من المستحيل أن نكون صدًى للصوت الغربي أو صورة من الأصل؛ فالزمان لا يتناسخ. لذلك اختلف مسار الدولة القومية الحديثة في الغرب عن مسار الدولة المدنية الحديثة في بلادنا؛ حيث صادفنا المأزق عند المنعطف. وانهمك شيوخ النهضة العظام في الافتاء بأن «ما ينفعنا» من الغرب «لا يتعارض» مع تراثنا وديننا وقيمنا، ولا حرج علينا من استيراده. وكان لا بد من أن يكون رموز النهضة الكبار من الأزهر؛ لأن الأصل في قبول أو رفض الحضارة الوافدة، هو الموروث، إنه الميزان والقيمة المعيارية. لذلك كان حسن العطار والطهطاوي ومحمد عبده من رجال الأزهر الذين وضعوا الأساس القيمي لمعادلة التوفيق بين التراث والعصر. وكان التراث في أدبياتهم ومواقعهم حاصل جمع المقدس والتأويل، وكان ذلك هو نفسه التراث عند عامة الشعب مضافًا إليه جملة القيم والتقاليد والأعراف والعادات المترسبة عبر العصور. أما «العصر» — وهو ما يعني الزمان — فقد كان لديهم ولدى غيرهم هو المكان، أوروبا، ولكن هذا المعنى في التداول، كان لدى النخبة المدنية خصوصًا، هو إقامة الدولة الحديثة والمجتمع المدني وأساسهما الليبرالي بدءًا من الإقرار بحرية العقل، وحرية الفكر والتعبير، وانتهاءً بحق المواطنة. أما بالنسبة للقوام الاجتماعي الرجراج بسبب النشأة الممسوخة للبرجوازية شبه التجارية شبه الصناعية، المولودة أصلًا من الزواج القمعي بين كبار المُلاك والاحتكارات الأجنبية، فقد كان العصر هو التكنولوجيا.
في مراحل المد الوطني ازدهرت معادلة التوفيق النهضوية، وعلا فيها صوت النخبة الهاتِف لحرية العقل والمجتمع المدني، وتحديث الدولة دون أن يخفت صوت التجار والصنَّاع الهاتِف للتكنولوجيا. وفي مراحل الأزمات يحدث العكس، فيرتفع صوت التكنولوجيا على حساب حرية العقل والمجتمع المدني والدولة الحديثة، ولكن في الحالَين كان التراث هناك في أحد تجلياته التي أوضحها جابر عصفور.
ولكن المسكوت عنه في «هوامش على دفتر التنوير» أننا وصلنا الآن إلى مرحلة «لا صوت يعلو على صوت التكنولوجيا» بمعنى الاستيراد والتصدير بطبيعة الحال وليس الإنتاج. بهذا المعنى فهي ليست فقط تكنولوجيا الاستهلاك، وإنما هي أولًا وَهم التكنولوجيا. والسبب في ذلك المنطق التجاري الكامن في النشأة المتجددة لشرائح الاستيراد والتصدير. ولأن ذلك يتم على حساب الوجه الآخر للعملة، وهو حرية العقل والدولة الحديثة والمجتمع المدني، فإن «التراث» يبقى إشكالية مستعصية على الحل. وهي الإشكالية التي قام جابر عصفور بتفكيكها وإعادة بنائها كسياقٍ تاريخي لا يقبل الإسقاط أو الانتقائية، الاستلهام أو التعويض.
لقد تمكَّنت أخيرًا جرثومة التوفيق من إسقاط النهضة، ومن ثَم انفرد بالتراث أكثر التجار بيعًا له في مزاد الانفتاح السعيد. وبانفراط طرفَي المعادلة التوفيقية لم تعد هناك نهضة جديدة ممكنة بغير استبدال التركيب بالتوفيق الذي كان.
ويبدأ التركيب بالإقرار بوحدة الحضارة الإنسانية، وأننا جزء من هذه الحضارة، ولسنا في مواجهتها، وأن خصوصيتنا تكمن في أسلوب التفاعل مع جوهر هذه الحضارة.
٥
يكاد يكون كتاب «مدخل إلى التنوير» (١٩٩٤م) الوجه الآخر لكتاب «هوامش على دفتر التنوير» فإذا كان جابر عصفور قد عالج إشكالية التراث، فإن مراد وهبة في كتابه الجديد يعالج إشكالية العصر. ومن ثَم نكون قد حصلنا على تصوُّرٍ ما لعناصر وأصول معادلة «التوفيق» بين التراث والعصر التي حكمت حياتنا المادية والمعنوية قرابة قرن ونصف صعودًا وهبوطًا، إلى أن آلت إلى انتهاء وبانتصار السقوط «على النهضة» التي كانت.
وقد أدركنا أن مفهوم «العصر» كان يعني لدى النخبة وبالتدقيق أحد قطاعاتها حرية الفكر والتعبير، وكانت تعني لدى عامة الناس التكنولوجيا. وكان مفهوم التكنولوجيا محصورًا في «الآلة» من حيث وظائفها المحددة دون ماهيتها الفكرية. وهو الأمر الذي يتيح لنا استهلاكها — وربما ترميمها إن انسدَّت — دون إنتاجها. ولكنه أولًا وأخيرًا الأمر الذي ييسر للمنطق التجاري — بالاستيراد والتصدير — على مجتمع الاستهلاك من ناحية، ومن ناحية أخرى يوفِّر علينا مشقة «المعرفة». أي أنه يوفر احتمالات الصدام بين «الآلة» التي نحتاج إليها، و«العقل» الذي نُوهِم أنفسنا بانصراف الحاجة إليه. ومن ثَم فقد كانت حرية العقل لدى النخبة هي حريته في استنباط التسويغ الشرعي لاستخدام التكنولوجيا واستهلاكها، حتى علي عبد الرازق حين أراد أن يكرس مبادئ الدولة المدنية والحكم المدني كانت الأسانيد النصية المقدسة هي وسيلته. وحين كان محمد عمارة غارقًا في التراث الوطني للنهضة المصرية، قبل أن ينقلب على نفسه إلى صفوف الإسلام السياسي، لم يفعل أكثر من أنه ازداد غرفًا لهذه الأسانيد من عيون التراث. أما الإمام محمد عبده فهو الرمز الأكبر لأطروحة النهضة الأساسية سواء في تفسيره أو فتاويه، فهو يؤوِّل النص بما يشفع «للمدينة» أن تكون بمنأى عن الحرام. ورفاعة الطهطاوي نفسه كان الأب الشرعي للانتقائية، ونصحنا باتخاذها بوصلة للاختيار عن الغرب بما لا يتعارض أو يتناقض مع الشرع أو الأعراف العامة. وقد كتب أحد أساتذته إلى محمد علي بما يعني أن الطهطاوي يعتقد في بعض الخرافات، ولكننا حين نعلم أن الكثير من المؤلفات الفرنسية التي نقلها بنفسه إلى العربية أو أشرف على ترجمتها، أو طلب من تلاميذه أن يقوموا بنقلها هي كتب في التكنولوجيا (الطب والهندسة والجغرافيا) نفهم مغزى التكنولوجيا باعتبارها الآلة — المعجزة أو الشيطانة — التي يمكنها إنجاز ما لا تستطيعه سواعد الرجال في وقت أقصر ودقة أكبر. ولكنها ليست في جميع الأحوال فكرًا قد يصطدم بأعمال العقل مع الأصول الشرعية. وكان علينا أن ننتظر أكثر من قرن ونصف القرن حتى يجيء الشيخ الشعراوي فيحل الإشكالية من جذورها بقوله إن منجزات العلم الحديث «مسخَّرة لنا»، وهو قول من أقوى الأدلة على انفراط معادلة التوفيق بين التراث وما سُمِّي بالعصر، والمقصود هو التكنولوجيا المختزلة في الآلات والماكينات وكل وسائل الرفاهية لمجتمعٍ استهلاكي يزداد — بالرغم من بريق المظاهر التكنولوجية الصاخبة — فقرًا وتخلفًا.
وبانفراط معادلة التوفيق انفرد التراث، بأشكاله وتجلياته التي أوضحها جابر عصفور، بالساحة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقد أضيفت إليه، وباسمه، مخلفات عصور الانحطاط من جهالات وخرافات وشعوذات.
لذلك يأتي كتاب «مدخل إلى التنوير» للدكتور مراد وهبة في زمانه ومكانه، فهو يستكمل معالجة التراث بمعالجة «العصر». وهو كأي مفكرٍ أصيل يكتفي بطرح السؤال؛ أي عصر ممن يتكون؟ كيف يتبادل التأثير والتأثر؟ ماذا يُقبل منه التخصيص؟ وماذا يقبل التعميم؟ ماذا يبقى منه؟ وماذا يتلاشى؟ إلى بقية المكونات والسؤال: ما هو العصر؟
ويختلف السؤال، بطبيعة الحال، حسب هُوية صاحبه وهُوية المخاطَب، فالسؤال بحد ذاته خطاب.
وقد يجوز لنا أن نضع له إطارًا كأداة إجرائية غايتها الإيضاح، وقد نعمد إلى تفكيكه بقصد التحليل، خاصة وأن مراد وهبة يبدو كما لو كان محايدًا، وبالتالي يظهر السؤال بريئًا.
ولكن الأمر ليس على هذا النحو من البساطة، فقد عرفنا على مدى هذا القرن مونتسيكو وفولتير وديدرو وكانت وغيرهم من قادة التنوير الأوروبي، ولم نعرف مع ذلك عصر التنوير. هل لأن هؤلاء التنويريين الذين عرفناهم — ترجمةً أو عرضًا — بأقلام محمد حسين هيكل وشبلي شميل وإسماعيل مظهر وطه حسين وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى وفرح أنطون كانوا من الأوروبيين، ثقافتهم في القرن الثامن عشر، وكذلك مجتمعاتهم وتاريخهم يختلف عن تاريخنا وثقافتنا ومجتمعنا؟ وبالتالي، فقد كان مصدر الخطاب مختلفًا من حيث إنه مخاطب مغاير؟
أم أن هناك تنويرًا أوروبيًّا وآخر عربيًّا تختلف مسيرته عن مسيرة الأول، ومن ثَم فإن ما رفدنا به رواد النهضة من قشور التنوير كان بمعزلٍ عن المجرى الرئيسي لحياتنا من حيث قاع المجرى وصلابة التربة واتساعه وطوله؟
وهل كان من الممكن لمعادلة التوفيق بين التراث والعصر ألا تكون، وأن يحل مكانها التركيب الذي قد يفضي إلى التنوير بفارق قرن بين الثامن عشر الأوروبي والتاسع عشر العربي؟
من هذه الأسئلة الثلاثة سوف نصوغ إطارًا لقراءة مراد وهبة الذي لا يتصدَّى للجواب عنها، ولكنه مهما بلغ من الحيادية ومن التحدد في دائرة عصر التنوير لا يملك رفاهية الفكاك منها، بل أزعم أن هذه الأسئلة، خارج النص المكتوب، تشكِّل الخلفية المركزية للسؤال الكبير المطروح.
ومن حيث الإطار الذي نقترحه للقراءة، فإن الجواب الخاص بالأسئلة الثلاثة هو أن الحضارة الإسلامية الإنسانية — والثقافة ضمنًا — هي واحدة تتكوَّن وتتركب من أصولٍ متعددة. وما ندعوه منذ النهضة الأوروبية إلى الوقت الراهن بالحضارة الغربية ليس أكثر من الحضارة الإنسانية الحديثة وقد اتخذت مركزها في إحدى المراحل لأسبابٍ عديدة في الغرب، وهي ليست غربية إلا بقدر ما أضاف الغرب إلى الأصول والفروع التي صبَّت في نهضته.
ونحن في المنطقة العربية المعروفة الآن قد أضفنا مرتين حاسمتين إلى بنيان الحضارة الإنسانية: من مصر القديمة وبابل وفينيقيا في المرة الأولى، ومن ذروة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في المرة الثانية. ولم نكن سعاة بريد بين اليونان القديمة والنهضة الأوروبية، بل كنا وما زلنا شركاء أصليين في بناء الحضارة الحديثة بما أخذته وتمثَّلته من الأجزاء الحية من عطائنا الحضاري السابق. لذلك فالعلاقة الحضارية الصحية والصحيحة لا تكمن في الأخذ والعطاء بمعنى الاستيراد والتصدير، وإنما برؤية أنفسنا والعالم كشركاء أصليين في مصير الحضارة الواحدة التي تجمعنا على اختلاف خصوصياتنا، إنتاجًا واستهلاكًا.
٦
لا سبيل لنسخ التاريخ باستحضاره أو باستباقه، هذه هي الإشكالية الأولى المضمَرة في كتاب مراد وهبة، سواء في القسم الأوروبي الذي يتكلم عن عصر التنوير في القرن الثامن عشر، أو في القسم العربي الذي يتكلم عن القرن الذي يليه. هذه الإشكالية تضم القول إننا لم نكن نستطيع أن نستأنف مسيرتنا الحضارية من النقطة التي انتهت إليها ذروة الحضارة العربية الإسلامية، أو النقطة التي يبدأ منها التقدُّم الغربي.
لم تستطع فتوحات الإمبراطورية العثمانية أن تكون ردًّا حضاريًّا على الخروج التاريخي من الأندلس، واكتسب هذا الخروج تاريخية بخط سيره المتراجع حتى الخروج من فلسطين. ومعنى ذلك أن سقوط الأندلس قد «انتصر» على الفتوحات العثمانية، لأن وجهها العسكري المحض كان قد تخلى عن الوجه الحضاري للفتوحات الإسلامية الأولى. وهكذا بدأت هذه الفتوحات نفسها في التراجع حتى أصبحت تركيا «رجل أوروبا المريض» إلى أن سقطت الخلافة العثمانية في الربع الأول من هذا القرن.
وكما أن سقوط الأندلس كان هو ذاته بداية اليقظة الأوروبية الهائلة باكتشاف الأرض الجديدة (القارة الأمريكية)، فإن التراجع العثماني قد صاحب هو الآخر عصر النهضة الأوروبية. هذا هو «المفصل» الذي يجب أن نمسك به، لأن هذا التراجع وذاك السقوط كان تجسيدًا للانفصال عن ذروة الازدهار الذي حققته الحضارة الإسلامية خلال عقودها الأربعة الأولى. وهي الذروة التي جعل منها الأوروبيون أحد مصادر نهضتهم. ولكن العودة إليها من جانبنا في القرن الماضي كان ضربًا من المستحيل. إن ابن الهيثم والخوارزمي وابن سينا وابن رشد، وغيرهم من علماء وفلاسفة المسلمين قد تم استيعابهم في علوم الأوروبيين وفلسفاتهم حتى تجاوزوا في المعرفة العلمية وتطبيقاتها الأصول الإسلامية واليونانية وغيرها من جذور عصر النهضة.
ولم نستطع أن نكون جزءًا من ذلك العصر بالرغم من جذورنا، لأن العصر العثماني الطويل الأمد، قطع بيننا وبينها حتى أوقف العمل في بِنية الدولة والمجتمع بالمحركات الثلاثة لازدهار الحضارة الإسلامية: الحوار (بإغلاق باب الاجتهاد)، والمنظور التاريخي (بالانكفاء على الذات باعتبارها الألف والياء مصونة لا تُمَس) والعقلانية (بالحق الإلهي في السلطة، أو سريان الاستحواذ على الحقيقة الواحدة المطلَقة). ولتوقُّف العمل بالمحركات القديمة زمنًا طويلًا فإن ازدهار الحضارة الإسلامية لم يأفل فحسب، بل حلَّت مكانه منظومات القيم العثمانية التي أودت بدولة الخلافة، ودفعت بالشعوب التي كانت في ظلِّها إلى إسار التخلُّف ومضاعفاته.
كتاب مراد وهبة «مدخل إلى التنوير» يرسم لنا بدقة وعمقٍ خريطة هذه المضاعفات. وهو يرسمها بطريقة المغايَرة وأسلوب النقائض؛ أي أنه يقول لنا ماذا حدث في أوروبا خلال القرن الثامن عشر — عصر التنوير — ونحن ندرك سلفًا على أي حال كنا في هذا الوقت، وربما ما زلنا إلى اليوم. يقول لنا أولًا إن التنوير سواء كانت له جذور عند اليونان القدماء أو عند الإنجليز بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، فإنه في خاتمة المَطاف هو سليل عصر النهضة والابن العبقري للقرن الثامن عشر، والأب الشرعي للثورة الفرنسية، والجد الأكبر للحداثة المعاصرة وثروتها العلمية التكنولوجية. ولنا أن نفهم من ذلك أن أوروبا — ثم أمريكا — قد واصلت «التراكم الحضاري» فليست هناك فجوات تاريخية ممتدة بين مرحلة وأخرى، وإنما هناك تواصل نوعي قد تتخلله عثرات كمية وجزئية، ولكن المسيرة سرعان ما تستمر تصحِّح نفسها بنفسها.
يقول لنا مراد وهبة أيضًا إن التنوير كان يخضع لنظرية الأواني المستطرقة، بشرط تجانس الأواني، إذا كان من الممكن للديمقراطية الإنجليزية أن تسبق الثورة الفرنسية، وكان من الممكن للرياضيات أن تسابِق الفلسفة، وأن يسبق بيكون وجاليليو وديكارت، وأن يؤثِّر لوك ونيوتن في الجميع. ولكن الحال أن أوروبا كانت قاعدة الأواني المستطرقة، ومَن هُم خارجها كانوا خارج هذه القاعدة وأوانيها لانعدام إنتاجهم الحضاري في ذلك الوقت، الإنتاج القادر على العطاء الذي يستحق صاحبه نصيبًا في التوزيع.
ولكن مراد وهبة لا يجعل من تلك اللحظة التاريخية قدرًا مقدورًا؛ فأمريكا حين تقبل شروط الأواني المستطرقة وتقدِّم عطاءها، فإنها تفوز بعضوية الحضارة الجديدة، والأمر نفسه ينطبق على اليابان والصين وبعض أقطار أمريكا اللاتينية. وبذلك تصبح الحضارة عالمية، ولا يعود مركزها الوحيد أوروبا. ويغدو المعنى الحقيقي للتبعية هو انعدام القدرة على الإنتاج، وإعلاء شأن الاستهلاك (بالمعنى الحضاري الشامل).
ولعله من أهم العناصر المنهجية في تفكير مراد وهبة ربطه العميق بين الظواهر الاجتماعية والاقتصادية؛ فيفرِّق بين الرأسمالية المنتِجة (ويسميها المستنيرة) وبين الرأسمالية الطُّفيلية (وأدعوها بالنظام العشوائي) التي تخاصم الاستنارة من حيث المبدأ. وتطبيقًا لهذه الرؤية البصيرة فإننا نقول إن الرأسماليات الممسوخة في العالم الثالث، وقد كانت ولادتها في بلادنا ثمرة الزواج القهري بين كبار المُلاك والاحتكارات الأجنبية عبر «التجارة» هي التي وصلت بنا في خاتمة المَطاف إلى محطة الانفتاح العشوائي، الخصم العنيد للإنتاج والنهضة على السواء، والرحم الخصب لكتائب القتال ضد أي تنوير.
لم يكن التنوير في أوروبا القرن الثامن عشر تيارًا واحدًا، ولم يكن التنوير فارس الساحة الفكرية الوحيد، ولم يكن تيارًا فلسفيًّا وفنيًّا فقط أو علميًّا فقط، ولم يكن سياقًا منسجمًا من خطوط مستقيمة أو دائرية. وإنما كان عصرًا كاملًا مليئًا بالتناقضات والاختلافات العميقة. كان فولتير الذي رصد عمره لتحطيم المؤسسة الدينية رجلًا مؤمنًا يقول «حين أرى لوالب الجسم الإنساني أستنتج أن موجودًا عاقلًا رتَّب هذه الأعضاء، وأن العينين أُعطيتا للرؤية واليدين للقبض … إلخ» (ص۳۸). وكان دولباك رجلًا ماديًّا هاجم المسيحية في كتابَين هما «مذهب الطبيعة» (۱۷۷۰م) و«الحسن المشترك» (۱۷۷۲م)، ويقول «ليس في الكون سوى مادة متحركة بذاتها، وأن كل شيء يُفسَّر بالمادة والحركة، وهما أزليتان أبديتان خاضعتان لقوانين ضرورية هي خصائصهما، فليس العالم متروكًا للصدفة، ولا مُدبَّرًا بإله، ولا غائية في الطبيعة؛ ليست العين مصنوعة للرؤية ولا القدم للمشي، ولكن الرؤية والمشي نتيجتان لاجتماع أجزاء المادة» (ص٥٦).
وكثيرون من قادة التنوير هم من أمثال فولتير، وغيرهم من أمثال دولباك، وغيرهم بين مَن يؤمنون بالله ولا يعتقدون في الأديان، ولا يرَون رابطة ملزِمة بين الاثنين. ولكن الجميع يشتركون في مبدأٍ واحد؛ هو سلطان العقل ونسبية المعرفة؛ فالعقل ناقدٌ لذاته، وليس من حقائق مطلَقة. لذلك كان التنويريون هم أصحاب الفلسفة النقدية بامتياز، وهم أصحاب المنهج العلمي بتحرز؛ ذلك أن «العلم» يتطور، وكذلك المنهج العلمي.
وقد يظن البعض أن التنوير كان مجرد معركة فكرية وذهنية مجردة، ولكن كتاب مراد وهبة يقول بغير ذلك؛ فقد كان مفهوم الأصالة عند الناس هو احتياجاتهم الحقيقية وواقعهم اليومي (وليس التراث). وكانت المعاصرة هي كشوف العلم في مختلف المجالات، وترجمة هذه الكشوف إلى وسائل إنتاج جديدة. ثم تحتاج هذه الوسائل إلى نظمٍ اقتصادية وسياسية جديدة تصوغ علاقات الإنتاج الجديدة؛ فيكتب مونتسكيو «روح القوانين»، ويكتب جان روسو «العقد الاجتماعي»، ويحرر ديدرو ويشرف على تحرير «الأنسكلوبيديا». مئات المطارق تدق أعناق الأنظمة الدكتاتورية اللاهوتية من رموز الأباطرة والبابوات أي بين السلطتَين الزمنية والدينية، وتحتاج العلاقات الاجتماعية الجديدة إلى منظوماتٍ مغايرة من القِيَم؛ فتصبح الليبرالية والعلمانية والعقلانية هي المنظومات الجديدة التي تعبِّر عن نفسها في التعليم والرواية والقصة والشعر، وحين تستحيل قيم التنوير دمًا يسري في الشرايين تدق الثورة الفرنسية أبواب التاريخ.
ولا سبيل لنسخ التاريخ، سواء بوصل ما انقطع بيننا وبين الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها، أو بتعويض غيابنا عن الأواني المستطرقة لتنوير عصرٍ لم يتوقف أصحابه عن التقدم، وهذه هي الإشكالية التي يعالجها مراد وهبة في القسم الثاني من «مدخل إلى التنوير».
۷
لم نكن لنستطيع أن نصل بين مقدمات القرن التاسع عشر العربي ونهايات ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، ونغفل عدة قرون لم يعِشها العالَم في «فراغ». وليس من حقنا أن نفترض أن الحضارة الإسلامية فضلًا عما سبقها من حضارات المنطقة قد ماتت وانتهى الأمر، فأجزاؤها الحيَّة قد استُوعبت في سياقٍ آخر ومكانٍ مختلف هو الغرب. ولم نكن في الوقت نفسه لنستطيع أن نصل بيننا وبين الحضارة في الغرب، ونتجاهل الفجوة التي وقعت لنا بالهيمنة العثمانية.
وعلى النقيض من الأدبيات الفكرية الرائجة، يطرح مراد وهبة في كل صفحة تقريبًا من كتابة المهم أكثرَ من سؤال، بينما أغلب تلك الأدبيات يتسم بالقدرة المذهلة على تقديم الأجوبة، ولا يكتفي مراد وهبة بذلك، فهو يتحلَّى بدرجة عالية من الأمانة إذا حاول الجواب الذي قد يكون لغيره فضلٌ كبير أو صغير في بلورة عناصره أو إضاءتها.
وقد قلنا إن الإشكالية المضمَرة في كتاب «مدخل إلى التنوير» أننا لا نستطيع أن نستأنف النهضة، فضلًا عن التنوير، من النقطة التي انتهت إليها الحضارة الإسلامية، أو النقطة التي بدأ منها التقدم الغربي. ولا يقدم مراد وهبة حلًّا لهذه الإشكالية، ولكنه يُجيب بمزيدٍ من الأسئلة. ويقود كتيبته من الأسئلة على محورَين: الأول هو الموقف الأوروبي من ابن رشد بين مقدمات عصر النهضة الأوروبية، والثاني هو موقف الروَّاد المصريين والعرب والكبار من الفكر الأوروبي في بدايات النهضة العربية الحديثة. وقد نلاحظ على الجبهتين قدرًا هائلًا من التسامح أحب أن أدعوه بالرغبة الحقيقية في الحوار، مما يجب أن نفهمه على أن هناك اقتناعًا مشتركًا بين المتحاورين بأن طرفًا واحدًا لا يملك الحقيقة، أو على الأقل أن هناك استعدادًا لدى جميع الأطراف لمعرفة «الجديد» في وجهة النظر المقابلة.
أما المحور الأول الذي يمكن وصفه بجبهة ابن رشد، فإن مراد وهبة يصوغها على النحو التالي: إن فردريك الثاني الذي تميَّز بمحاولة الحدِّ من سلطان رجال الدين والنبلاء ودعم الطبقة المتوسطة الجديدة (المُسماة بالطبقة الثالثة) وجد مَن يشير عليه بسلاحٍ فكري يقاوم البابوية، ويبرر العلمانية، هو ترجمة مؤلفات ابن رشد «لأن فلسفته تستجيب لمناهضة الثيوقراطية كنظامٍ اجتماعي تسانده الكنيسة «الرومانية».» وعندما شاع تأويل ابن رشد لأرسطو وُصفَت الرشدية في قلب باريس (كلية الفنون) بأنها «أكمل مظهرٍ للعقل.» غير أن سيجر دي برابان (١٢٣٥–۱۲۸۲م) — أشهر الرشديين حينذاك — تعرض لاضطرابٍ عنيفٍ في محكمة التفتيش حين أصر على القول «إن فلسفة أرسطو — كما شرحها ابن رشد — تمثِّل حكم العقل الطبيعي.» ثم تعرضت الرشدية لهجومٍ كبيرٍ من جانب الكنيسة والإكليروس حتى وصلت الإشارة من البابا إسكندر الرابع إلى القديس ألبرت الأكبر عام ١٢٥٦م فأصدر كتابًا عنوانه «وفي وحدة العقل». وهو العنوان نفسه الذي اتخذه توما الأكويني لكتابه «وحدة العقل ضد الرشديين» عام (١٢٦٥م). والمقصود من الكتابَين مهاجمة النظرية الرشدية القائلة بالتمييز بين اللاهوت والفلسفة، أو بين العقل والدين. وسرعان ما أصدر أسقف باريس اتيني تيمبه عام ١٢٧٧م قائمة تضمَّنت ثلاث عشرة قضية تخص الرشديين هَرِم تعليمها. وكان من بين هذه القضايا «قولهم — أي الرشديين — بحقيقتين مختلفتين فلسفية ودينية وصادقتين معًا.» وكانت هذه النظرية التي دفعت بريمون لول (١٢٣٥–١٣١٥م) إلى إصدار مؤلفاته العديدة في المنطق للرد على الرشدية والرشديين. وكان كتابه الأشهر «الفن الأكبر» هو الأكثر دفاعًا عن وحدة العقل والدين. وظل حتى بدايات القرن الرابع عشر (۱۳۱۰–۱۳۱۲م) ينتقد تفرقة ابن رشد بين الحقيقتين اللاهوتية والفلسفية. وفي عام ۱۳۱۱م كان قد تقدَّم بثلاث عرائض إلى كليمان الخامس، يطالب فيها بإزالة مؤلفات ابن رشد، وتحذير أي مسيحي من قراءتها. وكان ابن رشد قد عرض نظريته في الحقيقة المزدوَجة ضمن كتابه «فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» حيث قال بالتأويل إذا وقف ظاهر النص حائلًا دون القبول العقلي. والتأويل عند ابن رشد يختلف عن المفهوم التقليدي للتأويل أو التفسير أو الاجتهاد، فتأويله هو «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية.»
ويتابع مراد وهبة تأثير ابن رشد في الفكر والحياة إبان عصر النهضة الأوروبية، فيقول «إن حركة الرشديين التي بلورت مفهومه في التأويل قد أسهمت في ولادة أمرَين مدهشين هما: الهرمنيوطيقا والتنوير.» وبالرغم من شيوع الفكرة الهرمسية عند اليونان باعتبار هرمس هو المنوط بتأويل «كلام الإله» لليونانيين القدماء، حتى إن أرسطو كتب «عن الهرمنيوطيقا» وموضوعه البنية النحوية التي تربط بين الموضوع والمحمول في الكلام الإنساني «من أجل الكشف عن خصائص الأشياء»، بَيْد أن الهرمنيوطيقا لم تصبح علمًا إلا في عصرَي النهضة والإصلاح الديني «لمواجهة السلطة الكنسية التي تزعم أن لها وحدها الحق في فهم وتأويل النصوص المقدسة» (ص۱۳۹). وكان من أثر ذلك أن أعلن ماثيوس فلاسيوس إيليريكوس مبدأ القائل «إذا كان الكتاب المقدس لم يُفهم تمامًا؛ فهذا لا يعني أن تفرض الكنيسة تأويلًا برانيًّا من أجل أن تجعله مقبولًا» (نفس الصفحة). وهكذا أفضت نشأة الهرمنيوطيقا إلى الكشف عن مدى أصالة النص عبر مناهج فليولوجية نقدية. أما فلاسفة التنوير فقد حصروا الهرمنيوطيقا في مجال المنطق، وحيث إن الهرمنيوطيقا تدخل في علاقة عضوية مع نفي الدوجماطيقية (الوثوقية، اليقينية، الإطلاقية) فإنها تنفي تبعًا لذلك الوهم بامتلاك الحقيقة المطلَقة. وهو الأمر الذي يلتقي تمامًا مع مفهوم التأويل عند ابن رشد. ومن هنا كان انشغال كريستيان فولف أحد عظماء التنوير بالهرمنيوطيقا في الكشف عن مدى أصالة النص — دينيًّا كان أو تاريخيًّا — فأصدر «المنطق» الذي تضمَّن فصلًا في تأويل الكتاب المقدس.
هذا هو المحور الأول الذي يمكن وصفه بالرشدية في أوروبا، ولو أن مراد وهبة قد تابع أيضًا تأثير الخلدونية (نسبة إلى ابن خلدون) لقلنا إن الشواهد لا تعوزنا في مجال العلوم الإنسانية على قدرة الأجزاء الحية من تراثنا وطاقتها الخلاقة حين تندمج في حركة فكرية تنشد التقدُّم للعقل والمجتمع على السواء. وهو الأمر الذي لم يُتَح لابن رشد أن يفعله في مجتمعه وسياق حضارته، لأن التكفير لاحقه، والنفي طارده، والنيران أحرقت مؤلفاته. أما الآخرون من الأوروبيين فقد حاوروه بالاتفاق والمخالفة والرفض والقبول والتردد بين هذا وذاك، وكانوا هم الذين نقلوه إلى لغاتهم، كما كنا نحن أيضًا نترجم عن الآخرين في عصر الازدهار العظيم، وقد التقى بعضهم مع فكره لدرجة الانتساب إليه والالتصاق باسمه، واختلف معه البعض الآخر، ولكنه كان قد أصبح «خميرة عكننة» ضد سلطان الكهنوت تمهيدًا لسلطان العلم في عصر التنوير.
والدرس الأول من الرشدية في أوروبا هو أن الحضارة ليست دائرة مغلقة تبدأ الألف عند أصحابها وتنتهي بالياء، فهم في حالة اكتفاء ذاتي صامد لمتغيرات الزمن. وهذه هي العاهة التي تعكس انحطاط الأمم أو تخلفها؛ توهُّم الكمال النهائي والامتلاء المطلَق الذي يفيض على الآخرين، ولا يحتاج من خارجه إلى أي آخرين.
حين قيل لفردريك الثاني إن مؤلفات ابن رشد تصلح سلاحًا ماضيًا ضد الثيوقراطية لم يسأل: وما ديانة ابن رشد، أو ما جنسه ولونه، وإنما قرر ترجمتها على الفور. حتى الذين حاوروه من رجال اللاهوت، وتناقضوا مع أفكاره لم يبحثوا عن إسلامه أو عروبته ولم يمسوا دينه أو أصله بسوءٍ، وإنما كان الاحتكام إلى العقل والمنطق منهجهم في الحوار.
أما في بلادنا التي تحتاج من الفكر إلى غيرها، فقد نظروا إلى ابن رشد وقد اقترن باسم أرسطو باعتباره من الزنادقة. لذلك أمكن للرشدية في الغرب أن تسهم في تأسيس العلمانية، وأن تمهد للتنوير، وأن تبلور الهرمنيوطيقا انطلاقًا من مفهوم «الحقيقة المزدوجة» التي يدعوها مراد وهبة بمفارقة ابن رشد، وانتهاءً بمفهوم التأويل الذي يرى في النص ظاهرًا حرفيًّا وباطنًا مجازيًّا، رمزيًّا. وهي الأفكار التي نشطت في إقامة الجسور بين عصر النهضة وعصر التنوير. أما عندنا، فلا تكفينا الذكرى المأسوية لابن رشد من القرن الثالث عشر، لأن ذكراه تجددت على نحوٍ يفضح حدود نهضتنا الحديثة عند أوائل هذا القرن، وهي الحدود التي انتهت بهذه النهضة إلى السقوط عند نهايات القرن نفسه.
۸
إذا كنا لم نربح معركة ابن رشد في بلادنا باسم الاكتفاء الذاتي، وربحه غيرنا في معركة العلمانية والتنوير في بلادهم — بالرغم من المفارقة؛ أن الرجل ينتمي إلينا، ونحن ننتمي إليه — فإننا خسرنا كذلك معركة النهضة حتى حين كنا ننفتح ونتحاور مع الآخرين. وهذا هو المحور الثاني كان الذي ابن رشد أحد أطرافه غير المباشرين، وكان الكاتب الروسي ليو تولستوي طرفًا مباشرًا، وكان الطرف صاحب المبادرة وهو الأستاذ الإمام محمد عبده. وقبل أن يترجم مراد وهبة رسالة تولستوي إلى محمد عبده لم نكن نعرف عن محتواها شيئًا. وإنما كنا نسمع أن ثمة مراسلاتٍ بين محمد عبده والكاتب الروسي، ولم نقرأ فعلًا سوى رسالة محمد عبده في كتاب عثمان أمين — رسالته للدكتوراه — وبقي رد تولستوي مجهولًا حتى عثر عليه مراد وهبة في متحف تولستوي في موسكو، وبادر إلى ترجمته وتصوير الأصل.
وقد يرتاح الأكاديميون وثائقيًّا إلى هذا النبأ، ولكن مراد وهبة لا يكتفي بالراحة الأكاديمية، فتحليل رسالة محمد عبده يعني شيئًا، ونشرها في أطروحة عثمان أمين دون الحاشية المثبَتة في النص الأصلي يعني شيئًا آخر، وقراءة تولستوي تعني شيئًا ثالث، وعدم رد الأستاذ الإمام على أسئلة تولستوي يعني شيئًا رابعًا. وهي الأشياء التي يدقق فيها مراد وهبة، ويمعن النظر، ويستخلص النتائج المغايرة لصدى سماعنا، مجرد السماع، بأنه «كانت» هناك مراسلات بين محمد عبده وتولستوي.
ولكن مراد وهبة الذي لا يكتفي بالكشف عن النص الأصلي للرسالتين المتبادلتَين بين الشيخ المصري والكاتب الروسي بل يمهِّد لاكتشاف الوثائق بكشف الرؤى، فيقول «إن المجتمعات التقليدية في العالَم الثالث مجتمعات متفككة. وليس ثمة مبرر للنواح أو التجاهل فهذا واقعٌ وحادثٌ، وليس في الإمكان العودة إلى الوراء، فليس أمامنا سوى السير إلى الأفضل، أو إلى الأسوأ. وفي هذه الحالة ليس أمامنا سوى سؤال واحد على النحو التالي: هل يمكن السير إلى الأفضل؟ (ص۱۰۳) في هذا السياق تغدو العلمانية «روح الحداثة» (ص١٠٥)»، ويكاد هذا التعريف أن يقتصر عند مراد وهبة على النموذج الاشتراكي ما دام الاغتراب الرأسمالي لا يحقق العدالة الاجتماعية. وهنا نختلف مع الكاتب الكبير، لا لأن النموذج المتحقِّق من الاشتراكية في الماضي القريب قد انهار، بل لأن العلمانية بحد ذاتها ليست صيغة شرطية لنظامٍ محددٍ. بل وهناك عدة تجليات للعلمانية كالديمقراطية والاشتراكية نفسها، لا تلتزم بنظامٍ اقتصادي أو اجتماعي؛ فالعلمانية التركية تختلف عن العلمانية النازية أو العلمانية الستالينية، والأنواع الثلاثة تختلف بدورها عن العلمانية في النظم الليبرالية، غربيةً كانت أو شرقيةً، كما هو الحال في الهند. ذلك أن العلمانية ليست نظامًا بل إحدى الآليات الديمقراطية، فهي ملازِمة للديمقراطية والليبرالية أيضًا. وهاتان الخصيصتان تعرفهما الرأسماليات المنتِجة المتقدمة، وقد تعرفهما في المستقبل غير المنظور نماذج اشتراكية لم نعرفها بعد، لذلك فإن العلمانية إحدى آليات أي نظام ديمقراطي ليبرالي، وليست بالتالي «روح الحداثة»، وإنما بالضرورة إحدى آلياتها. وفي هذا الإطار فإنني أجد في الإمام محمد عبده الرمز الأكبر لأطروحة النهضة ومعادلتها التوفيقية بين التراث والعصر؛ فالرجل — وليس الطهطاوي — كان يمثِّل «الشريعة» التي تجسِّد مفهوم التراث، والتي كان عليها أن تقبل أو ترفض «العصر»، وكان أقصى ما توصَّل إليه محمد عبده أنه ليس في الإسلام «سلطة دينية» كتلك التي عرفها الآخرون (يقصد الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى). وهو يخاطب تولستوي بالحكيم الجليل الذي أدرك «أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم، ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعبًا ترتاح به نفسه، وسعيًا يبقى ويرقى به جنسه.» (ص١٩٠) ثم يقول لتولستوي «كما كانت آراؤك ضياءً يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إمامًا يقتدي به المسترشدون، وكما كان وجودك توبيخًا من الله للأغنياء، كان مدادًا من عنايته للضعفاء الفقراء. وإن أرفع مجدٍ بلغته، وأكبر جزاء نِلته على متاعبك في النصح والإرشاد، هو هذا الذي سمَّاه الغافلون بالحرمان والإبعاد، فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك في أقوالهم، كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم.» (ص۱۱۰) وقد اختتم محمد عبده رسالته إلى تولستوي قائلًا: «إذا تفضَّل الحكيم بالجواب فليكن باللغة الفرنسوية، فإني لا أعرف من اللغات الأوروبية سواها.» وكانت الرسالة مؤرَّخة في ٨ أبريل ١٩٠٤م — وكان أحد المستشرقين من أصدقاء تولستوي كوكوريل — هو الذي حمل إليه الرسالة. وقد أجاب عنها تولستوي في ۱۲ مايو من العام نفسه قائلًا: إن رسالة الشيخ الإمام قد «أتاحت له الاتصال برجلٍ مستنير، رغم اختلاف العقائد التي تكثر، ولكن ليس هناك سوى دين واحد هو دين الحق آمل ألا أكون قد أخطأت إذا افترضت أن الدين الذي أومن به هو دينك الذي يرتكز على الاعتراف بالله وشريعته في حب الغير، وأن نتمنى للغير ما نتمناه لأنفسنا. وأعتقد أن جميع المبادئ الدينية تندرج تحت هذا المبدأ كاليهودية والإبراهيمية والبوذية والمسيحيين والمحمديين، وكلما كانت الأديان بسيطة اقتربت من هدفها المثالي وهو وحدة الناس جميعًا، وهذا ما جعلني أقدِّر خطابك، وأود استمرار اتصالي بك.» وفي الخاتمة يطرح تولستوي على الأستاذ الإمام سؤالًا: ما رأيك في عقيدة الباب، ومذهب بهاء الله وأنصاره؟ (ص۱۱۳ و۱۱۲).
وليس هناك ردٌّ من محمد عبده إلى تولستوي، ولكن هناك رسالة من كوكوريل إلى تولستوي (في ۲۹ يونيو ١٩٠٦م) يخبره فيها بأن الإمام قد تُوُفي منذ عام. ويتساءل مراد وهبة: لماذا اختفى رد تولستوي من القاهرة، ولماذا لم يُجِب محمد عبده عليه؟ ويجيب بلسان مالك بن نبي المفكر الجزائري الراحل بأن غياب الشرط الإيجابي، أي غياب النهضة الحقيقية هو غياب الخطوة الحقيقية لتحرير الإنسان. ويعلق «وغياب النهضة يعني غياب التفكير النقدي الذي يعني بدوره حضور المحرمات الثقافية» (ص١١٥). وهي المحرمات التي من حقنا أن نفترض أنها قد حالت دون التواصل والتفاعل والحوار بين الرمز الأكبر لنهضتها الحديثة، وأحد كبار «المؤمنين» المعاصرين له.
ويميل مراد وهبة إلى أن سؤال تولستوي عن البهائية، التي كان يعرفها من المحرمات الثقافية التي ما كان الإمام محمد عبده سيجازف باقتحامها، ولست أرى ذلك، أو على الأقل فإنه ألحق هذا السبب بآخر هو نوع الإيمان عند تولستوي، فقد كان من الصعب — وقد بلغ هذا الحد من المساواة بين العقائد — أن يسلِّم الشيخ المصري بأهمية الاستمرار في الحوار؛ ذلك أن تأكيد الإمام على التوحيد والفطرة، واختلاف تولستوي مع رجال الدين هو «كلام في الفكر»، وليس تسويفًا فقهيًّا لاستخدام التكنولوجيا. وما دام الكلام في الفكر، فهناك سقف لا سبيل لاختراقه الذي نلتمس ارتفاعه في حوارٍ آخر للإمام مع المفكر السوري فرح أنطون حول ابن رشد، أي أن ابن رشد يعود مرة أخرى مِحَكًّا لهُوية النهضة ومداها، وما إذا كانت تفضي إلى التنوير، أم أن حصادها الفعلي سيكون الظلام بغض النظر عن منجزاتها الكبيرة خلال فترات المد الوطني.
وكان فرح أنطون صاحب مجلة «الجامعة» قد نشر عام ۱۹۰۳م كتابًا عنوانه «ابن رشد وفلسفته» وقد انحاز أنطون لابن رشد، واستخلص من فلسفته — خاصة في الحقيقة المزدوَجة — ضرورة الفصل بين الدين والدولة، وضرورة المساواة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم. وأضاف أن للعقل دائرة وللقلب أخرى، وأن العلم بطبيعته من صُنع الدائرة الأولى، أما الثانية فهي مملكة الدين. ومن المعروف أن هذه الأُطروحة الرشدية قد أثَّرت في توفيق الحكيم ويحيى حقي وزكي نجيب محمود على امتداداتٍ معاصرة، دون أن تقضي إلى غايتها المرجوة التي أنجزتها الرشدية ذاتها في أوروبا قبل ستة قرون. كان الزمن قد فات، وكان السقف الذي حدَّده الطهطاوي ومحمد عبده، ومن جاءوا بعدهما قد ضاعف انخفاضه فوق «الرءوس»؛ بحيث أضحت حرية الفكر غاية المُنى للنخبة تحت السقف، فمن حاول رفع رأسه ملليمترًا واحدًا كطه حسين اصطدم عقله بأسياخ الحديد حيًّا وميتًا، لذلك صارت حرية الفكر، وليس حرية العقل، هي أقصى ما تتمنَّاه النخبة، تقليدًا ساري المفعول إلى الآن. ولأن حرية «الفكر» تحت هذا السقف فقد تمَّت بمعزلٍ عن الناس، بل وقد لا يتحمَّس لها الناس في أكثر الأحيان. ذلك أن حرية العقل كما يركز مراد وهبة في العديد من الفقرات هي الحرية التي تبصر في رجل الشارع الذخيرة الحية للتنوير لأنها ترتبط لزومًا بحياته اليومية.
وهكذا تزوج «الاكتفاء الذاتي» ﺑ «حرية الفكر» لتمتنع النهضة عن الإنجاب، ولتزداد الفجوة بين النخبة والشارع اتساعًا، ولتتمخض انكسارات النهضة في قرن ونصف القرن عن السقوط المدوي.
۹
هذه إذن المعادلة التوفيقية التي طال استقصاؤنا لها؛ فهي تستهدف الفتوى الشرعية لاستخدام التكنولوجيا، وهو ما دعوناه زمنًا بالتراث والعصر، ولكنها في الأصل الأصيل هي «توفيق» بين الاكتفاء الذاتي والحرية الفكرية تحت سقف هذا الاكتفاء. واقع الأمر أن الاكتفاء الذاتي الذي يرتدي العصمة من الخطأ يحُول دون الرؤية النقدية للأنا والآخر، فلا يعرف التفاعل الذي يفضي إلى التركيب. والأخطر أنه ينفي الطرف الآخر في معادلة التوفيق وهو حرية الفكر التي تبقى في أحسن أحوالها أسيرة ارتفاع السقف. أما التكنولوجيا المقصورة من كلمة «العصر» فإنها بتفريغها من «الفكر» — ذروة العقلانية — تتحوَّل عن وظيفتها المرتجاة في الاستقلال وغايتها المأمولة في التكافؤ والندِّية إلى أن تصبح من أدوات التعبير، وتتخلَّى عن دورها الطبيعي في تغيير القيم الاجتماعية فتزداد تخلفًا بالرغم من حضورها و«استخدامها»، ونغدو «مسخَّرين» لها ولأصحابها في دعم مجتمع استهلاكي ضعيف الإنتاج. يقع ذلك بالرغم من الادعاء اليومي بأن هذه التكنولوجيا «مسخَّرة لنا». ولعل الادعاء هو نوعٌ من التعويض الكلامي عن واقعٍ صلب، وهذا التعويض الذي آلت إليه الفتوى الشرعية في مواجهة العصر، وليس في التوفيق معه، وهو الوجه الآخر لما آلت إليه الفتوى ذاتها من حرية الفكر إلى اغتيال المفكر.
لذلك فالتوفيق بين ما يُسمَّى التراث وما سُمي العصرنة ليس «حالة وسطية» كما كنا نظن، ويحاول بعضنا أن يجد لها السند الشرعي القائل إننا أمة وسط. ليس من وسطية بين النهضة والسقوط، أو بين التنوير والإظلام، وإنما الاكتفاء الذاتي المعصوم من التفاعل مع الخارجي أو الآخر أو المغاير — سمِّه ما شئت — هو صاحب المبادرة في تقنين حرية الفكر بالحد من حرية العقل، وهو الأمر الذي لا يؤدي إلى أية وسطية، بل إلى أحادية طاغية ساحقة في النهاية لأي توفيق، ومناقضة جذريًّا لأي تركيب.
حرية العقل إذن ترادِف سلطان العقل، وهي المقدمة المتصلة بنوعية النهضة التي تنشد التنوير، الأمر الذي لم يحدث في تاريخنا الفكري الحديث إلا كومضاتٍ تبرق ثم تخبو إلى أن تنطفئ تحت السقف المنخفض على رءوس النخبة والمجتمع على السواء. ومن هنا تشكَّلت عناصر «الاكتفاء الذاتي المعصوم» في عقل النخبة والعقل الجماعي لرجل الشارع على السواء؛ بحيث استحالت «النهضة والسقوط» عاهة مستديمة في مختلف مراحل التقدم التي أحرزناها، والتي كانت من الهشاشة بحيث أمكن لعناصر السقوط أن تنتصر في النهاية.
هل هو قدر مقدور أن نبقى أسرى الانغلاق الذي أدعوه بالاكتفاء الذاتي المعصوم، وما يرافقه من ظلامٍ دون أملٍ في الانفلات من هذه القبضة الجهنمية؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه مراد وهبة في صِيغٍ مختلفة، وهو كعادته لا يجيب على هذا السؤال المركزي، ولكنه يتلمَّس المعطيات الواحد بعد الآخر في حيادٍ ظاهري، وموضوعية صارمة، ويترك لك أن تفكر.
لنقل إذن إن «التوفيق» حسب الهرمنيوطيقا نصٌّ غير أصيل، وبالتالي كلمة فاسدة، لأن التوفيق لا يكون إلا بين طرفَين أو عدة أطراف، فإذا نفى أحد الطرفين الطرف الآخر لا يكون الأمر توفيقًا بل تلفيقًا.
ويستعرض صاحب «مدخل إلى التنوير» عدة أسماء في تاريخنا الفكري الحديث والمعاصر ليزيد الأمر وضوحًا، من أمثال رفاعة الطهطاوي والعقاد ولويس عوض، وهي مجرد أمثلة دالة على نقطة البدء، ونقطة الضعف ونقطة القوة. والقياس هو التنوير الذي يمكن استخلاص معالمه في ثلاث كلمات: الأولى هي القانون، والثانية هي الطبيعة، والثالثة هي التربية … فالقانون العلمي في التاريخ والعلوم الطبيعية والاقتصاد والمجتمع هو الركيزة الأساسية في «نور» عصر التنوير، وهذا القانون في أي عصر هو نسبي لأنه مرتبط أساسًا بتطور المعرفة. وهو المقابل للمعجزة أو المصادفة العمياء، ولكنه أيضًا لا يضمر «غاية» في الظاهرة المكتشَفة، سواء كانت ظاهرة طبيعية أو ظاهرة إنسانية. القانون هو عقلنة الظواهر. ومهما تباعدت مجالات المعرفة كما هو الحال بين «روح القوانين» لمنتسكيو و«العقد الاجتماعي» لروسو و«ثورة الأمم» لسميث، فإن القانون هو البِنية العقلية التي تصوغه، والأداة العقلانية لاكتشافه؛ إذ تؤكد هذه الأداة وتلك البنية أن العقل هو السلطان الذي لا سلطان عليه. وأما الطبيعة التي قد يختلف حولها فلاسفة التنوير باعتبار أن الإنسان جزء منها أو منفصل عنها، بل وباعتبار أن الإنسان نفسه جسم ونفس، أو أنه ليس كذلك، هذه الطبيعة هي الكون والوجود الذي لا وجود سواه، لأنه الوجود الوحيد الذي يمكن لنا — بالعقل — أن نعرفه معرفة نسبية باعتبار كل معرفة هي معرفة تاريخية. الطبيعة إذن، أيًّا كان موقع الإنسان فيها ومنها، هي المجال الوحيد للمعرفة الفلسفية، وتبقى «التربية» التي تردَّد وقعها على طول الكتاب، فهي همزة الوصل بين فلسفة التنوير ورجل الشارع، فإذا بقي التنوير مصباحًا يضيء عقول النخبة وحدها، فإن رجل الشارع الذي يُخضِع عقله لسلاطين الظلام بمقدوره أن يطفئ الأنوار في أي وقت، والأهم أن يحُول دون التنوير والتغيُّر الاجتماعي الملازم له. بل إن ظلام العقل الجمعي في غياب «التربية» يهدد عقل النخبة ذاتها سواء بعزلها أو بتعميق الفجوة بينها وبين المجتمع ككلٍّ، فيصبح رجل الشارع — بدلًا من أن يكون من قوى التغيير نحو الأفضل — من أقوى الدعائم لبِنية السقف الذي يضاعف انخفاضه فوق «الرءوس».
بهذه المقاييس يرى مراد وهبة الطهطاوي في صورته الأقرب إلى الحقيقة، فبالرغم من أن أصداء التنوير كانت تضج بها فرنسا التي بُعث إليها، فإنه لم يستفِد سوى القشور التي «تنفع الإدارة والتكنولوجية»، ومن هنا أرى أن الإمام محمد عبده هو الرائد الأهم موضوعيًّا للنهضة التي سقطت؛ لأنه هو — وليس الطهطاوي — الذي حدَّد السقف والمعيار. وهكذا يغدو «الإصلاح الديني» الذي كرَّس له محمد عبده الفكر والعقل هو نقطة البدء، أو ما ندعوه بالتراث، بينما تغدو التكنولوجيا التي لم يكن الطهطاوي من المتخصصين فيها هي الطرف الآخر الذي دعوناه زمنًا طويلًا بالعصر في معادلة التوفيق بينهما. ولكن الأسبقية والسيادة تظل للشيخ الإمام؛ فلا تكنولوجيا بغير الفتوى الشرعية. والتكنولوجيا هنا تتجاوز مدلولها المباشر إلى النظم الإدارية والتعليمية وبقية أدوات الحكم السياسي والمجتمع الاستهلاكي، ما دام «الاختراع» العملي بمعزلٍ عن الكشف الفلسفي.
وبينما التقط مراد وهبة بعقليته الفلسفية المضيئة كتابًا صغيرًا شِبه مجهول للويس عوض هو «المسرح المصري» دليلًا على استنارة الرجل — إذ فسر لويس عوض موت المسرح المصري بنشأته في أحضان الديانة المصرية القديمة، وازدهار المسرح اليوناني بإخراجه من المعابد — فقد ظلم العقاد حين اختار له كتاب «تذكار جيتي» لأن هناك في واقع الأمر أكثر من عقادٍ، وأكثر من كتابٍ لا يخلو من ومضات التنوير.
ويختتم الدكتور مراد وهبة كتابه المهم بإعلان الإشكالية التي ظلَّت مضمَرة طوال الوقت، وهي أنه «ثمة رأي شائع يقول بأن مصر قد مرَّت بعصر التنوير منذ مائة عام، وهذا الرأي قد يبدو صادقًا، ومع ذلك ففي إطار هذا البحث هو موضع شك» (ص۲۰۰).
لماذا؟
لأن التنوير، وإن لم يكن مرادفًا للعلمانية، فإنه نقيض الدوجماطيقية (اليقين، الثبات، الحتمية، المطلق)؛ ومن ثَم فالتنوير الذي يلازم ما هو نسبي يفضي بالضرورة إلى العلمانية، وهو الأمر الذي لم يحدث في بلادنا أو ثقافتنا.
ومن هنا الأهمية القصوى للكتاب «مدخل إلى التنوير» فهو ليس كتابًا … وإنما هو برنامج عمل.