القسم الأول

الحفر عند الجذور

مقدمة

من الكلمات التي استُهلكت لدرجة الابتذال في حياتنا الفكرية والإعلامية كلمة «أزمة»، فلأننا نستعملها في غير مكانها أغلب الوقت كادت تفقد معناها الحقيقي، وتكتسب بدلًا منه معاني سطحية خفيفة بعيدة عن الدقة. ولعل أفدح الأضرار الناتجة عن ضياع المعنى الأصلي والأصيل أنه حين يأتي الوقت الضروري لاستخدامها لا نجدها، أو أننا نفتقد الفروق الحاسمة بين الظاهرة التي تستحقها، وبين بقية الظواهر التي لا تستحق.

لذلك لا بد من اكتشاف مقاييس دالة على معنى الكلمة قبل استخدامها. ومن بين هذه المقاييس شيوع أنماطٍ من التفكير أو أنواع من القيم يصعب ذيوعها أو انتشارها بين مختلف القوى الاجتماعية في لحظة تاريخية معينة إلا إذا كانت هناك أزمة تستدعي الشمول، بالرغم من تباين مظاهرها بين الأجيال والطبقات والاتجاهات.

ونحن نستطيع أن نتابع ثلاث أزمات كبرى في تاريخ مصر المعاصرة تبدأ أولاها بمنتصف هذا القرن بين عشية الثورة الناصرية وغداتها؛ حيث أفضت بوادر التغيير منذ نهاية الأربعينيات إلى حريق القاهرة، حتى قامت ثورة يوليو بإسقاط النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي السابق، وأحلَّت مكانه نظامًا جديدًا. تبلورت الأزمة حينذاك في «استقبال» النظام الجديد، وليس في نعي النظام القديم، وكان مصدر الأزمة هو التناقض بين الوسائل والغايات؛ فقد تبنَّت الثورة طموحاتٍ وأحلامًا سابقة عليها في النهضة بالبلاد من كبوتها. ولكن أداة التغيير، وهي النظام العسكري، صادرت أحلامًا أخرى. وكان هذا التناقض أصل الأزمة التي استدعت، إلى جانب ذيوع الفكر التبريري الدعائي، ذيوعًا من نوعٍ مختلفٍ لبعض الفنون الأدبية كالرواية والقصة القصيرة، وبعض الفنون الدرامية كالمسرح، تناولت من طرفٍ خفي، وأحيانًا بالرموز المباشرة، قضايا الحرية والقومية العربية وغيرهما من عناصر «الأزمة».
أما الأزمة الثانية فقد بدأت بهزيمة ١٩٦٧م، وكانت إعلانًا مدويًا — بالرغم من الأسباب الخارجية — عن إخفاق النظام الثوري في معالجة الإشكاليات التي جاء لحلِّها. وبينما كانت الأزمة الأولى قد عثرت على فكرها في أدب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم، ومسرح صلاح عبد الصبور وألفريد فرج وسعد وهبة ومحمود دياب وميخائيل رومان وعلي سالم وعبد الرحمن الشرقاوي ورشاد رشدي على تناقض توجهاتهم، فإن الأزمة الثانية عثرت على فكرها في أدبٍ جديدٍ لجيلٍ جديدٍ هو ما كنا ندعوه — في ذلك الوقت — بجيل الستينيات، وهو الجيل الذي راح يبحث في الشعر والقصة والرواية عن رؤًى جديدة وسط الظلام. ولكن هذا «البحث» الذي استحال حركة أدبية وفنية على مدى ربع قرن، أصبح يضم عدة أجيال بحيث إن حصاده المستمر لم يعُد ينتسب إلى جيلٍ بعينه ظهر بين أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.

هذه الأجيال المتعاقبة ما زالت (تبحث عن رؤًى وسط الظلام)؛ ولذلك كان التجديد في أدواتها مستمرًّا إلى اليوم، لا يجمع بينها سوى عملية «البحث» ذاتها، بالرغم من مواكبتها للأزمة الثالثة. وهي الأزمة التي انتقلت — تدريجيًّا — بهزيمة ١٩٦٧م إلى مشارف نظامٍ جديدٍ يكاد يكون نقيضًا للنظام الثوري السابق، وقد صاحبت هذا الانتقال حروب وطنية وأخرى إقليمية، وازدهار للنفط العربي أفضى إلى هجراتٍ جماعية إلى منابعه، وعودة إلى الوطن ببعض ثرواته وأفكاره وقِيَمه. صاحبت هذا الانتقال — أيضًا — متغيرات عالمية حثيثة وغلَّابة، بحيث إن الحصيلة الختامية كانت مجتمعًا جديدًا يضبط إيقاعه نظامٌ لا علاقة له بالنظام السابق كما أشرنا، ولا بالنظام السابق على الثورة أيضًا. قد تكون له بعض الملامح من هنا وهناك، ولكن بِنيته الأساسية تشكِّل في مجموعها تكوينًا مغايرًا لعصر السلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية قبل الثورة والعصر التالي لها على السواء.

ليست الأزمة الجديدة تجسيدًا للتناقض بين الحلم والواقع كما كان الشأن في الأزمة الأولى، وليس مصدرها التناقض بين الوسائل والغايات، كما كان الشأن في الأزمة الثانية، وإنما مصدرها الرئيسي هو أن طوفان المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية، يَطرح للمرة الأولى على الشعب المصري نوعًا من الأسئلة لم يسبق له أن طرحها على نفسه من قبل. فحين حكمه الإغريق والرومان كانت «المصرية» هُويته الوطنية لم يزلزلها استخدامه للأحرف اليونانية في كتابة لغته، ولا اعتناق روما للمسيحية في العصر القبطي. ومنذ الفتح العربي الإسلامي، وهو يضيف إلى اللغة العربية والتراث الإسلامي دون أن يعني ذلك انتقاصًا من هُويته الوطنية. وقد فهم الدعوة القومية العربية على أنها محيط ثقافي حضاري، ولم يفهمها — مطلقًا — على أنها دعوة عرقية أو دينية، فهو شعب لا يشعر بنقصٍ في العروبة أو الإسلام. لم يحدث قَطُّ أن أحس المصري بأزمة هُوية، وإنما هو شعب أصيل بموقعه الجغرافي التاريخي وحضارته الممتدة، منفتح بالتفاعل الحر الخلاق على العالم من حوله.

ما هي الأزمة إذن؟

لعله من الأمانة أن ندرك أن هذه الأزمة لا تخصُّنا وحدنا، فما جرى في العالم يشبه زلزالًا كبيرًا تنوء بحمله الكرة الأرضية كلها. هناك حالة سيولة جغرافية وتاريخية وفكرية تجتاح عالمنا الراهن بأعاصير اقتصادية وسياسية وعرقية وتكنولوجية عاتية. وأصبح العالم من جراء هذه الأعاصير قرية واحدة كبيرة حقًّا، ومجموعات متناثرة معزولة عن بعضها كالجزر المهجورة في الوقت نفسه. تناقض مروِّع بين عالمية العالم، وبين الجدران الشاهقة الملوثة بالدم بين الدويلات العرقية والطائفية المفاجئة على خريطة الدنيا في وقتٍ واحد. هذه السيولة الكونية تطرح سؤال الهُوية على قطاعاتٍ واسعة من سكان العصر الجديد الذي يوشِك بالمخاض الذي نشهده على ولادة عالمٍ جديدٍ كليًّا، تتغير فيه مفاهيم الوطنية والقومية والإنسانية تغيُّرات جذرية.

ونحن جزء من هذا العالم، ولكننا لسنا مجرد صدًى للصوت الخارجي؛ وإنما نحن شركاء — بسلبياتنا وإيجابياتنا — في صنعه. وقد شهدت بلادنا طيلة الأعوام العشرين الأخيرة من المتغيرات الداخلية العميقة ما لا يجوز أن ننسبه إلى العوامل الخارجية، وإنما كان التفاعل بين الداخل والخارج هو مصدر الأزمة الثالثة في حياة جيلنا.

وهي الأزمة التي تدفع البعض منا إلى الحفر عند الجذور، فحين يصدر في تزامنٍ وثيقٍ مجموعة من الأعمال تنبش الأعماق، ولا أقول الماضي، علينا أن نخترق الإطار الخارجي للتخصُّص، ونبحث عن المشترَك بينها بالرغم من أي اختلافٍ في الساحة أو الأفق.

لنقرأ — مثلًا — أربعة مؤلفات صدرت هذا العام هي «مصر المدنية: فصول في النشأة والتطور» ليونان لبيب رزق، و«الأزمة المصرية» لوحيد عبد المجيد، و«البحث عن منهج» لسيد البحراوي، و«أبناء رفاعة» لبهاء طاهر، نكتشف أن البحث عن الجذور هو المشترَك بينهم جميعًا، وإن تعددت الساحات ووجهات النظر. سوف نكتشف أيضًا المدلول الأعمق أو الصحيح لكلمة «الأزمة» التي من فرط استهلاكها كادت أن تسوي بين «أزمة» الطماطم وأزمات التاريخ.

١

يقال دائمًا في وصف المؤرِّخ الجيد أنه نموذج للحياد والموضوعية، يعتمد على الوثيقة وحدها التي لا تقبل الشك. ثم يُقال عن فيلسوف التاريخ أنه نموذج لمن يستخلص القوانين العامة للحركة التاريخية، وقد يصل إلى آفاق نظرية لتفسير هذه الحركة تقدُّمًا أو نكوصًا. ولكن أحدًا لم يكلمنا بوضوحٍ عمَّن يؤرخ أو يتفلسف، ويشتبك في الوقت نفسه مع الواقع من خندقٍ محدد. ومن هذا الخندق يقاتل بأدواتٍ بعيدة ربما عن الجفاف الأكاديمي، قريبة غاية القرب من العلم. عَنيت بذلك أن هذا المؤرخ يضع في اعتباره أولًا أن الجمهور المخاطَب هو عامة الناس من المهمومين بالشأن العام، وليس خاصة المتخصصين في علم التاريخ، دون أية تضحية بقواعد العلم وحقائقه التي توصَّل إليها العلماء.

هذا النوع الذي يجمع بين صفات المؤرخ الجيد وفلسفة التاريخ والجمهور الواسع للخطاب، هو «المفكر» الذي يخرج من أسوار الجامعة لملاقاة الناس أينما كانوا، هو المفكر القادم من مختلف أقسام التخصُّص في العلوم الإنسانية أو الطبيعية إلى هموم الشارع العريض.

وقد عرفت مصر دائمًا هذا النوع النادر من العلماء المفكرين. وفي التاريخ كان المفكر الراحل محمد أنيس من أبرز العلامات في الطريق من الجامعة إلى القارئ العادي. وغالبًا ما يكون الهم الوطني إلى جانب الموهبة هو الحافز الأول إلى سلوك هذا الطريق، وغالبًا ما تكون الصحافة هي المنبر الأول في هذا الطريق.

من هنا تابعت دائمًا خطوات يونان لبيب رزق في هذا الطريق الحافل بالصعاب، سواء صعوبة الالتحام بالهَم العام نفسه أو صعوبة التوفيق بين العلم ووجهة النظر والجمهور الواسع للخطاب.

وأعتقد أن كتابه «مصر المدنية: فصول في النشأة والتطور» من أهم الاختبارات التي اجتازها في هذا السياق. إنه يدري بعمق «الأزمة» التي يمر بها الوطن، فهي ليست كما تبدو فوق السطح مجرد أزمة اجتماعية أو أزمة مجموعات سياسية مسلَّحة تعمل لفرض سلطتها بالإرهاب. وإنما هي أزمة أكثر شمولًا، ساعد على بروزها حالة «السيولة» التي يمر بها العالم، ولكنها أولًا حالة انفجار كتلة هائلة من التراكمات، وقد تهيَّأ لها المناخ المناسب لطرح الأسئلة المحورية الثلاثة: الهُوية، الوطن، الدولة القومية.

وبالرغم من أن هناك خطًّا طوليًّا في الكتاب ينظِّم تطور هذه المعاني وظلالها، إلا أن يونان لبيب رزق لم يشأ لكتابه أن يكون مدرسيًّا يحكي ما وقع، ولكنه شاء لهذا الخط الطولي أن يخترق مجموعة التراكمات والإشكاليات التي صادفت المصريين في بناء هُويتهم ووطنهم ودولتهم القومية.

ينطلق الكاتب في أطروحته مما أسماه بدائرة المغالطات، والمقصود بها دائرة الاختلاط بين المعاني والدلالات، كالقول بفتنة طائفية ليس لها وجود لأن مجتمع الطوائف أو دولة الطوائف لم يعُد لها وجود؛ فالطائفية الاقتصادية اختفت باختفاء الحِرف التي كوَّنتها، وباختفاء الإقطاعيات الزراعية والهياكل الاقتصادية التي أدَّت إليها، والطائفية العرقية انتهت بانصهار المغاربة والشوام وغيرهم في الشخصية المصرية. والطائفية الدينية انتهت بزوال حارات النصارى واليهود، وباندماج المصالح والغايات. ولذلك يرى المؤلف أن استخدام مصطلح «فتنة طائفية» لا يجوز سريانه على أحداثٍ عابرة. كذلك على العكس أن تحريم مصطلح «العلمانية» غير جائزٍ أيضًا؛ لأنه لا يرادف الكفر أو الإلحاد، حتى إذا كان التعبير مستورَدًا من أوروبا، فهناك من أوجه التشابه بين العصور المظلِمة في أوروبا والعصور المظلِمة في بلادنا ما يبرر استخدام المصطلح بمعناه ضد الدولة الدينية ومبناه كإعمالٍ للعقل. وليست العلمانية من الشواذ؛ فنحن نستخدم العديد من المصطلحات المعرَّبة في حياتنا اليومية والمأخوذة أصلًا عن الغرب.

ولكن يونان لبيب رزق في هذا المدخل الذي يناقش المعنى الاصطلاحي أو دلالة الألفاظ يبتعد كثيرًا عن مناقشة المناخ العام الذي أفضى إلى استحلال استخدام «الفتنة الطائفية» وتحريم استخدام «العلمانية». هذا المناخ الذي تأتي بقية فصول كتابه المهم للرد عليه بتنشيط ذاكرة الأمة. إن العَقْدين الأخيرين اللذين يشهدان «أزمة» حقيقية في مفاهيم الهُوية والوطن والدولة القومية كانا يحتاجان من الفصل الأول في هذا الكتاب أن يتحوَّل من مدخلٍ إلى كتاب كامل يعايش الأزمة عن قُرب ومن أسفل، حتى يصبح الكتاب الجديد (مصر المدنية) مبررًا وفاعلًا ومؤثرًا باعتباره لا يشكِّل بديلًا نظريًّا لمصر الأخرى التي كانت في العصور المظلمة، وإنما باعتباره أساسًا واقعيًّا وتأصيلًا تاريخيًّا نافذ المفعول للخروج من ظلام التخلف إلى أنوار التقدم.

على أية حال، وإذا كنا ننتظر المقدمة الضرورية التي تشرَح وتشرِّح مقومات الأزمة الراهنة، فإن تأصيل الدولة القومية كسبٌ لا غشَّ فيه لذاكرة الأمة في مقاومتها لعوامل الضعف الذي يستحضر خيالًا ذهبيًّا عن عصور الصدأ.

وكان من الطبيعي أن يبدأ المؤرخ-المفكر هذا التأصيل بحادثَين كبيرين في تاريخ مصر الحديث هما الحملة الفرنسية من جانبٍ، وولاية محمد علي باشا من جانب آخر. وهي إشكالية لا تزال موضع أخذٍ وردٍّ بين المؤرخين وعلماء السياسة بما يُكتشَف كل فترة من وثائق، وما يُستجَد من مناهج ورؤًى.

ولكن يونان لبيب رزق يميل إلى تبني الجوانب الإيجابية لحملة نابليون القادم من ثورة ذات مبادئ عقلانية تعادي المؤسسة الكهنوتية والإقطاعية المتخلفة، وتستنير بمحاولة إقامة «عالم جديد» من الحرية والإخاء والمساواة، فضلًا عن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي صاحبها بثورة في الإدارة والتنظيم. وقد توقف الكاتب عند خطاب نابليون الذي لم يتوقف عند التحديث فحسب، بل أراد أن يُوقِظ فكرة «الوطن» لما لمصر من حضارة عريقة، ولكن المصريين كانوا ما زالوا أسرى المفاهيم العثمانية لفكرة الوطن الديني.

كانت هناك، بالرغم من أي اختلاف حول تقييم الدور الذي قامت به الحملة الفرنسية ضد المماليك، نتائج على الأرض: كالمحاولة الأولى لإقامة حكومة مركزية. فبالرغم من أنه كانت لمصر — كولاية عثمانية — وضعية خاصة إلا أن علاقة الباب العالي بها لم تساعد في أي وقت على إقامة حكومة مركزية ترتبط بها الأطراف وتقوِّض مجتمع الطوائف. وإنما كانت اللامركزية التي تعترض تكوين مصر الطبيعي أشبه بالخيوط المباشرة التي تربط المصالح والجغرافيا والسياسة بمركز الإمبراطورية في إسطنبول دون المرور بالقاهرة التي كانت هي ذاتها ممزَّقة الأوصال.

إذن لم تكن مبادرة الحملة الفرنسية إلى مركزة مصر إلا مدخلًا إلى أطروحة المؤلف التي يفصِّلها في بقية الكتاب بصفتها قيمة معيارية يُقاس عليها التقدم والتخلف والمصلحة العامة لشعب مصر، والطبيعة المصرية ذاتها؛ حيث كان نهر النيل دائمًا قبل عبث الغزاة يفرض — بنظام الري — هذه المركزية التي يشع منها التمدن على أحد الوجوه والقهر غالبًا على الوجه الآخر. وليس المقصود بالقهر ما نفهمه من الاستبداد الفردي، بل إحكام القبضة من أجل المساواة.

ومن هذه النقطة لن يجد محمد علي باشا محاميًا بارعًا كالدكتور يونان لبيب رزق الذي فسَّر أعمال الباشا في ضوء هذه الفكرة المحورية. وباستمرارٍ كانت في سيرة محمد علي واقعتان موضع خلافٍ في التقييم؛ مذبحة القلعة ونفي عمر مكرم. وبينما يمكن الاتفاق على أن مذبحة المماليك كانت جراحة سياسية تستهدف تقليص دورهم السياسي، فإن نفي عمر مكرم لم يستهدف تقليص دور المؤسسة الدينية، بل إن هذه المؤسسة التي قادت الحركة الشعبية حينذاك هي التي منحت الشرعية لمحمد علي في مقاومة جسورة للآستانة. ومن ثَم فقد كانت إشكالية عمر مكرم الذي لم يكن قَط من رجال الأزهر، هي إشكالية المثقف والسلطان. إن نقيب الأشراف لم يكن منصبًا دينيًّا، ولم يكن عمر مكرم مجرد نقيبٍ للأشراف، بل قائدًا لحركة شعبية أوصلت محمد علي إلى الأريكة المصرية. ومن ثَم فالتناقض بينه وبين محمد علي مصدره الحقيقي أن الباشا، وقد انتصر بالمصريين، لم يفِ بتعهداته لهم.

لا يوافق يونان لبيب رزق على هذا التفسير، لأنه ارتبط منذ البداية بمعيارٍ وحيدٍ هو الدولة المركزية التي لا ترتفع في مواجهتها قامة أخرى، حتى ولو كانت إحدى القيادات الشعبية البارزة. ولا سبيل لإنكار أن علماء الدين قد تباينت مواقفهم من محمد علي، ولكنهم في النهاية وقفوا إلى جانبه لحظة الانتقال بالسلطة، ثم استطاع إغواء بعضهم وإرهاب البعض الآخر، كما حدث من جانب بقية السلاطين فيما بعد، ولم يكن كل سلطان منهم دائمًا على صوابٍ أو متآمرًا لخطف السلطة أو العمل على تغذيتها. في بقية حلقات مصر الحديثة لم يكن هناك خلاف على مركزية الحكم، ولكن الخلاف كان دومًا حول نظام الحكم.

وهكذا فإن علي بك الكبير الذي سبق محمد علي والحملة الفرنسية — على السواء — في محاولة مَرْكَزة الحكم وتحديثه كان يستحق عناية أكبر لأن الحملة، وإن تشبَّعت بأنوار الثورة الفرنسية، إلا أنها لم تأتِ إلى مصر رسولًا للشمس أو عشقًا لسواد عيون المصريين. وإنما أقبلت ضمن مشروع إمبراطوري له كل أهداف القوى العظمى. وقد كان علي بك الكبير ريادة مبكرة وبداية مبشِّرة لنهضة لا غشَّ فيها، وربما كانت الحملة الفرنسية من هذه الزاوية إجهاضًا لمشروعٍ وطني مصري، وربما كان محمد علي من هذه الزاوية أيضًا امتدادًا مؤجلًا للمشروع نفسه.

۲

لم تكن الجراحة الاستراتيجية التي أجراها محمد علي باشا على أبواب قلعة صلاح الدين في بداية العقد الثاني من القرن الماضي صراعًا على السلطة، فقد كان هذا الصراع محسومًا قبل ست سنوات. ولكن هذه الجراحة كانت نقطة الانطلاق إلى «المركزية» التي يراها يونان لبيب رزق — عن حقٍّ — حجر الزاوية في بناء الدولة المدنية، وهي المركزية التي استدعت إلغاء نظام الالتزام والاتصال الدوري المباشر بين الآستانة والأطراف، ولكنها لم تكن لتستدعي مطلقًا إبعاد عمر مكرم.

واقع الأمر أن محمد علي استقل بمصر ولم يستقل لمصر، فلم يكن يخطر بباله أن يشترك المصريون في السلطة. وهذه حقيقة الخلاف بينه وبين عمر مكرم؛ إذ لم يفِ بتعهداته التي أخذها أمام الرموز التي منحته الشرعية في مواجهة خورشيد باشا. واقع الأمر أيضًا أن محمد علي، العثمانلي الأصل والفصل، لم يكن في مشروعه عثمانليًّا؛ فقد أدرك في وقتٍ مبكرٍ أن دولة الخلافة قد أمست «رجل أوروبا المريض». ومن ثَم اهتدى بفطرته إلى الحُلم الإمبراطوري البديل. ومن ثَم لم تكن فتوحاته فتوحات مصرية وإن تمَّت باسم مصر. كان قد أدرك بالفطرة العبقرية أن مصر هي المركز فاستعاد مركزيتها من براثن اللامركزية العثمانلية-المملوكية. وفي الطريق إلى الحلم الإمبراطوري أدرك محمد علي أن «تجييش الفلاحين» هو القاعدة القادرة على إنجاز الفتوحات دون القدرة على تمصير الحلم. ولكن مركزة الحلم من القمة والقاعدة العسكرية من أسفل هيَّأت الدولة المدنية في مصر للوجود. وهذا هو لبُّ لُباب النتيجة التي يريد أن ينتهي إليها يونان لبيب رزق مهما كان الاختلاف بين الوسائل والغايات. ومن هذه الزاوية، فإن محمد علي دون شك هو المؤسِّس الأول لهذه الدولة. ولكن «كعب أخيل» في بناء هذه الدولة هو الحلم الإمبراطوري نفسه، فقد كان هذا الحلم هو الثغرة التي نفدت منها في خاتمة المَطاف انكسارات هذه الدولة حتى تراكمت، وأدَّت إلى سقوط النهضة مراتٍ مشهودة في أعقاب اتفاقية ١٨٤٠-١٨٤١م خلال حكم عباس الأول وحكم توفيق وحكم فؤاد وفاروق إلى هزيمة ١٩٦٧م.

هذا التراكم لمراحل السقوط هو الذي أفضى — فيما بعد — إلى الفجوة المظلِمة التي تفصلنا عن النهضة، والتي يأتي كتاب يونان لبيب رزق للمشاركة في كشفها ومقاومتها بالحفر عند الجذور. وهي الفجوة التي أشار إليها في «دائرة المغالطات» وقلت إنها تحتاج إلى كتابٍ كامل.

ولكن الحفر عند الجذور في كتاب «مصر المدنية» اعتمد على الانتقاء من مسيرة النهضة علاماتها الإيجابية، وتحاشي الحفر حول الفجوات المظلمة السابقة على مدى القرن ونصف القرن. بينما هذه الفجوات التي تشكِّل جوهر المقدمات إلى ما نعايشه الآن من تحديات. فليست ظواهر مقاومة الدولة المدنية قادمة من فراغٍ أو ذات جذور سطحية تضرب في الأرض القريبة وحدها — أرض اقتصادية أو اجتماعية راهنة — وإنما هذه ليست أكثر من قشرة أرضية رفيعة وخفيفة تتلوها طبقات أكثر سمكًا من الجيولوجيا الحضارية.

ولا ريب في أن ثالوث الدولة العلوية الذي ركَّز محمد علي عليه هو المركزية والمؤسسة العسكرية، ثم التعليم. وكما أشار يونان لبيب رزق مرارًا، فإن أضلاع المثلث مرتبطة ببعضها البعض ارتباطًا وظيفيًّا عضويًّا، فلم يكن من الممكن للمركزية أن تثبت من دون جيشٍ قوي، ولم يكن لهذا الجيش أن يقوى بغير التعليم، ليس التعليم العسكري المهني وحده، بل التعليم العام والتعليم الخاص. وكان لا بد للمركزية على هذا النحو أن تثمر «ثورة إدارية» تؤدي — في المدى الطويل — إلى المشاركة الشعبية المنظمة التي تفضي — بالضرورة — إلى سؤال الهُوية. وكان لا بد للمؤسسة العسكرية أن تتطور تدريجيًّا فيصل الضباط المصريون إلى سلطة الجيش، وينبثق عن ذلك سؤال الوطن. وكان لا بد للمؤسسة التعليمية أن تتكامل حتى تصل بنا إلى سؤال الحضارة، وليست الدولة المدنية في النهاية إلا حصيلة هذه الأسئلة واجتهادات الجواب عليها.

وإذا كانت المركزية المصرية لقيت جوابًا حاسمًا بالإيجاب كما يجب أن نتصور من خريطة «مصر المدنية» الحديثة، بالرغم من «جمهورية هوارة» إن جاز التعبير في الجنوب، وجمهورية «زفتى» إن جاز التعبير أيضًا في الشمال، فإن الهُوية الوطنية المصرية هي الضلع المستقر في صدر الشعب المصري كما أوضح يونان لبيب رزق. وإذا كانت المؤسسة العسكرية قد أعلنت تمصيرها النهائي في الثورة العرابية، بالرغم من هزيمة سلطتها تحت سنابك الخيول الأجنبية، فقد نجحت هذه المؤسسة في تمصير السلطة الوطنية عام ١٩٥٢م، ومن ثَم كان الجواب بالإيجاب على سؤال «الوطن» المصري. ووجدت الإشكالية التاريخية بين الحلم الإمبراطوري لمحمد علي والوطنية المصرية في ثورة ١٩١٩م بقيادة سعد زغلول عبر الارتباط الوثيق بين الوطنية المصرية والقومية العربية. وإذا كانت الثورة التعليمية التي قام بها محمد علي ومن تلاه كإسماعيل وعلي مبارك ومحمد عبده وسعد زغلول وطه حسين وجمال عبد الناصر، قد تركت لنا ميراثًا مزدوجًا من التعليم الديني والتعليم المدني، فقد كان ذلك ذروة ما يمكن أن تصل إليه معادلة النهضة التي أسَّسها محمد علي ورفاعة الطهطاوي في الرد على سؤال الحضارة بالجواب التوفيقي بين التراث والعصر، ولكن دون أن تكون هناك «سلطة دينية» كان أول من نفاها عن الإسلام الإمام محمد عبده. ولم يكن هذا انتصارًا لمحمد علي حين نفى عمر مكرم الذي لم يكن هو والعلماء والمشايخ ممثِّلين لهذه السلطة، وإنما كانوا بالأحرى ممثِّلين للحركة الشعبية المصرية التي لم ترَ تناقضًا بين تديُّنها واستقلال مصر. ولم يكن الأزهر إلا بيئة ثقافية وطنية شعبية خرجت منها قيادات العمل الوطني والتحديث، فأكثر الذين سافروا في بعثات محمد علي لتعلُّم وتعليم الطب والقانون والعسكرية والجغرافيا والتاريخ كانوا من الأزهريين الذين عادوا وشاركوا في تأسيس قلاع الدولة المدنية. ولم يتسرَّب إليهم الوهم بأنهم بناة «مؤسسة دينية» تزاحم السلطة المدنية، بل كان الأزهر البيئة التي خرج منها كبار المجدِّدين من أمثال طه حسين وعلي عبد الرازق، بالرغم من أية معارك فكرية وسياسية خاضها الرجلان وأمثالهما … كان العرش تارة، وسلطة الاحتلال تارة أخرى من ورائها، إضافة إلى التخلف الاجتماعي الثقيل الوطأة الذي يجد في الأمية بأنواعها مناخه الأمثل ضد التجديد وحماية الدولة المدنية، ولكن الحصاد كان واضحًا، وهو انتصار هذه الدولة التي تلقى هجومًا هذه الأيام.

ومن هنا فكتاب «مصر المدنية» يشحذ ذاكرة الأمة بالحفر عند الجذور لمقاومة هذا الهجوم دفاعًا عن الهُوية والوطن والحضارة.

٣

«إن قيام الدولة المصرية الحديثة قبل أقل من قرنين من الزمان قد أنقذ هذا الوطن من الهلاك الفعلي والاندثار (…) إن المثقفين قد لعبوا أهم الأدوار في إحداث التغيُّر الفكري الذي قاد مصر خطوة خطوة — رغم الهزائم والانكسارات — لتصبح في كل مرحلة أفضل مما كانت عليه من قبل.»

بالرغم من أن هذه الكلمات تأتي في الصفحة الأولى من كتاب بهاء طاهر «أبناء رفاعة» إلا أنها تصلح في الوقت نفسه لأن تكون خاتمة هذا الكتاب؛ إذ هي تبدو كفرضٍ نظري في البداية، يقدِّم الكاتب براهينه في عدة فصول، ثم ينتهي الكتاب إلى صحة الفرض.

وبهاء طاهر لا يدخر جهدًا في إثبات شواهده من التاريخ على أن «الاندثار» الفعلي وليس المجازي، كاد أن يصيب مصر والمصريين بعد قرون من هيمنة الخلافة العثمانية على مقادير البلاد والعباد، سواء بالمنظومة الفكرية التي فرضت علينا التخلف، أو بالقمع الوحشي الذي يصل إلى حدِّ الإعدام اليومي لأقل هفوة، أو النزح الدائم لخيرات أرض الكنانة أو الأوبئة والمجاعات الدورية. لهذه الأسباب وغيرها كادت مصر أن تندثر اندثارًا ماديًّا في الظلال الوارفة للسلطنة العثمانية باسم الدين.

ومن هنا كان الشروع في تأسيس الدولة المصرية الحديثة بكل المعايير إنجازًا تاريخيًّا إلى الأمام، بإنقاذ هذا البلد العظيم من الضياع مكانًا وإنسانًا.

ولا يستشهد بهاء طاهر بالمؤرخين العِظام القدامى فحسب، بل هو يتجه إلى أحد أكبر العقول المعاصرة، جمال حمدان، ليجده يستخلص النتيجة ذاتها حين قال «إن الوجود التركي يُعَد نوعًا خاصًّا — ومحيرًا ربما — من الاستعمار هو الاستعمار الديني، ولولا القناع الديني لعُدَّ مماثلًا للغزو المغولي الوثني الذي سبقه ولَوُوجِه على هذا الأساس بكل تأكيد. وكل مظاهر الاستعمار الاستغلالي الابتزازي لا تنقص العثمانية، فقد كانت تركيا هي المتروبول (الوطن الأصل) وبقية الإيالات والولايات مستعمرات تابعة تعتصر كل مواردها وخيراتها بلا مواربة لتُحشد حشدًا في المتروبول. بل لقد قيل إن الأتراك طبَّقوا في حكمهم السياسي طريقتهم الاستبسية (أي طريقة سكان المراعي) في معاملة الحيوان؛ فهم ما انتقلوا من رعي قطعان الحيوان إلا إلى رعي قطعان الإنسان. وكما يفصل الراعي بين أنواع القطعان فصل الأتراك بين الأمم والأجناس المختلفة عملًا بمبدأ: فرِّق تسُد، وكما يسوس الراعي قطيعه بالكلاب كانت الإنكشارية كلاب صيد الدولة العثمانية، وكما يحلب الراعي ماشيته كانت الإمبراطورية بقرة كبرى عند الأتراك للحلب فقط» (عن كتاب استراتيجية الاستعمار والتحرير).

ولكن أخطر ما في الأمر هو المنظومة الفكرية التي استقرت في نفوس المصريين في ظل القهر المتوحش والتخلف المروِّع باسم الدين، حتى إنهم — بفعل الغيبوبة المزدوجة — توهموا أن ما يجري لهم هو من طبائع الأمور «الدينية».

يستخلص بهاء طاهر من هذه الحقيقة كيف أن تغيير هذه المنظومة «الثقافية» كان الدور التاريخي الكبير على كاهل المثقفين إذا شاءوا إنقاذ بلادهم من براثن الاندثار. لذلك كان الإنجاز الأهم لأهل السياسة (محمد علي، إسماعيل … إلخ) هو التعليم، أي تخريج المثقفين القادرين على القيام بعملية الإنقاذ … فبعد أربعين عامًا على انتشار المدارس وعودة البعثات من الخارج، كان الخديو توفيق يقول «لقد ورثت مُلك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا.» فلا يتردد ضابط مصري فلاح من أن يرد عليه: «والله الذي لا إله إلا هو، لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا وعقارًا، والله إننا لن نورَّث ولن نستعبَد بعد اليوم.» كان هذا الضابط الفلاح المصري هو أحمد عرابي العظيم.

لم يظهر عرابي ورفاقه والشعب كله من ورائه، هكذا فجأة، وإنما كان ثمرة كفاحات مستميتة وطموحات لبعض الحكام الأفذاذ، وبعض المحكومين من أصحاب العقول الموهوبة الثاقبة. وبهاء طاهر يدري أن محمد علي وخلفاءه حكموا مصر حكمًا «عثمانيًّا» في العديد من مظاهر الحكم العثماني، ويدري أيضًا أن حاكمًا كعباس الأول أو توفيق أو فؤاد قد انتكسوا بمسيرة النهضة. ولكنه يدري أيضًا أن طموحات محمد علي وبصيرته النافذة، وطموحات إسماعيل، هي التي أفرزت مقومات الدولة المصرية الحديثة، وكانت الثقافة أو التعليم من بِنى المقومات الأساسية لهذه الدولة، وهكذا ارتبطت الظاهرة ونقيضها في تشابك معقَّد بين التخلف والتقدم، وبين الجهل والمعرفة، وبين الأوتوقراطية والحرية.

ومن ثَم إذا كان محمد علي وخلفاؤه قد حكموا مصر حكمًا أوتوقراطيًّا في الأساس، فإن طموحاته في الحلم الإمبراطوري الذي تستقل فيه مصر كأداة مركزية للاستقلال عن الآستانة والتوسع في المحيط الشرقي، هو ذاته الحلم الذي تطلَّب التحديث والتعليم، وقاد بالضرورة إلى تغييرٍ تدريجي في المنظومة الثقافية السائدة. أي أن ما قام به محمد علي وإسماعيل، بالرغم من الأتوقراطية، هو الذي أفضى — في خاتمة المَطاف — لأن يواجه أحمد عرابي الخديو توفيق في «ثورة» كاملة الأوصاف تعارض المنظومة الفكرية التي ورثها الخديو عن أجداده.

وهي الثورة التي ضمَّت قبل وقوعها بنصف قرن رائد النهضة الأكبر رفاعة الطهطاوي ثم الخبير المحنك علي مبارك، إضافة إلى البارودي ومحمد عبده وعبد الله فكري وعبد الله النديم وقاسم أمين والسلالة الذهبية للعقل المصري فيما تلا من أزمان.

وبالرغم من أن بهاء طاهر يطرح هذه الأسماء اللامعة في سياقها التاريخي الصحيح، ويربط بينها وبين أطروحة «الحرية» من جهة و«الوطن» من جهة أخرى، إلا أنه لا بد من التركيز على أن هذه الكوكبة من المثقفين الأحرار قد بلورت أساسًا مفهوم «الثقافة الوطنية» في صميم النشأة الأولى للثقافة المصرية الحديثة على مدى قرن كامل.

إن السياق الصحيح الذي أوضحه بهاء طاهر — بأبلغ بيان — هو الولادة العسيرة لمفهوم المواطنة، بمعنى أن هناك وطنًا واقعيًّا ملموسًا لمواطنين يجمعهم التاريخ والجغرافيا والثقافة المشتركة، يتساوون في الحقوق أمام القانون. والنقطة الثانية هي أن هذا الوطن يتحقق في الحرية على اختلاف مستوياتها وبنياتها بدءًا من حرية الوطن نفسه إلى حريات المواطنين جميعًا. وأخيرًا فإن الخصوصية هي قيادة الثقافة والمثقفين لهذا التغيير من المنظومة القِيَمية العثمانية إلى المنظومة القِيَمية الحديثة. هذا هو السياق الصحيح لنشأة وتطور الثقافة الوطنية بإشكالياتها على مدى القرن الأول من النهضة بين ولاية محمد علي (١٨٠٥م) إلى بداية القرن العشرين. وهي النشأة التي قالت في سيرة الطهطاوي، كما في سيرة الثورة العرابية، بتعدُّد اتجاهات الفكر المصري، وتنوُّع وظائفه التي تتكامل في النهضة بالبلاد، أو ما يدعوه بهاء طاهر «بإنقاذها». قالت أيضًا إن المثقفين المصريين أنماطٌ مختلفة من حيث المواقع الفعلية لمشروع النهضة (وليس التنوير كما يُشاع خطأ). وقالت كذلك إن «نهضتنا» ليست نسخة أو مسخًا من أية نهضة أخرى لشعبٍ آخر، وقالت أخيرًا إن هناك التباسًا مزدوجًا في مفهوم الأصالة والمعاصرة، وإن هناك التباسًا آخر بين المثقف والسُّلطة، وإن هذه الإشكاليات كلها، الوافدة من نشأة الثقافة الوطنية صاحبت تطورها إلى اليوم؛ لذلك يحفر بهاء طاهر عند الجذور حول هذه الإشكاليات في بقية فصول «أبناء رفاعة».

٤

لا يقول بهاء طاهر صراحة إنه على طول الكتاب وعرضه يعالج مفهوم «الثقافة الوطنية». ويبدو عنوان «أبناء رفاعة» خادعًا للوهلة الأولى، لأنه بالفعل يضم فصولًا مستقلة عن طه حسين ويحيى حقي ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم، ولأن العنوان الجانبي يقول «الثقافة والحرية». واقع الأمر أن هذه العناوين صحيحة، ولكن النص يحمل في طياته ما هو أعمق، بالرغم من تفرق فقراته بين زمان ومكان الكتابة.

ولكن المضمَر في كتاب بهاء طاهر تعلو قيمته على المعلَن، وهو أن لرفاعة الطهطاوي أبناء وأحفادًا، فهو خيط مستمر لا ينقطع، وهو أيضًا أن الحرية كانت ولا تزال رسالة الثقافة والمثقفين منذ عصر النهضة، هذا هو المعلَن والصحيح أيضًا. ولكن المضمَر هو اكتشاف لا يقصد إليه الكاتب قصدًا لأنه في بِنيته الفكرية من المسلَّمات، غير أن القارئ الخفي داخل النص يتلمس جذوره خلال عملية الحفر، هذا الاكتشاف هو مفهوم الثقافة الوطنية.

بين البحث عن «الوطن» من جهة، وحق المواطنة من جهة أخرى، كان بهاء طاهر يزيل بدقة أكوام الرماد العثماني التي حالت زمنًا طويلًا دون الإمساك بزمام الوطن الحي الملموس الغارق حتى العنق في مفاهيم دولة الخلافة والإمبراطورية باسم الولاية، وطيلة هذا الزمن اندثرت حقوق المواطنة لدرجة التلاشي باسم الدولة الدينية. لهذا السبب ربط بهاء بين الثقافة التي تضيء في الوعي العام معنى الوطن، وبين الحرية التي تستعيد للمواطنين، على اختلاف أديانهم وطبقاتهم الاجتماعية، حقوق المواطنة. ولكن المسكوت عنه في ذلك كله هو أن نشأة الثقافة الوطنية التي تتناقض منظومتها مع المنظومة الفكرية والقِيَمية العثمانية قد ارتبطت أصلًا بالحاجات الفعلية لمجموع المواطنين، ولم ترتبط بآليات رد الفعل النظري على مفهوم الأممية أو على مفهوم الآخر الغريب الأجنبي، إنها احتياجات الواقع الملحَّة التي أوجزها المؤلف في عبارة «الإنقاذ من الهلاك». كانت مصر على وشك الموت الفعلي، وبحاجة لما ينتشلها من الغرق في الجوع والجهل والفقر والتخلف والظلم إلى شاطئ الحياة الإنسانية اللائقة بأصحاب حضارة عريقة. هذا الاحتياج الذي يرادف الحياة بدلًا من الموت، هو الأب الشرعي للثقافة الوطنية ومنظوماتها الفكرية والقِيَمية الجديدة. ولم يكن ميلاد هذه الثقافة إذن نخبويًّا، وإن حملت النخبة شعلتها، ولم تكن هذه الثقافة في مواجهة الدين بل كان علماء الدين من بين قادتها، ولم تكن هذه الثقافة في مواجهة الغرب وإن شارك أصحابها من محمد عبده إلى قاسم أمين إلى طه حسين في منازلة البعض من أهل الغرب. لم تكن هذه الثقافة مجرد نقل واقتباس وترجمة عن أوروبا وإن نقل روادها واقتبسوا وترجموا. لم تكن هذه الثقافة أولًا وأخيرًا «رد فعل» بالسلب أو الإيجاب، ولا مجرد صدًى للصوت أو صورة من أصل، بل كانت إبداعًا وطنيًّا خالصًا مصدره تلبية الحاجات الفعلية في اتجاه الإنقاذ من الاندثار الجماعي للوطن؛ لذلك خلَت ثقافتنا الوطنية في نشأتها الأولى ومسيرتها النهضوية من التعصب العرقي أو الطائفي أو الطبقي أو حتى الوطني. نشأت الاجتهادات في مهدها متنوعة الاتجاهات والتخصصات (الطهطاوي من رحلته الشهيرة إلى التأليف والترجمة والتعليم، علي مبارك والتعليم، محمد عبده والإصلاح الديني، قاسم أمين وحرية المرأة، البارودي والشعر، النديم والصحافة … إلخ)، ونشأت هذه الاجتهادات والتنوعات من جنسيات وافدة من المشرق والمغرب ﮐ «شبلي شميل وفرح أنطون وجورجي زيدان، وكان قاسم أمين من أب كردي، بالإضافة إلى رواد المسرح والسينما والصحافة من السوريين واللبنانيين». وقد كانت الخصوصية المصرية هي التي جذبت هؤلاء وأولئك من ديارهم بالرغم من أن مصر كانت لا تزال ولاية عثمانية في القرن الماضي. ولا بد أن صفات أساسية هي التي فرَّقت بين بلادهم ومصر حتى إنهم فضَّلوها وطنًا ثانيًا وأخيرًا. هذه الصفات هي ذاتها صفات الثقافة الوطنية المصرية، فإذا كان ينبوعها واحدًا هو الاحتياجات الفعلية للشعب والوطن فإنها متعددة الروافد التي أغنت الأجوبة على الأسئلة المطروحة.

لم تتخلَّ هذه الثقافة الوطنية عن إسلامها الحضاري في أي وقت كما يبرهن بهاء طاهر في مواضع عديدة من كتابه، بكل ما تعنيه الحضارة الإسلامية من اختلافٍ جوهري مع الإسلام العثماني. وبالرغم من أن فكرة «الوطن» قد وُلدَت تحديدًا في الجغرافيا والتاريخ، فإن البُعد العربي كان حاضرًا في صميم الثقافة الوطنية ولا يزال. كذلك كان البُعد الإنساني العالمي المختزَل عمدًا لدى البعض في مصطلح الحضارة الغربية. ولكن هذا البُعد هو ثمرة تفاعل وحركة حرة تنطلق — أساسًا — من مصلحة الوطن واحتياجات أهله الفعلية، وليس — كما يشاع — غزوًا ثقافيًّا ليُوصَف رواد النهضة بالعمالة الحضارية للغرب. ومن هنا لم تكن السلفية المصرية في فجر النهضة رؤيةً ماضوية بل عنصرًا من عناصر النسيج الوطني، كما لم يكن ما يُسمَّى بالتغريب استنساخًا لصورة الغرب، بل استئنافًا للتواصل الحضاري مع العالم.

وقد اتخذ بهاء طاهر من طه حسين نموذجًا فذًّا للمثقف الوطني الذي حاصرته السلفية في مراحلها المشوَّهة إبان عهود الانكسار، وقدَّمته إلى الناس باعتباره عدوًّا لحضارة الإسلام، عميلًا لحضارة الغرب، مناهضًا للفكرة العربية. وبالرغم من أن الكاتب قد حدد موضوعه عن طه حسين والغرب، إلا أنه أحاط به من زوايا الوجه الرئيسي لطه حسين وملامحه البارزة كافة. ونحن ندرك على الفور أن صاحب الإسلاميات البارزة في تاريخنا الثقافي ينتمي إلى الحضارة الإسلامية انتماءً عضويًّا لا لبسَ فيه، وأن صاحب الأمجاد النقدية في الأدب العربي من المتنبي إلى أبي العلاء ينتمي إلى الثقافة العربية انتماءً عضويًّا لا غشَّ فيه، وأن مترجم اليونانيات العظيم ينتمي إلى الحضارة الإنسانية انتماءً لا ريبَ فيه، وأن صاحب «مستقبل الثقافة في مصر» ينتمي إلى هذا الوطن انتماء العقل والقلب والروح والدم، انتماء الماء إلى النهر والشعاع إلى الشمس، وذرة التراب إلى الأرض. كان طه حسين كالطهطاوي من قبل وبقية أبناء رفاعة من بعدُ، إيجازًا باهرًا لمفهوم الثقافة الوطنية، وهو المفهوم المغاير كليًّا لمعناها الدارج في الأدبيات التي تختزلها إلى مجرد رد فعل على الأممية الدينية أو على الثقافة الاستعمارية. هذه الأدبيات التي تتعامل مع الثقافة الوطنية كحاصل جمع عدة عناصر مستقلة عن بعضها البعض، أو أن بعضها يلغي البعض الآخر، بينما هي نسيج واحد متعدد الأشكال والألوان ومراحل النمو الذي لا يعرف التوقُّف أو الانكفاء على الذات.

ه

ربما كان من محاسن المصادفات أو من مساوئها أن يصلنا كتاب بهاء طاهر عن «أبناء رفاعة» وعن «الثقافة والحرية» في زمانه ومكانه، وفي سلسلة شعبية تجعله في متناول اليد. أما محاسن المصادفات فلأن أبناء رفاعة وأحفاده يواجهون عاصفة سوداء تستهدف اقتلاع الثقافة الوطنية من جذورها التي يحفر من حولها بهاء طاهر والآخرون، ومن ثَم فالوطن بأمسِّ الحاجة إلى هذا الحفر حتى تتألق الذاكرة الجماعية للشعب المصري من جديد. وأما مساوئ المصادفات، فلأن مصر المدنية التي حاول الطهطاوي — وأبناؤه من بعده وأحفاده جميعًا — بناءها بالعَرق والدم والدموع مهدَّدة كما لم تتهدد من قبل في عصرها الحديث … فالظلام الذي كان ينسج المنظومة العثمانية من قِيَم الانحطاط قبل قرنين يدق على أبواب الكنانة بعنفٍ هذه الأيام، ويكاد يدمر — برياحه الصفراء — كل ما استُشهد من أجله الآباء والأجداد.

يجيء «أبناء رفاعة» إذن في وقته ومكانه ليقول لنا إن هناك جذورًا للمستقبل، كما أن هناك جذورًا للماضي، وأن هذا الماضي نفسه يمتلئ بالجذور النضِرة القابلة للحياة في الحاضر والمستقبل، كما أنه يمتلئ بالجذور الميتة. ويقول لنا بهاء طاهر إن مصرنا أحوج ما تكون إلى الجذور الحية الخصبة ببذور المستقبل؛ لذلك فهو يحفر حول هذا النوع من الجذور بهدف تنقيتها وريِّها حتى تواصل النماء والاستمرار.

ويلفت النظر أن اختيار الكاتب لأبناء رفاعة لم يكن عشوائيًّا ولا وليد المصادفات في الكتابة؛ فطه حسين ويحيى حقي ويوسف إدريس ويحيى الطاهر عبد الله من أجيالٍ مختلفة تنتمي إلى اتجاهاتٍ وأزمنة وتجارب ورؤًى متباينة، ولكن حياتها ومآسيها وإنجازاتها تنتمي — في الوقت نفسه — إلى ذلك المشروع الحضاري الكبير الذي وضع لبناته الأولى محمد علي لإقامة دولة قومية حديثة، وأسَّس معماره الثقافي رفاعة الطهطاوي لإقامة المجتمع المدني.

وما دام الحاضر هو الذي يعنينا في الطريق إلى المستقبل، لا بد لنا من الإقرار بأن النهضة لم تمضِ بنا في خطٍّ مستقيم، بل عرفت العديد من الانكسارات والفجوات المظلِمة. وصحيح ما يذهب إليه بهاء طاهر من أن مصر كانت بعد كل كبوة تستعيد وقفتها وتمضي إلى الأمام. ولكن هذا «القانون» — إن جاز التعبير — ليس حتميًّا بالضرورة؛ فهو قد يصلح قياسًا إلى عصرٍ كاملٍ كالعصر الملكي والسلطة الاستعمارية، أو كالعصر الثوري والسلطة الوطنية، ولكنه لا يصلح مقياسًا في المطلَق. لكل مرحلة تاريخية ونظامها الاجتماعي-الثقافي، خصوصيتها. وكما أن النهضة من أحد جوانبها تراكمٌ ثقافي، فإن السقوط بدوره تراكم، والحساب التاريخي الدقيق للنهضة والسقوط في المجتمع والفكر المصري الحديث يؤكد أن أزمنة النهضة كانت الأقصر عمرًا، وأنه ليس من نهضة في إحدى المراحل تمحو السقوط في بقية المراحل. والمقياس في جميع الأحوال هو: الموقف من الديمقراطية الاجتماعية والسياسية والثقافية، والموقف من قضية التقدم بمختلف تجلياته ومستوياته. بهذا المقياس فإن رصيدنا من النهضة عظيمٌ على صعيد النخبة، أما رصيدنا من السقوط فأعظم على صعيد القاعدة والهياكل الاجتماعية. وليس هذا الرصيد جمعًا كميًّا منذ عباس الأول إلى الحكومات الدكتاتورية في عصر فاروق إلى عصر الانفتاح السعيد. وإنما الرصيد الاجتماعي-الثقافي يُقاس بتفاعل السلبيات على مدى العصور، وبالكيف الناتج عن هذه التفاعلات من جهة أخرى، وبهُوية النظام الاجتماعي الذي يستقبل هذا الكيف بالتشجيع أو بالمقاومة.

لذلك لا يصبح عدد المدارس والجامعات وعدد الخريجين مقياسًا للتقدم أو التخلف، وإنما تصبح المناهج والبرامج وسلوك المواطن وثقافته، وتصبح الأمية الأبجدية والأمية الثقافية والانفجار السكاني والإدمان والجرائم الشاذة والإرهاب هي المقاييس الموضوعية للتقدم والتخلف. ولا يعود مترو الأنفاق أو عدد ونوع السيارات الخاصة، أو الشقق الفاخرة أو قنوات التليفزيون هي المعيار الصحيح لمعرفة حالنا، بل تغدو الأحياء العشوائية والهُوة الواسعة بين الأجور والأسعار وسُلَّم القيم في الفكر والسلوك من المعايير الأساسية لتقييم هذه «الحال». ولا تعترف الأخلاق بقشور التديُّن السطحي أو التديُّن السياسي أو بالسباق في بناء المساجد والكنائس أو في التنافس بين المتعصبين، وإنما تعترف أخلاقيات المجتمع المتقدم بالضمير الفردي والجماعي والولاء الوطني والحس الإنساني.

وفي ضوء هذه المؤشرات وغيرها كثير لا بد من الإقرار بأن بلادنا تجتاز أزمة عنيفة ليست حاصل جمع «الفجوات المظلِمة» التي مرَّت بتاريخنا الحديث فحسب، وإنما بتفاعل ظلمات كل العصور التي مرَّت بنا، مضافًا إليها النظام الاجتماعي الجديد الوافد مع الانفتاح، والذي هيَّأ للظلمة كافة مقومات النجاح؛ لذلك، فالمرحلة التي نمر بها ليست مجرد كبوة سرعان ما نتجاوزها، ونصبح أفضل مما كنا. هذه النتيجة المتفائلة تتجاوز الرصيد المتراكم من أزمنة السقوط والمناخ المهيَّأ لاستقبال تفاعلاتها، والذي قضى في خاتمة المَطاف على معادلة النهضة التي كانت. وبالطبع لا يجوز أيضًا أن نتجاهل جرثومة السقوط في قلب النهضة ذاتها، وهي عملية «التوفيق» بين ما سُمي بالأصالة، وما سُمِّي بالمعاصرة. هذا التوفيق الذي أفادنا في مراحل المجد القومي، لم يعد يسنده التركيب الاجتماعي المنسجم مع هذا المجد. ولأن شيئًا لا يعود إلى الوراء، ليس صحيحًا أن مصر عادت رأسمالية كما كانت في العصر الملكي، وليست صحيحةً التصنيفات التي شاعت في مواكبة ذلك العصر الذي يليه، لتوصيف القوى الاجتماعية المتصارعة. وإنما هناك «مجتمع» جديد يفرز ثقافته بالقصور الذاتي من وسائل استهلاك أكثر منها وسائل إنتاج، يتم ذلك في مواجهة مقاومة جسورة لإنتاج ثقافة جديدة ونهضة مغايرة للتي كانت.

ثقافة جديدة لا تعيد إنتاج ثقافة تلك النهضة، ولكنها تثق بغير حدودٍ أن لها جذورًا عميقة في أغوار الأرض الوطنية. وهذه هي القيمة الحقيقية لكتاب بهاء طاهر؛ فهو لا يعيد شحن البطارية القديمة، وإنما يدعو في إلحاحٍ مستميتٍ إلى بطارية جديدة بل قاطرة جديدة تستطيع مواصلة الطريق الوعر الذي افتتحه الطهطاوي، ودفع الثمن في منفاه، ومضى فيه علي مبارك ومحمد عبده وعبد الله النديم وطه حسين والعقاد وسلامة موسى فعرفوا جميعًا المنفى والمطارَدة والسجن. ثم جاء من بعدهم مئات من حمَلة المشاعل التي لم يطفئها ظلام السجون أو رصاصات الغدر، ليس من نهضة بلا ثمنٍ؛ وبهاء طاهر يدعو هذا الجيل إلى نهضة جديدة ثمنها أفدح!

٦

لا يقول لنا مصطفى الفقي إن كتابه «تجديد الفكر القومي» يعالج أزمة الهُوية التي طفت على السطح خلال السنوات العشرين الأخيرة، وإنما هو يميل إلى التصريح بأنه يعالج أزمة الفكر القومي نفسه؛ وبالطبع، هناك علاقة وثيقة بين أزمة الهُوية وأزمة الفكر التي يعبِّر عنها أو يجسِّدها، ولكنهما ليستا أزمة واحدة.

لذلك فالتجديد الذي يقصده مصطفى الفقي هو نوع من النقد الذاتي للفكر القومي، وأضيف: من زوايا أو زاوية مصرية. فنقد الفكر القومي يختلف بالضرورة من ناقدٍ إلى آخر حسب التجربة «القومية» التي يعبِّر عنها، نشأتها وتطورها وانتصاراتها وانكساراتها وخباياها. يختلف النقد «البعثي» عمومًا عن النقد الناصري عمومًا، وكلاهما يختلف عن نقد الانتماء إلى حركة القوميين العرب بمختلف تفريعاتهم اليمنية مثلًا والفلسطينية على وجه التحديد.

من هنا، فكلام المؤلف عن أحزاب القومية العربية باختلاف تياراتها الفكرية والتنظيمية لا بد وأن يكون مفتاحه هو التجربة المصرية عمومًا والتجربة الناصرية على وجه الخصوص. وهو الأمر الذي كان يستوجب حديثًا مفصلًا حول التجربة الوطنية، فكرًا أو ممارسة، قبل أي حديث آخر. ذلك أن العلاقة بين الوطنية المصرية والقومية العربية من الإشكاليات الأساسية في الحفر عند الجذور. قبل أي تجريد نظري حول العلاقة بين القومية والدين … فالتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي لبلاد الشام قبل الإسلام يختلف عن هذا التاريخ في مصر أو العراق أو اليمن أو السودان أو أقطار المغرب العربي. وهذا التاريخ السابق على الفتوحات الإسلامية قد استقبل الدين الجديد بثقافته الجديدة على نحوٍ يختلف بين قطر وآخر أو منطقة وأخرى. وهو الاختلاف الذي يخلق — بالضرورة — تنوعًا بين المجتمعات الإسلامية، بالرغم من توحُّدها في العقيدة وشعائرها. كذلك الأمر تمامًا بين التاريخ الإسلامي نفسه قبل الدعوة الحديثة إلى «العروبة» أو «القومية العربية»، فهذا التاريخ يختلف بدوره من بلدٍ إلى آخر بالرغم من انتماء الجميع إلى الحضارة العربية الإسلامية.

وقد أثمر التفاعل بين التاريخ الحضاري للمناطق أو البلاد المختلفة والفتوحات الإسلامية أنماطًا ثقافية واجتماعية وسياسية متعددة تعدد الحضارات السابقة على الإسلام. كذلك أثمر التفاعل بين الإسلام في هذه المناطق والبلاد مع الدعوة القومية العربية الحديثة أنماطًا جديدة متنوعة لا سبيل لقسرها في قالبٍ واحد. ثم كان التفاعل الثالث بين الأنماط الإسلامية المتولِّدة عن الجذور القديمة والفتح الجديد من ناحية، وبين التاريخ الإسلامي والدعوات العربية الحديثة من ناحية أخرى؛ بحيث اكتسب التعدد صلابة أقوى، والتنوع أشكالًا أرسخ.

هكذا يمكن القول أن تفاعلات الحضارة الفرعونية واليونانية الرومانية والقبطية مع الفتح الإسلامي قد اختلفت ثمارها عن تفاعلات الحضارة الفينيقية في بلاد الشام والحضارة الآشورية-البابلية في وادي الرافدين مع هذا الفتح. كما أن بغداد العباسية ودمشق الأموية ومصر الفاطمية قد اختلفت تفاعلاتها مع السلطنة العثمانية والحروب الصليبية والاستعمار الأوروبي الحديث بمختلف نتائج هذه التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وقد التقت هذه النتائج بالدعوات القومية العربية الحديثة في إطار هذا التعدد في النتائج، وهذا التنوع في حصيلة التفاعل.

ومن ثَم فالأمر لا يقتصر على هذا الفصل الجميل الذي كتبه مصطفى الفقي تحت عنوان «المصريون وقضية العروبة»، وإنما كان الأمر يحتاج إلى «رؤية مصرية لقضية العروبة» تتناول الفكر القومي بالمراجعة الشاملة والجِذرية، وليس بمجرد النقد لبعض المواقف أو السلبيات أو الثغرات التي أفضت إلى النكسات والهزائم.

بل إن هذه النكسات والهزائم كانت ولا تزال صالحة لطرح الأسئلة المُوجِعة: لماذا كانت فلسطين قضية العرب المركزية، ثم انتهى الأمر بقطاعاتٍ رئيسية من دعاة الفكر القومي إلى «اتفاق غزة-أريحا أولًا»؟ ولا أعني بالقبول سوى التدرج من «كامل التراب الفلسطيني» إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي مسيرة التراجع المنظَّمة خلال ربع قرن، عن مبدأ أساسي في الفكر القومي. ولماذا لم تستطع دولتان تنتميان إلى حزبٍ قومي واحد هو حزب البعث أن تتَّحدا في أي يوم من الأيام؟ ولماذا كان «نموذج» الدولة القومية العربية دائمًا — ودون استثناء — هو النموذج الدِّكتاتوري المستبِد الذي يجعل من الطغيان صفة ملازِمة للشعارات النبيلة؟ ولماذا لم تحقق الدعوة القومية في أي بلدٍ تنتمي قيادته إليها، أية نجاحاتٍ مؤكدة في التنمية أو الثقافة أو محو الأمية أو الحيلولة دون الحروب الأهلية السرية والمعلَنة؟

لا يكفي في محاولة الجواب أن يشير الدكتور مصطفى الفقي إلى أخطاء في التطبيق، أو إلى أخطاء الأفراد أو إلى الفرص الضائعة؛ فهذا نوع ضروري من النقد للماضي وربما الحاضر أيضًا، ولكنه ليس تجديدًا من أجل المستقبل، وليس حفرًا عند الجذور. لقد وصل الفكر القومي إلى السلطة في أكثر من بلد، من الجزائر إلى العراق، ومن ليبيا إلى اليمن، ومن مصر إلى سوريا، ولكن ما هي الحصيلة الختامية؟ كان الانفصال ذات يوم، وكانت الحرب ذات يوم آخر، وكانت الهزيمة الاقتصادية والسياسية والعسكرية في بقية الأيام.

ولا نريد العودة إلى أن «بقاء النظام التقدُّمي» رغم أنف الهزيمة هو النصر، ولا نريد العودة إلى أن بقاء «القائد والمعلم والأب» رغم الخراب الشامل هو النصر، ولا نريد العودة إلى أن «المؤامرة الدولية» هي السبب. والدكتور الفقي لا يعود إلى هذا المشجب أو ذاك، ولا يعلِّق الخطايا في رقاب المجهول أو المعجزة، وإنما هو يحلل بعمقٍ، ويستبصر ببصيرة نافذة مسيرة الفكر القومي من زاوية نقدية. ولكن المطلوب، كما يقول عنوان الكتاب، هو تجديد هذا الفكر. ولا تجديد من غير الحفر عند الجذور، أي مواجهة الأسئلة التي يطرحها الواقع نفسه بسقوط الفكر المنسوب إلى العروبة والقومية من ناحية، والتهديد الفعلي للدولة الوطنية الحديثة من ناحية أخرى، والمسافة بين سقوط الفكر والتهديد بإسقاط الدولة ليست طويلة جدًّا.

۷

يقول لنا الدكتور مصطفى الفقي: «لا تناقض بين العروبة والإسلام، ولا تناقض بين الوطنية المصرية والقومية العربية.» وهذا كله صحيح، ولكن كيف؟ هذا هو السؤال الذي قِبل «الفكر القومي» منذ البداية جوابًا ملتبسًا عليه، حتى غدا هذا الجواب امتدادًا للتوفيقات الثنائية في فكرنا العربي القديم والحديث.

وبالرغم من أن الدعوة «القومية» العربية تنشد في مظانها الأساسية نوعًا من «النقاوة» العِرقية حينًا والدينية حينًا آخر، والثقافية أحيانًا — فيما دعوناه بالأصالة — فإن صاحب «تجديد الفكر القومي» لم يلفت النظر إلى أن هذه النقطة — بالتحديد — تحتاج إلى المراجعة … لأن واقع الأمر هو أن تلك الدعوة قد نهلت أفكارها المحورية من ينابيع أوروبية، سواء تمثَّلت هذه الينابيع في الوحدة الألمانية في زمن بسمارك والوحدة الإيطالية في زمن جاريبالدي، أو في فكر الفيلسوف الفرنسي برجسون، هذا المثلث الفكري السياسي هو الإطار المرجعي الضمني والمعلَن أحيانًا في أدبيات الروَّاد الأوائل لفكر «الحركة» القومية العربية الحديثة. هذا الإطار يقول من جهة إن حكاية الأصالة التي يزيِّن بها البعض هذا الفكر، والتي ينادي بها هذا الفكر القومي مسألة فيها نظر وتستحق المراجعة. ويقول من جهة أخرى إن «السياسة» في الدعوة القومية العربية، سابقة على أي تفكير أو تفلسُف أو تنظير. وقد سبقت فيها الأهداف أية «معرفة» بالوسائل، ومن ثَم كانت الوسائل المتاحة للدعوة هي ذاتها الوسائل التي أتيحت للينبوع. وكانت الأهداف في التجربتين — الألمانية والإيطالية — هي «الوحدة» القومية، وكانت القوة المسلحة هي أداة التوحيد، وكان الزمن هو القرن الماضي. وهكذا نشأت القومية العربية الحديثة كحركة سياسية أولًا، ودعوة سياسية أيضًا. ولم يكن الفكر القومي إلا هذه الدعوة للوحدة العربية، ولم تكن هذه الوحدة في تلك الدعوة سوى «الدولة المركزية الواحدة».

كان ذلك استلهامًا مباشرًا للمصدر الأوروبي، دون أية محاولة للحفر عند الجذور التي أحاطتنا، علمًا بأن هناك خصوصيات عربية مختلفة اختلاف حضارات المنطقة السابقة على الفتح الإسلامي، واختلاف التاريخ الإسلامي نفسه في كل رقعة عربية عن الأخرى. وأيضًا دون أية محاولة للتمييز بين ما يقبل التعميم في التجارب الأوروبية، وما لا يقبل ذلك ويبقى في إطار الخصوصيات الثقافية والحضارية، بالإضافة إلى اختلاف الأزمنة … فوحدة بسمارك أو جاريبالدي قد تمَّت كلتاهما في بيئة وزمن يغايران البيئات العربية وزمانها. وأفكار برجسون «القومية» لم تكن لتزيد في ثنايا ما كان يدعوه بالتطور الخلَّاق عن تعزيز الخيال الصهيوني حول الدولة اليهودية التي تجمع بني صهيون من شتات الجيتو من أرجاء العالم.

هذه الأفكار وتلك التجارب لم تكن لها علاقة — من قريب أو بعيد — بتاريخنا العربي، ولكنها تركت أثرها الفعال في الدعوة القومية العربية الحديثة؛ هدف الوحدة ووسيلة الدولة المركزية الشاملة. لذلك كان يتعيَّن على مصطفى الفقي، وهو يستعرض الكثير من الطموحات والأحلام والانكسارات، وكذلك وهو يراجع الخطايا والأخطاء، أن يتساءل عن الجذر العميق للكوارث والهزائم: ألا يمكن أن يكون الصدام بين الغايات والوسائل هو الذي جعل الحلم مستحيلًا؟ ألم نسترِح إلى النقل عن الآخرين وإلى الحماس الإنشائي بدلًا من الإبداع الفكري الحقيقي والإبداع السياسي الحقيقي بالتحليل العلمي الدقيق لواقعنا ومكوناته وإشكالاته، واستخلاص الأشكال «الوحدوية» التي تناسبنا، وإن لم يسبقنا غيرنا إلى تجربتها؟ ولكننا في واقع الأمر رفعنا الرايات: «الوحدة أولًا» أو «الوحدة الشاملة» أو «الوحدة الاندماجية». ومضينا في المظاهرات، يتهم بعضنا البعض ويذبح بعضنا البعض إذا خرج على هذه الرايات دون أن ننجز أية وحدة ولو جزئية أو نسبية أو تقريبية، بل وصلنا إلى العكس تمامًا، إلى حروب الحدود والحروب الأهلية وحروب الغزو.

ليست الوحدة أكثر من وسيلة، وليست الدولة أكثر من وسيلة. أما الأهداف فينبغي أن تكون هي الأهداف الوطنية لشعوب المنطقة كالتحرر والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والديمقراطي والثقافي، وما دامت بلادنا ترتبط ببعضها البعض بأوثق الوشائج، وما دامت ثرواتها واحتياجاتها تتكامل مع بعضها البعض، فإن البحث عن الإطار الذي يوظِّف هذه الوشائج والأواصر لخدمة الإنسان العربي — أولًا وأخيرًا — يصبح هو المطلوب دون شروط مسبقة، شروط عقائدية أو سياسية، الشروط الموضوعية وحدها هي التي تفرض نفسها على أي شكلٍ أو صيغة، بل هي التي تكوِّنه.

في مقدمة هذه الشروط هذا الطابع الفسيفسائي الذي لا يضم فحسب أعراقًا وطوائف وثقافات مختلفة، بل هي فسيفساء تاريخية واجتماعية واقتصادية أيضًا. ومن ثَم فالتنوع خصيصة يجب التسليم بها والتعامل معها دون قمع مركزي أو قهر لا مركزي. وفي مقدمة الشروط كذلك أن الإسلام ثم الحضارة الإسلامية قد لعبا دورًا حاسمًا في توحيد هذه الشعوب، ومن ثَم فانتماؤها الحضاري الرئيسي — أيًّا كانت أديانها وعقائدها — هو لهذه الحضارة.

ولعل المسيحية الشرقية جزءٌ لا يتجزَّأ من هذه الحضارة العربية الإسلامية بالرغم من أسبقية المسيحية على الإسلام من الناحية التاريخية، وبالرغم من أنها تبدو من فوق السطح وكأنها مفارقة؛ إذ كيف تغدو المسيحية جزءًا من الحضارة العربية الإسلامية، ولكن الواقع يشهد أن المسيحية الشرقية عاشت — ولا تزال — أطول وأعظم أزمانها في ظل الحضارة الإسلامية، وأعطت، وما زالت تعطي، أعظم عطاياها في ارتباط وثيق بمجتمعات الحضارة العربية الإسلامية. وربما كانت أطروحة الدكتوراه لمصطفى الفقي حول الأقباط والسياسة ومكرم عبيد، وكذلك كتاب ميشيل عفلق عن الرسول الكريم، والمجلدات الستة لجورجي جرداق عن علي بن أبي طالب، ومؤلفات نظمي لوقا عن الإسلام والرسول والخلفاء الراشدين، كلها قطرة في بحر، شاطئاه المسيحية الشرقية والحضارة العربية الإسلامية، لا سبيل لتفرقة مياهه عن بعضها البعض.

وإذا كان مصطفى الفقي قد أهدانا كتابًا جميلًا في نقد الفكر القومي، فإننا نتوقع منه كتابًا آخر يبدأ بالفصل بين الهُوية والأيديولوجيا، فدُعاة الفكر القومي يضمرون حينًا، ويُفصِحون أحيانًا، عن أن الفكر القومي هو أيديولوجية القوميين وحدهم. بينما القومية هي هُوية العرب جميعًا أيًّا كانت انتماءاتهم السياسية أو الثقافية، وربما كان المطلوب ترسيخ هذا المفهوم أكثر من أي وقتٍ مضى، حتى لا تظل الهُوية القومية حكرًا لأية جماعة سياسية.

هذا الاقتراح لا ينكر بل يؤكد أهمية كتاب «تجديد الفكر القومي» الذي نرجو أن يخرج من حيِّز الطموح، إلى آفاق «المشروع»، أحد مشاريع الحفر عند الجذور.

۸

لا بد من وقفة قصيرة نحدد فيها المَحاور التي توصَّل إليها الفكر المصري المعاصر من خلال العيِّنات الدالة في أعمال يونان لبيب رزق عن الدولة القومية، وبهاء طاهر عن الثقافة الوطنية ومصطفى الفقي عن الهُوية.

ونحن نعتقد، ابتداء، أن هذه المَحاور هي التي يدور من حولها الصراع في الحاضر، وأنها متشابكة في العمق والسطح غاية التشابك. إنها تلتقي في الحفر عند الجذور، لهذه الدرجة أو تلك، ولكنها بنسبٍ متفاوتة تخاطب (الأزمة) الراهنة من موقع التفاعل معها، وليس التعالي عليها.

وقبل المُضي في طريقنا إلى بقية الظواهر التي تشكِّل مختلف جوانب الأزمة، وتفضح (المكبوت) فيها ومنها، لا بد من الإشارة إلى جملة نقاط:

الأولى هي أن الدولة القومية الحديثة كادت أن تكون عربية ثلاث مرات مشهودة؛ في تجربة محمد علي التي اتَّخذت شكل المحاولات المسلحة بقيادة نجله إبراهيم باشا صاحب القول المشهور «لن أتوقف حتى آخر رقعة تتكلم العربية» فكانت اللغة ضمنيًّا، وثقافتها فعليًّا، عصب الهُوية التي يفكر بها أم لا يفكر محمد علي في مواجهة الخلافة العثمانية التي ينتمي أصلًا إليها. ويسجل الغرب مجتمعًا أنه وقف بحزمٍ إلى جانب «رجل أوروبا المريض» ضد محمد علي الذي كان قد اتجه إلى هذا الغرب لتحديث بلاده. أي أن مصالح الغرب هي التي فرضت نفسها على «المبادئ» المجردة، سواء وصلتنا عن طريق الحملة الفرنسية، أو سعينا نحن إليها عن طريق البعثات، أو وفدت إلينا عن طريق العائدين، وخاصة إمامهم رفاعة الطهطاوي.
والمرة الثانية كانت في زمن أحمد عرابي الذي تكشف مذكراته أن «سوريا والحجاز» كانتا مدار الأفق الذي يستبصره في الأفق، ليس كعمقٍ جغرافي، وإنما كإطارٍ للدولة القومية الحديثة التي يرنو إليها. وتقول مسودة الدستور وبرنامج الثورة العرابية الذي خطَّه الإمام محمد عبده بيده، أن الدولة التي كان يفكر بها العرابيون استمرارٌ وتطويرٌ لمشروع محمد علي في التحديث دون التوريث، أي في ظل مؤسسات المجتمع المدني والسلطة المنتخَبة، وليس في ظل امتدادات الأسرة العلوية. وكان الخديو إسماعيل قد وضع البذرة — الدستور ومجلس الشورى — التي خُلِع بسببها. أما المشروع الراديكالي للعرابيين فقد تسبَّب في شنقهم ونفيهم ومطاردتهم، واحتلال البلاد مباشرة. وكانت المرة الثالثة في زمن جمال عبد الناصر الذي أنجز الحلم بتمصير السلطة الوطنية للمرة الأولى بعد قرون من حكم الغزاة، فكان إسقاط النظام الملكي وطرد قوات الاحتلال إيذانًا بتحقيق مشروع الدولة القومية الحديثة عبر الوحدة السورية التي سرعان ما أجهضها الانفصال، وكان المقدمة التاريخية لضربة ١٩٦٧م التي أجهزت على مشروع التحديث القومي، سواء من داخل التجربة أو من خارجها، ولكن الغرب على طول التجربة كان خصمها الألد.

في هذه المرات الثلاث كان الاستقلال الوطني والمشروع الحضاري القومي هو الهدف من المحاولة والهدف من هزيمتها أيضًا. وكانت مصالح الغرب دائمًا تتناقض جذريًّا مع ادعاءاته الفكرية المسماة بالمبادئ. كان يقف بثباتٍ وحزمٍ ولا يزال إلى جانب الأوتوقراطية في أسلوب الحكم أي إلى جانب السلطة المستبدة، وإلى جانب الثيوقراطية في المجتمع، أي إلى جانب التخلف الفكري والاجتماعي. وكانت الدولة القوية الحديثة في مراحل نهضتها تعمل على جبهتين؛ مقاومة الاستعمار ومقاومة التخلف، فكان الغرب في حياتنا ظاهرة مزدوجة مع التخلف والاستبداد الواقعي، وأيضًا مصدرًا بين مصادر الفكر والحضارة الحديثة، وفي جميع الأحوال كان الأفق العربي لمشروع الدولة الحديثة حاضرًا، وأيضًا كان ينتهي بالهزيمة.

والنقطة الثانية هي أن المجتمع المصري بالرغم من كل سلبياته كان الأكثر تطورًا بين غيره من المجتمعات العربية التي ظل بعضها إلى الآن تحت مستوى المجتمع، تتراوح خُطاه بين النسيج القبلي والنسيج العشائري مهما بلغت رايات الاستقلال والحدود، وبالتالي أدنى من مستوى الدولة مهما بلغت الرايات والشعارات من ادعاءات، وأيضًا مهما بلغ استهلاك التكنولوجيا الحديثة من مظاهر الثراء. بقي المجتمع المصري الأكثر تطورًا نسبيًّا بسبب العمق التاريخي لجذور الدولة المركزية، وما يشتمل عليه — بالضرورة — من أنساق القيم ومنظومات الفكر وآليات الحياة الاجتماعية، وكذلك بسبب التراكم الثقافي. ومن هنا كان الفكر المصري الحديث هو مادة التحليل لمفكرين عرب معاصرين من خارج مصر، لأن التراكم والتنوع يثير شهية أي منهج ينشد التقييم والتعميم.

هكذا — مثلًا — كانت الدراسة الاستثنائية لعبد لله العروي في الفرنسية، ثم في العربية، بعنوان «الأيديولوجية العربية المعاصرة» التي صدرت أول السبعينيات، فلم يجد الباحث المغربي نماذج أو عيناتٍ أفضل لدراسة التحديث العربي من الشيخ محمد عبده و«الديمقراطي» أحمد لطفي السيد و«التقني» سلامة موسى.

وبعد ذلك بأكثر من عقد كامل أقبلت دراسة الباحث المغربي — أيضًا — عابد الجابري عن «الخطاب العربي المعاصر» حول الأسماء ذاتها وما تلاها إلى جيلنا. وأيًّا كانت الملاحظات أو التحفظات المنهجية على هذه الدراسات وأمثالها، فإن الفضل يعود إلى المجتمع المصري الذي سمح تطوره بهذه المادة الفكرية للدارسين؛ فالمجتمع المتطور وحده هو الذي يعرف مثل هذا التراكم والتنوع الذي يجذب المناهج وربما يؤصلها … فليس خافيًا أن العروي والجابري كلاهما استخدم العديد من المناهج الفرنسية في التفكير الاجتماعي والتاريخي والفلسفي. وقد أبان تطبيق هذا المنهج أو ذاك عن ثغراتٍ في التطبيق لا تعود إلى فساد تلك المناهج بحد ذاتها، وإنما إلى مغايرة المادة المطروحة للبحث، وقد توصَّل تعريب هذه المناهج بالتطبيق على المجتمع المصري وفكره، أنه يتصف أولًا بالمحورية حتى لا أقول المركزية. والمحورية أشبه ما تكون بالعمود الفقري للجسم العربي. وكانت الخلاصة المضمرة من الدراسات العربية والإنجليزية والفرنسية للنصوص المصرية، بدءًا من المفكر السوري الراحل ألبرت حوراني إلى الباحث الفلسطيني هشام شرابي مرورًا بالباحثين المغاربة وليس انتهاءً بالأستاذ الأردني محمد فهمي جدعان، تصب جميعها في خانة «استراتيجية النص»: الدولة القومية الحديثة والثقافة الوطنية والهُوية، وما يصاحب هذه المحاور الثلاثة من إشكاليات العلاقة — بين مدٍّ وجَزرٍ في شكلٍ حلزوني — مع العالمَين العربي والإسلامي، والغرب.

والنقطة الثالثة، هي ما طرأ على هذه المحاور من تغيُّرات على أرض الواقع من جهة، وفي ضمائر النخبة السياسية والمثقفين من جهة أخرى خلال العقدين الأخيرين، حيث عبَّرت بلدان من أقطار النفط العربي الإسلامي تعبيرًا مباشرًا حينًا، وغير مباشر أحيانًا، عن مراجعة جذرية لمفاهيم الدولة القومية والثقافة الوطنية والهُوية، كان لها التأثير الواضح على التحولات الفكرية الحاسمة لبعض الاتجاهات الثقافية العربية بما فيها الاتجاهات «العروبية» ذاتها. ويشترك البَلدان المعنيَّان — وهما ليبيا وإيران — في أنهما يحاولان إقامة (نظام) يختلف عن مفاهيم الثقافة الوطنية المصرية حول الدولة الحديثة والهُوية. وبالطبع فلأي دولة أو شعب مطلَق الحق والحرية في الاختلاف. ولكن الذي حدث أن هذا الاختلاف اشتمل خلال العَقْدين الأخيرين على أطروحة «تعيد الاعتبار» إلى المنظومة القِيَمية السابقة على تحديث محمد علي، وتتعامل مع مجمل الثقافة الوطنية المصرية على أن رموزها لم يكونوا أكثر من عملاء حضاريين للغرب. ولم يقتصر هذا التقييم الجديد على أقلامٍ ليبية أو إيرانية بعينها، وإنما تجاوزه إلى سياساتٍ ثقافية وأقلام عربية ومصرية أتاح لها الإعلام النفطي حرية التعبير عن هذه الأطروحة بمختلف الوسائل. ولم يكن هذا الفكر بعيدًا عن فترة «احتجاب مصر» في السبعينيات، أو عن مرحلة صعود «الإسلام السياسي» في الثمانينيات إلى اليوم.

٩

ليس اليوم فقط، بل لقد عرفنا في سابق الأيام نزاعاتٍ عدة بين أهل الفكر تتخذ العنوان نفسه تحت مسميات مختلفة. ففي زمن مضى كان الخلاف بين طه حسين والعقاد تحت عنوان «لاتينيون أم أنجلوساكسونيون»، وفي زمن آخر كان الخلاف بين العقاد وسلامة موسى حول بيت الشعر الإنجليزي الشهير «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقي الاثنان» لرديارد كبلنج، ولكن الفرق بين كلام تلك الأيام وكلام هذه الأيام أن الحوار في الماضي كان يدور حول اختيارات حضارية شاملة وليست جزئيات أو فرعيات، وأن الحوار في الحاضر يقدِّم هذه الجزئيات أو الفرعيات على أساس افتراضات تميل إلى التعميم؛ إذ هي تتكلم باسم «المجتمع» ككل أو «المجتمع السياسي» أو «الثقافة» دون أن تكون لدينا عن أيٍّ منها أية تفصيلات أو إحصاءات أو قياسات دقيقة.

ويكاد يُجمِع المختصمون من موقعَين مختلفين على أن هناك شرخًا يقسم المجتمع أو «المجتمع السياسي» من قمته إلى قاعدته تقسيمًا رأسيًّا ثقافيًّا واضحًا، يصل إلى درجة «الاستقطاب»، بين العلمانية وما أصبح معروفًا في الأدبيات السياسية والاجتماعية بالإسلام السياسي.

هذا ما يكاد يُجمِع عليه المتحاورون من مختلف الأطراف: علمانية كانت أو سلفية، أو من يرَون أنفسهم وقد يراهم الناس من أهل الوسط. هذا الإجماع على انقسام الثقافة أو المجتمع يعني أولًا أن هناك زاوية موحَّدة للرؤية بينهم جميعًا. إنهم يرون «الوضع» على الأقل بطريقة واحدة. هذه الطريقة الواحدة ليست أكثر من عناصر ثقافية مشتركة أتاحت لهم، على اختلاف انتماءاتهم المعلَنة، رؤية هذا «الشرخ» أو الانقسام مهما تباينت تفسيراتهم بعد ذلك لأسباب الشرخ وهويته والنتائج المترتبة عليه، مما يقع في دائرة الأيديولوجيا وليس في دائرة المعرفة.

دعونا نفترض أن هذا «الشرخ» — إن كان حقًّا له وجود حسب زاوية الرؤية السابقة من فوق إلى تحت بطول المجتمع — ليس جديدًا؛ فالصراع بين ما سُمي حينًا بالثقافة السلفية أو الماضوية أو التراثية أو الأصيلة، وبين ما يُسمَّى أحيانًا بالثقافة العقلانية أو العصرية أو الحديثة أو الجديدة، هذا الصراع يكاد يبلغ من العمر حوالي قرنين من الزمان أي منذ اكتشاف مجموعة من المنظومات الفكرية والحضارية المغايرة للأطروحات العثمانية التي كانت سائدة، ولعل بعضها لا يزال. وقد أصبح عصر محمد علي الذي فصل بين التعليم الديني والتعليم المدني تاريخًا رامزًا إلى بداية هذا الصراع بين الثقافتين.

لنقل إذن إن «الشرخ» المُشار إليه قديمٌ وليس جديدًا، يتسع في بعض الأوقات، ويضيق في بعضها الآخر، ولكنه ليس جديدًا في جميع الأحوال. وقد كانت هناك دائمًا ثلاثة مواقف من هذا الانقسام: الموقف السلفي الواضح، والموقف التغريبي الواضح، والموقف التوفيقي الذي دعوناه اصطلاحيًّا بالنهضة (وليس التنوير كما هو شائع في السنوات الأخيرة). أي ذلك الموقف الذي يوفِّق بين الأصالة والمعاصرة، وبين التراث والحداثة، وبين القديم والجديد.

ولكننا سنلاحظ على نشأة هذه النهضة وتطورها أن المواقف الثلاثة من «الشرخ» أو الانقسام الثقافي قد اجتمعت بدورها على أسسٍ مشتركة، وبالتالي كانت بمثابة الأجنحة المختلفة داخل ظاهرة النهضة لأن المشايخ حسن العطار ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده كانوا بمثابة الجناح الذي لا يرى تناقضًا بين الشريعة والأخذ بالكثير من قِيَم الحضارة الحديثة، وفي مقدمتها قِيَم المجتمع المدني، أي أنهم بالرغم من حرصهم على صحيح الدين لم يرَوا في الإسلام «سلطة» أو «دولة» دينية. كذلك سلامة موسى الرمز الأكبر لما سُمِّي بالتغريب كان هو الذي أكد في كتابه «ما هي النهضة» أن العرب المسلمين لم يكونوا مجرد ساعي بريدٍ بين اليونان القديمة والنهضة الأوروبية، بل كانوا من العناصر الأساسية في تكوين هذه النهضة. كان التراث العلمي العربي الإسلامي من المكونات الرئيسية في تركيب النهضة الأوروبية. وبالرغم من احتفاله الشديد بالفكر الأوروبي والحضارة الحديثة كان ينطلق في كل أعماله من الواقع الوطني المصري نشدانًا للارتقاء به من وهاد التخلف إلى آفاق التقدم المختلف تمامًا عن السياق الغربي.

هكذا كانت النهضة المصرية — والعربية عمومًا — تحلِّق بأجنحتها الثلاثة، وتنكسر بانكسار أحد هذه الأجنحة. هذه النهضة هي أيضًا التي رسَّخت على مدى تاريخنا الحديث مفهوم «الثقافة الوطنية» في بلادنا، وهي الثقافة التي كانت في مراحل الازدهار تجمع بين النخبة والقاعدة العريضة من المواطنين مهما تعاظمت نسبة الأمية بينهم، لأن هذه الثقافة لم تكن فحسب كلامًا مكتوبًا، وإنما نمط حياة على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كانت تضم في إهابها — دون الحاجة إلى تفلسف أو تنظير — ميراثًا عريقًا من الحضارات المتعاقبة على أرض مصر، بمختلف تجليات هذا التراث من منظومات روحية ومادية قديمة وعصرية.

هذا هو جوهر وحدة الثقافة الوطنية بين الطبقات والطوائف، وبين النخب والقواعد، ولم يكن التمايز بين التعليم الديني والتعليم المدني إلا مصدرًا للتعددية الثقافية والتنوُّع، فظل الأزهر يرفد الثقافة الوطنية — في مراحل النهضة، أكرر — بروافد من الإبداع والتجديد والإصلاح الديني … جنبًا إلى جنب مع مصادر الثقافة المدنية وإبداعاتها. لم يكن هناك في تلك الأوقات المجيدة من المد الوطني أي شرخ أو انقسام بالمعنى الذي يتحاورون حوله الآن، بل ثقافة وطنية واحدة متعددة الروافد والينابيع.

أما هذا الشرخ أو الاستقطاب أو الانقسام الذي يتكلمون عنه في الوقت الحاضر فإنه ليس قائمًا إلا من خلال الزاوية التي يبصرون منها. والمفارقة أنها زاوية واحدة رأى منها الجميع «الشرخ» قائمًا مما يؤكد أنهم يشتركون في آلية ثقافية واحدة للرؤية، هي الآلية النخبوية، ومما يؤكد — أيضًا — أننا لسنا في مرحلة ازدهار تسود فيها مفاهيم الثقافة الوطنية.

ومن ثَم، فهناك «شرخ» فعلًا، ولكنه ليس انقسامًا رأسيًّا بين العلمانيين وغيرهم، يشق المجتمع من قمته إلى قاعدته. وإنما هو شرخ أفقي يفصل بين شريحة هشَّة هي النخبة بكل ألوانها وثقافتها وتياراتها، وبين القوام الاجتماعي الشامل للمصريين الذين يشكِّلون في واقع الأمر البِنية الأساسية للمجتمع المصري.

وليست هذه المحاورات الساخنة أو الباردة إلا محاورات النخبة مع ذاتها المنفصلة أفقيًّا عن القوام الرئيسي للمجتمع. وإذا صح هذا التوصيف، فإن معظم المناقشات الدائرة حول العلمانية والدولة الدينية يغدو أشبه بالمونولوج الذي لا يصل صداه عبر الفجوة المتسعة بين الشريحة الضيقة عند السطح وبقية الشرائح المتدرجة حتى القاعدة في الكيان الثقافي الموحَّد للمجتمع. لذلك ليست هناك «ثقافتان» تستقطبان المصريين — والعرب جميعًا — هذه الأيام، وليس هناك شرخ رأسي يفصل بين هاتين الثقافتين اللتين يراهما البعض في حالة مواجهة. وإذا نظرنا إلى ما يجري من زاوية مختلفة للرؤية نظرة أفقية فربما يرى البعض «خصومهم» من أبناء الخندق الواحد، وربما يكتشف البعض الآخر أن لهم خصومًا كان الظن بهم في عِداد الحلفاء.

۱۰

لا أحد يستطيع أن يحدد لنا بالضبط كم كان عدد قراء رفاعة الطهطاوي أو علي مبارك أو محمد عبده إبان القرن الماضي، وما نسبة هؤلاء القراء إلى مجموع الشعب المصري في ذلك الوقت؟ ومدى التأثير الفعلي للأفكار والقِيَم التي تضمنتها أعمال هؤلاء الرواد في زمانهم.

لا نستطيع «معرفة» ذلك كله على وجه اليقين، ولكننا نستطيع معرفة أشياء أخرى على وجه التقريب. نستطيع، مثلًا، الترجيح بأن هذه الأفكار وتلك القِيَم قد «استمرت» على نحوٍ آخر في الأجيال التالية من قطاعات النخبة المثقفة. ربما تكون قد تطورت أو أضيفت إليها شواهِد بالنفي أو التأكيد من «معرفة» الأزمنة المتلاحقة واختباراتها. ولكنها في جميع الأحوال استمرت، واتسع نطاقها، واستقطبت أعدادًا كبيرة من المثقفين جيلًا بعد جيلٍ، وتحوَّلت إلى تياراتٍ فكرية واتجاهاتٍ سياسية واجتماعية، وتجاوزت مرحلة «البذور» التي كانت عليها في القرن الماضي.

غير أن الذين لا يعرفون الطهطاوي ولا أحفاده، ويجهلون محمد عبده وورثته، ولا يسمعون عن طه حسين أو قاسم أمين أو عبد الله النديم أو العقاد أو سلامة موسى أو أحمد أمين أو أمين الخولي ما زالوا الغالبية الساحقة في كل جيل، ليس فقط بسبب الأمية الأبجدية، وإنما أيضًا بسبب أمية المتعلمين.

وبالرغم من هذه الأمية المزدوجة بين القاعدة العريضة في المجتمع المصري، فإن انحياز الدولة للثقافة الوطنية في أوقات النهوض، واشتغال المثقفين بالعمل من داخل أجهزتها ومن خارجها، أنجز خصوصية يجب الالتفات إليها وعدم نسيانها؛ وهي تحوِّل الثقافة من تجلياتها الفكرية ذات الأبعاد الذهنية المحض إلى «أفعال» و«آليات» و«تجسدات» اقتصادية واجتماعية وسياسية في الواقع اليومي لحياة المواطنين جميعًا على اختلاف حظوظهم من المعرفة أو الأيديولوجية. لم يعد التحديث منذ قرن ونصف القرن مجرد فكرة، بل أضحى واقعًا عمليًّا يصطدم به الناس، يتآلفون معه، ويتكيَّفون به حتى أصبح نمط حياة يختلف كليًّا عن نمط الحياة السابقة. وقد يتحوَّل نمط الحياة إلى سلوكٍ بحكم الضرورة، ولكنه يبطئ السير من محطة السلوك إلى محطة التفكير ما لم تبرز على سطح الوعي هذه الضرورة. ومع ذلك فإن قطار التحديث يستمر، مهما توقف طويلًا أو قليلًا عند هذه المحطة أو تلك، حتى يصل في النهاية إلى محطة الوعي العام. أي بتحوُّل الحاجات العملية والاحتياجات الفعلية إلى ممارساتٍ واقعية يعيشها حتى مَن يجهل الأبجدية في حياته اليومية. هذه هي المحطة الأخيرة من قطار الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين، وهي المحطة التي تتحوَّل فيها الأفكار والقِيَم إلى مؤسسات ومعاملات وإجراءات وتشريعات ووسائل إنتاج وأساليب استهلاك ونظم إدارة واتصال ومعلومات. حينذاك تُولَد ثقافة جديدة في حياة الناس من شأنها أن تغيِّر ببطء كثيرًا من العادات والتقاليد والأعراف التي كانت سائدة لوقتٍ قريبٍ سيادة يظن بها الخلود، وكأنها جزء من الطبيعة. ولا تنفي هذه الثقافة الجديدة التاريخ الثقافي للفرد أو المجتمع، سواء أكان هذا الفرد من أهل النخبة أو من القاعدة العريضة. ولكن الذي يحدث، وبالرغم من الأمية الأبجدية، أن جسرًا لا يُرى من لغة مشتركة يقوم ويسد الفجوة بين ثقافة النخبة وثقافة المجتمع ككل. هذا الجسر هو ثقافة السلوك العام، ثقافة الفعل الاجتماعي الشامل، ثقافة التوازن بين الفكر والعمل.

حينذاك نقول بحق: هذه هي الثقافة الواحدة لشعبٍ واحد، دون أن يمنعنا هذا الإقرار من القول بأن التاريخ الثقافي للمجتمع سوف يتفرَّع وتتعدد امتداداته تعدُّد الأشكال والألوان التي يتكوَّن منها هذا المجتمع، والقول أيضًا بأن اتجاهات ثقافة النخبة سوف تتفرَّع وتتعدد تعدُّد المصالح التي تشدها من العقل إلى الواقع. وهكذا تتكوَّن — في ظل الثقافة الواحدة — ثقافاتٌ متعددة. ولكن الثقافة المركزية الواحدة تعود فتصبغ الثقافات الفرعية بالخصوصية المشتركة، خصوصية الانتماء لوطنٍ واحد، هو مصر. مصر بجذورها المتتابعة على مدى العصور، مصر الهُوية الوطنية هي الأم الشرعية للثقافة الوطنية بمكوناتها الحضارية المتعددة الينابيع، وفي طليعتها الحضارة العربية الإسلامية.

يقع إذن أولًا الانقسام الثقافي أفقيًّا، بين النخبة والقوام الاجتماعي الشامل.

في مراحل النهضة والازدهار لا يقع هذا الانقسام، وإنما يقوم الجسر من التواصل الثقافي عبر التجسيد الفعلي للمشروع، والبرامج التي ينشغل بإعدادها المثقفون، وتتحوَّل إلى «ضرورات» في حياة الناس العملية. وهي ضرورات ثقافية في خاتمة المَطاف بالمدلول الاجتماعي للثقافة. وتدل الخبرة التاريخية للشعب المصري أن المواد الأساسية لبناء الجسر الأفقي بين النخبة ومجتمعها هي الاستقلال الوطني والديمقراطية وانحياز الدولة للمشروع الثقافي.

ويقع الانقسام الثقافي الحقيقي، بين النخبة — وضمنيًّا جهاز الحكم — وبين القوام الاجتماعي الشامل في غياب هذا الجسر، سواء بتغييب مادة واحدة من مواد بنائه أو مواده كلها مجتمعة. حينئذٍ يُصاب مفهوم الثقافة الوطنية في الصميم؛ إذ ينعزل أهل النخبة عن الحاجات والاحتياجات الفعلية للمجتمع، ولا يعود هناك مشروع ثقافي للوطن، وإنما مصالح عابرة لفئاتٍ متناحرة تحت رايات مزوَّرة ينشغل مثقفوها بتأصيل تزويرها، فيفتعلون المعارك الوهمية التي تزيِّف الوعي بحقيقة ما يجري.

تنعزل النخبة فتتوهم أيضًا أن الوطن مقسوم أو منقسم رأسيًّا من القمة إلى القاعدة، ولا تدري أنه منفصل عنها وليس منفصلًا عن ذاته، منفصل بحالة اللامبالاة الشاملة أو حالة الغضب المكبوت أو حالة الإدمان أو حالة الانفجار السكاني أو حالة الجرائم الشاذة أو حالة الشقاء بلا أمل. لا يعاني من وجعٍ في علمانيَّته التي يمارس فعاليتها في تفاصيل حياته اليومية، ويكابد وجعًا في تديُّنه العفوي التلقائي الذي لا يحتاج إلى التنظير أو التحريض. وإنما هي مشاغبات النخبة العاطلة أو المعطَّلة عن وظيفتها الوحيدة؛ استمرارية مشروع الثقافة الوطنية في عالم متغير.

۱۱

ليس من شكٍّ في أن المدارس العامة والمتخصصة والإدارات المستجدَّة في عصر محمد علي، والإصلاحات التي توالت على الكثير من المرافِق والأنظمة التي أسَّستها الحملة الفرنسية، وكذلك البدايات التي أنجزها علي بك الكبير، قد أصبحت في أُطرها القانونية واللائحية كما في تجسيداتها العملية مدخلًا رئيسيًّا إلى تغيير المنظومة القِيَمية العثمانية في «حياة» المصريين. وعلى الأرجح فقد قاوم المصريون في البداية بعض مظاهر التحديث، كهدم الحواجز بين أهل الحِرف المختلفة، وإنهاء العزلة بين الحارات الطائفية التي لم تكن مقصورة على الطائفية الدينية بل طوائف المهن والصنائع. وأيضًا كالنفور من هجرة الكتاتيب إلى المدارس، وكذلك الخوف من السفر إلى الخارج أو ممارسة أعمال جديدة لم تكن لهم خبرة بها من قبل، وعدم الانصياع لبعض التشريعات الجديدة.

ولكن الأمور اختلفت تدريجيًّا، فقد تمكَّن المصريون من استيعاب الحداثة الوافدة من داخلهم وخارجهم. وكان أحد أبرز الأجنحة في النهضة رجال الأزهر الذين سافروا بالعشرات، وربما بالمئات، في عصر محمد علي، والعودة متخصصين في الطب والهندسة والطباعة والتعليم والترجمة. وأيضًا رجال الأزهر الذين أفسحوا الطريق الشرعي لاستقبال الحداثة الغربية، كما هو واضح في أعمال المشايخ العِظام حسن العطار ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده. كان التسويغ الشرعي للأخذ بأسباب الحضارة الحديثة من أهم ركائز النهضة، فهذا التسويغ هو الذي جعل القِيَم الجديدة قابلة للتصديق. ثم جاء «نفعها» ليجعلها قابلة للتطبيق. ومن «الإصلاح الديني» والانتفاع العملي كان من الممكن للمشروع الحضاري الموسوم باسم محمد علي أن يواصِل انتصاراته على مدى أكثر من قرن ونصف القرن. وقد تخللت هذه الفترة — الطويلة نسبيًّا — انكساراتٌ عديدة، مما يعني أن النسيج الفكري للمجتمع لم يتخلص تمامًا من المنظومة القِيَمية العثمانية. وكانت هذه المنظومة قادرة على الطفو فوق السطح حين كان المجتمع المدني الناشئ يفقد أحد مقوماته الأساسية كالاستقلال الوطني أو غياب الديمقراطية، وحينذاك كانت مسام المجتمع وشرايينه تنسد ومعها قنوات التوصيل: كالمدارس والمعاهد والجامعات وأجهزة الإعلام والحركة الفكرية وكافة المؤسسات الهشَّة للمجتمع المدني وآلياته كافة؛ كالانتخابات والأحزاب والقضاء والدستور والقانون والنقابات والاتحادات وحقوق الإنسان.

وفي هذا المناخ الحافل بالتراجع والانكسار والهزائم تتسع الفجوة بين النخبة التي تحمل غالبيتها المشروع الحضاري للنهضة، وبين القوام الاجتماعي للوطن حتى يتحوَّل الأمر إلى «شرخ» أفقي يفصل بين الشريحة الرهيفة من المثقفين والسياسيين وبقية الشرائح الاجتماعية من مختلف الفئات التي تجنح في لحظات الجَزر المريرة إلى السلبية واللامبالاة بأي «عمل عام» يتجاوز مصالحها الفئوية الخاصة والضيقة كتقدم وحرية الوطن والمواطن. وقد تفرز هذه السلبية بعض البثور في بعض أنحاء الجسد الاجتماعي، كالإدمان أو الانفجار السكاني أو تزايد نسبة الأمية الأبجدية وأمية المتعلمين والجرائم الشاذة وانقلاب الموازين وسُلم القِيَم؛ فيغدو معيار الوجاهة الاجتماعية — الذي يتيح احتلال مواقع الصدارة في المجتمع — هو الثروة في أسرع وقتٍ وأقل جهدٍ دون الحاجة إلى أي غطاء شرعي، ولا تعود الثقافة أو القيمة الحضارية عنصرًا، مجرد عنصر، بين القيم المعيارية الجديدة. وليس من المفارقات، بل من طبائع الأمور، أن تتستر هذه البثور كلها بنقيضها: الرايات الدينية الزاعقة كإقامة بيوت العبادة في كل مكان وأي مكان، والانضباط في تأدية الشعائر بأوقاتها أيًّا كانت ظروف الزمان والمكان، والإعلان المبالغ فيه عن الهُوية الدينية بمختلف الوسائط الشكلية، بدءًا من الأزياء مرورًا بمعجم الحياة اليومية، وانتهاء بالشعارات والطقوس الاجتماعية.

وفي ظل هذا الازدواج الاجتماعي يقع أمران: الأول هو الممارسة النفعية لآليات المجتمع المدني (من المحاكم إلى الأحزاب إلى النقابات إلى البرلمان … إلخ.) في إطار المنظومة القِيَمية العثمانية التي لو قُيِّض لها الاستمرار خلال القرنين لاندثر المصريون اندثارًا فعليًّا من الخريطة البشرية للدنيا. أي أن الذين يعيشون ويزدهرون — عمليًّا — بسبب آليات الدولة المدنية هم أنفسهم الذين يرفعون عاليًا شعارات الدولة الدينية.

والأمر الثاني هو أن القطاع البالغ الضِّيق الذي يرفض السلبية من أبناء هذه الشريحة لا يجد مفرًّا من الإرهاب، وهو يمثِّل ذروة المفارقة بين الانعزال في العمل السري واقتحام الشارع بأكثر الأفعال ضجيجًا ودموية في وقتٍ واحد.

ولكن هذه الشريحة بشقَّيها ليست هي المجتمع المصري في بِنيته الأساسية. صحيح أن حالة اللامبالاة أو السلبية مستشرية، وأن أحوال الإدمان والانفجار السكاني والجرائم الشاذة مفزِعة، وصحيح أيضًا أن الخربشات على السطح قد توالت واتسعت وأنذرت بالمخاطر، وصحيح كذلك أن الجسد الاجتماعي قد انسدَّت مسامه وشرايينه، مما كرَّس الشرخ الأفقي بين الرأس والجسم.

ولكنه في جميع الأحوال ليس انقسامًا رأسيًّا بين ثقافتين من قمة المجتمع إلى قاعدته؛ لأن مفهوم الثقافة الوطنية الواحدة ما زال الوعاء الرئيسي للنخبة والقاعدة على السواء. هذه الثقافة الأكثر شمولًا من محاولات اختزالها في قسمين على جانبَي الشرخ المتوهَّم: الدين في مقابل العلمانية. إنها الصورة التي يتفق على رسمها — للأسف — تياران متصارعان، هما في العمق من ثقافة واحدة، إذا أقررنا التوصيف بأن «زاوية الرؤية» هي خلاصة الثقافة.

فليس صحيحًا أولًا أن العلمانية طرف في مقارنة، أو معادلة طرفها النقيض هو الدين، والأوربيون أنفسهم الذين قالوا بفصل الدين عن الدولة لم يتخيَّلوا — لحظة واحدة — أن العلمانية تنكر الدين أو تناقضه أو تكافئه فهي ليست «عقيدة» أخرى، فضلًا عن أنها ليست «دينًا» آخر، وإنما هي أحد عناصر النظام السياسي الديمقراطي، لا أكثر ولا أقل. إنها إحدى آليات المجتمع المدني، لا تخاصِم الدين من حيث المبدأ، ولكنها تخاصِم التمييز بين الناس بسبب انتمائهم الديني. ومرة أخرى فإنها لا تخاصم الدين لأنها ليست من معدنه، ولا تزعم أنها تقف في مستواه أو في نطاقه أو في منطقة نفوذه.

وبالمناسبة، ليست هناك علمانية في المطلَق، فعلمانية هتلر أو ستالين التي اضطهدت المؤمنين في ظل النازية والدكتاتورية تختلف عن العلمانية في ظل الأنظمة الديمقراطية الليبرالية. أي أن العلمانية في الأصل الأصيل ليست تيارًا أو مذهبًا، وإنما هي نقطة في جدول الأعمال حسب الهُوية السياسية-الاجتماعية لهذا الجدول. وهذه هي النقطة الجوهرية الخفية في الحوار الشائع حول الثقافتين. إن التيارات الثقافية المتعددة هي التي تصنع في النهاية ثقافة الأمة. والعلمانية بحد ذاتها ليست تيارًا أو ثقافة قائمة بذاتها، وإنما هي جزء وعنصر من مكونات الثقافة الوطنية على اختلاف تياراتها. وأزعم أن المشايخ العِظام من بناة النهضة العربية الحديثة كانوا من المؤسسين لحلم المجتمع المدني، وأسهموا أحيانًا في إقامة بداياته. وأزعم أيضًا أن غالبية أحزاب مصر، بما فيها الحزب الوطني الأول الذي صاغ محمد عبده برنامجه، كانت أحزاب المجتمع المدني، دون أن تكون العلمانية أو الدين محورًا لأية صراعات كالتي نشهدها الآن. لم يخطر على بال عرابي أو سعد زغلول أو مصطفى النحاس أو جمال عبد الناصر أن هناك مشكلة تُسمَّى العلمانية على حساب الإيمان أو الدين.

كذلك الشعب المصري ظل دائمًا ولا يزال إلى الآن، بالرغم من كل شيء يمارس العلمانية في حياته اليومية، دون أن يشعر بها أو بوجعٍ منها، وفي الوقت نفسه لا يعي أي تناقض بين تديُّنه وهذه العلمانية التي يلعنونها. ذلك أن الإسلام السياسي قد نجح في استدراج النخبة على اختزال مشاريعها الفكرية والسياسية في مفردة واحدة اسمها «العلمانية». والمفترض أن تقدِّم هذه النخبة اتجاهاتها وتياراتها الأكثر شمولًا، فتأخذ العلمانية حجمها الطبيعي ومكانها الصحيح. ما هي برامج النخبة في تحرير المجتمع من الفقر والتخلف وبقية الأمراض المستعصية؟ هذه البرامج وحدها هي التي تربط الأفكار بالمصالح فتسد الفجوة الأفقية، ولا تعود هناك ثقافتان بل ثقافة واحدة وثقافات متعددة.

۱۲

بمزيدٍ من الحفر عند الجذور سوف نكتشف أنه على طول تاريخنا الحديث والمعاصر أن «الوطن» — مصر — كان يتبلور في وعي ومخيلة المصريين كلما خطا المشروع الحضاري للتحديث إلى الأمام، وكلما أصبح للمصريين دورًا في إدارة شئون بلادهم وتقرير مصيرهم. أي أن الاستقلال على أي نحوٍ يرتبط حكمًا بالديمقراطية في أية صورة من صورها، وكلاهما في المشروع الحضاري يرتبطان حكمًا بالهُوية الوطنية. بعبارة أخرى فالتمصير القليل الذي جرى في عصر محمد علي، أساسًا بتجنيد أبناء الفلاحين في الجيش، كان يتم في وقتٍ واحدٍ مع إرسال أبناء الأزهر إلى أوروبا. وكان أحدهم على الأقل — الطهطاوي — يعود ليحدِّثنا عن «الوطن» والدستور والحرية والإخاء والمساواة أمام القانون.

ولا يكون هناك كلام جاد عن الدستور ومحاولة أولية لإقامة برلمان إلا في عصر إسماعيل. ولكن المؤسسة العسكرية — العمود الفقري لتأسيس المجتمع المدني — تكون مصريتها قد نضجت وتطورت؛ فلا يعود المصريون يشكِّلون قاعدتها فقط، وإنما يصعدون إلى قيادتها أيضًا. وبمزيدٍ من تمصير المؤسسة العسكرية يصبح ممكنًا لابن الفلاح المصري أحمد عرابي أن يواجِه الخديو توفيق علنًا في ساحة عابدين: «لسنا عبيد إحساناتكم، ولقد ولدتنا أمهاتنا أحرارًا، ولن نعود عبيدًا بعد اليوم.» وكالعادة فإن الذين كسروا محمد علي في ذروة مشروعه، والذين كسروا إسماعيل في ذروة انحيازه للدستور هم أنفسهم الذين كسروا توفيق عشية محاولته الجسورة: التمصير الكامل للدولة المصرية الحرة المستقلة، هو والبارودي وعبد الله فكري ومحمد عبده وعبد الله النديم وغيرهم من رموز الوطن الواحد وثقافته المتعددة.

وبالرغم من هذه الانكسارات المتوالية، فلا عودة إلى نقطة الصفر. تعظم التضحيات، ولكن المشروع يستمر، تتأكد نقاطه الرئيسية، ومن قلب التحديات تستجد نقاط جديدة، ومن الوعي بالضرورة يربح أرضًا جديدة في الدولة والمجتمع. وفي الوقت الذي تتراجع فيه المنظومة القِيَمية العثمانية بتراجع «رجل أوروبا المريض» في الداخل والخارج يغدو «العدو» واضحًا وضوح جنود الاحتلال في شوارع مصر. وتغدو الهُوية الوطنية وثقافتها واضحة وضوح ثورة ١٩١٩م، وحين يصل الدستور بعد أربع سنوات، فإنه لم يكن صائغًا لتوازن القوى السياسية والاجتماعية فحسب، وإنما كان صائغًا كذلك لثوابت المشروع الحضاري؛ فالنص على دينٍ رسمي للدولة لم يتعارض مطلقًا مع علمانية هذه الدولة في العديد من آليات الحكم. ونحن نعلم أن أقباط مصر الذين عارضوا مبدأ حماية الأقليات هم أنفسهم الذين رفضوا مبدأ التمثيل النسبي فيما بعد، وهم بالتالي الذين وافقوا على الدستور بما ينص عليه من أن دين الدولة هو الإسلام. وبالرغم من ذلك فقد كان مصطفى النحاس هو الذي رفض تتويج فاروق تحت المظلة الدينية، بل قاتل في معركة علَنية ظافرة، وتم التتويج تحت قبة البرلمان.

كذلك فبالرغم من أن مجلس شورى القوانين في بدايته كان «منحة من ولي النِّعم» سرعان ما صاح أعضاؤه «نحن وكلاء هذه الأمة» إلى أن كانت صيحة عباس محمود العقاد «إننا نحطم أكبر رأس تمس الدستور» وكان يقصد الملك فؤاد الذي أراد أن يصبح «أمير المؤمنين» بعد سقوط الخلافة العثمانية؛ فأصدر الشيخ الأزهري علي عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» وهو قاضٍ شرعي، فكانت المعركة الشهيرة. وحين أصدر الملك قراره بحل البرلمان كان ويصا واصف رئيس مجلس النواب هو الذي اقتحم المجلس برفقة الأعضاء، وحطَّم بنفسه سلاسل البوابة الرئيسية.

وكان المصريون في ذلك كله يدفعون الثمن غاليًا، سواء بنفي سلطة الاحتلال لزعمائهم من المسلمين والأقباط، أو بسجن العقاد وفصل علي عبد الرازق من هيئة كبار العلماء. ولأننا لا نعود إلى نقطة الصفر، فإن علي عبد الرازق نفسه يعود بعدها بسنوات «إمامًا أكبر» للجامع الأزهر.

وليست مفارقة أن يكون أعظم كتابَين للعقاد «عبقرية محمد» و«سعد زغلول»، فهو نفسه صاحب «التفكير فريضة إسلامية» وليست مفارقة أن يكتب العقاد وطه حسين وأحمد أمين ومحمد حسنين هيكل وتوفيق الحكيم عن اليونان وأوروبا وأمريكا، ثقافتهم وحضارتهم جنبًا إلى جنبٍ، وفي وقتٍ واحدٍ مع مؤلفاتهم العظيمة عن التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية. ليس صحيحًا أن كتاباتهم «الغربية» كانت في مرحلة والإسلامية في مرحلة أخرى، وإنما كان التداخل الزمني واضحًا. ففي المرحلة الواحدة وأحيانًا العام الواحد كان يصدر للكاتب الواحد مؤلف عن شخصية أو قضية أو ثقافة أوروبية، ومؤلف آخر عن شخصية أو قضية أو ثقافة إسلامية، ولم يكن هناك أي تعارض، بسبب وحدة المنهج التاريخي أو النفسي أو الرومانسي عند هذا أو ذاك من كُتَّابنا.

وليست مفارقة أن يعمد إسماعيل صدقي إلى إلغاء دستور ۱۹۲۳م فيصبح مطلب الأمة كلها هو إعادته، فيعود، والمعنى أن الشعب أصر على القول: لا صلاحيات أوتوقراطية للحاكم ولا رجعة ثيوقراطية إلى المنظومة القِيَمية العثمانية في المجتمع.

لذلك انشغلت برامج كل الأحزاب المصرية منذ الحزب الوطني الحر الذي صاغ محمد عبده برنامجه إلى آخر حزب كان في الحكم قبل حريق القاهرة (٢٦ يناير ١٩٥٢م) بالأساسيات في المشروع الحضاري المستمر نهوضًا ونكوصًا منذ محمد علي؛ الهُوية الوطنية والاستقلال والديمقراطية، وكانت ثورة ١٩٥٢م تتويجًا لكفاح الشعب المصري لاستخلاص السلطة الوطنية بكاملها من براثن الأجنبي؛ فأنجزت «تمصير مصر» للمرة الأولى بعد زمن طويل سواء أكان الأجنبي أسرة مالكة أو احتلالًا حاكمًا، ولم تخرج الثورة عن الإطار العام للمشروع الحضاري المستمر، ولكن المستجدات أضافت البُعد القومي العربي لتعزيز الهُوية الوطنية وليس لإلغائها. والبُعد القومي يتضمن، كالوطنية المصرية ذاتها، الحضارة العربية الإسلامية كوعاءٍ ثقافي شامل للمصريين على مختلف أديانهم ومذاهبهم.

وأيًّا كانت رواسب المنظومة القِيَمية العثمانية في الدولة أو المجتمع، فقد أضحت الهُوية الوطنية الواحدة وثقافتها هي العمود الفقري لمختلف التيارات الفكرية والسياسية، وما عداها شذوذ واستثناء ونشاز لا يُقاس عليه، وأصحاب هذه التيارات في غالبيتهم من المسلمين الذين لا يرَون أي تناقض بين إيمانهم وبين حق المواطنة أو التعددية أو مدنية الحكم أو علمانية المجتمع المدني، أي عدم التمييز بين أهل هذا المجتمع بسبب الاختلاف الديني أو العرقي إن وُجِد.

لذلك كان اختزال المجتمع بين علمانيين وغيرهم محض افتراء وأوهام وافتعال مزيف لخصومة غير قائمة في الواقع الحي للمجتمع، إذا أفصحت الأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية عن هُويتها الحقيقية المعبِّرة عن مصالحها المشروعة، وضمنيًّا عن مصالح الذين تعبِّر عنهم من حق اليساري واليميني وما بينهما أن يدعو نفسه اشتراكيًّا أو قوميًّا أو ليبراليًّا، أو غير ذلك من عناوين دقيقة. ولا يجوز لأي منها اختصار الاسم واللقب والعنوان في العلمانية أو التدين … فهناك علمانيون نازيون ومتدينون فاشيون، وهناك علمانيون ديمقراطيون متدينون في الوقت نفسه … فالعلمانية ليست أكثر من آلية بين آليات الفكر السياسي والفعل الاجتماعي، وقد تكون حاضرة في كافة ألوان الطيف الفكرية-السياسية، والتدين كذلك.

هل هناك إذن «علمانيون» متطرفون ومتدينون متطرفون؟ جوابي بنعم ولا، دون أدنى اشتباه في توفيقية أو تلفيقية أو وسطية وهمية.

نعم، هناك علمانيون متطرفون حين يكونون أصلًا من النازيين والفاشيين، من العنصريين والشموليين. ولا حين يكونون في الأصل ديمقراطيين وإنسانيين من دُعاة حق المواطنة وحق التعدد وإعمال العقل وحرية الفكر والاعتقاد والتعبير وبقية حقوق الإنسان. ونعم هناك متدينون لا يرَون تناقضًا بين هذه المبادئ كلها وإيمانهم الديني.

ولا، لأن هناك قلة قليلة تشتغل بالسياسة ضد هذه المبادئ؛ فترفع راية الدين بيدٍ، والسلاح باليد الأخرى.

۱۳

كان من أعظم الذين حفروا عند الجذور سليم حسن وشفيق غربال وحسين مؤنس وسليمان حزين وصبحي وحيدة وحسين فوزي. ولكن الذي اكتشف «الجذر»، وأعلن نتائج الحفر المستمر منذ رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، فهو جمال حمدان في «شخصية مصر».

وبالرغم من أنني ظللت أعتقد دائمًا منذ رحيله الفاجع أنه قد ترك وراءه أوراقًا لها أهميتها، فإن خيالي لم يصل في تقدير أهميتها إلى الحد الذي كشف عنه الصحفي الموهوب حلمي النمنم في «المصور» (١٥/ ٤/ ١٩٩٤م). وهو الحد الذي يتكلم فيه جمال حمدان لأول مرة بصراحة كاملة عن مسائل العلمانية والإسلام السياسي، وهو أيضًا الحد الذي يتطابق وما انتهيت إليه في هذه القضية قبل اطلاعي على الأسطر الشحيحة الواردة في أوراق جمال حمدان الخاصة ضمن التحقيق الذي نشرته «المصور».

ويجب أن نلتفت إلى أن هذه الأوراق التي سجَّل فيها العالم الكبير خواطره تمثِّل خلاصة ما انتهى إليه تفكيره قبل الرحيل، أو ما أحب أن أسمِّيه بنتائج الحفر. وبالتالي فهي ليست خواطر شِعرية هائمة على وجهها، وإنما هي العصارة الأخيرة لأحد أكبر العقول المصرية في هذا القرن.

يقول الرجل إن «الحركات الإسلامية المتطرفة هي وباء دوري يصيب العالم الإسلامي في فترات الضعف السياسي أمام العدو الخارجي، وهي نوع من التشنُّج الطبيعي بسبب عجز الجسم عن المقاومة.» ليست هذه دعاية إنشائية فجَّة، لأننا نعرف أن جمال حمدان قد رصد — في مشروعه الكبير — لحظات الضعف في تاريخ مصر، وأحصى آلياتها بما يدعنا في هذه الفقرة أمام تعميمٍ وتخصيص في آنٍ واحد. وعندما نلتفت داخلنا وخارجنا لن نحتاج إلى جهدٍ في تبيُّن عناصر الضعف وتجليات العجز. وسوف نستدل من التاريخ والجغرافيا والحضارة التي انشغل جمال حمدان باكتشاف نتائج الحفر التي قامت بها أجيال الحفَّارين العِظام أن هذا «الوباء» — حسب وصفه حرفيًّا — ليس جديدًا «فالإسلام السياسي ينتمي إلى الماضي.» ولا يستغرق حمدان في ضرب الأمثلة من الماضي البعيد، بل يركز القول على القرن التاسع عشر حيث «هو ظاهرة تجسِّد العجز السياسي في ظل التخلف الحضاري في وجه الخطر الاستعماري، هو رجعية سياسية وجهل مدني وجاهلية دينية.» أما في القرن ۲۱ فهو «خرافة من مخلفات التخلف وكابوس مخيف» ومن ثَم فالإسلام السياسي المعاصر ليس أكثر من «صحوة الموت أو رقصة الذبيح بعد طول احتضار (…) وهو صحوة نفطية مبعثها البترول المجنون ليس إلا.»

إنه هنا يضيف العنصر الجديد، النفط، إلى بقية عناصر العجز، أو أن هذه الطاقة القادرة — التي يُفترَض بها القوة — قد غدت من مفردات الضعف والعجز لخروجها عن سياق القوة للأوطان بالتحرير والتنمية. لذلك فحين اختلطت الطاقة الروحية (الإسلام) بالطاقة المادية (النفط) استحالت الدعوة داءً خبيثًا هو «الثيوقراطية والدولة الدينية» على حد تعبيره الذي يستكمله موضحًا أن هذه الجماعات وصحوتها ليست أكثر من «سفه طبقي باسم الإسلام، وطفح نفطي على وجه مصر العربية.» ولا بد أن نياط قلب حمدان كانت تتمزق، وقد خلص إلى النتيجة التالية: «بالتخلف الحضاري تحوَّل الإسلام كسلاحٍ ذي حدَّين من الموجب إلى السالب.»

ماذا إذن عن العلمانية؟

يجيب بحسمٍ أن العلمانية ليست نقيض الدين، لكنها نقيض «الدروشة» أي ليست نقيضًا «للتديُّن بلا هستيريا وبلا تطرفٍ» و«العمل فوق العبادة، والعلم لا يناقض أصولًا إسلامية مقرَّرة» و«من الآن فصاعدًا يجب أن نفرق بين نوعين ومفهومين من العلمانية منعًا لخلط الأوراق عمدًا أو جهلًا (…) نفرق بين العلمانية الغربية والعلمانية الشرقية أو إن شئتَ بين العلمانية المسيحية والعلمانية الإسلامية، وكلتاهما لا تلغي الدين، ولكن تفصله فقط عن الدولة. أما الفارق فهو أن ليس في المسيحية أحكام تشريعية تُترك أو يُؤخَذ بها بعكس الإسلام. العلمانية هي العقلانية، بلا زيادة أو نقصان، وضد العلمانية هي ضد العقلانية. بينما الدين الإسلامي دعوة إلى العقل، وعلى أساس العقل.» لذلك فهو يطالب بنوعٍ جديدٍ من رجل الدين هو «رجل الدين المثقف ثقافة مدنية، وَضعية، علمية، علمانية، رجل الدين العلماني، وعالم الدين العلماني» و«الدولة الدينية ممنوعة في الإسلام (الشيخ محمد عبده) إذن لا أحزاب دينية في الإسلام.»

ولا يخشى جمال حمدان — بعد كل ذلك — اقتحام الأسلاك الشائكة، فيرى أن «أقباطنا هم همزة الوصل وأداة الربط ورابطة الصداقة بين المسيحية والإسلام» وأساس التعايش السلمي بين الديانتين هو أن الوطن — مصر — سابق على الأديان، ومن لا وطن له لا دين له. والأقباط من أهل مصر الأصلاء، وليسوا سلالة وافدة بل «نحن عائلة جنسية واحدة» و«نحن معًا ووحدنا فقط الذين صنعنا الحضارة» أما الفتنة الطائفية «فهي فتنة من طرفٍ واحدٍ بدأها المتطرفون الإسلاميون، والأقباط على «خط» الدفاع فقط» وهو أمر يختلف كليًّا عما جرى في لبنان «لذا يستحيل لبْنَنَة مصر.» ومن هنا فالخصوصية الوطنية المصرية، على نقيض الإسلام السياسي، هي الاعتراف المتبادَل بالتعددية الدينية.

وإذا كانت أوروبا وأمريكا العلمانيتان تسمحان إلى اليوم — كبقية العالم المتحضر — بقلة قليلة من المدارس أو المعاهد الدينية لتغذية الجهاز الديني، فإن التعليم المدني في هذا العالم يشمل ٩٩ في المائة من المتعلمين «علوم الدنيا أي الحياة» كما يقول جمال حمدان. ثم يضرب المثل بمصر حيث كان التعليم الديني هو التعليم الوحيد «لأنه بكل بساطة لم تكن هناك علوم علمية وضعية … ولم يكن هناك «علم»، لم يكن هناك «عصر العلم»، كان هناك فقط عصر الدين وعلم الدين. ولكن الدين ليس علمًا بالمعنى المفهوم لكلمة علم، وقديمًا لم يكن هناك تعليم إلزامي للجميع. بل كان التعليم استثناء لقلة محدودة جدًّا في مجتمعٍ ٩٩ في المائة منه جاهل. إذن التعليم الديني في عز أيامه كان تعليم القلة المتخصصة جدًّا لوظيفة خاصة جدًّا. ثم حين يأتي عصر العلم، الطبيعي والوضعي، وأصبح التعليم لعموم الشعب، وكان مستحيلًا أن تنصرف الأمة جميعًا إلى التعليم الديني غير المنتِج، فكان التعليم المدني منطقيًّا وحتميًّا وضرورة حياة واستجابة لطبيعة الأشياء قبل كل شيء».

هكذا تكلم جمال حمدان قبل مأساتنا برحيله المباغت منذ عام، وكأنه أراد في أوراق مبعثرة أن يلملم «وصيته» في نتائج كشوفه التي يظل صوتها مدوِّيًا فوق صمت الموت وصراخ القتلة جميعًا.

١٤

وإذا كانت الأوراق المبعثرة لجمال حمدان قد أوجزت إحدى خلاصات مشروعه الكبير في «شخصية مصر»؛ إذ يجب أن نقرأها في هذا السياق الذي يثبت مفهوم الثقافة الوطنية الواحدة لشعب مصر، فإن مقال محمد حسنين هيكل «الأقباط ليسوا أقلية» (الأهرام، ٢٢ / ٤ / ١٩٩٤م) يجب أن يُعامَل أيضًا في إطار مشروعه الكبير الذي بدأه بملفات السويس، واختتمه بحرب أكتوبر. وهي عناوين ظالمة للمشروع؛ لأن هيكل في واقع الأمر يعالج تحت هذه العناوين المشروع الحضاري القومي من محمد علي إلى جمال عبد الناصر.

وفي كتابه «خريف الغضب» كان هيكل أبرز الذين تصدَّوا للدفاع عن الكنيسة المصرية باعتبارها من القلاع الوطنية الصامدة بوجه الذين يتصيَّدون ما هو عابر وهامشي فيسلطون عليه الأضواء كأنه جوهر المتن. كانت الذاكرة الوطنية للشعب المصري تحتفظ بمشهدٍ لا يُنسى للرئيس جمال عبد الناصر والبابا كيرلس السادس وهما يضعان حجر الأساس في بناء الكاتدرائية المرقسية الجديدة. وكان رئيس الدولة قد شارك باسمها في إقامة هذا البناء بمائة ألف جنيه. كان المشهد من البداية إلى النهاية عنوانًا رمزيًّا لوحدة الشعب والوطن. ولكن الذاكرة الوطنية لا تنسى بعد حوالي خمسة عشر عامًا مشهدًا آخر تجاوز فيه الحُكم القائم آنذاك الخط الأحمر؛ فأقام حصاره الشهير لرموز مصر كلها بما فيها الكنيسة وراء الأسوار. ولم يكن الحُكم يدري أنه بهذا الفعل الفاضح والفادح الثمن إنما كان يصطدم بالطبيعة ذاتها والتاريخ نفسه. ومع ذلك فقد كان دون أن يقصد يؤكد القانون هُويةً وطنيةً وثقافية وحضارية واحدة لشعب مصر، وإن تعددت تجلياته السياسية والدينية من اليمين واليسار والوسط، ومن المسلمين والأقباط، ومن الليبراليين والاشتراكيين، ومَن هم بين بين. أي أنه حتى في أكثر تجاوزات الخط الأحمر جنونًا كانت الكنيسة، وكان الأقباط، جزءًا لا يتجزَّأ من نسيج الشعب الواحد والحضارة الواحدة، في السراء والضراء هم كذلك. والمشاريع الفكرية الكبرى لأبناء هذا الوطن تؤكد ذلك، من رفاعة الطهطاوي إلى محمد عبده، ومن أحمد عرابي إلى جمال عبد الناصر، ومن طه حسين والعقاد إلى سلامة موسى ولويس عوض، ومن سعد زغلول ومصطفى النحاس إلى حسني مبارك، ومن صبحي وحيدة وحسين فوزي إلى جمال حمدان ومحمد حسنين هيكل.

ثلاثة مشاريع فكرية-استراتيجية هي التي اعترضت على مفهوم وحدة الشعب المصري في هُوية ثقافية حضارية وطنية واحدة ذات روافد تاريخية واجتماعية متعددة: الاستعمار الغربي الحديث والمشروع الصهيوني المعاصر، ومشروع الإسلام السياسي. كانت المشاريع الثلاثة ولا تزال ترفع أو تضمر شعار «فرِّق تسُد» بمفرداتٍ وصياغاتٍ وأفعالٍ مختلفة. الغرب حينًا باسم حماية الأقليات، وأحيانًا باسم حقوق الإنسان، وإسرائيل حينًا باسم الحدود الآمنة، وأحيانًا باسم الحدود المفتوحة، ودورها في الحرب اللبنانية لا يحتاج إلى شهود. والإسلام السياسي باسم الهُوية الدينية واستنكار الوطنية وحق المواطنة مما تدعو إليه العلمانية «الكافرة» (ودور إيران باسم تصدير الثورة لا يحتاج هو الآخر إلى شهود في محاولة تقسيم العراق، والاستيلاء على جزر الإمارات، والوجود المسلَّح في جنوب لبنان، وتغذية الحكم في السودان بما يكرس الانفصال بين الشمال والجنوب).

ما يعنينا هنا في مصر أن الأقباط الذين رفضوا مبدأ حماية الأقليات منذ ثمانين عامًا على وجه التمام، والذين رفضوا مبدأ التمثيل النسبي منذ سبعين عامًا على وجه التمام، ومَن ترفض رئاستهم الروحية ذهابهم إلى القدس لأداء الحج منذ سبعة وعشرين عامًا حتى اليوم، بالرغم من الصلح الرسمي بين مصر وإسرائيل، هؤلاء الأقباط يجيء اليوم مَن يقول لهم: «بل أنتم أقلية.»

ولا بد لصاحب هذا الخطاب من أن يكون لديه مقدمات وسياق بانتظار النتائج التي يمكن أن تسفر عنها غرفة العمليات أو المطبخ الاستراتيجي أو المؤتمر المزمع عقده في القاهرة، فليس هناك شيء من هذا النوع إلا بعد إعدادٍ كافٍ يشمل تحديد الوسائل والغايات. حتى إذا كانت «المعرفة» لذاتها هي الهدف، فإن أحدًا لا يملك منع أحد من الانتفاع بهذه المعرفة في الطريق الذي يريد، وحتى إذا كان «الحوار» هو الوسيلة، فإن أحدًا لا يملك منع أحد من الاستفادة بهذا الحوار «البريء!» في حواراتٍ أخرى غير بريئة.

ومن حق شعب مصر الموحَّد عبر عشرات القرون أن يفكر بأن مشروعًا من المشاريع التي تعترض على وحدته، أو كلها مجتمعة، هي صاحبة الخطاب بأن الأقباط أقلية بكل ما يضمره هذا الخطاب من مقدماتٍ وسياقٍ ونتائج.

فالمقدمات تقول — مثلًا — أن الغرب ليس بعيدًا عن موجات التفتُّت العِرقي والطائفي التي اجتاحت العالم منذ عشرين عامًا بدءًا من تقسيم قبرص وانتهاء بالاتحادَين السوفييتي واليوغسلافي، مرورًا بالتهديد المعلَّق على سماء العراق في الجنوب وأرضه في الشمال. تقول المقدمات أيضًا إن إسرائيل لم تكُف يومًا عن التلويح بضرورة الحزام الأمني من حولها بإقامة دويلات طائفية للموارنة والدروز. وتقول المقدمات كذلك إن الإسلام السياسي هو الذي دفع جنرالات السودان من نميري إلى البشير نحو إغواء الجنوب بالانفصال العرقي والديني.

وبالرغم من اعتراضنا — من حيث المبدأ — على أي تقسيم أو انفصال — خاصة في العراق ولبنان والسودان — إلا أن أقباط مصر في خاتمة المَطاف ليسوا أكرادًا ولا زنوجًا ولا يونانيين أو أتراكًا في قبرص؛ فهم ليسوا أقلية عرقية أو وافدة أو متوطنة، لأنهم مصريون كالمسلمين من أبناء وطنهم دون زيادة أو نقصان. ومصر لم تكن في أي وقت مجموعة قوميات — جمهوريات متحدة — كما كان الحال في الاتحادَين السوفييتي واليوغسلافي السابقين. والأقباط ليسوا أيضًا أقلية ديموجرافية، فهم لا يعرفون «الجيتو» بل هم منتشرون بين مواطنيهم المسلمين على طول أسطح القرى التي لا تميُّز فيها بين دار القبطي ودار المسلم، وعلى طول أحياء المدن وعرضها، وفي مختلف أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع. والأهم على طول وعرض وعمق وارتفاع القِيَم والعادات والتقاليد والملامح النفسية والعضوية لمجموع الشعب المصري. وهم كذلك ليسوا أقلية سياسية لأنهم منتشرون في كافة الأحزاب والاتجاهات السياسية المصرية منذ كانت هنا أحزاب إلى اليوم. وهم بالطبع منتشرون في كل الطبقات الاجتماعية من أعلاها إلى أدناها.

ولا ينفي ذلك أن هناك «مشاكل» بعضها موروث من العهد العثماني، وبعضها الآخر من عهود الاستعمار الغربي، وبعضها الثالث من أنظمة الطغيان التي تضطهد الشعب المصري ككلٍّ؛ فتوزِّع القهر على الجميع بما يناسب الوضع الخاص لكل فئة: فاضطهاد المرأة بسبب جنسها، والفلاح أو العامل بسبب عمله، والمثقف بسبب فكره. وهكذا، فالاضطهاد يلاحق الجميع في أزمنة الدكتاتورية. يخف الضغط والقمع والقهر عن كاهل الجميع في أزمنة العدالة والديمقراطية، ولكنها في جميع الأحوال «مشاكل» تصيب أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد، ولا تصنِّف أية فئة حسب درجة اضطهادها إلى أقلية أو أغلبية.

وإنما الأغلبية والأقلية في مدارج الرقي والحضارة مفهوم سياسي سبيلها الاقتراع الحر المباشر بين الذين يمثِّلون مصالح الناس وحقوقهم جميعًا دون عدوان على حق الوطن ومصلحته العليا، وطن الهُوية الواحدة لجميع المصريين على اختلاف أديانهم وتعدُّد ثقافتهم. لذلك كان القول بأن الأقباط أقلية عدوانٌ صريح على هذا الوطن، سواء أكان هذا العدوان قادمًا من أحد المشاريع الفكرية-السياسية التي تعترض وحدة الشعب المصري، أو من المشاريع الثلاثة جميعًا وفي وقتٍ واحد.

١٥

ما علاقة الزعم بأن «الأقباط أقلية» بمسألة الشرخ المتوهَّم بين العلمانية والدين؟ نستطيع الجواب إذا أقررنا دائمًا بأن العلمانية ليست أكثر من بندٍ في جدول أي تيار فكري أو سياسي، فنرفض أو نقبل هذا التيار في ضوء مشروعه الشامل بما في ذلك أسلوبه في ترجمة العلمانية على الأرض، ولا يكتمل الجواب إلا إذا فرَّقنا بين الدين والتديُّن السياسي. من هنا يصبح الدين بمنأى عن التعارض بينه وبين الانتماء إلى أي حزبٍ أو تيار سياسي يتضمن العلمانية بين آلياته المختلفة، باستثناء الأحزاب أو التيارات الدينية التي ترفض أصلًا آليات الفكر والعمل الديمقراطيَّين وكل ما تشتمل عليه هذه الآليات من إقرارٍ بحق المواطنة وانتفاء التمييز الديني وتداول السلطة والتعددية الفكرية والسياسية. ذلك أن الإسلام السياسي مهما بلغت الاجتهادات وحُسن النوايا، هو — من خلال تجارب الماضي والحاضر — مشروعٌ من آليتَين رئيسيتين: الأوتوقراطية والثيوقراطية. أي الحكم الشمولي في أكثر أشكاله اغتيالًا لحقوق الإنسان؛ السلطة الدينية باسم الحق الإلهي.

هذا الإسلام السياسي هو الذي يقسم المواطنين حسب هويتهم الدينية فتصبح هناك أغلبية مسلمة وأقلية قبطية. ولا جذور لهذه الأقلية أو تلك الأغلبية في القوام الاجتماعي أو البِنية الأساسية للشعب المصري الذي يرتضي أقباطه ومسلموه أن تكون الحضارة العربية الإسلامية بصمَته غير المتنافرة مع بقية بصمات العالم، وأن تكون هويته الوطنية المصرية شرط وجوده، وأن يكون مشروعه للتطور هو العمود الفقري للتقدم نحو الاستقلال والعدل والديمقراطية. هذا المشروع الثقافي في جوهره هو الذي وقف ويقف في طريقه الاعتراض من المشاريع الثلاثة المضادة لوحدة الشعب المصري: المشروع الاستعماري والمشروع الصهيوني ومشروع الإسلام السياسي.

وليس من الصعب أن نلاحظ اعتراض هذا المشروع أو ذاك أو كلها مجتمعة على مسيرة المشروع الحضاري القومي، منذ نشأة الدولة المصرية الحديثة إلى اليوم، فقد كان الغرب هو الذي تقارب مع الآستانة، وتآمر ضد محمد علي في اتفاقية ١٨٤١م. وكان الغرب هو الذي أغوى إسماعيل بالديون ثم خلعه قبل أن يضع توقيعه على الدستور. وكان الغرب هو الذي تدخل عسكريًّا لإنهاء ثورة عرابي. وكان ذلك يعني أن الغرب يخون مبادئه المعلَنة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، ويتحالف مع أكثر الأطراف غلوًّا في ادعاء الحكم بالحق الإلهي. ونظرة سريعة بالعين المجردة حول عالمنا العربي والإسلامي تؤكد أن مشروعه، بالرغم من كل الشعارات، ما زال ساري المفعول إذ يدعم مباشرة ودون مواربة الأنظمة الشمولية الحاكمة باسم الدين، ويسهم مباشرة ودون مواربة أيضًا في مطاردة الحركات وضرب الحركات الديمقراطية الليبرالية. والهدف في جميع الأحوال كسر المشروع الثقافي القومي لهذه الأمة. وإذا كانت مصر كلها تحت الحماية عام ١٩١٤م فإنه تحت ضغط ثورة ١٩١٩م التي رفعت شعار «الدين لله والوطن للجميع» أراد بعد ثلاث سنوات فقط عام ١٩٢٢م أن يحتفظ بموطئ قدمٍ في ظل مبدأ «حماية الأقليات» بالرغم من كل ما قاله كرومر من أنه لم يجد أيَّ فرق بين القبطي والمسلم إلا أن الأول يصلي في الكنيسة والآخر يصلي في المسجد. أقول بالرغم من هذا الاعتراف الضمني بأن مصر لا تعرف المفهوم الديني للأقلية والأكثرية إلا أن بريطانيا التي كان يمثِّلها اللورد كرومر نفسه هي التي عرضت مبدأ «حماية الأقليات» الذي رفضه الأقباط قبل المسلمين، وتشاء المصادفات (!) بعد سبعين عامًا من هذا الرفض أن تكون «جماعة حقوق الأقليات في لندن» (M.R.G) هي الشريك الأجنبي في المؤتمر الذي يدعو لمناقشة هذه الحقوق في القاهرة. ولكنه ليس من المصادفات أن يهُبَّ أقباط مصر بمختلف رموزهم الروحية والثقافية والسياسية لرفض اعتبارهم أقلية، جنبًا إلى جنب مع المسلمين. لماذا هذه «الانتفاضة» الاستثنائية التي حطمت حسابات الكمبيوتر في المطبخ الاستراتيجي لدعاة النظام العالمي الجديد؟ لأن التفتُّت العرقي والطائفي أضحى بطول العالم وعرضه من آليات هذا النظام لفرض الهيمنة الجديدة تحت ستار «حماية الأقليات» و«حقوق الإنسان»، وقد ظنوا بمصر أنها في لحظة ضعف تاريخية يمكن التسلل إليها واللعب في أحشائها وسط الظلام، حيث يمكن التحول بالنضال الوطني من أجل الديمقراطية إلى أسوارٍ عازلة بين فئات الشعب باسم الدفاع عن حقوق الأقليات؛ اليوم أقلية قبطية وغدًا أقلية نوبية. وبالنفس الطويل يفاجأ أحفادنا بعد غدٍ وقد أصبح الوطن الموحد منذ آلاف السنين مجموعة كانتونات فيدرالية عبر مجموعة متصلة من الحروب الأهلية.

أما المشروع الصهيوني فهو لا يحتاج إلى بيان، لأنه «الرائد» في عصرنا للتدين السياسي، حيث قامت الدولة على أساس «اليهودية السياسية» فكانت الصهيونية ثقافة الإبادة العنصرية وأيديولوجية التطهير العرقي في المنطقة. وكما تحالف المشروع الاستعماري مع السلطنة العثمانية في ضرب محمد علي، فقد تحالف المشروع نفسه مع الدولة اليهودية في ضرب مصر الناصرية. ولم تكن هزيمة ١٩٦٧م — مهما بلغت الثغرات الداخلية — إلا تكرارًا لهزيمة ١٨٤١م (محمد علي) وهزيمة ١٨٨٢م (أحمد عرابي)؛ إسقاطًا للمشروع الحضاري القومي، بهويته الثقافية الموحدة وتعدد مكوناتها. وإذا كانت إسرائيل قد وجدت في لبنان أضعف الحلقات العربية في الجغرافيا (بحكم الجوار) والأنثربولوجيا (بحكم التعدد العرقي والطائفي) فقد بذلت أقصى جهودها لتحويل هذا التعدد إلى واقعٍ انقسامي دائم على الأرض.

وإذا كانت مصر أقوى الحلقات، فإن سؤالًا يهيم على وجهه يحتاج إلى المواجهة هو: لماذا تعاظم الإسلام السياسي في موازاة الصلح مع إسرائيل، ولماذا أطلَّت أشباح الإرهاب الطائفي طيلة ذلك التاريخ؟

وقد كان الجواب القبطي جاهزًا، وهو منع الأقباط من زيارة القدس «حتى يدخلوها برفقة إخوتهم العرب والمسلمين» على حد تعبير البابا شنودة، وهو الجواب الذي دفعت الكنيسة والأقباط ثمنه غاليًا جنبًا إلى جنبٍ مع المسلمين في واقعة سبتمبر ١٩٨١م الشهيرة.

وأيًّا كان التداخل أو التمايز بين المشروع الاستعماري والمشروع الصهيوني والإسلام السياسي فإن لهذا الأخير تجلياته «العالمية» التي تسهم بدورٍ نشيطٍ في استراتيجية الفوضى العالمية المُسمَّاة خطأً بالنظام العالمي الجديد. وبدءًا من أفغانستان إلى الصومال، مرورًا باليمن والسودان، يلعب الإسلام السياسي دورًا مسلحًا في التفتيت العرقي والطائفي والمذهبي، وهو يواجه في مصر — شأنه في ذلك شأن المشروعَين الآخرين — صخرة راسخة. وقد ظن أن الأمطار الكثيفة المتساقطة من أجهزة الإعلام والتعليم وبعض رجال الدين يمكن أن تشق هذه الصخرة؛ فاخترع بين مخترعاته العديدة أطروحة الصراع بين العلمانية والتديُّن، وما ينبني عليها من هُوية تميز بين أصحاب الأديان المختلفة. وللأغلبية الدينية في هذه الحال حقوق، وعلى الأقلية واجبات نحو هذه الأغلبية، وليس نحو الوطن؛ فالوطن نفسه لم يعُد مصر أو الوطن العربي، بل أصبح الدين هو الجنسية والهُوية الوحيدة.

لذلك رأى البعض أن مصر مشروخة رأسيًّا من القمة إلى القاعدة، إلى ثقافتين إحداهما علمانية والأخرى متدينة، هذا البعض نفسه هو صاحب أطروحة «الأقباط أقلية» وما ينبني عليها من نتائج.

١٦

ليس هناك إذن شرخ رأسي بين ثقافتين يفصل بين «علمانيين» و«متدينين»، فهذا الفصل الوهمي لم تعرفه مصر خلال تاريخها الحديث. فحين وضع الإمام محمد عبده برنامج الحزب «الوطني الحر» كان واضحًا وحاسمًا في شروط العضوية أن الثورة العرابية ترفض التفرقة والتمييز بين المصريين بسبب الدين. ولم ينكر أحد على محمد عبده أو أحمد عرابي إسلامهما، ولما وضع قاسم أمين كتابيَه عن تحرير المرأة والمرأة الجديدة لم يشكك أحد في إيمانه. ولما وضع جهابذة التشريع من المصريين أصول الفقه المصري الحديث لم يرمهم أحد بالخروج على الإسلام. ولما تأسَّست الجامعة المصرية الأهلية عام ١٩٠٨م أو الرسمية عام ١٩٢٥م لم يقُل أحد إنها جامعة علمانية كافرة. ولما كتب المصريون الرواية أو المسرح بالمعنى الحديث لم يصِف أحدٌ الكتَّاب المصريين بأنهم علمانيون ملاحدة. وحين تغيرت بعض العادات اليومية والتقاليد في تصميم الأزياء وخلع الطربوش والحجاب لم يتهم أحد المصريين بالخروج على السلف. ولما دخلت الفتاة المصرية إلى رحاب الجامعة واختلطت بالشباب في كل أمكنة العمل لم يقل أحد أن مصر قد استباحت ما لا يُباح. كانت هناك مقاوَمة في البدايات لكل جديد، ولكن المصريين كانوا قادرين دومًا على استيعاب الجديد بالتدريج والدفاع عنه بعد ذلك. بل إن الشيخ علي عبد الرازق بالرغم من كل ما جرى له بسبب كتابه «الإسلام وأصول الحكم» لم يجرؤ أحد على اتهامه في دينه، وهو القاضي الشرعي سليل الأسرة العريقة في التدين. بل إن مصطفى النحاس كما سبق أن ذكرنا، بعد اثني عشر عامًا من صدور كتاب علي عبد الرازق، رفض تتويج فاروق تحت المظلة الدينية باعتباره مَلكًا لكل المصريين وليس الخليفة أمير المؤمنين.

هكذا كانت العلمانية بندًا في جدول الدولة والمجتمع المصري الحديث دون الحاجة إلى ذكرها بالاسم، وإنما بتلبيتها لاحتياجات المصريين إلى التمدن، ودون أن يخطر على بال أحد أنها تناقض الدين أو تتعارض معه.

حينذاك، أي في أزمنة النهضة، كانت النخبة — في أحزاب أو تيارات — شديدة الارتباط بالقوام الاجتماعي؛ فالأفكار والأفعال والمؤسسات والآليات، تتواصل مع بعضها البعض في تفاعلٍ مستمر يرسخ المشروع الحضاري القومي والتعددية الفكرية السياسية والهُوية الوطنية الواحدة لشعبٍ واحدٍ من مكونات وروافد مختلفة.

في أزمنة الانكسار وحدها، وفي ظل غياب أحد عناصر المشروع الحضاري كان الشرخ يتسع بين النخبة والقوام الاجتماعي؛ فتحدث البلبلة العنيفة حول الهُوية ومكوناتها. حدث ذلك في أعقاب هزيمة محمد علي، وفي أعقاب هزيمة العرابيين، وفي أعقاب هزيمة ١٩٦٧م. وليس من قبيل التفسير التآمري للتاريخ أو إلقاء التبعة على الآخرين لراحة النفس الإقرار بأن مشاريع أجنبية قد تناقضت مصالحها مع جوهر المشروع المصري-العربي فحاربته إلى النهاية. ليست اتفاقية ١٨٤١م التي كسرت محمد علي وهمًا من الأوهام بل مؤامرة غربية، وليس الاحتلال البريطاني لمصر عام ١٨٨٢م وهمًا من الأوهام، بل مؤامرة غربية، وليس العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م وحرب ١٩٦٧م وهمًا من الأوهام بل مؤامرة غربية إسرائيلية في وضح النهار.

ولم يكن المشروع الداخلي على ما يرام؛ فالمصالح متداخلة بين القوى الأجنبية والمحلية والمنظومات القِيَمية متداخلة بين الماضي والحاضر، والمشروع الوطني نفسه متغير وفقًا لمتغيرات القوام الاجتماعي؛ لذلك لم تكن المشاريع الأجنبية العامِل الوحيد في الانكسارات التاريخية التي لحقت بمصر، وإنما كانت هناك أيضًا العورات الداخلية الفادحة الثمن.

والبحث عن الجذور لا يعني البحث عن الماضي، وإنما عن الجذور التي تحوَّلت إلى عصارة في شرايين الحاضر؛ فالذي يعنينا هو الحاضر بتشكُّلاته المعقَّدة، وليس فقط بمشكلاته الأكثر تعقيدًا.

هناك شرخ أفقي بين النخبة والقوام الاجتماعي، ليس بسبب «المعرفة» الشائعة بين النخبة و«الأمية» الشائعة في الحيز الأكبر للقوام الاجتماعي، فهذه الفجوة المعرفية كانت قائمة دائمًا، ولكن التواصل بين الطرفين كان قائمًا.

ولنا أن نفترض أن متغيرات عديدة وقعت خلال قرنين، وأن تراكمات هذا الزمن الممتد قد استحالت تغيُّرات نوعية في البِنيات الثقافية والهياكل الاجتماعية والمنظومات القِيَمية على السواء.

ومن هذه المتغيرات ما أصاب النخبة على مرحلتين خلال العقود الأربعة الأخيرة: في المرحلة الأولى صُفِّيت قنوات التوصيل بين النخبة والمجتمع الواسع، وتحوَّل دور المثقف صاحب المشروع إلى دور المثقف-الداعية السياسي لمشروع السلطة في الحدود التي استوعبتها السلطة من المشروع الوطني. أما القوام الاجتماعي فقد تم ترويضه في إطار عسكرة المجتمع، ومن ثَم بدأت رحلة «اللامبالاة» الشعبية. ولكن ما كان يميِّز المرحلة الأولى في حياة النخبة والقوام الاجتماعي معًا هو انحياز الدولة لما استوعبته من المشروع الوطني انحيازًا كاملًا.

وفي المرحلة الثانية تحوَّلت النخبة على نحوٍ ملحوظٍ إلى دور «الخبير» من ناحية، والدعوة لمشاريع تتطابق وتتنافر مع المشروع الحضاري القومي من ناحية أخرى. وهو المشروع الذي بدأت الدولة منذ عشرين عامًا بتفكيكه برفقة الانفتاح الاقتصادي الذي فرض عليها البعد عن الانحياز له والالتزام به. وفي موازاة هذا التحوُّل النوعي بلغت رحلة اللامبالاة الشعبية حدَّها الأقصى بالرغم من الهامش الديمقراطي و«تعدد الأحزاب»، وبين القوام الاجتماعي الرجراج والنخبة التي تحوَّلت إلى الخبرة والدعاية لمشاريع اختلط فيها الداخل بالخارج. وبين اللامبالاة الجماعية وانتفاء انحياز الدولة كاد يضيع أمام أبصارنا وفي حضورنا المشروع الوطني-القومي الذي يحمل في طياته ثقافة واحدة (هُوية حضارية؛ مصر العربية ذات التاريخ الرأسي والجغرافيا الأفقية – الحضارة العربية الإسلامية) وثقافات متعددة (ليست منفصلة إلى أجزاء بل متحدة في كل فرد وكل جماعة، فمصر القبطية في تكوين كل مسلم، ومصر العربية الإسلامية في تكوين كل قبطي، فالتعدد لا يعني انفصال المكونات داخل الشخصية المصرية).

هذا المشروع الوطني هو نفسه المشروع القومي الذي ندرك أبعاده من «غايات» وتجربة محمد علي كما ندركها من وثائق الثورة العرابية، ومرة ثالثة من التجربة الناصرية. وليس المقصود هنا «الإمبراطورية» التي حاول محمد علي أن يقيمها في كل رقعة تتكلم العربية، ولا «الحلم» العرابي بتوحيد مصر وسوريا والحجاز، وليس المقصود التجربة الناصرية في الوحدة مع سوريا. ليس المقصود شيئًا من ذلك، وإنما المقصود هو «هُوية» المشروع الثقافية، إنه المشروع المصري العربي. والعروبة لا تعني شيئًا آخر سوى الحضارة العربية الإسلامية الوريث الشرعي لكل حضارات وتراثات المنطقة، دون أن يعني ذلك لحظة واحدة انقطاعًا عن العالم أو انكفاءً على الذات، لأننا نعلم من عصور ازدهار الحضارة الإسلامية أنها كانت عصور الانفتاح الأعظم على ثقافة العالم، وأنها كانت جذرًا من جذور «نهضة» الغرب.

وإذا كان هناك مَن ينكر ذلك كله، فإن السؤال السلبي هو: لماذا في غياب هذا المشروع «تصادف» أن وقعت حرب لبنان وحرب السودان وحرب الصومال وحرب الخليج الثانية وحرب اليمن الثالثة؟ ولماذا كانت حرب العصابات الإرهابية في مصر والجزائر؟

حين تغيب الثقافة الواحدة تبدأ حروب الثقافات المتعددة، وحين نلغي من الوعي تعدُّد الثقافات تغدو الثقافة الواحدة في العراء المطلَق فيسهل ضربها، والخاسر في الحالَين هو الوطن والإنسان، هذا ما يقوله البحث عن الجذور والأغصان والفروع.

خاتمة

في كتابه «الأزمة المصرية: مخاطر الاستقطاب العلماني» يجزع وحيد عبد المجيد جزعًا شديدًا من أن تكون شعرة معاوية بين الإسلاميين والعلمانيين قد انقطعت. وبدافع «الخوف» على الوطن يكتب هذه المقالات المهمة في الصحف ثم يجمعها في هذا الكتاب تعميمًا للفائدة المرجوة أو الطموح الحارق لأن يثمر الحوار من حولها نوعًا من التوفيق أو المصالحة بين الفريقين المتقاتلين.

ولن أتناول هنا بِنية الكتاب الذي يكاد في جزء منه أن يكون سجالًا مع بعض أطروحات هؤلاء وأولئك، وفي الجزء الآخر أن يكون تحليلًا لهياكل بعض الأحزاب المصرية والعربية، وإنما سأقتصر على الأطروحة التي استخلصها الكاتب من النقد المقارن الذي أجراه لمفاهيم كلا الفريقين.

وفي البداية أحب أن أفترض أنه ليس في مصر أو العالم العربي أية علمانية في أي معنًى من معانيها، وإنما هناك دولة تحاول أن تكون مدنية في مصر أولًا ثم في بعض الأقطار العربية. أما المجتمع فليس مدنيًّا على الإطلاق. وبالنسبة للدولة ذاتها فهي كما قلت «تحاول» وما زالت تحاول، بين نهضة وانكسار، عبر ترميمات تشريعية وهيكلية، تتقدم وتتراجع وفقًا لهُوية نظام الحكم وماهية السلطة.

وفي أكثر الأقطار العربية ربما حالت التكوينات العِرقية ذات البنيات القَبَلية والعشائرية والعائلية دون وصول هذه الأقطار إلى مرحلة «المجتمع» ولا مرحلة «الدولة» بالمفهوم السوسيولوجي للدولة والمجتمع. إنها في الأغلب الأهم دول ومجتمعات حسب مقتضيات القانون الدولي والحدود السياسية التي رسمتها ظروف ومواضعات ووظائف الجغرافيا في إطار الإمبراطوريات والاستراتيجيات الأجنبية التي حكمت المنطقة حتى منتصف هذا القرن.

أما في مصر فهناك دولة ومجتمع تأثَّرا بهيمنة هذه الإمبراطوريات والاستراتيجيات دون أن تنال هذه الهيمنة من البِنية الأساسية لكلٍّ من الدولة والمجتمع؛ لذلك كان السؤال أكثر إلحاحًا على مصر من زاوية أنها المؤهَّلة تاريخيًّا — أكثر من غيرها — لبناء الدولة العصرية التي تستجيب لحاجات مجتمعٍ عصري.

ولكن مصر تعود فتشترك مع شقيقاتها العربيات في عاهاتٍ ثلاث لا سبيل للتطور من دون جراحات بنيوية للتخلص منها: أولها حالة التمفصل بين المؤسستين الحاكمتين الشموليتين في الدولة والمجتمع، أو هذا الزواج بين الأوتوقراطية والثيوقراطية أو بين مؤسستَي السلطة السياسية والدينية. والعاهة الثانية هي النظام المعرفي السائد على العقل العربي، وهو النظام الذي يحكمه الغيب وتتحكم فيه المعجزة أكثر مما يحكمه العقل، والعاهة الثالثة هي وضع المرأة التي مهما حصلت على حقوقٍ قانونية أو سياسية فإنه يظل أسيرًا لنظرة دنيوية تنسجها العاهتان السابقتان من مكونات المنظومة القِيَمية السائدة على العلاقات البطريركية، بدءًا من الاستعلاء الذكوري مرورًا بالاعتبار السلعي، وانتهاءً بالتواطؤ الجماعي على حريتها عبر مفردات الحُرمة والحرام والمحرم والحريم والتحريم، وبقية العائلة اللغوية-الاجتماعية.

وفي بقاء هذه العاهات المعرفية والقِيَمية ليست هناك علمانية، وليس هناك مجتمع مدني … ذلك أن العلمانية ليست أيديولوجية أو مذهبًا سياسيًّا. ومن هنا أوافق وحيد عبد المجيد على «المساواة» التي أقامها بين بعض الأحزاب أو التيارات السياسية التي تصف نفسها أو يصفها الآخرون بالعلمانية، وبين أحزاب أو منظمات أو تيارات الإسلام السياسي، ولكن الفرق يبقى قائمًا بين أحزابٍ لا تدَّعي الحكم باسم الدين، وأحزاب تتوسَّل بالدين طريقًا إلى الحكم.

وبالطبع فقد كانوا جميعًا — في الأغلب — في الاستبداد سواء، ولكننا لا نستطيع القول إن هناك علمانية مستبِدة في مقابل إسلاميين مستبدين؛ فلنقل إن هناك أحزابًا أو نظمًا عسكرية أو مدنية على قدرٍ كبيرٍ من الاستبداد، ولنسمِّها بأسمائها الحقيقية. وسوف نكتشف أنها في المنطوق والمكتوب علمانية، وفي الواقع والفعل هي أحزاب طائفية من ناحية، وفي حالة تمفصل مع المؤسسة الدينية من ناحية أخرى. وبتحليل خطابها السياسي والاجتماعي والثقافي سوف نكتشف أنه في الجوهر خطاب ديني؛ لذلك فإطلاق صفة العلمانية على هذه الأحزاب والتيارات هو نوع من الإسراف والتبسيط المخل. ألا يدَّعي حزب البعث العلمانية، وفي غزو العراق للكويت ألم يرفع صدام حسين الرايات الدينية عاليًا؟ ألا يدَّعي حزب الكتائب اللبناني العلمانية، وهو الذي أشعل فتيل الحرب اللبنانية؟ ألم يكن الحزب الحاكم في دولة اليمن الجنوبي ماركسيًّا، وفي عهده اشتعلت حرب القبائل منذ ثماني سنوات؟ وهكذا فالادعاء شيء والواقع شيء آخر. ليست هذه كلها أحزابًا علمانية حتى نرادف بما اقترفته من استبدادٍ بين العلمانية والاستبداد. بل لنقل — صراحة — إن هذه الأحزاب والتيارات لم تكن علمانية في يوم من الأيام. ذلك أن العلمانية إحدى آليات النظام الديمقراطي، ولا يستطيع أي نظام مهما كان اسمه ورسمه أن يدَّعي الديمقراطية إلا إذا كانت العلمانية ضمن آلياته الرئيسية.

وقد بذل الدكتور وحيد عبد المجيد جهدًا مضنيًا في كتابه عن «الأزمة المصرية» للمقارنة بين النصوص الموصوفة علمانية والأخرى الموصوفة إسلامية، وانتهى إلى نقد العديد من هذه وتلك، والخروج بنتيجة مؤدَّاها إنه يمكن التوفيق بين المعتدلين من هنا وهناك على أساس «الديمقراطية أولًا».

ولكن السؤال هو: إذا اتفق الجميع على الديمقراطية (التي يشك الكاتب نفسه في قبولها من بعض الأحزاب والمنظمات والشخصيات الإسلامية السياسية) فما الذي يفرِّق حينذاك بين هذه الأحزاب والتيارات؟ والجواب الطبيعي: إنها المصالح المشروعة. لماذا إذن لا نسمي هذه المصالح سياسيًّا بأسمائها الصحيحة بدلًا من الاستقطاب الدعائي بين علمانيين وإسلاميين؟ وذلك حتى تتكافأ فرصة الاختيار الحر لدى المواطن البسيط بين من يمثِّلون مصالحه ومن لا يمثِّلونها دون ضغط أو غزل لمعتقداته الدينية.

ولا ننكر أن هناك أفرادًا وأفكارًا علمانية تطمح لتغيير الوطن ضمن منظورٍ أشمل لإقامة المجتمع المدني، ولكن ليست هناك علمانية متشددة في مقابل إسلاميين متشددين، بل وليست هناك علمانية معتدلة يمكن الجمع بينها وبين الإسلاميين المعتدلين، فالعلمانية ليست مذهبًا يمكن وصفه بالاعتدال أو التطرف، والإسلام السياسي أيضًا لا يعرف الاعتدال أو التطرف. وإنما العلمانية — كما أحب أن أكرر — مجرد آلية ضمن آليات أي نظام ديمقراطي، بينما الإسلام السياسي كما عرض الكاتب للنصوص والتجارب يرفض الديمقراطية إما شكلًا وإما موضوعًا، وإما شكلًا وموضوعًا.

•••

وبالرغم من كل ما يقال عن عصر النهضة، وليس التنوير كما هو شائع، فإن معركة «في الشعر الجاهلي» لطه حسين تظل ذات دلالة قصوى في موقف الوعي العام، فضلًا عن وعي النخبة من النظام المعرفي السائد. لم يكن هذا الكتاب أهم ما كتب طه حسين، ولكنه الكتاب الوحيد الذي مسَّ برفقٍ شديدٍ مساسًا عابرًا البِنية الأساسية للنظام المعرفي، ومن يومها لم يقترب أحد من هذه المنطقة «الخطِرة».

كذلك الأمر في كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، فقد كان أول مَن جرؤ على تناول «حالة التمفصل» بين مؤسستَي السلطة السياسية والدينية، وبالرغم من أن الرجل لم يخرج على النظام المعرفي السائد، فقد كان القرآن الكريم والسنة النبوية إطاره المرجعي، ومع ذلك فإن معركة «الإسلام وأصول الحكم» ما زالت ممتدة إلى اليوم.

ومنذ أن كتب قاسم أمين كتابَيه عن تحرير المرأة والمرأة الجديدة، وفيهما أيضًا يستشهد بالآيات والأحاديث، فإن الكثيرين ما زالوا يستمطرون عليه اللعنات متهمين إياه — مع علي عبد الرازق وطه حسين — بالزندقة والكفر.

ولستُ أعرف معنًى للعلمانية في مصر أو غيرها من الأقطار العربية إلا إذا كان أساس النظام المعرفي هو العقل، وإلا إذا انفكت العروة الوثقى بين مؤسستَي الحكم الشمولي السياسي والديني، وإلا إذا تغيَّرت أوضاع المرأة تغيُّرات مدنية حقيقية. وبغير ذلك لا يعود جائزًا أن نتكلم عن علمانية أو مجتمعٍ مدني. بل إن مفهوم الديمقراطية — وهو المصطلح الذي يراهن عليه وحيد عبد المجيد — يظل هو نفسه شديد الالتباس؛ فأية ديمقراطية هذه التي تتنازل عن العقل، وتتواطأ مع حالة التمفصل بين الشموليتين الأوتوقراطية والثيوقراطية، وتغض البصر عن وضع المرأة في ظلِّهما؟

وليس من قبيل المصادفة أن يخلو كتاب وحيد عبد المجيد خلوًّا تامًّا من الإشارة إلى هيمنة النظام المعرفي اللاعقلي السائد، وأوضاع المرأة في ظل الارتباط الوثيق، أو ما أدعوه بحالة التمفصل بين السلطتين الشموليتين السياسية والدينية. ولكنه آثر أن يدرس «النصوص»؛ بعيدًا عن الاختبارات العملية للدولة المدنية والمجتمع المدني ولفرط متابعته للمكتوب، ابتعد كثيرًا عن المكبوت.

والمكبوت هو أن مصر، ولا أي قطر عربي آخر بالضرورة، ليست علمانية، وإنما شبَّه الأمر لنا عبر بعض مراحل ما تواضعنا على تسميته بالنهضة. كانت ضرورات السياسة العملية كالطموح إلى الاستقلال أو التنمية هي التي تفرض التحديث التكنولوجي أو البرلماني أو التعليم أو حقوق المرأة؛ لذلك لم تخرج النهضة عن حدود «التوفيق» بين الدين والمدنية على حد تعبير الشيخ محمد عبده، ولم تخرج على التسويغ الشرعي لاستخدام التكنولوجيا الغربية المسخرة لخدمتنا كما يقول الشيخ الشعراوي. أما أن نرى الفكر في قلب التكنولوجيا، وأن نتفاعل مع هذا الفكر بعقلٍ نقدي مفتوح فلم يحدث قَط إلا على صعيد الأفراد والحركات الهامشية. ومن هنا كان استهلاكنا للحضارة الحديثة، يمضي في خطٍّ موازٍ لإعادة إنتاج الماضي والفكر القديم. ومن هنا أيضًا كان لا بد لمعادلة النهضة أن ينفرط طرفاها كلما انتفت الضرورات السياسية التي استدعت تماسكهما.

ومن المفارقات أن انفراط طرفَي المعادلة في أزمنة الانكسار هو الذي أفضى بمفهوم الاستهلاك الحضاري إلى التبعية بدلًا من الاستقلال، وهو الذي أفضى بالمفهوم الماضوي للتراث إلى الإسلام السياسي، وهو الذي جعل منهما — في الوقت نفسه — وجهَين لعملة واحدة في أزمنة السقوط. وتصبح المنظومة القِيَمية العثمانية — وليس الإسلام — صاحبة المبادرة في محاولة إجهاض الولادة المتعسِّرة للدولة المدنية والمجتمع المدني.

والمفارقة الثانية أن المنظومة القِيَمية العثمانية التي كادت تدمر مصر هي التي قطعت ما بيننا وبين الحضارة العربية الإسلامية في عصر ازدهارها؛ فكان أن ساهمنا نحن في تقدم الغرب وتخلفنا. ولكن الإسلام السياسي الذي يرفع في الفكر والسلوك رايات المنظومة التي تخلَّفنا بسببها هو الذي يتحالف علنًا مع قوى «الاستهلاك الحضاري» ضد جنين لم يُولَد بعد، شاء أن يدعوه بالعلمانية، وهو خلط تاريخي للأوراق، لأن الإسلام السياسي يدرك أكثر من الجميع أن الدولة الراهنة والمجتمع الراهن ليسا من العلمانية في شيء. ولكنه يرفع الشعار إلى حدِّه الأقصى ليربح ما هو أقل؛ القضاء على الدولة التي تحاول أن تكون مدنية، وعلى المجتمع الذي يحاول أن يكون مدنيًّا؛ لتحل مكانهما منظومة القِيَم العثمانية التي أحكمت وثاقنا إلى التخلف عدة قرون.

لذلك بدا لي منهج «نقد النصوص» في كتاب وحيد عبد المجيد محلقًا في مثالية التجريد، وهو يكتفي باستخلاص الأسئلة الإحراجية بلغة المناطقة؛ كالسؤال حول ما إذا كان الإسلاميون يوافقون على بقاء المواد الدستورية التي تعترف بتعدد الأحزاب وحرية الفكر والتعبير، متناسيًا أن لحظة الوثوب على السلطة تنفي أية تعهدات سابقة في صفوف المعارضة. والتجارب في ذلك بلا حصرٍ، هو يرحب بأي «كلام ضد العنف»، ويرصد أن هذا الكلام جاء على حساب إيضاح رؤيتهم للديمقراطية فأي تناقض؟ وهو لا يكتفي بنكران بعضهم «لحكم المشايخ»، ثم يسجل أن الأهم من ذلك هو «الالتزام بالتعددية»، كيف؟ وهو يأسف مع غيره لقول بعضهم بالحاكمية، ولكن الأسف في السياسة لا مكان له؛ فالقول بالحاكمية يعني دون لفٍّ أو دوران الحكم بالحق الإلهي. وهو يطلب منهم إدانة التجربتين السودانية والإيرانية، ولكنهم لا يفعلون لأنهم متسقون مع أنفسهم.

وليس اختلافهم — إن وُجِد — رحمة، فتجربة أفغانستان ما زالت ماثِلة للعيان، ومن قال إن هؤلاء أو أولئك من «المتكلمين» — أصحاب النصوص — هو الذي سيكون قادرًا على تنفيذ «الكلام إذا قدَّمنا «حسن النية».»

لذلك تبدو دعوة وحيد عبد المجيد «إلى مساومات وحلولٍ وسطية»، أي تنازلات متبادَلة، بما يتيح مساحة مشتركة بين العلمانيين والإسلاميين «أشبه ما تكون بالدعوة إلى «الاستسلام بشرف» في معركة ليست بين الدين والعلمانية، وإنما بين الإسلام السياسي ومصير الديمقراطية في هذا الوطن.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥