القسم الثاني

المكتوب والمكبوت في خطاب العنف المعاصِر

(١) خطاب التكفير المعاصِر

ليس تكفير الآخرين حيلة جديدة للقمع، بل إنه الحيلة التقليدية في كل زمان ومكان. منذ قديم الأزل و«التكفير» سلاحٌ وسلعة: سلاح ضد كل مَن يفكر في التمرد على السائد والمعتمَد والمعترَف به، وسلعة جاهزة لكل من يطلبها ضد معارضيه. وكان الرسل والأنبياء أول وأكبر من اتُّهِموا بالكفر، حتى إن موسى عليه السلام حين عاد بالوصايا العشر — فيما تروي التوراة — ووجد قومه يعبدون الأوثان الذهبية بادر إلى تحطيم الألواح التي كُتبَت عليها الوصايا، فقد اتهمه اليهود بالكفر حين حدَّثهم عن الإله الواحد. وفي تاريخ مصر القديمة قام كهنة آمون بالثورة على إخناتون حين أخذ يبشِّرهم بإله واحد أقوى من كل آلهتهم لأنه مصدر الحياة. ووصل الأمر باليهود في ثورتهم على السيد المسيح أن أسلموه إلى بيلاطس البنطي الوالي الروماني هاتفين في صوتٍ واحدٍ: «دمه علينا وعلى أولادنا.» وفي صدر الإسلام كان المؤمنون قلة، ومع ذلك فقد عانت هذه القلة القليلة بقيادة النبي الكريم أهوالًا ليس أقلها الاتهام بأن المسلمين كفروا بعبادة الأصنام، وحطموا الأديان الوثنية.

واستمر التكفير إلى العصر الوسيط بين المؤمنين وبعضهم بعضًا، فكان أتباع كل مذهب من أي دين يكفِّرون غيرهم. وكان المفكرون والفقهاء والعلماء والشعراء من ضحايا هذه «اللعنة المقدسة». ومأساة الحلاج أو السهروردي من أسطع الأمثلة على النتائج الدامية لهذه اللعنة. ومن المفارقات البشعة أن يقاسي ابن حنبل المعروف بالتشدُّد ويلات التعذيب على أيدي من كانوا يتشدَّقون بحرية الفكر. ولأن التاريخ هو صراع المتناقضات، فقد كان هناك في المقابل نماذج أخرى، فإذا كان ابن الراوندي قد جاهر بالإلحاد، فإنهم لم يقتلوه، بل كان هناك مَن يكتب «الرد على ابن الراوندي الملحد»، وكان الإمام الغزالي يكتب «تهافت الفلاسفة» فيرد عليه ابن رشد بكتاب «تهافت التهافت»، وهكذا كانت تُولَد الظاهرة ونقيضها.

ولعل أكبر المظالم في التاريخ البشري باسم التكفير كانت محاكم التفتيش التي أقامتها الكاثوليكية في العصور الوسطى الأوروبية. كانوا يفتحون الصدور — فعلًا لا مجازًا — بحثًا عن «الإيمان». وكانوا يقتلون الشيوخ والنساء والأطفال باسم المسيح، ويحرقون الدُّور بمن فيها باسم الكنيسة أو الصليب أو البابا. في هذا الوقت كان الأساقفة والقساوسة يبيعون صكوك الغفران للناس البسطاء الذين ينشدون الإفلات من المحارق. وكانوا يبيعون «الأمتار» المربعة أو القراريط في الجنة لمن يفكر في النجاة من المذابح بأي ثمن. وقد سميت هذه الأزمنة بالعصور المظلِمة لأنها أطفأت شموع العلم والفكر والمعرفة، حتى إن الكنيسة لم تتورَّع عن إحراق برونو — العالِم الفذ — حيًّا، وأن تحكم على جاليليو بالإقامة الجبرية في بيته حتى فقدَ البصر ومات. وبالطبع فقد كانت الكنيسة على خطأ، بل خطيئة في العلم والدين معًا، بينما كان العلماء والمفكرون شهداء المعرفة الصحيحة بمقياس زمانهم.

ولكن التكفير لم يتوقف بانتهاء القرون أو العصور المظلِمة؛ فقد ورث العصر الحديث هذه الهمجية، ولم يستفِد من دروس التاريخ. لقد استُخدِمت هذه الأداة الجهنمية في كل المذاهب السياسية، حتى الذي يرتدي منها ثياب العلم والتقدم كالماركسية عندما تحوَّلت إلى سلطة وعقيدة للدولة والمجتمع. كان كل مَن يختلف مع رأي الحزب كافرًا ملعونًا ومنبوذًا في أحسن الأحوال، ومنفيًّا أو قتيلًا إذا ساءت. وكان جوركي أحد كبار «المؤمنين»، وأقرب المقرَّبين إلى لينين، هو الذي اتخذ من إيطاليا منفاه، وكان مايكوفسكي شاعر الثورة هو الذي انتحر، وكان إيمري ناجي في المجر ودوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا من الذين كفروا بعبادة الفرد والحزب الواحد، فكان نصيب الأول الإعدام والآخر المنفى. وبعد عشرين عامًا على «ربيع براغ» وثلاثين عامًا على غزو المجر كان جورباتشوف يتكلم عن البريسترويكا وكأنه يعيد الاعتبار إلى الذين استُشهدوا من أجل إيمانٍ جديد … بالديمقراطية. كانت «تهمة» التحريفية والمراجعة ترادف الكفر بالماركسية فظلَّ تيتو مدانًا إلى أن مات، وظل تولياتي رمزًا إيطاليًّا للكفر والتحريف والمراجعة. أما آلاف «الرفاق» الذين قتلهم ستالين أو شرَّدهم أو أصابهم بالجنون في بلده وغيرها من بلاد «المؤمنين» فقد كانوا جميعًا من الكفرة، وأولهم تروتسكي الذي اختار المنفى البعيد، ولكنهم طاردوه حتى طالوه برصاصة واحدة. وكان كهنة الماركسية وأحبارهم من جدانوف إلى سوسلوف بمثابة المفتي الذي تُحال إليه أوراق الكفرة فيوقِّع على إعدامهم، ويقدم الحيثيات الأيديولوجية الكفيلة بطمأنة الضمير العام إلى أن المجتمع قد تخلص من «الأشرار» إلى الأبد، وأن العقيدة ستظل كما كانت منذ البدء نقية طاهرة من التلوث. حتى خروشوف الذي نعى إلى العالم تمثال ستالين، وكان أول من فضح المكبوت فزعزع أركان الستالينية، لم ينجُ في خاتمة المَطاف من التكفير فأزاحوه برفع الأصابع.

ولم يكن الوضع في العالم الغربي أفضل كثيرًا أو قليلًا؛ فقد عرفت أمريكا زعيمة «العالم الحر» أيامًا سوداء في الحقبة المكارثية حين طال التكفير أعظم علمائها وأدبائها وفنانيها بدءًا من جاك لندن وريتشارد رايت وجون شتاينبك، وليس انتهاءً بإلياكازان وشارلي شابلن وبول روبسون. كانت المكارثية ترى في كل عقلٍ مستنير وقلبٍ ينبض بمحبة العدالة خطرًا أحمر اسمه الشيوعية. وقد عاشت الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها في هذا الرعب الأسود سنوات حالكة الظلمة كأي دولة عسكرية من دول العالم الثالث هلعًا من الاتهام الجاهز «أنت شيوعي» بحيث أخضعت أكبر العقول لسلطان التكفير، فقد فضَّل البعض — دفعًا للاتهام — أن يبالغ في الارتداد عن أفكاره ومواقفه حتى مات «شتاينبك» وهو يكتب «يجب أن تبقى أمريكا في فيتنام للأبد» قبل أن يرى جيش بلاده وهو يرحل منكسرًا عن تلك الديار البعيدة عن الأراضي الأمريكية.

وبالطبع، فقد كان هناك من يحاول مقاومة «التكفير»، فيجرب سلفادور أليندي أن يمزج بين الحرية والعدل، ولكن زعيمة «العالم الحر» لا تسمح له بذلك لأنه في نهاية المَطاف كافر بالتبعية المطلَقة لقيادة الرأسمالية العالمية. وهكذا تصل إليه مخابراتها المركزية في ثياب الجنرال بينوشيه ليقتله في قصره، وهو مصير أبشع كثيرًا من مصير جورباتشوف الذي أعلن البريسترويكا التي فتحت الأبواب أمام الانهيار الشامل، ولكنه قال «أنا شيوعي». وفي مقابل الأولى جاءت العقوبة على الثانية مخفَّفة. ولكن جوهر العملية هو التكفير، أسود أو أبيض. أما محاولة الجمع بين «النقيضين» فهو الكفر بعينه وتصوير الأمر على أنه «نقيضان» هو لُباب الاتهام بالكفر، فمَن قال إن العدل والحرية خصمان لدودان بالضرورة؟ ولكن المفارقة أن تكفير جورباتشوف لم يكن من جانب الغرب وحده، وإنما كان ولا يزال من جانب «الرفاق» أيضًا.

وكان من الطبيعي للعالم المتخلِّف الذي كان يُدعى مجازًا بالعالم الثالث أن يرث كل ما هو سلبي في التجارب الإنسانية القديمة والحديثة؛ ورث الستالينية وهو ضد الشيوعية، وورث المكارثية وهو ضد الرأسمالية، وورث التكفير من مصادره المختلفة أيًّا كان «الإيمان» في سياقه التاريخي إسلاميًّا أو مسيحيًّا، هندوسيًّا أو بوذيًّا.

وكان لعالمنا العربي نصيب الأسد في هذا الاكتشاف. أقبلت المذاهب السياسية من كل نوع ترفع لافتات الاشتراكية والرأسمالية والقومية والأممية والطائفية. ولكنها التقت جميعها في نقطة واحدة هي التكفير: أنا أو نحن الصواب المطلَق، وغيري أو غيرنا الخطأ المطلَق، أنا أو نحن البداية والنهاية، وغيري أو غيرنا سحابة عابرة أو «أقلية مندسَّة»، أنا أو نحن الدولة والشعب والعقيدة، وغيري أو غيرنا المنحرفون الكفرة الملاحدة الزنادقة، أنا أو نحن الحقيقة، وغيري أو غيرنا هرطقة.

ولم يختلف التاريخ من العصور القديمة إلى عصرنا الراهن، فقد ظل التكفير خلاصة العناصر التالية:

  • الكلام باسم إحدى العقائد الدينية أو السياسية الراسخة في الضمير العام، بحيث يصبح المساس بها خروجًا على «روح الشعب» أو «ضمير الأمة».

  • الربط بين هذه العقيدة والسلطة سواء أكانت سلطة الحكم أو سلطة المعارضة، بحيث يصبح المساس بها خروجًا على الشرعية أو الشرعية البديلة.

  • تعميم العقيدة على «المصلحة العامة» دفاعًا عن مصالح خاصة للفئات أو الشرائح المهيمنة بالقوة أو المهيمنة بالإمكان.

  • التوحُّد بين العقيدة والوطن بحيث يصبح المساس بالعقيدة مساسًا بالوطن يرادف الخيانة العظمى.

  • يقع ذلك غالبًا في عصور الضعف والتردي الأقرب إلى الانحطاط، بحيث يصبح التغني بالعقيدة تعويضًا مجزيًا عن احتدام الأزمة العاتية في مفترق الطرق.

•••

ولنتخذ المناخ العام في مصر مثالًا عمليًّا لاختبار هذه الفروض، وسوف نستعيد من نماذج الاختبار تكفير جماعات التكفير التي يصفِّي بعضها بعضًا فضلًا عن تكفيرها للمجتمع والدولة معًا. وهي نظرية شاملة وضعها سيد قطب في كتابه الشهير «معالم في الطريق»، وشرحها شقيقه محمد قطب في كتابه «جاهلية القرن العشرين». والكتاب الأول تأثر صاحبه غاية التأثر بأفكار أساسية نادى بها أبو الأعلى المودودي، وجاء تنظيم شكري مصطفى «التكفير والهجرة» تطبيقًا لها. تقول هذه الأفكار بالحاكمية، وأن هذا المجتمع جاهليٌّ لا بد من إعادة «أسلمته» بالعنف.

سوف نستبعد أدبيات هذه الأطروحة لنسلط الضوء على التكفير الآخر الذي يقوم به كُتَّاب ومثقفون يدَّعون الاعتدال و«يهاجمون» الإرهاب، ولكنهم يهاجمون أيضًا مَن يختلف معهم في الرأي، ويكفِّرونه تمامًا كما يفعل «الإرهابيون».

حين كتبتُ في «الأهرام» — ۳۱ مارس (آذار) ١٩۹۳م — عن «قضية نصر أبو زيد» تفضَّلت الدكتورة ليلى عنان أستاذة الأدب الفرنسي بجامعة القاهرة بالتعقيب في جريدة «الشعب» ٦ / ٤ / ١٩٩٣م على النحو التالي: «يتحدث بعقلٍ وحكمة، ولا نستطيع إلا أن نوافقه على رأيه فيما يتعلق بقضية حرية الرأي في الجامعة شكلًا وموضوعًا (…)، ولكنه ينهي مقاله بكلمات غريبة، فهو يرى أن كلمات لجنة الترقيات لا تقل عن كلمات محكمة التفتيش التي انعقدت منذ ٣٦٠ سنة، والفرق أن الفاتيكان اعتذر لجاليليو بينما هناك البعض في جامعاتنا ما زال مقتنعًا بأن الأرض لا تدور.» وهذا بالفعل نص كلماتي حرفًا حرفًا، يتضح فيها السخرية من الفاتيكان وهذا البعض في جامعاتنا، لأن اعتذار الكنيسة الشديد التأخر لن يفيد جاليليو ولا العلم. ومن غير المعقول أن نبدأ من حيث بدأت الكنيسة، أي بمحاكم التفتيش، فإذا كان البعض في بلادنا لم يقتنع بعد بحرية البحث العلمي فإنه كمن لم يكتشف حتى الآن صحة ما ذهب إليه جاليليو وأن الأرض حقًّا تدور. لم تدرك الدكتورة عنان هذه السخرية البسيطة الواضحة بل «وافقت» على كل المقال، وتوقفت فقط عند السطرين الأخيرين لتتساءل ««ألا يدرك (…) أن مثل هذا الكلام يضع المسيحية والإسلام وكأنهما غريمان يتميز أحدهما على الآخر؟» «ألا يرى (…) أن مثل هذا الكلام ومضمونه الاستفزازي للمسلمين — وهو المسيحي المعروف — غير ذي موضع هنا إن كان له أساسًا موضع في أي مكان (…)، إذ يبدو قوله وكأن الدكتور نصر لو كان في مجتمع مسيحي لكان حاله أحسن؟» «قد يرى المسلمون البسطاء في كلام (…) حافزًا لإشعال الفتنة الطائفية»، «فمن السخرية حقًّا أن نقرأ بقلم مسيحي مصري — أي قبطي — شكرًا في سياسة الكنيسة الكاثوليكية»، «حين قرأت ما كتبه (…) بدا لي كأبشع نكتة سمعتها (…)، يريد أن تعتذر لجنة الترقيات للدكتور نصر عن محاربتها إياه وسجنه مدى الحياة مثل جاليليو بعد مرور ثلاثة قرون ونصف قرن من الزمن.» «ألا يرى (…) أن الفاتيكان — مثله الأعلى في هذه القضية — قد لا يختلف كثيرًا عمن يطلقون الرصاص على الأبرياء في الشوارع».» هكذا كان تفسير الكاتبة لكلماتي حرفيًّا، إنها «قراءة» على كل حال، ولكنها قراءة تعتمد آليات التكفير جملة وتفصيلًا، فهي أولًا تلوي عنق النص «ليقول ما ليس فيه»؛ إذ من المستحيل أن يستخرج المنطق البسيط هذه المعاني من كلماتي الفياضة بالسخرية من الفاتيكان ولجنة الترقيات على السواء. ولكن الكاتبة تكبت وتفصح في آنٍ واحدٍ عن دلالتين متلازمتين، فقد وافقت منذ البداية على دفاعي عن حرية البحث العلمي، ورأت في هذا الدفاع عقلًا وحكمة. ولم يكن دفاعي سوى المقال بكامله، أما تعقيبها فقد جاء على سطرين اثنين استأنفت بسببهما الحكم بالعقل والحكمة فأصبح الأمر «نكته بشعة». والمكبوت هنا أن موافقتها على موقفي من حرية البحث العلمي، وبالتالي موقفها إلى جانب نصر أبو زيد قد احتاج إلى التحفظ أو الاستدراك، وهكذا لوَت عنق النص لتقول شيئًا أعدَّته سلفًا، ولم تجد مشجبًا تعلِّق عليه التحفظ إلا كلماتي التي ظنَّت أنها تسعفها من المأزق. ولكن السؤال البسيط هنا: لماذا لم تكتب مقالًا مستقلًّا في الدفاع عن أبو زيد بدلًا من التعقيب على سطرين بما هو خارج السياق؟ أما المكبوت الثاني، والمفصح عنه في آنٍ واحدٍ فهو الإشارة المتكررة إلى أنني مسيحي، وكأنه ليس من حقي كمواطن وككاتب إبداء الرأي في شأنٍ ترى أنه يخص المسلمين وحدهم، فهي القائلة — حرفيًّا — في الهجوم على اللجنة «أرجو أن تكون مسلمة حقًّا.» ولمجرد أنني مسيحي فإنني أشعل — بكلماتي — نيران الفتنة الطائفية، وأغدو إرهابيًّا لا أختلف عمن يطلقون الرصاص، وهذا نموذج مثير للتكفير لأن عشرات من المثقفين المسلمين دافعوا عن نصر أبو زيد أو هاجموه دون أن ينالوا اهتمامًا من صاحبة هذا الكلام.

وإذا كانت الدكتورة ليلى عنان اختارت مقالي ليكون لها صوت في الموضوع؛ فلم يظهر أنها قرأت ملف القضية أصلًا، فإن الأستاذ جمال بدوي رئيس تحرير «الوفد» قد خصَّني أيضًا بتعقيبٍ مطول (عدد ٨ / ٤ / ١٩٩٣م) ولم يكن حتى ذلك التاريخ قرأ الملف. ولكن الرجل لم يشِر من قريبٍ أو من بعيدٍ إلى انتمائي الديني، بل كان مشكورًا يصفني على طول المقال بالصديق العزيز. وسوف نصادف عدم قراءة الملف في العديد من التعليقات على قضية نصر أبو زيد، فضلًا عن عدم قراءة مؤلفاته التي تسبَّبت في منع ترقيته، وعدم القراءة يكشف عن الموقف المسبَق لكل تكفير. يقول الأستاذ جمال بدوي ما نصه: «من حقها (أي الجامعة) أن تصادر أي غذاء فاسد يمس الأديان والمعتقدات، وليس من حقها أن تشجع الأفكار التي تطعن في الدين تحت ستار حرية البحث والتنقيب، ولن تكون الجامعة في أي يومٍ وكرًا لترويج الإلحاد أو الزندقة … ولن تكون معولًا لهدم الدين … وعندما يبعث الأب المصري بابنه إلى الجامعة فهو لا يتصور أن يتخرج منها وقد خرج من الدين، [ثم يتساءل] لماذا يظل الدين هو «الملقف» الذي يستهوي دعاة الزندقة والإلحاد؟»

خطورة هذا النص أنه حكمٌ من غير برهان (لا يتوفر إلا بقراءة أوراق المحكوم عليه)، وبغير حيثيات يشترط فيها التدليل المقنِع على أنه ليست هناك لتلك الأوراق سوى قراءة واحدة يستحق صاحبها هذه العقوبة. وكل ذلك ونحن بعيدون كل البعد عن مبادئ حرية الفكر والاعتقاد وحقوق الإنسان في التعبير والجهر بالرأي. خاصة وأن نصر أبو زيد في كل ما كتب لم يقل أكثر من أن الدين شيء والفكر الديني شيء آخر، فالفكر الديني خطاب بشري، لأنه مجرد تأويل للنص وليس هو النص؛ وكل تأويل قابل للمناقشة كأي خطاب بشري آخر. أين الإلحاد في هذا الكلام، إذا كان هذا السؤال واردًا أصلًا؟ ولكن السياق السياسي الذي تمر فيه البلاد هو الذي يفسر هذه الأسئلة التكفيرية، فالإرهاب المسلَّح باسم الدين يفرض أنواعًا من الخوف والتواطؤ والإذعان؛ فيضع البعض قدمًا هنا وأخرى هناك، فمن يدري ما يخبئه الغد.

والدكتور مصطفى محمود أحد الذين يهاجمون الإرهاب بضراوة بالغة وبليغة في نهاية أي مقال، ولكنه في التعقيب على قضية أبو زيد يجرؤ على القول «وعن القرآن يقول صاحبنا أن الله تجلى في القرآن كما تجلى الله في المسيح، ولكن منذ نزل القرآن في كلمات عربية أصبح بشريًّا يجوز الطعن فيه وعليه، «و» الحل الوحيد عنده (أي عند أبو زيد) هو التحرر من القرآن والسنة» وأنه (أي أبو زيد): «هدم القرآن واتهم الصحابة» (الأهرام، ١٠ / ٤ / ١٩٩٣م). وهذه الأسطر حين تصدر عن كاتب لم يقرأ حرفًا لنصر أبو زيد، فإنها تتجاوز التكفير المباشر إلى التحريض على القتل. وإذا كان الأستاذ جمال بدوي لم يدَّعِ قَط أنه قرأ الملف الجامعي أو مؤلفات نصر أبو زيد، فإن الدكتور مصطفى محمود يجرؤ على الادعاء بأنه قرأ، ولكن ما كتبه خير شاهد على أنه لم يقرأ حرفًا، وهو بذلك يعطي صوته دون جهد إلى جانب حملة التكفير الشرسة التي يسهم في إدارتها بوعي كامل.

وهو نفسه موقف الأستاذ ثروت أباظة رئيس اتحاد الكُتَّاب المنوط به — افتراضًا — الدفاع عن حرية الكاتب، فإذا به يكتب حرفيًّا «… هذا القرآن يدَّعي الأستاذ الكافر — وهو كافر لا شك — في أحد أبحاثه المقدَّمة للترقية أن عثمان بن عفان تآمر عليه «وقد» رفضت الجامعة أن ترقي هذا الملحد المعلِن لإلحاده، وإني أصيح بأعلى صوتي، وباسم الإسلام والديمقراطية، وكل القيم الرفيعة، أن بقاء هذا الآثم المجنون في الجامعة إهدار للدين» الأهرام (٢٢ / ٤ / ١٩٩٣م).

إننا هنا بإزاء متحدث رسمي باسم العقيدة الدينية والعقيدة السياسية و«كافة» القِيَم الرفيعة، وقد تجسَّدت في شخصه الكريم، فكان حكمه المسبَق والمبرم معًا هو التكفير وما يستتبعه من عقوبات.

أما الأستاذ فهمي هويدي فهو رجل هادئ الطباع والقلم؛ فلم يقُل أكثر من أنه «في هذه الحالة الأخيرة لا يُعَد العبث بالنصوص عدوانًا على عقيدة الأمة فقط، ولكنه يصبح عدوانًا على الدستور والنظام العام في البلاد» (٢۰ / ٤ / ١٩٩٣م). ولعلَّه الكاتب الوحيد بين هذه النماذج كلها يمكن للمرء أن يقول بضميرٍ مطمئنٍّ أنه قرأ وتأمَّل ورأى ما رآه، وربما كان الأكثر صدقًا مع النفس لأن التجانس في أحكامه بين المقدمات والنتائج لا غشَّ فيه.

ولكن هذه النماذج على اختلاف أنواعها ودرجاتها تقدِّم إطارًا لمناخ التكفير السائد على الخطاب المعاصر، ولم تكن قضية أبو زيد أكثر من فرصة لاختبار مصداقية هذا الخطاب، وعلاقته بالأزمة الحادة التي يمر بها الوطن في الوقت الراهن. إنه الخطاب الذي يتكلم باسم العقيدة الأعمق رسوخًا في الضمير العام، ويربط بين هذه العقيدة والسلطة والشرعية، ويعمِّم ذلك كله في مصالح بعض الفئات والشرائح المهيمنة، ويوحِّد بين العقيدة والوطن وحق المواطنة. وهو في ذلك يتناقض بين اليقين المعلَن؛ إيمان وكفر، وبين الفعل المسكوت عنه؛ الموقف المزدوج من السلطة والإرهاب.

وهذه من علامات الضعف العام في جسد وطن أدمته الجراح، وروح أمة أمضَّتها المحن.

(٢) الخطاب غير الوطني

۱

بعد حوالي أربع سنوات من نجاح الخميني في إزاحة شاه إيران من الحكم، وبداية السلطة الدينية الشيعية، ظهر في لندن كتيبٌ فاخر الطبع مصقول الورق، تحت عنوان جذاب يقول على الغلاف والصفحة الأولى «نموذج للدستور الإسلامي». لا يحمل الغلاف فوق هذا العنوان سوى الهلال وداخله دائرة كُتبَت فيها آية قرآنية كريمة، وتحمل الصفحة الأولى تاريخ العاشر من ديسمبر (كانون الأول) ١٩٨٣م، إلى جانب التاريخ الهجري ٦ من ربيع الأول ١٤٠٤ﻫ. ثم هناك مقدمة جاء فيها أنه سبق هذا الكتيب «الإعلان الإسلامي العالمي»، وقد صدر في لندن عام ١٩٨٠م. و«البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام» وقد صدر في باريس عام ۱۹٨١م. وفي خاتمة المقدمة أعيد تاريخ كتابتها المذكور في الصفحة الأولى، وقد أضيف اسم المكان الذي صدرت عنه، وهو مدينة «إسلام آباد» واسم صاحب المقدمة سالم عزام، وقد كتب إلى جانب التوقيع صفة الرجل باعتباره «الأمين العام». ونفهم من الغلاف الأخير أن الجهة التي يتكلم باسمها «الأمين العام» هي المجلس الإسلامي في لندن، وقد دوَّن عنوانه مفصلًا. نلفت النظر مؤقتًا — لحين الدراسة المفصَّلة — أن المقدمة قالت في الفقرة الأخيرة أن هذا المشروع للدستور الإسلامي قد «أسهم في إعداده كثير من العلماء والمفكرين ورجال السياسة وممثِّلي الحركات الإسلامية» (ص٥).

بعد ثماني سنوات من صدور «نموذج» الدستور الإسلامي القادم من إسلام آباد والصادر في لندن، أصدرت في القاهرة جماعة دعت نفسها «اللجنة الشعبية للإصلاح الدستوري» كتابًا عنوانه «الدستور الذي نطالب به» من تقديم الدكتور محمد حلمي مراد المسئول السياسي المعروف في «حزب العمل والإخوان المسلمين». وقد صدر هذا المشروع عام ١٩٩١م كبديلٍ مقترح للدستور المعمول به منذ ١١ سبتمبر (أيلول) ۱۹۷۱م حتى الآن في مصر.

هل من علاقة بين دستور إسلام آباد ودستور «اللجنة الشعبية»، كما تسمي نفسها الجماعة التي انتدبها حزب العمل والإخوان المسلمون لصياغته؟

ربما نجد جوابًا قديمًا عند العقيد معمر القذافي حين اجتمع ببعض مفكري وكُتَّاب «الأهرام» في السابع من أبريل (نيسان) عام ١٩٧٢م، وهي الفترة التي نشأت فيها «الظاهرة» المصرية المركَّبة: مطاردة الشباب الناصري والماركسي في الجامعات، ودعم التيارات الإسلامية، وإحراق دار الأوبرا وبعض الآثار القومية وإحدى الكنائس، وغليان الحركة الطلابية والتحام المثقفين بها. كان هذا العام الحافل هو العام التالي مباشرة لعام «الدستور» الجديد الذي حرص الرئيس السادات أن يضيف إليه أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.

ولكن هذا الجواب القديم لقائد «ثورة الفاتح» الليبية قد عرف من المتغيرات اللاهثة ما يستأنف الحكم على مدى مشاركته في الأحداث؛ إذ إنه على الأقل فوجئ بعد عشر سنوات من اعتلائه عرش السلطة في ليبيا بأن الخميني يزايد عليه إسلاميًّا. كان العقيد قد توصَّل تدريجيًّا قبل الثورة الإيرانية بسنواتٍ إلى إعلان ما دعاه «سلطة الشعب». ثم كان الكتاب الأخضر الذي خصَّص فيه فصلًا عنوانه «القرآن شريعة المجتمع». وأدرك الدارسون لدلالة الألفاظ أن القذافي أراد أن يجمع بين حُسنيين، فقد عرَّب المصطلح الأوروبي «الأمة مصدر السلطات» وهو الشعار التاريخي للعلمانية، حيث حلَّت فكرة «الأمة» مكان «الحق الإلهي» للملوك والباباوات، ولكنه أضاف في الوقت نفسه أن القرآن شريعة المجتمع. وبما أن المجتمع شيء والدولة شيء آخر فإن تنفيذ «سلطة الشعب» سيئُول إلى الدولة. بينما تطبيق القرآن سيئُول إلى المجتمع، أي إلى أفراد الشعب في أخلاقياتهم وسلوكهم دون مساس «بالقانون». وتبعًا لذلك أدمجت الدولة الليبية وزارة العدل ووزارة الداخلية في وزارة واحدة هي «الأمانة العامة للعدل»، وهو الأمر الذي يتعارض ضمنًا مع مبدأ الفصل بين السلطات في الدولة الواحدة. وحتى يحل العقيد هذ التناقض فقد تحلَّل من قيود التسميات القانونية والدستورية المعروفة، وهكذا سُميَت أجهزة الأمن والمخابرات باللجان الشعبية، وأُلغيَت التعددية الحزبية باسم كلمات مقدسة لها في السياق معنًى مختلف، وهي «من تحزَّب خان» فلم تعُد هناك أحزاب أو تيارات أو اتجاهات. وإنما هناك «مؤتمر الشعب» الذي يضم كلَّ الشعب دون الحاجة إلى نواب «فالتمثيل تدجيل». كانت أثينا القديمة تداعب خيال العقيد حين كانت ديمقراطيتها في بعض المناطق وفي بعض الأوقات تضم «كل الشعب» الذي كان من الممكن جمعه في مكانٍ واحد.

ولكن العقيد كان يحرص على أن يكون «نموذجه» عالميًّا أمميًّا يسود الكرة الأرضية بأسرها، فجاء الكتاب الأخضر في كل اللغات بالحرف والصوت والصورة ليخاطب الدنيا بأن ليبيا — التي منذ القديم يأتي منها كل جديد — تقدِّم البديل الجذري لدكتاتورية الليبرالية الغربية والماركسية الشرقية على السواء. هذه هي «النظرية العالمية الثالثة» التي تمحو فكرة الحزبية من أساسها، فلا تعدُّد أحزابٍ كما هو الحال في الغرب، ولا للحزب الواحد كما هو الحال في الشرق. وبدلًا من أن يستولي الأفراد على الثروة في الرأسمالية، وبدلًا من أن تستولي عليها الدولة في الاشتراكية، فإن «الشعب» هو الذي يستولي عليها في الجماهيرية؛ للشعب إذن كل الثروة وكل السلطة وكل السلاح أيضًا، فالجيش هو كل الشعب.

وحين واجهت العقيد مسألة الدين كعقبة يمكن أن تحُول دون انتشار النظرية العالمية الثالثة، فقد ارتبكت خُطاه لبعض الوقت. أرسل في إحدى المرات الرسائل إلى رؤساء بعض الدول العظمى يدعوهم إلى الإسلام. وحين وصل اثنان من رواد الفضاء السوفيات إلى الأرض وقد فارقا الحياة كتب لبريجنيف يقول: لو أنهما كانا من المسلمين لما كانت هذه نهايتهما، ادخل وأمتك في الإسلام قبل فوات، وفي إحدى لحظات احتدام الحرب في لبنان دعا المسيحيين اللبنانيين إلى الإسلام حتى يمكن حل المشكلة نهائيًّا من جذورها.

ولكن العقيد نفسه هو الذي قال في مرة أخرى أن «الإسلام دين الأمة» و«لكل» قومية «دينها» ومن ثَم «فالإسلام دين العرب وحدهم». وهو أيضًا الذي قال في مصر «كلنا مسلمون، بعضنا يذهب إلى المسجد والآخرون يذهبون إلى الكنيسة». كان ذلك خلال الزيارة التي قام بها عام ۱۹۷۲م. واجتمع بنا في «الأهرام»، وسأل لويس عوض في مكتب توفيق الحكيم: لماذا أبقيتَ على اسمك وهو اسم ملك فاسد؟ فأجاب لويس بهدوء: لقد سُميت باسم رجل عظيم، هو العالِم والمكتشِف الشهير لويس باستير. ولأن المصادفة وحدها — ربما — هي التي حددت تاريخ زيارته مع تعاظم الحركة الطلابية فقد صرح حرفيًّا: اعتبروني طالبًا في جامعة عين شمس. وهناك من يرى أن السادات وجد فيه حينذاك خير دعم للتيارات الإسلامية في الجامعة، ولكنه في جميع الأحوال استطاع أن يصبح نجمًا وملهمًا بين قطاعاتٍ من الشباب العربي الغاضب.

وفي جميع الأحوال أيضًا كانت الفكرة «العالمية» أو «الأممية» تداعب خياله سواء أكانت الدعوة الإسلامية هي الراية أو الاشتراكية، فهو قادر على التواؤم مع المتغيرات الإقليمية والدولية. وهو يستطيع «التطرف» إلى أقصى درجات التطرف يمينًا أو يسارًا حسب الظروف، ودون مقدمات في أغلب الأحيان. وقد أنفق المال الكثير لتثقيف العالَم بالنظرية العالمية الثالثة، ولكنه أنفق مالًا أكثر لتدريب وتسليح حركات التحرير من أفريقيا إلى أيرلندا إلى الفلبين. ولم تكن مسألة «التحرير» بحد ذاتها هي التي تقلقه، وإنما مسألة الأممية الخضراء، أي تطبيق مقولات الكتاب الأخضر على العالم بأكمله إنقاذًا للبشرية من الشيوعية والرأسمالية.

ولم يكتشف العقيد غالبًا أن الأموال الهائلة التي أنفقها على النظرية والتحرير كانت من حظ تجار الكلام من مختلف الجنسيات وتجار السلاح العابر للقارات. ولكن الشعب الليبي هو الذي اكتشف أنه لا يعيش في أثينا القديمة، وأن سلطة الشعب واللجان الشعبية وأمانة العدل والديمقراطية الجماهيرية ليست أكثر من تسميات جديدة لأجهزة الأمن المتنوعة. وأن أموال النفط التي كان أحفاد أحفادهم سيعيشون منها مرفَّهين قرنًا كاملًا في المستقبل قد ذهبت سُدًى في مهب الرياح «الأممية» السوداء والصفراء، والحمراء، أما الأممية الإسلامية الخضراء فلم يرَوا تُخومها قَطُّ.

ما اكتشفه العقيد مبكرًا هو صعود النجم الإيراني. اكتشف أولًا المفارقات، فالإيرانيون يسمون دوائر الدولة العليا بالوزارات كغيرهم من أهل الدنيا كلها. ونسي أن كلمة «وزير» ليست طارئة على أية دولة إسلامية في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث. والإيرانيون كذلك لهم دستور وقوانين وبرلمان ورئيس جمهورية، ومن الناحية الشكلية لديهم أحزاب وانتخابات للنواب والرئيس، وحينئذٍ رأى الجماهيرية على يسار الجمهورية الإيرانية. واكتشف ثانيًا أن هناك مرشدًا عامًّا للثورة ليس هو الرئيس، فاقتنع بأن الجماهيرية العظمى لن يكون لها رئيس، وإنما «قائد عام للثورة» فهو لا يحكم، وزملاؤه من القادة لا يحكمون، ولكنه عمليًّا لم يرفض في أي وقت أن يعامله العالم كله باعتباره رئيس دولة، ولم يتنازل هو أو زملاؤه عن الإمساك بمقاليد السلطة. وبالرغم من أن الأعراف الدبلوماسية الدولية تُلزِمه بأن يكون له سفراء وسفارات فقد أجاب: ليبيا ليست دولة، لقد ألغيتها، وليست لنا سفارات بل مكاتب شعبية ومكاتب أخوة، ومع ذلك فإن المسئولين في هذه المكاتب لا يرفضون معاملة العالم لهم كسفراء.

غير أن الاكتشاف الأكبر والأخطر هو أن إيران تقوم بما يُسمَّى «تصدير الثورة»، وبسبب هذا التصدير دخلت في حربٍ طاحنة مع العراق ثماني سنوات. وأصرت، وما زالت تصر، على احتلال الجزر الثلاث التي تملك السيادة الشرعية عليها دولة الإمارات، كذلك، فإيران صاحبة حضور مسلَّح في جنوب لبنان. وبالتدريج أضحت ذات نفوذٍ رسمي في السودان، وذات نفوذٍ آخر بين الجماعات الإسلامية في بعض الأقطار العربية وبعض أجزاء فلسطين المحتلة. بل إن إيران في بعض الأوقات استطاعت التمدُّد الخارجي عبر أعمال الإرهاب، وكانت باريس من محطاتها الشهيرة. ثم تمكَّنت إيران بحكم الجوار واللغة والمذهب أن تتوغل في أعماق آسيا الوسطى حيث الجمهوريات الإسلامية السوفياتية سابقًا، وهكذا ترشِّح إيران نفسها قوة إقليمية عظمى في منطقة شديدة الحساسية من زاوية الجغرافيا السياسية.

ماذا يفعل العقيد الذي سبق إيران في رفع الشعار الأممي أو الأممية الخضراء أي الأممية الإسلامية، وهو الذي ينتمي إلى مذهب الغالبية العربية؟

في حرب الخليج الأولى اتخذ موقفًا ثابتًا إلى جانب إيران، على عكس الموقف الرسمي والشعبي للعرب، وقام في الوقت نفسه بحربه مع تشاد.

ولولا حرب الخليج الثانية لكانت الهزيمة السياسية لإيران في حربها الأولى مؤكَّدة، أما العقيد، فإن هزيمته في تشاد لا تحتاج إلى تأكيد.

وما هي النتيجة؟

باختصارٍ، إن أكثر دعوتين وضوحًا إلى الأممية الدينية قد باءتا بالخسران، بالرغم من انطلاقهما أولًا وأخيرًا من «سلطة دولة» بكل ما يعني هذا المصطلح من قوة مالية وعسكرية. بل إن النتيجة في مشهدها المباشر تقول إن العالم الإسلامي لم يكن مشرذمًا كما هو اليوم؛ بلد عربي مسلم كالعراق يغزو بلدًا عربيًّا مسلمًا هو الكويت، بكافة مضاعفات هذا الغزو على العراق والكويت والعرب جميعًا اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا، بلد آسيوي مسلم تتناحر فصائله المسلَّحة بعد تحريره هو أفغانستان، بلد أفريقي مسلم تتقاتل فصائله المسلحة لحد استدعاء القوات الأمريكية والدولية التي ساهمت، بدلًا من الإنقاذ، في توسيع وتعميق أنهار الدم هو الصومال. بلد مهدد بانفصال جنوبه عن شماله هو السودان. بلاد في حالة حرب أهلية معلَنة وأخرى مكبوتة، كما في الجزائر ومصر حيث الإرهاب المسلح باسم الدين يهدد الدولة والشعب معًا. البوسنة والهرسك في صراع الحياة والموت، كذلك اللبناني في الجنوب والفلسطينيون في الضفة والقطاع، صورة العربي والمسلم في شوارع العالم وكأنه مشروع إرهابي أو إرهاب متنكر.

هذا هو «العالم» الإسلامي، فمن يبيع شبابنا وهْمَ «الأممية الدينية» لدرجة تدمير الوطن الحي الملموس من أجل الفردوس المفقود؟

كان الشيوعيون هم الذين يؤمنون بالأممية البروليتارية فيرسل السوفيات صواريخهم إلى كوبا، ويرسل الكوبيون جنودهم إلى أنغولا. ولكن البشرية كلها أفاقت على أن الأمر لم يتجاوز «استراتيجية كونية لدولة عظمى» لا علاقة لها بالنشيد الأممي من قريب أو بعيد. وحين هبطت قوات حلف وارسو في بودابست وبراغ اكتشف الضباط والجنود والعالم أن الدبابات الأممية كانت تقتل الأمميين أنفسهم، وإنها كانت تذبح الحرية لا أكثر ولا أقل، وكانت الفجيعة الإنسانية الكبرى أن النشيد الأممي هو الشعار الذي يخفي الأنياب المغروسة في لحم وعظم ودم القوميات المقهورة.

و«العالم الحر» كان أيضًا الأنشودة الأممية للرأسمالية العالمية وهي تنهب المستعمرات، وهي تفترس فيتنام، وهي تذبح أليندي وتضع بينوشيه مكانه. كانت المخابرات وحدها هي الجهاز الأممي القادر — وما زال — على التدخل هنا وهناك بما يناسب المصلحة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية لقلة قليلة من الاحتكارات العالمية.

وكانت السلطنة العثمانية قبل هؤلاء وأولئك هي آخر معقل إسلامي لادعاء الأممية الدينية قبل أن يكشف سقوطها عن صعود القومية الطورانية، كما كشفت إيران عن صعود القومية الفارسية.

ومع ذلك كان هناك من يعارض القومية بالدين. كان الإخوان المسلمون أول من قال بأن لا قومية في الدين، وإن الإسلام «جنسية» كل مسلم على ظهر الأرض. أما القومية فهي شر الشرور، فالوطن ليس هو الجغرافيا أو التاريخ أو الحياة المشتركة أو الاقتصاد أو الثقافة أو التكوين النفسي، وإنما هو «العقيدة». لذلك كانت مأساة من نُطلِق عليهم «العرب الأفغان» هؤلاء الذين آمن بعضهم، وارتزق البعض الآخر، بضرورة «الجهاد لنصرة الإسلام». كانت المأساة أن الأفغان-الأفغان المسلمين جميعًا هم الذين يتذابحون الآن، أما الأفغان-العرب فهم الذين يُشعِلون النار في أوطانهم الأصلية. وهكذا يدفع المسلمون، وليس المخابرات الأمريكية صاحبة الفضل الأكبر، ثمن الوهم الأممي الذي شحنت به بعض القوى المحلية والأجنبية عقول شبابنا فيندفع إلى نوعٍ من الانتحار شعاره هدم المعبد على من فيه.

لذلك علينا، ونحن نقرأ الدساتير المقترحة لإقامة دولة إسلامية، أن نتساءل عن العلاقة بين هذه المشاريع والدعوات والتحققات التي سبقتها وتلتها. يجب أن نتساءل عن الوجه الآخر للعملة: هل الدول الإسلامية الراهنة ليست إسلامية، أم أن هناك مفهومًا آخر للإسلام لا يعرفه المسلمون في هذه الدول؟ هل هي دعوة حرة خالصة لوجه الله والإسلام، أم أن لها علاقة حميمة باستراتيجيات إقليمية تتستر بالدين؟

منذ بداية السبعينيات وهناك عشرات الندوات والمؤتمرات للمثقفين العرب يتنادون إلى مناقشة العلاقة بين الدين والقومية، فهل وصلنا إلى موسم الحصاد؛ إرهابًا دمويًّا وتدميرًا وطنيًّا؟ وهل تكون هذه المشاريع الدستورية من المتفجرات المخبوءة تحت ثياب «المعتدلين»؟

لنقرأها إذن!

۲

ثلاثة وقائع متقاربة في التوقيت وأعمار أصحابها من الشباب، كان العنصر المختلف بينهم هو المكان والجنسية.

أما الواقعة الأولى فقد شهدتها إحدى مدارس القاهرة حيث رفضت بعض الطالبات رفع العلم الوطني، وصمَّمن بديلًا عنه يشبه علم إحدى الدول العربية، ولمَّا سُئلن عما يفعلنه أجبن بلسان واحد: هذا العلم المصري لا يعترف بأن أرض الله كلها أرض الإسلام، وبلادنا جزء منها فلماذا تتميز بعلمٍ خاص وكأنها تنكر أننا أمة إسلامية واحدة.

والواقعة الثانية شهدتها عاصمة خليجية؛ كان الشاب يسأل زميله: هل أنت مسلم؟ أجابه الآخر: والحمد لله. عاد الأول يسأل: لماذا تقف إذن ضد ضم الكويت إلى العراق؟ أجابه الثاني: كلاهما دولة مستقلة، فلا يجوز لإحداهما أن تعتدي على الأخرى؟ قال له الأول: أنت إذن لستَ مسلمًا، لأن الكويت والعراق أرض الإسلام، ولا معنَى للقول بأن إحداهما ضمَّت الأخرى أو غزتها، وإنما هو خطوة نحو وحدة الأراضي الإسلامية.

أما الواقعة الثالثة فقد كنتُ طرفًا فيها. صادفت شابَّين في مترو باريس يتصفح أحدهما أحد أعداد «الوطن العربي». وبدافع الفضول تقدَّمت منهما، وسألت من جلست إلى جواره: سمعتك تُبدي ملاحظة على المجلة لزميلك. أجابني: ليست ملاحظة على هذا العدد بالذات، وإنما على اسم المجلة نفسها؛ فليس هناك وطن سوى دار الإسلام ولا جنسية للمسلم غير عقيدته، ولا حضارة له غير الحضارة الإسلامية، أما القول بوطنٍ عربي أو أمة عربية أو حضارة عربية، فكلها مسميات تخاصم صحيح الدين.

هذه الوقائع الثلاث توحي بأن قطاعًا من الشباب العربي قد نفَّض يديه تمامًا من فكرتين محوريَّتين كانتا من «الثوابت» هما الفكرة الوطنية والفكرة القومية، بالرغم من أن الفكرة الأولى قد نشأت وتطورت في سياق الكفاح الشعبي ضد الاستعمار الغربي، كما أن الفكرة الثانية وُلدَت ونمت وترعرعت إما في مواجهة السلطة العثمانية وإما في مواجهة التخلف غداة الاستقلال.

ومع ذلك، فإنه من المستحيل تبرئة الفكر العربي الحديث مما آلت إليه الفكرتان من شحوبٍ وانحسارٍ لدى الأجيال الجديدة، والاكتفاء باتِّهام الإسلام السياسي أو بهشاشة النظم العربية؛ إذ لا بد من الإقرار سلفًا بأن «أممية» الإسلام السياسي لا تعتمد على الواقع، وإنما على الفراغ الذي تخلَّف عن سقوط العديد من الأطروحات الأخرى في النظر والتطبيق على السواء. كذلك لا بد من الإقرار بأن هشاشة النظم العربية لا تعتمد على ثوابت وأقدار، فكثيرٌ هم المثقفون الطليعيون الذين كانوا في صفوف المعارضة — جذريًّا — وأصبحوا في مقاعد السلطة أو بالقرب منها، ومع ذلك لم تتخفَّف النظم عن هشاشتها. حدث ذلك في تجربة البعث (سوريا والعراق)، وحدث مثله في مصر الناصرية، وحدث أيضًا في «ماركسية» اليمن الجنوبي، وكذلك في جبهة التحرير الجزائرية. ورأينا وسمعنا ولمسنا كيف يتحوَّل بريق الفكر المعارض إلى سحبٍ من الدخان في مواقع السلطة، وحين ينقشع الدخان في العزائم من كل نوعٍ ندرك يقينًا أن السلطة جاءت تكذيبًا عمليًّا مدوِّيًا للفكر. وحين يفقد الفكر مصداقيته فإنه يفسح الطريق أمام الفكر الآخر أو الفكر المضاد؛ ليس من فراغٍ في السياسة، الكأس الفارغة مليئة بالهواء بكل ما يشتمل عليه من عناصر ومكونات نظيفة أو ملوثة.

والشباب العربي في الوقت الحاضر لم يفقد بعضه الإيمان بالوطن، وبعضه الآخر الإيمان بالأمة لمجرد أن الخطاب الأممي للإسلام السياسي قد شاع وانتشر، وإنما لأن هذا الخطاب، بالرغم من تهافته، قد اكتشف الفرصة سانحة في غياب الخطاب الوطني والقومي الجديد القادر على ملء الفراغ الناتج عن فساد الخطاب القديم للفكر العربي الحديث والمعاصر، وما اقترن به من تجارب في التطبيق ثبت فسادها، وهزمها الواقع هزائم مريرة.

والشائع أن «السلفية» مصطلح يُطلَق أحيانًا على الأفكار والحركات التجديدية في التاريخ الإسلامي الحديث (علال الفاسي وعبد الكريم الخطابي، ابن باديس والأمير عبد القادر، وعمر المختار، الإمام محمد عبده على سبيل المثال). كما أن المصطلح نفسه يُطلَق على الأفكار والحركات الراديكالية (أبو الحسن الندوي، أبو الأعلى المودودي، سيد قطب على سبيل المثال أيضًا!).

ولكننا سوف نستخدم السلفية هنا بمعنى «الماضوية» ونقول إن الفكر العربي الذي هيمن على أجيال النصف الأخير من القرن كان في بِنيته الأساسية فكرًا سلفيًّا حتى ولو ارتدى ثيابًا تقدمية وثورية إلى بقية المصطلحات التي نحتتها الأنظمة ومعارضوها على السواء. بل كان هؤلاء المعارضون في الأغلب جزءًا لا يتجزَّأ من هذه الأنظمة داخلها وخارجها، وكانت «الطلائع المثقفة الثورية» هي ذاتها التي صاغت هذه الأوصاف والشعارات.

كانت السلفية بمدلولها الماضوي هي لُب لُباب مختلف اتجاهات الفكر العربي، فالعصر الذهبي يشكِّل عمودها الفقري جميعًا؛ قومية سلفية واشتراكية سلفية وليبرالية سلفية أيضًا. ومن نافل القول أن الإسلام السياسي منذ كان جنينًا يحبو، وهو إمام السلفية المعاصرة.

كان الفكر القومي ينادي ولا يزال بأمة عربية واحدة «ذات رسالة خالدة»، وبالطبع كانت الرسالة الخالدة هي الإسلام. وكانت المفارقة أن الذي قال ذلك هو السياسي والمفكر السوري ميشيل عفلق في رسالته عن الرسول الكريم. ولم يفتح أحد ملف الأسئلة الكبرى: كيف يمكن للإسلام الذي جاء للعالمين أن يكون رسالة أمة بعينها؟ وكيف لأمة من الأمم أن تدَّعي الخلود لمجرد الزعم بملكيتها لرسالة خالدة؟ ولم يكن الذي أجاب بالإيجاب بعثيًّا، كان مع القذافي الذي قال بأن لكل أمة دينها، وإن الإسلام هو دين الأمة العربية. ولم يكن أحد يدري أن هذا الالتباس الأول بين القومية والدين يستبِعد المسيحيين العرب من هُويتهم العربية. كانت أطروحة العصر الذهبي رابضة في دهاليز الفكرة القومية التي تضمر «المدينة الفاضلة» وتبشِّر بها على نحوٍ يذكِّر بما كانت عليه الدولة الأموية.

وبالرغم من أن الإسلام كان واضحًا في دعوته للشعوب والقبائل أن تتعارف، فإن دعاة «الأمة العربية» الواحدة لم يفطنوا قَط إلى مغزى التعددية في تكوين هذه الأمة. ومن ثَم كان البُعد العِرقي بارزًا في الدعوة إلى الواحدية، وليس إلى قبول الحصائص المتعددة للشعوب العربية. والحق أن «العصر الذهبي» في مخيلة رواد الفكر القومي لم يكن، عمليًّا، أيًّا من مراحل الدولة الإسلامية القديمة أو الوسيطة. كما أن «المدينة الفاضلة» لم تكن من وحي أية مدينة إسلامية متحقِّقة. وإنما كان العصر الذهبي الحقيقي في الفكر المكبوت أغلب الوقت والمعلَن أحيانًا، هو عصر بسمارك في ألمانيا وعصر جاريبالدي في إيطاليا. كانت الوحدتان الألمانية والإيطالية هما صدر الخيال الوحدوي عند القوميين العرب الأوائل، وهو خيال التاريخ الأوروبي في أزمنة مضت، ولا علاقة له بأي «تراث عربي» أو «أصالة إسلامية» كما تقول دعواتهم أو تزعم ادِّعاءاتهم، وقد تمَّت الوحدات الألمانية والإيطالية في سياقٍ تاريخي خاص بأوروبا يحتم العنف. وقد ورث الفكر القومي العربي بذرة العنف من هذا التراث، ورث الشيء ونقيضه، فقد وقَّع بعض من ألمع رموز هذا الفكر على عريضة تأييد للانفصال بين مصر وسوريا عام ١٩٦١م، وكان انفصالًا عسكريًّا مسلحًا، بينما أخذ البعض على جمال عبد الناصر أنه لم يتدخل بالسلاح لفض هذا الانفصال باعتباره رئيس الدولة «الواحدة». لم يفكر أحد في المقدمات التي أدت إلى النتائج، وهي أن الوحدة الاندماجية الشاملة والفورية بقيادة العسكر تعني العنف والعسف، باستبعاد الشعوب التي تتوحد في صنع مصيرها بالطريقة التي تختارها، وباستبعاد الخصائص النوعية لكل شعبٍ عن دائرة صنع القرار. ولكن هذا الاستبعاد الذي استلهم العنف من تجارب أوروبية في زمنٍ مضى، استلهم المثالية المتعالية من مفكرٍ لا علاقة له بالعرب ولا بالإسلام إلا من حيث كونه كان متعصبًا للصهيونية الفاضلة: هو الفيلسوف الفرنسي برجسون. كان الرجل — دون غيره — هو مصدر الإلهام الفكري لهؤلاء الذين لم يكفُّوا يومًا عن ترديد أناشيد الأصالة. كان هناك عبد الرحمن الكواكبي من صميم تراثنا الحديث ينادي بالعروبة والديمقراطية، ولكنه لم يخطر على بال أحدهم، لأن مثالية برجسون التي بلورها في الفكرة الصهيونية النقية كانت أكثر تطابقًا مع «روح العنف» في خاتمة المَطاف. وقد لا يكون غريبًا أن تُبنى الدولة الصهيونية بالعنف الدموي إلى يومنا، ولكنه من الغريب أن يتبنَّى الضحايا المثالية اليهودية-البرجسونية في الحلم الوحدوي العربي. والمشترك واحد؛ هو التفسير العنصري لشعب الله «المختار» الذي لم يكن سوى المجموعة الضيقة من صفوة المؤمنين بالله الواحد، أو «خير أمه أُخرجت للناس» من أوائل المؤمنين به وبرسوله الكريم في صدر الإسلام. هذا التفسير هو الذي خرج بهذا النص وذاك عن سياقه ودلالته المباشرة التي لا تعني مطلقًا اليهود المعاصرين، أو جميع المسلمين في مختلف الأزمنة.

ولكن هذا التفسير الذي قاد إلى بناء الدولة العبرية كأبشع مثال للكيان العنصري في القرن العشرين، هو نفسه الذي قاد إلى الدولة القومية العربية التي اتَّخذت من قمع شعوبها دستورًا غير مكتوب. بل إنها الدولة التي لم تستطع على مدى تاريخها المعاصر أن تحقق حلمها في الوحدة بين دولتَين أو بين حزبَين هما في الأصل حزب واحد، وهي كذلك الدولة التي مُنيت بالهزائم المتتالية في ميادين القتال والتنمية والتقدم.

ويكفي أن نستعيد مذابح الحرية في الأقطار «القومية التقدمية» من المحيط إلى الخليج لندرك أن الاستبداد قد لازم التجربة القومية في الفكر والتطبيق وفي الحكم والمعارضة. ويكفي أن نستعيد تجارب الوحدة بين مصر وسوريا، وبين سوريا والعراق، وبين مصر وسوريا وليبيا، وبين ليبيا وسوريا، وبين ليبيا والمغرب، لندرك أن الانفصال جرثومة كامنة في قلب الفكر القومي. ويكفي أن نستعيد هزيمة ١٩٦٧م وحرب لبنان واجتياح لبنان الأول والثاني والثالث وحرب الخليج الأولى والثانية وحرب القبائل في جنوب اليمن لِنُوقن أن الهزيمة الساحقة كانت النصيب العادل للفكر والتجربة على السواء؛ فكر القومية الملتبسة بالدين تارة وبالعِرق تارة أخرى، وبالعنف في جميع الأحوال.

هل هناك مناخ أصلح من ذلك للتخلي عن الوطن الملموس والأمة القائمة بالإمكان إلى أممية وهمية؟ ولقد ركزنا على التيار القومي لأنه ظل التيار الصاعد في الخمسينيات والستينيات، ولأنه التيار الذي تمكَّن من السلطة في أكثر من بلدٍ عربي تحت رايات تميِّزه بأنه «تيار المستقبل».

ولكن هذا التيار لم يكن وحيدًا، وإنما كان له شريك متواضع حينًا بالتحالف، وأحيانًا بالتخاصم، هو التيار الاشتراكي، وهو تيار ماركسي يؤمن بالأممية في حدود المؤتمرات والمهرجانات، ولا علاقة له عمليًّا بها. وهو تيار ثقافي في الأغلب، سياسي في الأقل. ولأنه في المعارضة معظم الوقت، فإن اختبار أفكاره في التطبيق تبدو صعبة المنال لخصوصية العمل السري. ولم يحدث أن كانت هناك دولة عربية ماركسية إلا إذا اعتبرنا أن اليمن الجنوبي كان — من قِبَل المجاز — دولة ماركسية انهارت فوق أكوام من الجماجم، واختفت في بحيرات من دماء القبائل. والتجربة الأخرى في السودان دامت ثلاثة أيام لأنها بالرغم من ردائها العسكري أفصحت عن سذاجة سياسية بعيدة المدى. أما في العراق فقد تلطخت بعض صفحاتها بالدم، وبعضها الآخر بالتبعية للسلطة، وبعضها الثالث بالضعف ثم التشرذم. وتميَّزت التجربة في لبنان بالتكيُّف مع الواقع الوطني والقومي لدرجة الانخراط في الحرب، وأنها جزء لا يتجزَّأ من هذا الواقع. وفي مصر لم يخطط الماركسيون المصريون في أي وقت لسلطة اشتراكية، وإنما كان كفاحهم المستمر من أجل الديمقراطية والاستقلال. وكان الشيوعيون المصريون أول «حزب» يحل نفسه بنفسه في العالم قبل الانهيار السوفياتي بربع قرن. وفي المغرب العربي لم تكن هناك أحزاب ماركسية ذات وزن في أي وقتٍ لاعتبارات النشأة — خاصة في الجزائر وتونس — المرتبطة في المخيِّلة الشعبية بالحزب الشيوعي الفرنسي واختياراته.

غير أن الشيوعين العرب باختلاف اتجاهاتهم وتقلُّباتهم ومصائرهم لم تكن لهم فاعلية واضحة إلا في الثقافة؛ فأحزابهم في الأغلب الأعم كانت تنظيمات نخبوية لم تترك بصمة متميزة على الشارع الشعبي. وقد كانت الشيوعية في وجدان المواطن العادي تعني الإلحاد من جهة والاستبداد من جهة أخرى؛ لذلك نجحت الحكومات الوطنية والقومية في تصفيَّتها، سواء ما كان منها — أي من هذه الحكومات — على صلة بالولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي. ولم يكن انهيار المعسكر الشرقي إلا تتويجًا لانهيار الحلم عند قطاعات من الشباب مع الاستقلال الوطني كانت على ثقة من أن الاشتراكية لا تتعارض مع الاستقلال الوطني، ولا مع القومية، ولا مع الدين. ولكن ما كانت تظنه دعاية مغرضة من الإمبريالية وتشويهًا متعمدًا من الرأسمالية، تراءى لها في السقوط السوفياتي على غير هذا النحو، وإن اصطناع التناقض بين العدل والحرية لا يحقق العدل ولا الحرية.

وبالرغم من أن الاشتراكية كانت حلمًا نخبويًّا لقلة قليلة من المثقفين، إلا أن غياب هذا الحلم بالمدينة الفاضلة والأممية البروليتارية أفسح المجال للحلم البديل، بمدينة أخرى وأممية لا يمحوها سقوط الأنظمة. وقد اختلطت الأفكار بالنماذج الاجتماعية والوسائل بالغايات، فلم يرِث الشباب عن الماركسية سوى العنف والحكم الشمولي وفكرة الأممية، وليس بالضرورة أن يكون هذا الميراث عن الماركسية العربية. يكفي ما أفصحت عنه انهيارات الدول والمجتمعات. وإذا كان ثالوث العنف والحكم الشمولي والأممية في الماركسية من أجل «الدنيا»، فقد كان ممكنًا توظيف الأفكار والممارسات ذاتها من أجل «الدين والدنيا» معًا، هكذا استفاد الإسلام السياسي من الفراغ الذي خلَّفه الفكر القومي، ومن الفراغ الضئيل الذي خلفه الفكر الاشتراكي، وهو ضئيل، لكنه مؤثر؛ ذلك أن «سلطة النص» عند الماركسيين و«العمل السري» كانا من أبلغ الدروس التي استفادت منها الجماعات الإسلامية. فسلطة النص والعمل السري هما الإطار اللازم لأفكار الحاكمية والفريضة الغائبة. وهي الأفكار التي تتخذ وسيلتها من العنف وإقامة الحكم الشمولي لغاية واحدة هي الأممية التي تنبذ العقيدة الوطنية، وكل ما له علاقة بالفكر الوطني أو الديمقراطية أو الاستقلال. وهكذا كانت إنجازات وهزائم الفكر القومي والاشتراكي رصيدًا لا ينضب لأي نقطة بدء ينشدها الإسلام السياسي وأحلامه الأممية؛ فكرة العصر الذهبي والمدينة الفاضلة، والقمع.

ولم تكن الليبرالية العربية أفضل حالًا من القومية والاشتراكية، كانت أولًا قد أصبحت في خبر كان منذ أقبلت الأنظمة العسكرية. وكانت ذكرياتها ثانيًا لا تخرج عن الانقلابات الدستورية المتوالية. وكان لبنان، ثالثًا، قد دفع ضريبة «ليبرالية الطوائف» حربًا طاحنة أكثر من خمسة عشر عامًا.

وكان الإسلام السياسي يملأ الفراغ الناشئ عن هذه الغايات كلها، بل هذه الأرصدة من العنف والفساد والعنصرية، ولكن الحقيقة التي تكاد تغيب في هذا السياق المزدحِم بالإدانة للآخرين هو أن الإسلام السياسي نفسه كان صاحب المبادرات الأولى إلى العنف من قبل أن يأتي العسكر، وقبل أن ترتفع رايات العروبة، وكان صاحب الخطاب غير الوطني من قبل أن ترتفع رايات الأممية.

وهو الآن يحيطنا علمًا بأنه يريد دولة دستورية، يقدِّمها لنا في وثائق مكتوبة.

۳

لم تتبدد أرصدة العنف التي تركتها الدولة شبه القومية شبه الاشتراكية حتى الدولة شبه الليبرالية (كلبنان وحربه الطويلة)، فإن هذه الأرصدة من القمع الوحشي قد ارتبطت دائمًا بشعاراتٍ ذهبية وضمنًا بمفهوم «الأخلاق». قامت دولة العنف القومي والاشتراكي والليبرالي باسم الدفاع عن «وحدة العرب» و«العدالة الاجتماعية» و«الوحدة الوطنية». ثم أسفرت أنهار الدماء في السجون والمعتقلات والمنافي والمهاجر والجبال والسهول والشوارع والزواريب عن «التشرذم العربي» و«الظلم الاجتماعي» و«الانقسام الوطني». أي أنه إذا كانت المكيافيلية العربية قد اتخذت من القمع الوحشي وسيلتها لغاياتٍ نبيلة فإنها لم تحقق هذه الغايات، فأصبح العنف — عمليًّا — هو الوسيلة والغاية معًا.

لم يتبدد هذا التراث مع سقوط الأحلام واحدًا بعد الآخر، وإنما أقبل حلم «الأممية الدينية» بديلًا مسلحًا بالمفهوم الأخلاقي نفسه؛ العنف لإحياء الأمة الإسلامية على أنقاض الحلم الوطني والحلم القومي معًا.

تقول المادة الأولى من دستور المجلس الإسلامي في لندن إن «الحكم كله لله تعالى»، وهذه هي المقولة الأولى في دولة الجماعات الإسلامية؛ أطروحة الحاكمية التي أخذها سيد قطب عن المودودي، والتي تنفي عن «الأمة» أن تكون مصدرًا للسلطات، وبما أن الحاكم الفعلي الذي سيمارس السلطة على الأرض من البشر، فإن التباسًا حتميًّا لا بد أن يقع عن المسافة التي تصل وتفصل بين السلطة ومصدرها. ومن ثَم فالنص الدستوري القادم من لندن-إسلام آباد يمنح «الحق الإلهي» في السلطة لفردٍ أو جماعة من البشر لن تحتاج إلى رأي الشعب أو الأمة في تسيير أمور الدولة بما فيها تطبيق الشريعة. وإنما هناك الفقرة «ب» من المادة الثالثة حيث الإقرار بأن «الشورى منهجٌ وأسلوبٌ في الحكم» دون إفصاحٍ عن ماهية الشورى التي اختلف من حولها الفقه الإسلامي اختلافات شهيرة، ولكنها في جميع الأحوال تتكوَّن من أهل الحل والربط، ولا إلزام، كما قال الشيخ الشعراوي، أو مساءلة للحاكم.

وهكذا يخلو الدستور «الإسلامي» من واردات بريطانيا وباكستان من أية إشارة إلى التعددية الحزبية والسياسية والفكرية، فلا أحزاب ولا برلمان ولا أفكار خارج النظام الفكري (المرموز إليه في الهوامش بالشريعة).

والمادة الثانية من هذا الدستور تحدد أن البلد المعني الذي سيطبق الدستور الإسلامي «هو جزء من العالم الإسلامي، والمسلمون فيه جزء من الأمة الإسلامية». والمكبوت في هذا النص هو أن البلد إذا كان عربيًّا فهو لا ينتمي إلى أمة عربية؛ فهناك فقط أمة إسلامية ينتمي إليها المسلمون من أبناء هذا البلد وحدهم، ذلك أن الأمة العربية، على النقيض من هذا المفهوم، تضم المسلمين والمسيحيين على السواء. والمعنى المقصود هو استبعاد غير المسلمين في النهاية من حق المواطنة في «الأمة الإسلامية»، وهي الجسم الدستوري للدولة الإسلامية التي ينظمها هذا الدستور.

وقد أوضحت المادة الرابعة عشرة هذه المسألة إيضاحًا تامًّا حين قالت في (أ) أن المواطنة ينظمها القانون، وأردفتها في (ب) أن «مواطنة الدولة الإسلامية حقٌّ لكل مسلم فقط»، والمغزى الذي لا يقبل التأويل هو أن المواطن الباكستاني تحق له المواطنة في مصر أو لبنان أو سوريا أو العراق أو السودان أو الأردن، دون أن يتساوى معه في هذا الحق المواطن المسيحي في هذه الأقطار.

المواطنة إذن حقٌّ عقيدي، والعقيدة هي الجنسية. وبالرغم من أن الدستور المذكور ينص في مادته السادسة عشرة على أن «لا إكراه في الدين» فإنه لا يعطي لغير المسلمين أية حقوق في الدولة سوى «حق ممارسة الشعائر الدينية» كأية جالية أجنبية. والمسكوت عنه في هذه النصوص أن «الإكراه» مضمر منذ سُلب المواطن غير المسلم حق المواطنة في أرض آبائه وأجداده، أي منذ أصبح مواطنًا من الدرجة الثانية أو الثالثة.

أما الباب الرابع فيخصصه مشروع الدستور للإمامة التي يرى أنها «أصل تستقر به قواعد الدين، وتنتظم به مصالح الأمة.» وفي هذا الباب تتحدد الجهات التي يتعهَّد أمامها الإمام بالتزاماته نحو الأمة، وهي: مجلس البيعة، ومجلس العلماء، والمجلس الدستوري الأعلى، وقادة القوات المسلحة. وندرك من هذا التصنيف الذي يمثِّل أعلى سلطة في البلاد أن نظام الحكم يعتمد في جوهره — باستثناء القوات المسلحة — على رجال الدين وعلمائه. ولذلك أضاف المقترَح الدستوري نظام «الحسبة» إلى جانب السلطة القضائية. كذلك أضاف في الباب الثامن «ولاية الجهاد» حيث يصبح الإمام قائدًا أعلى للقوات المسلحة، ويغدو الجهاد فريضة على كل مسلم. ثم أضاف في الباب التاسع «المجلس الدستوري الأعلى» القائم على «حماية الأسس والمقومات الإسلامية للدولة.» وفي الباب العاشر «مجلس العلماء» الذي يتكوَّن من علماء الشريعة، وهو وحده يباشر الاجتهاد الفقهي «بيانًا لحكم الله»، وهو أيضًا الذي يبدي «حكم الإسلام» فيما يُصدِره مجلس الشورى من قوانين.

هذا هو على وجه التقريب مشروع الدستور الذي اقترحه أصحابه غداة انتصار الخميني واستيلاء أنصاره على الحكم في إيران. وهو الدستور الموقَّع والمؤرَّخ في إسلام آباد، والصادر في العاصمة البريطانية منذ اثني عشر عامًا.

إنه إذن، على صعيد الشكل تجسيدٌ قانوني للحلم الذي استحال حركة مسلَّحة لتحقيقه في أكثر من بلد عربي؛ مصر وسوريا والعراق والأردن وفلسطين المحتلة والجزائر، ولم يتحقق في غير السودان. وهو سودان نميري-الترابي-البشير. وإذا أضفنا باكستان ضياء الحق وإيران الخميني ثم خامئني يتجسد أمامنا الحلم في «التطبيق». أي أنه أصبحت أمامنا نماذج حية للحكم الإسلامي المقترَح ومفهومًا عمليًّا للأممية التي «يجاهدون» من أجلها.

أما بالنسبة للحكم أو «نظام الدولة» فهو الحكم الشمولي الذي يتحالف فيه العسكر ورجال الدين، وقد كان ضياء الحق ونميري من «الأئمة» العسكريين، وكل ما نعرفه عن باكستان والسودان حتى الآن هو أن الإمام البشير جاء في أثر انقلاب على الإمام نميري، وأن الإمام ضياء الحق قد رحل في طائرة «إمامية» أيضًا، كذلك نعرف أن تصفية المعارضين هي السياسة الثابتة في إيران والسودان، بما فيهم المعارضون من داخل النظام. ونعرف أن معاملة غير المسلمين في السودان بلغت شأوًا بعيدًا في الهمجية والتوحش، ونعرف أن معسكرات تدريب الإرهابين ضد مصر والجزائر هي جسر التواصل الحميم بين طهران والخرطوم.

ونعرف أكثر أن «الأممية» كما تفهمها إيران، هي إفساح المجال أمام إسرائيل لدك الجنوب اللبناني وإرباك الحكومة اللبنانية وتمزيق الوحدة الوطنية اللبنانية. بينما تتردد طهران ألف مرة قبل أن تحتج — مجرد الاحتجاج — على توغُّل أرمينيا في أذربيجان. بل إن الأممية الإيرانية العجيبة لا أثر لها على مسلمي البوسنة، وربما تكشف الأيام أسرارًا مذهلة حيث يتردد بقوة أن إيران ليست بعيدة عن دعم الصرب؛ في هذا الصدد يقال إن ثمة تحالفًا خفيًّا بين موسكو وطهران، وما خفي أعظم.

ليست الأممية الدينية إذن إلا وهمًا من الأوهام، و«المدينة الفاضلة» لم تأخذ من العصور الذهبية إلا ألوانها القانية.

والأمر كله لا يخرج عن كونه استراتيجيات دول كبرى على صعيد العالم، ودول أصغر على صعيد الإقليم.

والعرب الأفغان خير «أمثولة» وأبشع مأساة على هذه «الأممية الدينية» التي يبيعونها للشباب. قالوا لهم إن الأممية هي الجهاد في أفغانستان؛ فذهب الشباب وراء الحلم الأممي إلى نهاية الطريق المسدود، ذهبوا من كل الأقطار العربية والإسلامية لمحاربة الجيش الأحمر. ويقال إنهم هم الذين حاربوا، أما القبائل الأفغانية فقد ادَّخرت قواها وأموالها وشبابها وأسلحتها للصراع على السلطة بعد التحرير، فهل كانت حربًا بين الإسلام والشيوعية حقًّا، أم أنها كانت حربًا بالوكالة بين موسكو وواشنطن؟ كانت المخابرات الأمريكية هي التي تجنِّد الشباب العربي المسلم، وكانت باكستان حليفًا علنيًّا للولايات المتحدة. وبدت العواصم العربية والإسلامية كأنها في حربٍ مقدسة من حروب الفتح العظيم. ولكن الأمر لم يخرج عن كونه استراتيجية أمريكية لدحر السوفيات. وحين وضعت الحرب أوزارها أصبح العرب الأفغان خناجر في ظهور أوطانهم الأصلية والوحيدة، وتحوَّل الأفغان إلى قتال بعضهم البعض. هذه هي الثمار المُرَّة للأممية الوهمية؛ قاتل شبابنا من أجل استراتيجية لا علاقة لها بالإسلام أو المسلمين، ثم عادوا ليضربوا في العمق بلاد العرب والمسلمين، ولم يربح سوى واشنطن، حتى إسلام آباد وطهران لم يربحا شيئًا.

وهناك، فيما يقال، أممية أخرى في جنوب لبنان، ولا شك أن المقاومة اللبنانية والفلسطينية مقدسة وواجبة وضرورية. أما الأممية التي تجمع في إهاب حزب الله أجناسًا وألوانًا باسم «الجهاد»، فإنها مجرد ورقة في ملف الاستراتيجية الإيرانية، تحاول بواسطتها إيران أن تعزز مكانتها في الشرق الأوسط. إنها الاستراتيجية ذاتها التي بدأت بالحرب ضد العراق لتوسيع نفوذها في الخليج، وهي أيضًا الاستراتيجية الممتدة إلى السودان لمدِّ بساط الهيمنة إلى مصر والمغرب العربي.

كلها استراتيجيات أجنبية لمصالح إقليمية ودولية لا علاقة للإسلام أو المسلمين بها، فأية أممية تلك التي تجمع واشنطن بالعرب الأفغان؟ وهل كان الأمريكيون حلفاء للإسلام بالأمس، وخصومًا له اليوم؟ لأول مرة في التاريخ نعرف أن المخابرات الأمريكية ترعى وتزود وتحمي الأممية الإسلامية. ولكنها لن تكون آخر مرة أن تنفض الولايات المتحدة أيديها عن حماية المسلمين في البوسنة والهرسك. ولأول مرة في التاريخ نعرف أن المخابرات الإيرانية تدافع عن الأممية الإسلامية في جنوب لبنان، ولن تكون آخر مرة أن تدعم المخابرات ذاتها الصرب، وتغفل عن دعم أذربيجان.

لا واشنطن حريصة على الإسلام، ولا طهران أو إسلام آباد حريصة على المسلمين، وإنما هي استراتيجيات مصالح كبرى وصغرى، ليس شبابنا فيها إلا أدوات سهلة الصيد، بدءًا من الحلم الذهبي بالمدينة الفاضلة وانتهاء بالحلم الأكثر بريقًا على راية الأممية الإسلامية.

وليس مشروع الدستور القادم من لندن وإسلام آباد منذ أكثر من عشر سنوات بعيدًا عن ترسانة الدعاية المضادة للانتماء الوطني والقومي في زمن الانحسار المرير لخطاب الوطن الحي الملموس، وخطاب الأمة التي نملك هويتها الممكنة.

٤

بين دستور إسلام آباد الذي صدر في لندن، ودستور حزب العمل والإخوان المسلمين في مصر، عشر سنوات مليئة بالأحداث الجسام؛ إذ افتتح هذا العقد دورته باغتيال الرئيس السادات، ومصرع عشرات الضباط والجنود في أسيوط. ولم يكن هذا الحدث الكبير المزدوج مجرد «رسالة» إلى أحد، لأن هذا «الأحد» — رئيس الدولة — كان قد مات، ولكن الأمر كان في مجمله محاولة انقلابية فاشلة وبدائية، بالرغم من إصابة هدفها المباشر على قِمة السلطة، وهدفها الثاني تصفية الكادر الأمني في إحدى أهم محافظات مصر الجنوبية.

ولكن هذه المحاولة البدائية الفاشلة لم تكن تتويجًا لعملٍ انتهى، بل أثبت الزمن أنها الافتتاحية الدموية لمحاولة الاستيلاء على السلطة بالعنف، وهي المحاولة المستمرة إلى اليوم. وهي محاولة تنطوي على مفارقة مستمرة هي الأخرى؛ فأقصى درجات العنف للاستحواذ على «الوطن» من طرفٍ واحدٍ دون شريك تواكب أعلى مراحل الخطاب غير الوطني. هذه المفارقة التي تتجسم في الظفر بالوطن والدعوة الصريحة إلى «اللاوطنية» قد شاركت في تأسيسها منذ البداية سلطة الدولة الساداتية التي نادت دومًا بمصر المصرية (والفرعونية أحيانًا)، بينما كانت تُعِد العُدة لارتباطاتٍ تتجاوز التقاليد والمفاهيم الموروثة للاستقلال الوطني؛ اقتصاديًّا بتفكيك البِنيات الأساسية لدولة التنمية المستقلة تحت شعار الانفتاح الاقتصادي، وسياسيًّا بإنجاز الصلح مع إسرائيل، وداخليًّا بمطاردة أصحاب الاتجاهات الوطنية والقومية، وإفساح المجال لأصحاب الدعوة إلى الأممية الدينية. وبالرغم من تهيئة المناخ أمام أصحاب هذه الدعوة تحت حماية الدولة، فإن الأمر لم يستغرق أكثر من عشر سنوات على هذا التحالف غير المعلَن بين سلطة الدولة الساداتية والإسلام السياسي حتى أقبلت نقطة الافتراق الدموية في حادث المنصة لتُعلِن بأفصح بيان أن الوسائل لا تطابق الغايات بين «اللاوطنية» هنا و«الأممية» هناك. تبيَّن لفريق الدولة وفريق التدين السياسي أن «الهدف» في خاتمة المَطاف ليس مشتركًا، وأن كليهما يزاحم على السلطة.

ولكن «الإسلام السياسي» في مصر كان قد ربح عدة نقاط، بالرغم من نجاح الدولة في الحفاظ على سلطتها. ربح أولًا حرية الحركة السياسية والإعلامية بواسطة التعددية الشكلية والفوقية التي أعلنها السادات. وربح ثانيًا الحرية الاقتصادية التي أتاحتها قوانين الاستثمار الوافدة منذ عام ١٩٧٤م. وربح ثالثًا انقلاب الدولة بكافة أجهزتها على الشعارات القومية والاشتراكية، فقدَّم نفسه مرشحًا وحيدًا لملء الفراغ.

وكانت أموال الخليج — عبر الوسائل المشروعة وغير المشروعة — قد عرفت طريقها المستقيم إلى تغذية الإسلام السياسي في مصر اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، بالمشروعات الاستثمارية والتنظيمات والإعلام. لم يعُد المصريون العاملون في بلاد النفط بالإيمان أو الوعي العربي، وإنما عادوا بأفكار البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال، وبأفكار سينما المقاولات ومسارح الكابريهات، ودور النشر المختصة بالمودودي والندوي وابن تيمية وأحمد عدوية وأبراج الحظ وعذاب القبر في «سبيكة» ذهبية البريق الذي يجمع ولا يفرِّق. وترافق العمل السري والعلني. واتخذ الخطاب «الأممي» مسارب عدة: بالقتال والتدريب والتسليح في ميادين أفغانستان وجنوب لبنان وشمال السودان وبالهجرات الجماعية إلى الغرب، وبتحويل أموال شركات التوظيف إلى مصارف العالم. كان المقصود دائمًا، ولا يزال، هو زرع الِبنية الأساسية البديلة للبِنية الوطنية. وكانت البنية الوطنية ذاتها تدعم البنية البديلة بما تشرعه من آليات الانفتاح. وبالرغم من السقوط الفعلي لإمبراطوريات الريان والسعد والشريف والسيدة الحديدية، إلا أن الدورة «الأممية» لرأس المال المنهوب لم تسقط، وإنما اتخذت أشكالًا وألوانًا تحت شعارات دينية تصوغ المفارقة الثانية؛ فالمواطن المؤمن الذي يفضِّل «البركة على الربا» أدرك أن البركة تذهب إلى مَن لا أموال لهم، وأن الربا يتقاسمه أصحاب «الاقتصاد الإسلامي» والاقتصاد اليهودي الغربي جميعًا. أما هذا المواطن المؤمن نفسه فلا يحصل على ماله الذي شقي في جمعه سنين عدة، ولكنه يعود محمَّلًا بأثقالٍ ضد العروبة والوطنية المصرية معًا، متلفعًا بمجموعة من القِيَم الشكلية بدءًا من الزي والسلوك، وانتهاء بعقيدة «نفي الآخر» بتفكيره إذا كان أخًا في الوطن، والذوبان فيه إذا كان أجنبيًّا.

وتستمر المفارقات في التوالد ما دام الخطاب غير الوطني يحمل نفيه داخله عبر الأممية الوهمية، فالعالم الإسلامي الممزَّق في الوقت الراهن هو أكثر العوالم حرصًا على اللافتة الدينية، فالغرب لا ينتسب إقليميًّا أو دوليًّا إلى العالم المسيحي، والشرق لا يرفع اللافتة البوذية. أما نحن فلدينا — إضافة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي — مئات المراكز الدولية والإقليمية الإسلامية. ومع ذلك فالعلاقة الثنائية بين أيٍّ من الدول الإسلامية والغرب أقوى من العلاقة بين أيِّ دولة إسلامية وأخرى. لا أقصد العلاقات الرسمية الحكومية وحدها، وإنما علاقات الاقتصاد والمجتمع والثقافة والسياسة والتجارة والتعليم والإعلام والصناعة.

ليس العالم مقسمًا بالأصل والفعل إلى عوالم دينية، وإنما إلى مصالح ومستويات اقتصادية. والدولار أو الفرنك أو المارك أو الين لا جنسية له، وبالتالي فأموال المسلمين — والعرب منهم — تتحرك بموجب قوانين السوق العالمية، لا بموجب أية شعارات أخرى. ومن هنا يمكن لإيران أن تقف مكتوفة الأيدي في البلقان أو على حدودها مع أذربيجان، فإذا فتحت كفَّيها فقد تصافح الصرب في الغروب، وإسرائيل في منتصف الليل. وهذا لا يمنعها من مناورة تركيا وباكستان وأفغانستان من خندقٍ لا علاقة له بالإسلام، وإنما من خندق مصالحها التي قد تبحث عنها في حرب الخليج أو في حرب لبنان أو في حرب السودان. وفي الحروب تواجه المصالح الإقليمية والاستراتيجيات بعضها بعضًا، ومن ثَم يمكن للجندي أو الضابط المسلم أن يواجه جنديًّا أو ضابطًا مسلمًا على الناحية الأخرى من جبهة القتال دون أن تشكِّل العقيدة أو المذهب عائقًا بين صراعات المصالح.

وهكذا فالأممية الوحيدة غير الوهمية في العالم هي أممية رأس المال التي لا تمنع الصراع بين اليابان والغرب أو بين أمريكا وأوروبا؛ فالأممية الرأسمالية ذاتها لها خطوط حمراء إذا تجاوزها أحد الأطراف قد تنشب الحرب، وليس من حربٍ مستحيلة في أي وقت.

ولكن الشاب المسلم الذي يضحي بوطنه من أجل أممية وهمية، سواء بالمساهمة في تدمير هذا الوطن أو بالانخراط في حروبٍ خارج حدوده ولا يدري في الأغلب أنه مجرد وقود في حرب لا ناقة للإسلام فيها ولا جمل، وإنما هي حروب إيران أو إسرائيل أو أمريكا، حروب المصالح وليس العقائد، حروب التناقضات داخل الأممية الرأسمالية، وليست أية أممية أخرى.

ولكن الخطاب غير الوطني الذي يسقط مع دولة الريان وحروب أفغانستان والصومال، يستمر داخليًّا إما بانتزاع فكرة «الوطن» من صدور الشباب بالاغتراب القسري إلى منابع النفط وإلى أسواق النخاسة في العالم الواسع، أو إلى ميادين القتال المزوَّرة الرايات، وإما بانتزاع «حق المواطنة» من أبناء آخرين للوطن لاختلافهم في الدين.

ويتسرَّب الخطاب غير الوطني المؤسَّس أصلًا على اقتصادٍ غير وطني وقِيَم مجلوبة من ثروات وافدة إلى أجهزة الإعلام والتعليم ومنابر الدين؛ فتغدو مصر الفرعونية مجرد مرحلة وثنية كافرة من التاريخ، أو يغدو الفراعنة عبيدًا لبني إسرائيل، أو تغدو الحضارة المصرية القديمة مجرد مصدرٍ للرزق وبضاعة سياحية مرموقة. أما إن المصريين القدماء أجدادنا وأفكارهم وحكمتهم من ميراثنا القومي يوحِّد بيننا، فهو أمر يستوجب الإنكار حتى لتصبح رواية «كفاح طيبة» لنجيب محفوظ من أعمال الكفر تستوجب الاستبعاد.

كذلك تصبح مصر القبطية مرحلة ملغاة وكأنها لم تكن، ونفضِّل انتساب تاريخنا إلى الاحتلال اليوناني والروماني، وننكر أجدادنا الذين دفعوا الثمن غاليًا للاحتفاظ بمصر واستقلالها؛ ونحصل في النهاية على ذاكرة مشوَّهة لأمة عظيمة مستمرة الحلقات والتطور من مرحلة إلى أخرى.

وفي المقابل لا يبقى في هذه الذاكرة إلا كل ما يتصل بما هو خارج الوطن؛ سواء في ذلك التراث القادم مع العرب وأمجاد فتوحاتهم، أو الحداثة القادمة مع الغرب برفقة غزواتهم وإنجازاتهم. ونحن أصحاب حق في التراث القديم والحداثة الجديدة، بما أضفناه ونضيفه. أما إذا بقينا أسرى الظن بأننا ورثة حاصل الجمع بين هؤلاء وأولئك، فكأننا نحن أنفسنا لم نكن شيئًا، ولن نكون في يوم من الأيام. ذلك أن «الوطن» هو نقطة الارتكاز الوحيدة الممكنة لاستيعاب الماضي بحلقاته ومصادره كلها، سلبية كانت أو إيجابية، ونقطة الارتكاز الوحيدة للتفاعل مع الحاضر ومتغيرات مجتمعه واستشراق المستقبل باحتمالاته ووعوده. نحن والوطن أولًا، نملك أنفسنا والعالم بقدر ما نحقق ذاتنا وحلمنا الإنساني؛ إنتاجًا وإبداعًا لحضارة جديدة عمادها حق المواطنة على أرض الوطن، وقبول الآخر باتساع الكرة الأرضية.

أما الخطاب غير الوطني، فهو الخطاب العنصري الذي ينفي الآخر، ويلغي حق المواطنة، ويترجم نفسه في العنف الداخلي والخارجي وراء «يوتوبيا» فوق سطح الوعي، واستراتيجيات أجنبية بعيدة كل البُعد عن أعماق هذا الوعي.

٥

لا يكاد يختلف دستور حزب التحالف الإسلامي (حزب العمل والإخوان المسلمين) عن دستور إسلام آباد-لندن إلا في الصياغة «المصرية». والمقصود هو أخذ الواقع المصري بعين الاعتبار، وبالطبع فقد أضاف أن مصر جزء من الأمة العربية «والإسلامية». ولأن الأزهر قائم في مصر فقد استغنى عن لجنة العلماء بهيئة كبار العلماء التي تتشكَّل من مشايخ الأزهر وسنَّ لها الحقوق التالية:

  • (١)

    مباشرة وظيفة الاجتهاد الفقهي بيانًا لحكم الله وتلبية لحاجة المسلم.

  • (٢)

    بيان حكم الشريعة في مشروعات القوانين التي تُحال إليها من مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو الحكومة لهذا الغرض.

  • (٣)

    إبداء حكم الإسلام في كل ما يهم الأمة الإسلامية من شئون.

  • (٤)

    تشكيل لجنة من بين أعضائها تتولى الإفتاء باسم الهيئة فيما يطرحه عليها عامة المسلمين من تساؤلات في شئون دينهم.

وفيما عدا هذا النص، فقد جاء المشروع المقترَح صياغة ليبرالية تتصدَّرها الأطروحة القائلة بأن «الأمة مصدرها السلطات»، وإن كان اعتبار هيئة كبار العلماء هيئة فوق السلطة التشريعية يشكِّل بابًا واسعًا لحكم رجال الدين وازدواجية في هذه السلطة. كذلك فإن اعتبار علماء الدين يمثِّلون وحدهم «الإسلام» هو تجاوز لبشرية التأويل يفتح ثغرة إلى ما يشبه الحكم بالحق الإلهي. وقد تجاهل مشروع الدستور كذلك حقوق المواطنين غير المسلمين، وقصرها على «الأحوال الشخصية»، أما حق المواطنة فلم يرِد له ذكر.

ولكن ذلك كله لا ينفي واقع الأمر، وهو أن المسودة الدستورية جاءت في صيغتها الليبرالية أقرب إلى الدستور الديمقراطي، ولكن المشكلة هي أن هذا المقترح الدستوري تفسِّره الممارسات الحزبية، فما أجمل النصوص وأرذل التطبيقات، والحزب، كل حزب، هو حكومة ظل من المفترض أن تقدِّم المثال والقدوة. خاصة وأنها لم تتربَّع بعدُ على عرش السلطة، فالمفترض كذلك أن ما تملكه ليس أكثر من «الحكمة والموعظة الحسنة». ولنا أن نفترض أخيرًا أنها لن تنفِّذ «المكتوب» من موقع السلطة تنفيذًا كاملًا أو دقيقًا، وأن الأمر سوف يخضع أولًا وقبل كل شيء لتوازن القوى، وسيهبط قليلًا أو كثيرًا من سماء المثاليات إلى أرض الواقع.

علينا أن نلاحظ بشيء من التمهل أن «الحزب» صاحب الدستور المقترَح هو حزب شرعي يمثِّل غالبًا مَن ندعوهم بالمعتدلين.

ارتكزت السياسة العربية للحزب على الدعم الثابت لحكومة السودان الانقلابية، وهي بذلك قد أيَّدت دون تراجعٍ عملًا عسكريًّا يقلب السلطة من حال إلى حال. ربما كانت لدينا تحفظات على حكومة الصادق المهدي، ولكنها كانت الحكومة التي أقبلت بالوسائل الديمقراطية. وهكذا، كان الحكم العسكري في واقع الأمر هو الخيار الذي وقَّع عليه الحزب، وهو تكذيب صارخ لما أعلنه دستوريًّا من نهجٍ ليبرالي، فالمغزى هو العكس تمامًا؛ مرحبًا بالحكم إذا أتى بأية وسيلة، ولو كانت وسيلة غير شرعية، وبالعنف.

وقد استمر الحكم العسكري في السودان قائمًا على تصفية المعارضة تصفية دموية صارخة بمعاداة حقوق الإنسان. ومع ذلك استمر تأييد حزب العمل الإخواني له، بالرغم من التناقض الحاد بين ما نصَّ عليه المقترَح الدستوري وممارسات هذا النظام.

ولم يحدث قَط أن قام هذا الحكم بتسليم الدولة إلى سلطة ديمقراطية كما فعل سوار الذهب، وإنما حاول، وما زال يحاول، تكريس الدكتاتورية العسكرية واتخاذها نظامًا ثابتًا للشعب السوداني، غير أن حزب العمل الإخواني لم يعترض مطلقًا على هذا الأسلوب.

وبالرغم من أنه قد ثبت ضلوع النظام العسكري، بالاشتراك مع إيران، في تغذية القلاقل والاضطرابات في أقطارٍ مجاورة كمصر وتونس والجزائر تحت ستار «الأممية الإسلامية» فإن الحزب لم يحرك ساكنًا. وعندما وقع الاعتداء السافر بتأميم الجامعة والمدارس المصرية لم يحرك أيضًا ساكنًا، ولما وقع الاضطهاد بالأقباط السودانيين لم يحرك ساكنًا، ولما طال العهد بانفصال الشمال عن الجنوب في ظل القوانين الطائفية المعروفة بقوانين سبتمبر لم يحرك كذلك ساكنًا، ولما حضر البشير إلى مصر احتفلت به نقابة المحامين في سابقة خطيرة لا نظير لها، حيث كرَّم رجال القانون مَن أهدر القانون في بلاده، والإخوان المسلمون المتحالفون مع حزب العمل، هم الذين أنجزوا هذه السابقة الخطيرة.

وارتكزت سياسة الحزب أيضًا على تأييد جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية، وهي الجبهة التي فقدت مصداقيتها حين ظلَّت تنادي بالديمقراطية حتى عشية الانتخابات فسارعت بالانقلاب على الديمقراطية علنًا من قبل أن تتسلَّم السلطة، وما زالت تُخرِس المثقفين والسياسيين بالرشاشات. وبالرغم من أننا نتحفَّظ على الحكم العسكري في الجزائر، إلا أن الحكم الشمولي باسم الدين لا يقل هولًا. وكانت جبهة الإنقاذ هي التي أوصلت الجزائر الشقيقة إلى هذا الطريق المسدود، ولكن اختيار حزب العمل كان التوقيع على بياضٍ إلى جانب الجبهة.

وكانت السياسة الداخلية للحزب أبشع مثالٍ للطائفية الممقوتة؛ فبالإضافة إلى أن الإرهاب لم ينل ما يستحقه من إدانة، وفي كثيرٍ من الأحيان نال التعاطف الصريح، وبالإضافة إلى أن «علماء» حزب العمل الإخواني قد أهدروا دماء المثقفين والمسلمين، فإن الخط الثابت للحزب وجريدته هو الانقسام الوطني. وسواء بالهجوم السافر على البابا شنودة، أو بالوقيعة بين الأقباط والمسلمين، أو بالتحريض المبتذل على التهجير القسري، فإن جانبًا كبيرًا من الفتنة يقع على كاهل الحزب وجريدته، ليس أقلها ابتذالًا تبرير عمليات القتل والنسف للممتلكات، واعتبار القبطي مواطنًا من الدرجة الثانية أو الثالثة، وهذا كله باسم «الاعتدال».

إذا كانت هذه التكذيبات المدوِّية لمواد الدستور «الليبرالي» المقترَح تجري والحزب لم يتسلَّم السلطة بعد، فكيف يمكن أن نصدق «التطبيق»؟

واقع الأمر أن «الأممية» الزائفة هي مصدر الداء اللعين بكل ما تشمل عليه من «عصر ذهبي» و«مدينة فاضلة» وهمية، بالرغم من أن الحكاية لا تتجاوز الاستراتيجيات الإقليمية والدولية.

لذلك يخلو الخطاب غير الوطني من حق المواطنة الكاملة، ويتضمن الحكم الشمولي نفي الآخر، وتتداخل المصالح في العقائد، وتشتمل الاستراتيجيات الأجنبية على أدواتٍ وطنية تنفِّذ لها ما تشاء على حساب «الوطن».

(٣) الخطاب الاستهلاكي

۱

ليس من شكٍّ في أن ظاهرة الإرهاب المعاصِر ظاهرة عالمية، ولكن لا ينبغي أن نتخذ من عالمية الظاهرة ذريعة لإخفاء المعالم المحلية والمقومات الداخلية للإرهاب على أرضنا، فهو ليس صدًى لصوتٍ خارجي، بل إنه — على النقيض من هذا التصور السلبي — يشارك من موقعه الخاص في صنع الظاهرة العالمية، ويضفي عليها من طابعه النوعي سِمات تعمِّق «عالميتها».

كذلك، فإن هناك أحيانًا بعض القواسم المشتركة بين الظاهرتين الداخلية والخارجية، كالخطاب الاستهلاكي المهيمن في ظل أوضاع قد لا تعدل بين الإنتاج والاستهلاك في البلدان المتخلِّفة، وقد لا تعدل بين فئات المستهلكين، ولا بين قوى الإنتاج ونصيب كلٍّ منها في الاستهلاك كما هو حال البلدان المتقدمة.

وعندما نتذكر انتفاضة الشباب في مختلف أرجاء العالم عام ١٩٦٨م ندرك أن محاورها الثلاثة كانت الاحتجاج على الحروب (فيتنام أساسًا، وهزيمة ١٩٦٧م بالنسبة للعرب)، والاحتجاج على المؤسسة (الحزبية، العقائدية، وجهاز الدولة) في الشرق الشمولي والغرب الليبرالي على السواء، والاحتجاج على الخطاب الاستهلاكي (العيني ممثَّلًا في الوفرة السلعية والتضخم لدى المتقدمين، والهوة الواسعة بين الشمال والجنوب، والاستهلاك الأيديولوجي ممثَّلًا في الإعلان والإعلام).

ونجح الشرق والغرب والشمال والجنوب في كبت الانتفاضة الشبابية وامتصاصها، على نحوٍ فظٍّ في الشرق (ربيع براغ) وعلى نحوٍ ليبرالي في الغرب (الثورة الإلكترونية وما ترتب عليها من تفاقم البطالة والضمان الاجتماعي)، وعلى نحوٍ «ثوري» في العالم الثالث بالمزيد من الانقلابات العسكرية التي يقودها الشباب أنفسهم (من الأمثلة العربية: نميري في السودان، البعث في العراق، القذافي في ليبيا).

ويمكن تلخيص هذه المعالجات في عبارة واحدة هي تشديد القمع، سواء اكتست القبضة قفازًا حديديًّا هنا، أو قفازًا حريريًّا هناك.

ولكن هذه القبضة لم تحُل دون ظهور «إرهاب السبعينيات» بعد أن تحوَّل العمل الجماهيري السلمي لحركة الشباب من الطلاب إلى العمل السري لحركات العنف المغامر. وكانت الأيديولوجيا في ذروة ازدهارها القاني تحت رايات يسارية زاعقة: الجيش الأحمر الياباني والألوية الحمراء الإيطالية، وبادر-ماينهوف الألمانية أو «العمل المباشر» الفرنسية، أو الجبهة الشعبية الفلسطينية. وكانت حرب فيتنام في منتصف السبعينيات قد وضعت أوزارها، سبقتها حرب أكتوبر بعامين في عبور الهزيمة العربية إلى «الأمل» في التحرير. ومن ثَم كان «الإرهاب اليساري العالمي» ردَّ فعل عنيفًا على تصفية حركة الشباب في ١٩٦٨م، واشتداد قبضة القمع الظاهر في الشرق والجنوب والخفي في الغرب والشمال، والأهم من ذلك أنها جاءت ردًّا مباشرًا على الخطاب الاستهلاكي الذي ازداد ضراوة وتوحشًا في أعقاب الثورة التكنولوجية الجديدة، ثورة الاتصال والمعلومات، وفي العالم العربي كانت هناك ثورة من نوعٍ مغايرٍ هي ثورة النفط.

بسبب هذا الخطاب الاستهلاكي كان إرهاب السبعينيات عالميًّا ويساريًّا. وكنا نحن جزءًا منه عن طريق الفلسطينيين لسببٍ إضافي. فإذا كان شباب العالم قد استراح من قضية فيتنام التي أوجعت الضمير الأمريكي والغربي عامة، فإن العرب لم يعرفوا هذه الراحة منذ ارتكب العالم كله — القوى النافذة فيه — جريمة القرن الكبرى؛ السماح بتأسيس الدولة اليهودية على أرض العرب. منذ ذلك الوقت والضمير العربي مختنق، والشباب الفلسطيني، على نحوٍ خاص، لا يعاني فحسب من سطوة الخطاب الاستهلاكي في الشتات أو المخيمات أو في ظل الاحتلال، وإنما هو يعاني دون بقية شباب العالم من قسوة الاقتلاع القسري عن الأرض وأحيانًا الهُوية.

هذا الملمَح الفلسطيني لم ينزع عن إرهاب السبعينيات عالميته أو يساريَّته أو خصوصيته في كونه التعليق العنيف على خطاب الاستهلاك، ولكنه أضاف بُعدًا عربيًّا في موازاة النفط.

وبينما استمر الاستهلاك عنوانًا بارزًا للعصر الجديد خلال العقدين الأخيرين، بازدهار الشركات المتعددة الجنسية والعابرة للقارات، وازدهار الأسواق بالمدلول السلبي في العالم المتخلف، وبمعنى الصراع في صفوف العالم المتقدم، وبازدهار تكنولوجيا الإنتاج السلعي والمعلوماتي، لم يستمر الإرهاب العالمي يساريًّا، ذلك أن الخطاب الاستهلاكي لم يعُد كما كان عرضًا سلعيًّا وإعلانًا وإعلامًا. أضحت الجغرافيا السكانية وليست الأيديولوجيا هي العامل الأكثر حسمًا في صياغة الأزمات المعاصرة. وليس معنى ذلك أن الجغرافيا البشرية بلا أيديولوجيا، ولكن المقصود أنها أضافت وحذفت وعدَّلت من توجهاتها وآليات فعاليتها. لقد ولَّدت الثورة التكنولوجية المركبة ظاهرتين مفارقتين: الأولى هي عالمية العالم (باعتباره قرية كبرى)، والثانية ارتباط الجماعة بالمكان في مواجهة الجماعات والأماكن الأخرى (على الصعيد الوطني الأعم = القومية). ثم على الصعيد الجهوي-المناطقي (كالجماعات الإثنية أو الطائفية). وكان السبب المباشر لذلك هو المتغيرات الراديكالية اللاهثة في مفاهيم قوى ووسائل الإنتاج؛ مفهوم الطبقة ومفهوم فائض القيمة في الماركسية، ومفهوم السوق وقوانين العرض والطلب والإنتاج والاستهلاك في الليبرالية. وُلدت شرائح وفئات وقوًى جديدة لم تكن موجودة على الخريطة الاجتماعية، ووُلدَت تقنيات وتجليات للعلم والتكنولوجيا تستبعد وتجذب وتخلق أشكالًا جديدة من الجماعات الاجتماعية، حتى أصبح الموقع والمكان والعِرق والمذهب الديني من المفردات الاقتصادية والثقافية القادرة على صياغة أدوات التحليل الإجرائية في تصنيف وتحديد الصراعات داخل الظواهر المستجدة.

هكذا استمر الخطاب الاستهلاكي، ولكنه لم يعُد كما كان، وهكذا انتهى الإرهاب اليساري في العالم، واحتجاجه على مجتمع الاستهلاك الذي كان. فالبُعد الاجتماعي المبسط الذي كان يشتمل عليه الخطاب الاستهلاكي القديم والرد الإرهابي اليساري عليه، كلاهما لم يعُد له وجود. استمر مجتمع الاستهلاك في تطوره التكنولوجي اللاهث، ولكن الخطاب الاستهلاكي الذي أفرزه هذا المجتمع قد تغيَّر.

واقترن التغيير بعودة المحاور الثلاثة التي كانت الحركة العالمية للشباب (١٩٦٨م) قامت عليها: الحروب، والمؤسسة، والخطاب الاستهلاكي، ولكن متغيرات الخطاب الاستهلاكي رافقت متغيرات الحروب والمؤسسة.

أقبلت المتغيرات الجديدة من الشرق؛ من حرب الهند وباكستان، وانفصال بنجلاديش عن باكستان، ومن داخل الهند ذاتها باغتيال أنديرا وراجيف غاندي، وبثورة «التاميل» الممتدة إلى يومنا، وكلها حروب الحدود والأجناس والمذاهب، أي حروب المكان والجغرافيا البشرية.

وأكدها «الشرق» مجددًا في جزيرة صغيرة بالشرق الأوسط؛ بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين عشية الحرب الطاحنة في لبنان وقبيل حرب إيران والعراق.

وعاد الشرق ليعلن فضائح العصر المجلجلة: بدءًا من الانهيار الجامع المانع للفانتازيا والتراجيديا للإمبراطورية السوفياتية، وما نتج عنها من حروبٍ متصلة بين أرمينيا وأذربيجان، وحروب أهلية في طاجيستان، وحروب عرقية بين أبخازيا وجورجيا، وحروب مختلطة في البوسنة والهرسك، وحروب أكثر اختلاطًا في أفغانستان.

ولم نتخلَّف نحن العرب عن فضائح العصر، فجاء الغزو العراقي للكويت، ومأساة الصومال الدامية، خير عنوان على أننا من طلائع الفضيحة العالمية؛ حيث حققنا أعلى درجات الاستهلاك دون إنتاج، وحققنا للآخرين غايات التقدم على حساب دمائنا في حروب التخلف.

وكانت جريمة القرن — إسرائيل — باقية وتزداد بقاء في ظل الخطاب الاستهلاكي المهيمن، تشارك بموجب الجغرافيا البشرية ذات البُعد العِرقي والطائفي في إكساب هذا الخطاب حصيلة كل عناصر الإرهاب.

وكان التغيُّر الجوهري الذي طرأ على الإرهاب في العالم وبلادنا، نتيجة تغيُّر مفاهيم الاستهلاك والحروب والمؤسسة، وإيجازها جميعًا في خطاب الجغرافيا البشرية (الإثنية، الطائفية … إلخ) هو الانحراف عن المضمون اليساري للإرهاب القديم، والاتجاه نحو أنواعٍ جديدة من الإرهاب.

۲

بهزيمة اليسار السوفياتي على الصعيد العالمي، وانحسار الإرهاب اليساري المسلح، لم يتوقف الإرهاب في العالم، واتخذ وجهة يمينية واضحة بالعودة إلى فاشية العصور الوسطى ومحاكم التفتيش تحت ستار الدين، وبالعودة إلى نازية التطهير العرقي باسم التفوق العنصري.

وكانت البداية التاريخية في الشرق الأوسط، وبعد أن كانت الحرب — الضلع الأول في مثلث الانتفاضة العالمية عام ١٩٦٨م — تعني التحرير، سواء تحرير فيتنام أو تحرير فلسطين، أضحت الحرب تعني الصراع الطائفي الذي يؤدي إلى التقسيم الديموغرافي للأرض والسكان، هكذا كانت البداية في قبرص. ومن المفارقات أن قبرص الموحَّدة كان يرأسها الأسقف مكاريوس، وكانت في الشكل الدستوري دولة علمانية ديمقراطية، بينما تمزَّقت الجزيرة الصغيرة على أيدي المدنيين. وكانت ألد الجماعات الإرهابية عداءً للأسقف مكاريوس، جماعة عنصرية من القبارصة اليونانيين الذين يدينون بالمذهب الأرثوذكسي. وقام زعيم هذه الجماعة — بعد حرب عصابات متقطعة — بما يشبه الانقلاب العسكري والحرب الأهلية في وقتٍ واحدٍ، هذه الحرب هي التي أدَّت إلى تقسيم قبرص إلى اليوم. وكان من الطبيعي أن يكون التدخل العسكري التركي المباشر، والتدخل اليوناني غير المباشر، عاملًا حاسمًا في تقسيم الأرض والسكان تقسيمًا دينيًّا، بالرغم من أن تركيا واليونان عضوان في حلف الأطلنطي. واقع الأمر أن الخلفية التاريخية للصراع التركي اليوناني لم تؤثر كثيرًا على نوعية الصراع داخل الجزيرة. كذلك فإن اختلاف الدين بين الأرثوذكس من أصل يوناني والمسلمين من أصل تركي لم يؤثر على حياة القبارصة آمادًا طويلة من الزمن. ولكن الوجود البريطاني في الجزيرة وقربها القريب من الصراع الإسرائيلي هو الذي ترك بصمته على الجزيرة بالانحراف عن مجرى النضال الوطني لتحريرها من دور القاعدة الأمامية المسلحة. هذا الانحراف الذي يتجاوز أرض الجزيرة غربًا إلى التنافس التركي اليوناني داخل حلف الأطلنطي والمجموعة الأوروبية، وشرقًا إلى الصراع العربي الإسرائيلي، يتخذ لنفسه داخل الجزيرة عنوان الخطاب الاستهلاكي. فالجزيرة بموقعها الاستراتيجي ليست وطنًا للإنتاج، وإنما هي ممر ومجتمع ترانزيتي؛ أعلى مراحل الاستهلاك «المالي» إن جاز التعبير عن السيولة التي لا دور لها في دولاب الإنتاج باستثناء خدمات السوق والسياحة والتجارة الربوية والنشاط السري للأفراد والشركات والمخابرات الأجنبية.

بالانحراف عن «النضال الوطني» للجزيرة في الستينيات، والإبقاء عليها ساحةً للصراعات الأجنبية والعربية والإسرائيلية، انفرد الخطاب الاستهلاكي بأهلها. فالجزيرة الصغيرة «معرض» دولي فوق السطح لا يحتاج لملئه بغير السلع الاستهلاكية، ولا يحتاج لتشغيله لغير الأعمال الخدمية، من هنا تحكَّمت الجغرافيا البشرية، وليس الصراع الطبقي بمفهومه التقليدي، في الانحراف بالمجرى الوطني إلى «المجاري» العِرقية والطائفية. ولا مانع من أن يشارك في أعمال الحفر، أولئك الذين يقيمون تحت سطح الجزيرة من أصحاب المصالح في «الموقع»؛ القوى الكبرى والقوى الإقليمية على السواء، مصالح استراتيجية واقتصادية وسياسية.

يجب أن نضيف أن «الموقع» لا يحتمل الفصل الشديد بين الداخل والخارج بالنسبة لجزيرة صغيرة مثل قبرص؛ فالرياح القادمة من الأطلنطي والأمواج المقبلة من المتوسط هي جزء لا يتجزَّأ من الجزيرة، وهكذا يمكن لأنطون سعادة زعيم الحزب القومي السوري أن يرى الهلال الخصيب «ونجمته قبرص» خريطة جغرافية واحدة لسوريا الكبرى. كان هذا في الأربعينيات، وفي زمن آخر حين اكتملت جريمة القرن بإنشاء إسرائيل، تغدو النجمة السداسية من أبرز نجوم قبرص برًّا وبحرًا وجوًّا.

هذه الأوضاع لم تجعل من قبرص وحدها جزيرة استهلاكية، وإنما كان العام ١٩٧٤م هو نقطة التحوُّل إلى ما سُمِّي بالانفتاح في مصر، وهو عام الانقلاب الاقتصادي الاجتماعي الشامل بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) ۱۹۷۳م، وكان الرئيس السادات قد دعاها بآخر الحروب. ثم برهن الزمن على أنها بداية الحروب التي طحنت العرب طيلة عشرين عامًا، وهي حروب عصر الاستهلاك المتوحش، وقد اتخذ اسمًا كوديًّا هو عصر الانفتاح. ولأن مصر ذات وزن غلَّاب في الحرب والسلم والانفتاح والانغلاق، فقد تأثرت المنطقة تأثرًا شديدًا بالتحولات المصرية من نظام التنمية المركزية التخطيط إلى النظام الذي أسماه أحمد بهاء الدين «سداح مداح». وكان التوازن المحكم بين خطوات الصلح مع إسرائيل والانفتاح الاستهلاكي مدخلًا مثيرًا لأخطر الحروب؛ في لبنان وبين العراق وإيران.

وسوف يتوقف المؤرخون طويلًا حول «متواليات» الحروب الهندسية بشكلٍ صارم، فما إن انتهت قبرص إلى التقسيم عام ١٩٧٤م حين جرت في العام نفسه التحولات المصرية نحو الانفتاح والصلح معًا، حتى بدأت في العام التالي مباشرة الحرب اللبنانية، وهي حرب المجتمع الاستهلاكي بامتياز؛ الممر الترانزيتي من ناحية، وليبرالية الطوائف من ناحية أخرى. يكاد الأمر من هذه الزاوية أن يكون تكرارًا لقبرص، ولكن لبنان الذي لا يبعد عن قبرص كثيرًا، لم يكن قبرصيًّا تمامًا؛ فهو أولًا بلد عربي، وليست تركيا هي سوريا، ولا إسرائيل هي اليونان. وإنما يبقى الخطاب الاستهلاكي مشتركًا، ومقومات تنفيسه بالإرهاب المسلح مشتركة. يضاف العنصر الفلسطيني المقيم على أرض لبنان مسلحًا رسميًّا أو في المخيمات باعتباره مناخًا خصبًا لولادة الإرهاب في ظل التغيرات الديموغرافية والطائفية. ومرة أخرى تتحكم الجغرافيا السكانية في تحويل النضال الوطني والاجتماعي إلى نضالات من نوعٍ آخر، فكان الإرهاب العِرقي لطرد «الغرباء» باسم القومية اللبنانية أولًا، فالطائفية المارونية أخيرًا. وكان الإرهاب المذهبي بدءًا من الجنوب إلى حزام البؤس حول العاصمة، يحمل لواءه الإمام موسى الصدر باسم المحرومين و«السلاح زينة الرجال». وكان الإرهاب الفلسطيني بدءًا من وديع حداد والجبهة الشعبية وانتهاء بأبي نضال والمجلس الثوري لحركة فتح. ودخل الجيش السوري ذات صباح فدخل الجيش الإسرائيلي ذات مساء، ولم تتخلَّف القوى الدولية (الأمريكية أساسًا) في الظهر والفجر على السواء. وتحوَّل لبنان الذي لا تزيد مساحته عن العشرة آلاف كيلومتر مربع إلى ساحة قتال وتدريب على الإرهاب المتعدد الجنسيات والأديان والأهداف. ولعبت الجغرافيا البشرية — وليس الصراع الطبقي مرة أخرى — دورًا حاسمًا في التطهير العرقي للمناطق والتهجير القسري للطوائف، فاكتسبت الحرب من الخارج لونها الطائفي الزاعق.

ولكنها لم تكن حربًا طائفية، ولا حربًا أهلية، ولا حربًا بين الأجانب فوق أرض لبنان. كان اللبنانيون أنفسهم قد أقاموا في «الميثاق» غير المكتوب عام ١٩٤٣م نظامًا طائفيًّا ليبراليًّا. ولا تدهش من المفارقة؛ إذ كيف تجتمع الطائفية والليبرالية، ولكنه ميراث الاستعمار الغربي و«المتحضر». اخترع اللبنانيون «ليبرالية الطوائف» فلم ينشأ من الأصل الوطنُ اللبناني. وإنما تمزَّقت الهُوية اللبنانية بين المخاوف من جهة والهواجس من جهة أخرى؛ مخاوف الديموغرافيا وهواجس الجغرافيا. ومن هنا كان التنازل الوهمي عن الارتباط بالغرب، والتنازل الذي لا يقل وهمًا عن عروبة لبنان، فاتفق الجميع على ألا يتفقوا، وقالوا «لبنان مكتفٍ بذاته، له وجه عربي.» أما العقل والقلب والصدر والبطن والساقان والقدمان، فقد رأتها كل فئة على هواها.

واقع الأمر أن التقسيم الطائفي لامتيازات السلطة لم يلغِ قَط الصراع الاجتماعي، ولكنه نجح في حماية «أهل القمة» من كافة الطوائف، وحماية مصالحهم وامتيازاتهم. ونجح أكثر في إقامة الحواجز الخفية بين المظلومين والمقهورين والمضطهدين من الطوائف كافة. كان الدين حاجزًا، وكانت الطائفة أو المذاهب حاجزًا، وكان العِرق أحيانًا حاجزًا، ولم يستطع اللبنانيون تحت أية شعارات أن يقيموا «الوطن» الذي يتطلَّب هدم هذه الحواجز.

وكانت جريمة القرن — الدولة اليهودية — قد تمكَّنت على مدى ثلاثة عقود أن تمنح المثال على الدولة الطائفية-الليبرالية في ظل التحالف غير المعلَن بين المؤسستين العسكرية والدينية. وكان الأمن الإسرائيلي — ولا يزال — قائمًا على تكوين دويلاتٍ طائفية مجاوِرة في إطار ما يُسمَّى بنظام الشرق الأوسط بديلًا لما كان يُسمَّى بالنظام العربي، وهو النظام الذي كان — بالرغم من كل مآزقه وثغراته — قد أسس استراتيجيته على اعتبار إسرائيل «جسمًا غريبًا» في المنطقة. وكان هذا النظام يرى لبنان قطرًا وعضوًا عربيًّا مؤسِّسًا لجامعة الدول العربية عنوان هذا النظام.

وكادت إسرائيل أن تنجح في مسعاها لعقد اتفاق ۱۷ أيار، ثم نجحت بالفعل في الاجتياح الشهير عام ١٩٨٢م، وأصبح لها وجود «لبناني» مسلح في الشريط الحدودي، غير أن «اتفاق الطائف» أوقف الحرب.

ولكنه لم يُوقِف الإرهاب؛ لأن الجنوب كان يتلقى الانعكاسات المدمرة لثلاثة أحداثٍ كبرى في وقتٍ واحد: نجاح الخميني في الاستيلاء على الحكم في طهران، والاحتلال السوفياتي لأفغانستان، ومعاهدة الصلح المصري الإسرائيلي في واشنطن.

۳

كان لبنان بالطبع «مصرفًا» كبيرًا للعرب، وشاطئًا وجبلًا تفخر بهما السياحة العربية. أي أنه كان «سوق» الاقتصاد ونموذجًا لاقتصاد السوق بامتيازٍ. وإذا كانت الناصرية قد أتاحت لهذا السوق — دون أن تقصد — أعلى درجات الازدهار بين الخمسينيات والستينيات بالتمصير والتأميم، فقد أوشكت حرب أكتوبر (تشرين الأول) ١٩٧٣م أن تصل بهذا الازدهار إلى منتهاه. ومعنى ذلك أنه يجب أن نتابع دور مصر في التأثير على الأحداث اللبنانية خاصة حين يكون هناك تحالف ما بين مصر وسوريا. كان انفجار ١٩٥٨م الذي سُمِّي «ثورة» نوعًا من الاشتباك مع الوحدة المصرية السورية، وكان جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب هما اللذين وضعا حدًّا للمأساة من قبل أن يضع لها «الانفصال» نهاية أخرى. كانت المصالح راقدة هناك تحت سطح الشعارات؛ الوحدة العربية من جانب، ولبنان المستقل من جانب آخر. وحين أقبلت حرب أكتوبر ١٩٧٣م لم تكن وحدها، وإنما كانت ثورة النفط في بداية الطريق. ولم يكن لدى مصر أي مانع من وصول الازدهار اللبناني إلى ذروته القصوى، ولكن الرغبات شيء والجغرافيا السياسية شيء آخر. كانت مصر بحرب ۱۹۷۳م تشق طريقًا لنفسها وللمنطقة هو طريق الانفتاح الاقتصادي على السوق، والانفتاح السياسي على إسرائيل، ومن يملك نقطة البداية لا يملك بالضرورة نقاط النهاية، فضلًا عن نقاط العبور على جانبَي الطريق. ووصل لبنان فعلًا بين عامَي ١٩۷۳م و١٩٧٥م إلى قمة الازدهار، ولكنها القمة التي بدأ منها الانحدار. كانت إسرائيل بالرغم من قوتها العسكرية، وقدرتها على الردع النووي، بلدًا محاصرًا، وكان الهدف الصهيوني — ولا يزال — هو التوسع. ولكن التوسع الذي يعني الغزو العسكري في مرحلة يستهدف غزوًا من أنواعٍ مختلفة في مراحل أخرى. فالتوسع الاقتصادي والسياسي والثقافي هو الأصل، أما التوسع في الأراضي فهو يخضع أولًا وأخيرًا لهذا الأصل.

وإذا كانت مصر أكبر دولة عربية قد فتحت بالصلح ثغرة في الحصار المضروب حول إسرائيل، فإن الدولة الصغيرة — لبنان — تشكِّل عقبة كأْداء أمام الأهداف الصهيونية؛ ذلك أنها الدولة التي تحقق عمليًّا مبدأ التعايش السلمي بين ست عشرة طائفة، وهي أيضًا الدولة التي تجسِّد نوعًا من الليبرالية، وإن تكن ليبرالية طائفية. وهي كذلك دولة منفتحة على حضارة الغرب، ثم إنها أخيرًا، بل أولًا، دولة الخطاب الاستهلاكي من الدرجة الأولى؛ تتميز كمصرفٍ، ومشهد سياحي بجاذبيتها الخاصة للعرب. ونحن الآن في زمن النفط، وهو نفسه زمن الصلح؛ لذلك كان لا بد من الصدام بين الخطاب العسكري الإسرائيلي المتعدد المستويات، بدءًا من الاقتصاد وانتهاء بالثقافة، مرورًا بالسياسة، وبين الخطاب الاستهلاكي اللبناني المتعدد المستويات أيضًا بدءًا من الديموغرافيا الطائفية والوجود الفلسطيني وانتهاء بالجغرافيا السياسية ذات العلاقة المباشرة مع سوريا، مرورًا بالفقر الجنوبي المتاخم لإسرائيل والثورة النفطية المحاذية لحرب ۱۹۷۳م.

هل يمكن، والحال هكذا، أن يكون الثالث عشر من أبريل (نيسان) ١٩٧٥م يومًا من أيام المصادفة العمياء شاركت في صنعه عربة نقل بعض الفلسطينيين ومجموعة مسلحة من «الكتائب» في برمانا؟

أم إن اتفاقية سيناء الأولى لفك الاشتباك الأول، كان لا بد من أن تمر بنقطة ما في لبنان تُوجِز كل عناصر الاشتباك التاريخي في الشرق الأوسط؟ ويتحوَّل لبنان كله إلى ساحة قتال تشترك فيها جيوش الدنيا ومليشيات الكرة الأرضية تحت رايات زاعقة بأجمل الشعارات: العروبة، الوطنية اللبنانية، المسيحية، الإسلام، حقوق الإنسان. أما الواقع فهو الذبح على الهُوية، والقصف العشوائي، والقنص من مدينة إلى أخرى، ومن جبل إلى الساحل ثم داخل المدينة الواحدة، وبين أبناء الضيعة الواحدة والجبل الواحد والساحل الواحد. وتتحوَّل التصفية الدموية بين أبناء الدينَين الكبيرين إلى حرب بين أبناء الدين الواحد، والطائفة الواحدة والمذهب الواحد، ويصبح «التقسيم» النفسي فالديموغرافي هو العنوان العملي الذي تراه إسرائيل حزامًا أمنيًّا من الدويلات الهشَّة، وهو نفسه العنوان الذي تراه سوريا امتدادًا لأمنها الاستراتيجي، وهو العنوان الذي رآه الاتحاد السوفياتي السابق خريطة جديدة للنفوذ المتهافت. وهو أيضًا العنوان الذي رأته القوات المتعددة الجنسية بقيادة الولايات المتحدة خطوطًا حمراء في طريق النفط. وهو العنوان الذي رآه الفلسطينيون نقطة مرور إلى القدس، ورآه السادات نقطة مرور إلى «السلام».

اكتشف الجميع أن بروفة تقسم لبنان هي العنوان الصحيح. لم يكن الاكتشاف مجانيًّا، وإنما كان أموالًا هائلة وأسلحة متطورة وتنظيمات فوق وتحت الأرض، وأجيالًا كاملة تترك المدارس والجامعات وتلتحق بالمتاريس، وأجيالًا كاملة تفِد إلى لبنان من بقاع الدنيا بأعلى أجور المرتزقة.

وخلال خمسة عشر عامًا كان لبنان قد استحال مهدًا رئيسيًّا للإرهاب الجديد في الشرق الأوسط، يحمل في تضاعيفه كل خصائص الإرهاب الديني والطائفي والمذهبي والعِرقي. صورة مصغرة للتطهير العنصري والتهجير، فالجغرافيا البشرية فعلت فعلها، وأضحت «المناطق» والزواريب والمدارس والجامعات وبيوت العبادة والعشائر والعائلات معامل حية لصناعة الإرهاب، ومعاهد معتمَدة لتخريج الإرهابيين. وأمسى لبنان أنقاضًا فوق أنقاضٍ، وحين وضعت الحرب أوزارها بموجب اتفاق الطائف، كان زعماء المليشيات قد أصبحوا مليونيرات ووزراء ومن ملَّاك المزارع والقصور في أوروبا وأمريكا. أما أغلبية اللبنانيين الذين لم يعرفوا معنى الفقر يومًا، فقد طاردتهم الأمراض والتشوُّهات النفسية والعصبية والغلاء الجنوني في الأسعار والمنافي القريبة والبعيدة، واستحالت المقابر تلالًا من الجماجم.

كان اللبناني أكثر من «أشقائه» العرب عشقًا للحياة، فأرغمه خصوم لبنان من داخله ومن خارجه على عشق الموت. كان عنوانًا للحريات والتعايش؛ فأدخلوه زنازين صغيرة منفصلة ليعاني من أهوال الحبس الانفرادي وكأنه في الحجر الصحي يكابد مشقة العزل، ومن مخابئ الجغرافيا السكانية وملاجئ الجيتو المذهبي لم يستطع في أتون القهر المتصل أن يرى من وراء القضبان والأسلاك الشائكة أن الخطاب الاستهلاكي كان بريقًا خادعًا يخفي أصحاب المصالح في تجارة الدم، وأن الخطاب الطائفي لم يكن أكثر من قناعٍ يخفي الأصابع التي تحرك خيوط اللعبة من وراء الستار.

ولم يكتشف ما هو أبشع؛ أن الخطاب الاستهلاكي والخطاب الطائفي وجهان لعملة واحدة، وأن مصر التي تميزت بالوحدة الوطنية الصلبة لم يدهمها الإرهاب إلا حين دهمها الانفتاح الاستهلاكي وخطابه. وأن إسرائيل — جريمة القرن — سوف تبطن خطابها الاستهلاكي في خطابها العسكري؛ فيصبح لبنان فريستها الأولى حتى لا يصبَّ النفط في شرايين العرب.

وعلى الحافة الحرجة بين نهاية ١٩٧٩م والحرب اللبنانية في ذراها المشتعلة كان النفط يلعب دورًا مختلفًا بين عاصمتين ما أقرب إحداهما من آباره وما أبعد الأخرى، ولكنهما معًا سوف تتصلان بأقدار الشرق الأوسط والعالم والإرهاب أوثق الاتصال. كانت كابول وطهران تغليان بالصراع السافر على السلطة. وكانت السلطة فيهما قد أذنت بالرحيل، فالحكم الشيوعي في أفغانستان أقرب إلى تمثيل الأقلية السياسية المرتكزة على أوتاد فوق السطح تشدُّها حبال أوْهَى من خيوط العنكبوت، وحكم الشاه في إيران يحاكي أتاتورك في غير زمانه. هناك القبائل وهنا المشايخ، ولكن الجغرافيا السياسية تدفع موسكو إلى الهبوط بدباباتها بحثًا عن أمنها لا عن أي شيء آخر؛ فلا نفط ولا ثروات أخرى، ولكنه الأمن. بعد أقل من خمس سنوات على خروج الأمريكيين من فيتنام، يهبط الجيش الأحمر في الأرض الجرداء ليحمي نفسه. ويثب الخميني إلى الحكم في إيران بعد أن تطوع الشاه وخرج سالمًا، طائرة تذهب وأخرى تجيء، وكأننا في مباراة سلمية، ولسنا في إحدى دول العالم الثالث.

ولكن واشنطن فهمت الرسالة السوفياتية في كابول، والرسالة الخمينية في طهران على نحوٍ مختلف. توهَّمت أولًا أنهما رسالة واحدة، ومن ثَم وضعت ثقلها كله في تحويل البلدين إلى ساحتَي قتال؛ بين الأفغان والسوفياتية في أفغانستان، وبين إيران والعراق حول شط العرب.

دار الفهم الأمريكي حول الجغرافيا ومنابع النفط، وأن السوفيات لا يحلمون بالمياه الدافئة وحدها، وإنما بالطريق إلى النفط. صحيح أن الاتحاد السوفياتي السابق هو الدولة النفطية الأولى في العالم، ولكن الأمر الاستراتيجي يعني تأمين الطريق إلى النفط، ولأن السوفيات لم يتخذوا موقفًا مناوئًا للحكم الإسلامي الجديد في إيران، فقد تأكدت واشنطن من صحة تحليلاتها.

وهذا ما كان. وقد أصبح الملف الأفغاني الآن مفتوحًا عن آخره فعرف العالم دور المخابرات الأمريكية في تجنيد الشباب العربي المسلم، وتيسير انضمامهم إلى معسكرات باكستان المتاخمة للحدود الأفغانية. وقد ساهمت دول عربية وإسلامية بالمال والسلاح في هذه الحرب.

كذلك لم يعُد سرًّا أن الغرب والسوفيات والصين، كانوا يمدون العراق وإيران بالسلاح وكشف الخطط والمناورات، وفضيحة «إيران جيت» علامة بارزة على تأجيج الحرب.

وقد جاء قرار جورباتشوف بالخروج من المستنقع الأفغاني بعد عشر سنوات بمثابة المقدمة الواضحة للتحولات الجذرية التي أدت بعد عام واحد إلى تفكك الاتحاد السوفياتي كما جاء قبول إيران لقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار في شط العرب تمهيدًا معقدًا لاشتعال حرب الخليج الثانية.

واقع الأمر أن حرب أفغانستان لم تتوقف إلى اليوم، سواء بين القبائل المتصارعة على السلطة بما يشتمل عليه هذا الصراع من أقنعة عرقية أو مذهبية، أو بما أفرزته هذه الحرب من ظاهرة «العرب الأفغان» الذين ينتشرون بين الجزائر ومصر انطلاقًا من باكستان والسودان، ويفاقمون من ظاهرة «الإرهاب» الذي يتستر بالدين.

واقع الأمر أيضًا أن حرب الخليج الأولى باسم تصدير الثورة (أي الإسلام السياسي) قد استمرت على نحوٍ مختلفٍ في جنوب لبنان، وعلى نحوٍ أكثر اختلافًا في حرب الخليج الثانية، وامتد لهبها من داخل إيران إلى خارجها باتساع العالم فيما يُعرَف بالإرهاب الجديد.

وهكذا انطلقت الشرارة العنصرية الجديدة من الخطاب الاستهلاكي الملتبس بالجغرافيا البشرية من جزيرة صغيرة في البحر المتوسط — قبرص — إلى دولة صغيرة في الشرق الأوسط — لبنان — حيث حظيت الشرارة في النقطتين الصغيرتين بالكساء الطائفي، ثم انطلقت شرقًا في أعقاب النفط حيث تدثَّرت بمزيدٍ من الإرهاب باسم الدين.

وهناك، حيث تهاوت الإمبراطورية السوفياتية، كان الانفجار الأكبر شرقًا وغربًا من مستصغر الشرر.

٤

لم يكن سوى الخطاب الاستهلاكي كامنًا هناك، بعد هبوط أسعار النفط وتشبُّع السوق العالمية، عندما اشتعلت حرب الخليج الثانية بغزو العراق للكويت.

ولم يكن سوى الخطاب الاستهلاكي كامنًا هناك، بعد أن وصلت ثورة الاتصال والمعلومات إلى كل بيتٍ سوفياتي. عندما بدأ مسلسل انهيار الإمبراطورية بدءًا من إعلان استقلال دول البلطيق وانتهاء بتفكُّك أوصال «الاتحاد» واختفائه من خريطة العالم.

وقد كانت هنا وهناك، دون ريب، من الأسباب السياسية والاقتصادية ما يهيئ ويدفع العراق إلى غزو الكويت، وما يحفز ويحرض الإمبراطورية السوفياتية على التفكك والانحلال.

ولكننا لا نبحث هنا عن الأسباب والمقدمات؛ فالماضي أو التاريخ لا يضمر سوى الاحتمالات والوعود، ولا يقود بالضرورة، ولا يتحكم بالحتمية في النتائج. ذلك أن السياق التاريخي ذاته قد يشتمل على متغيرات طارئة من خارجه فتزلزل الثوابت وتنتزع عنها صفة الإطلاق.

وقد حدث بالفعل قرب نهاية العقد الثامن من هذا القرن أن وصل التخلخل — وليس الخلل — بالمطلقات إلى ذروة من التفاعلات النظرية والتطبيقية بشَّرت الإنسانية جمعاء بأننا على أعتاب عصر جديد وعالم جديد. كانت العلوم الطبيعية قد أنجزت ما يغير ثوابت الجغرافيا إلى الفضاء الكوني. ومن الفيزياء الحديثة إلى الهندسة الوراثية، كانت قوانين العلم تبدِّل عظامها ودمها لا جلودها وثيابها فحسب. وقد تدخلت القوانين الجديدة في صياغة الوسائل والغايات بدءًا من تكنولوجيا الإنتاج وانتهاء بتكنولوجيا الاستهلاك مرورًا بتكنولوجيا السلاح.

ولم يكن ممكنًا للفلسفة والاقتصاد وبقية العلوم الاجتماعية أن تكتفي بالفرجة والانبهار لما يجري في ساحة العلم الطبيعي وتقنياته العملية المُسماة بالتكنولوجيا. وإنما كان العلم الاجتماعي رابضًا في قلب المتغيرات الحثيثة مواكبًا لها، متفاعلًا معها.

وفي ظل الليبرالية كان من الممكن للغرب الرأسمالي أن يحتوي الكثير من الأزمات الخانقة، يحتويها ولا يلغيها. ولكن الأمر لم يكن على هذا النحو في ظل الشمولية الشرقية تحت راية الماركسية أو تحت الرايات الملفقة في العالم الثالث … ليس لأن العلم الطبيعي كالعلم الاجتماعي تحت هذه الرايات وتلك يعاني من أحوال القمع ومعوقات التقدم فقط، بل لأن استراتيجيات الحكم الشمولي هنا وهناك لا توازن بين الوسائل والغايات كما أنها تفتقد القدرة على استشراف الغايات الحقيقية والوسائل المنسجمة، وتستبدل بها حينًا غايات المصلحة المباشرة للطبقة الحاكمة ووسائل الأيديولوجيا في حراسة هذه المصالح.

لذلك أمكن لليبرالية الغربية أن تحقق لشعوبها قدرًا من الرخاء والرفاهية بالرغم من كل عوراتها، جنبًا مع جنب تفوقها في سباق التسلح الذي وصل بها إلى مشروع حرب الكواكب. بينما كان الهم الأكبر للاستراتيجية الشمولية هو التوازن النووي فأنجزت في تكنولوجيا السلاح ما حقق لها هذا التوازن عدة عقود، ولكنها في مواجهة ما سُمِّي بمشروع «المبادرة الاستراتيجية» للولايات المتحدة خسرت السباق. ولكن الخسارة الأخطر شأنًا كانت في التكنولوجيا المتوسطة وما دونها، والتي ندعوها بتكنولوجيا الإنتاج وتكنولوجيا الاستهلاك. وهكذا اعتمدت الدول الشمولية آجالًا طويلة على سرقة هذه الأنواع من التكنولوجيا، وأيضًا على استيراد بعض المواد الغذائية الأساسية، فلم تستطع قَط أن تعوِّض خسائرها في الإنتاج، ولا أن تلبي — تبعًا لذلك — احتياجات الاستهلاك. ولم يصل الأمر بالإمبراطورية الواسعة الأرجاء أن تستورد القمح من أمريكا، بل وصل بها الذل أن تستجدي من الدول الأوروبية «معونة الشتاء». وهكذا كانت مأساة المفاعل النووي تشيرنوبيل جنبًا إلى جنب مع مشهد الشحاذة الشتوية تكذيبًا فاجعًا للاستراتيجية الشمولية التي ادَّعت أولًا تأميم الحرية لمصلحة الرخاء؛ فلم تحقق الحرية ولا الرخاء، ثم ادَّعت ثانيًا حماية الأمن القومي، فاستطاع شاب سويدي بإحدى طائرات الهواة أن يهبط بها في الميدان الأحمر.

وإذا كانت الأوضاع العراقية تختلف في التفاصيل، حيث استطاع النظام الشمولي أن يفتح آفاقًا للتنمية الزراعية والصناعية، إلا أن انحراف الغايات السياسية في ظل الدكتاتورية هو الذي انحرف بالتنمية الوطنية الناجحة إلى الحلم الإمبراطوري. ومن ثَم كانت استراتيجية المغامرات العسكرية المتعاقبة التي استنزفت الموارد حربًا بعد حرب حتى انتهى الأمر بالعراق، أيًّا كانت الأسباب أو الادعاءات، إلى ما وصل إليه من دولة غنية إلى دولة يعاني شعبها ويلات التجويع والتركيع الاقتصادي والسياسي. وكما سقطت الاستراتيجية الشمولية في «الاتحاد» السوفياتي سقطت أيضًا في العراق؛ فلم تحقق الوسائل الغايات المعلَنة؛ بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران «تنازل» العراق عما كان يراه حقوقًا تاريخية ثابتة، وبعد غزوه للكويت وُلدَت في شماله دويلة غير شرعية يحميها الأجنبي، وتقلَّصت سيادته الجوية على جنوبه، وأخذت مشاريعه النووية تتبدَّد في الهواء. وكان الخطاب الاستهلاكي في ذلك كله كامنًا في النزعة الإمبراطورية إذا تخلينا عن الادعاءات حول العروبة والإسلام وفلسطين. كانت المذكرة العراقية إلى الجامعة العربية عشية غزو الكويت عن «حقل الرميلة» لا عن العروبة أو فلسطين كما كانت المذكرات العراقية إلى مجلس الأمن عن شط العرب لا عن الإسلام.

وإذا كانت التفاصيل قد اختلفت بين المصير السوفياتي والمصير العراقي لاختلاف السياق، فإن الاتفاق بين بعض النتائج يحتاج إلى إيضاح: إن الاختلال الفادح بين الوسائل والغايات في ظل الحكم الشمولي هو الذي قاد إلى اختلالٍ أفدح بين الإنتاج والاستهلاك بحيث أصبح الأمر — دون تطابق حرفي — كما نرى في الشتاء المأسوي الممتد في روسيا، والأزمة الاقتصادية الخانقة في العراق. والنقطة الجوهرية الثانية في التشابه بين الحالَين — الروسي والعراقي — هو الغياب المطلَق عن روح العصر الجديد بمتغيراته المتلاحقة. كانت الشمولية وستظل حجابًا سميكًا يحُول دون رؤية ما يجري في العالم. وهو الأمر الذي أدَّى من موقَعين مختلفين إلى «الأسلوب» الذي تفككت بواسطته الإمبراطورية السوفياتية دون وعي من قيادتها الاستراتيجية بأننا ندخل عصر «نهاية الإمبراطوريات». وهو العصر الذي تشكِّل ثورة الاتصال والمعلومات عموده الفقري، ويشكِّل الخطاب الاستهلاكي أنماط الإنتاج، ويرتب محتواه سُلَّم القيم بين الوسائل والغايات. وبينما كان عصر نهاية الإمبراطوريات يدخل صراعًا مكشوفًا يدمر الإمبراطورية السوفياتية من داخلها، كانت القيادة السياسية العراقية تعبئ قواها ومواردها وطاقاتها لبناء إمبراطورية من خارجها. هذه الغيبوبة عما يجري في العالم والعصر هي التي أفضت إلى نتيجة متقاربة سواء بتفكك الاتحاد السوفياتي السابق إلى جمهوريات، ثم إلى دويلات عِرقية متطاحنة، أو بالتهديد الواقعي للعراق بالتقسيم العِرقي والمذهبي.

والنقطة الثالثة في الاتفاق بين النموذجَين هي أن الخطاب الاستهلاكي، الذي اتخذ شكل الغزو لأفغانستان أو الكويت كان لمصلحة الطبقة الحاكمة وحدها، وهي الطبقة التي ما زالت تحكم في الجمهوريات السوفياتية السابقة كلها، بما فيها روسيا. فالقيادات في غالبيتها ذاتها القيادات الشيوعية وقد تغيرت جلودها لمتابعة مصالحها القديمة والمستجدة في ظل الانفتاح الاستهلاكي، وهي أيضًا الطبقة العائلية التي ما زالت تحكم العراق.

غير أنه يجب أن نشير إلى أنه بالرغم من المداخلات الإقليمية والدولية، سواء في الاحتلال السوفياتي لأفغانستان أو في الاحتلال العراقي للكويت، تبقى هناك خصوصية في الحالة الأخيرة. وهي أن العراق في محاذاة الخطاب الاستهلاكي برهن حكامه على أن بقاءهم في الحكم مرتبط بالمجتمع العسكري، أي بقاء الدولة والمجتمع في حالة حرب. وبالتالي فقد أعطى إيران، ضمنًا، حق «تصدير الثورة»، كما أعطى قطاعات من الرأي العام الكويتي حق الانسلاخ عن النظام العربي حتى لا أقول عن العروبة. وإذا كان «تصدير الثورة» مجرد شعار يُخفي الطموح إلى مد الهيمنة على الخليج بكل ما يعنيه ذلك اقتصاديًّا وسياسيًّا (وعسكريًّا في الشرق الأوسط: لبنان والسودان)، فإن ردود الفعل لدى بعض القطاعات الكويتية تعني التقوقع والانكفاء على الذات. والمسئول عن كلا الموقفين، والتداعيات التي نشأت عنهما هو القيادة العراقية، حتى مع التسليم — جدلًا — بأنها استُدرجَت في المرتين. وهي مسئولية تتجاوز الإدانة والمحاكمة إلى ما هو أخطر؛ لأن حربَي الخليج الأولى والثانية شاركتا بقوة الأمر الواقع — بغض النظر عن النوايا — في صياغة الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، وفي صناعة الخطاب الاستهلاكي كأحد وجهَي الخطاب الإرهابي العِرقي والديني والطائفي. لقد وصلنا بموجب هذا الخطاب المزدوج من الانتفاضة إلى اتفاق غزة-أريحا إلى الحرب الأهلية الفلسطينية غير المعلَنة، رغم أنف الصواريخ العراقية على تل أبيب. ووصلنا بالانقلاب «الإسلامي» السوداني إلى انفصالٍ غير معلَن للشمال والجنوب، ووصلنا «بالثورة الصومالية» إلى دويلة «أرض الصومال» والحرب الأهلية المعلَنة في بقية الصومال، ووصلنا بالجزائر من إعلان الديمقراطية إلى إعلان الحرب الأهلية، ووصلنا بالهامش الديمقراطي في مصر إلى لغة السلاح في الحوار السياسي.

هذه بعض نتائج الخطاب المزدوج للاستهلاك والإرهاب الذي لم يُكتَب في حرب الخليج الأولى أو الثانية، وإنما كتبته في البداية النتائج السياسية والاقتصادية لحرب ١٩٧٣م وثورة النفط، وأعادت صياغته حرب لبنان وثورة إيران. ولكن حرب الخليج الأولى وحروب إسرائيل الدائمة وحرب الخليج الثانية هي التي وضعت النقط على الحروف، وتكفَّلت بإبلاغ كل مَن يهمه الأمر ثلاث لاءات: لا للنظام العربي، لا للعلمانية، لا للديمقراطية، مقابل: نعم لنظام الشرق الأوسط، نعم للانفتاح الاستهلاكي، نعم للدكتاتورية.

وكان من الواضح تمامًا أن بلادًا كالصومال والسودان ومصر والجزائر التي شاع فيها الإرهاب باسم الدين وبدرجاتٍ متفاوتة، أو التي سادها التشرذم العِرقي، هي الأقطار التي تعاني بدرجاتٍ مختلفة من الفساد بدءًا من الاختناق الاقتصادي وانتهاءً بالمجاعة كما هو الحال في الصومال، وكان من الواضح كذلك أن السقوط الفعلي للنظام العربي في حرب الخليج لا يقل هولًا عن السقوط الفعلي للإمبراطورية السوفياتية.

وإذا كان السقوط السوفياتي قد بدأ من الأطراف، أي من نوافذ أوروبا الشرقية حتى دقَّ أبواب موسكو فيما يشبه حصار الأطراف الضعيفة للمركز القوي، فقد عاد المركز الضعيف ليؤثِّر سلبًا في الأطراف حتى تجاوز تأثيره الحدود السابقة للإمبراطورية إلى البلقان. ومن حظ «تيتو» أنه لم يشاهد «الاتحاد اليوغسلافي» الذي بناه طوبة طوبة وهو ينهار شظايا عرقية وطائفية.

وإذا كان النظام العربي قد تمزَّق بأسلوب الأواني المستطرقة بين المحيط والخليج، فإنه قد وقع في الوقت نفسه بين المطرقة الإيرانية والسندان الإسرائيلي، حيث ترى كلٌّ من طهران وتل أبيب نفسها البديل للنظام العربي الراهن. هل نقول إنها ليست مفارَقة أن الدولة اليهودية والدولة الإسلامية كلتاهما تقوم على أساس ديني؟ أم إن المفارقة لا تصمد طويلًا أمام اللعاب السائل حول سوق الشرق الأوسط؟ ومن خلف الإرهاب المباشر وغير المباشر الذي تقوم الدولتان بممارسته وتصديره؟ وكيف نفسر ازدهار الخطاب الاستهلاكي في موازاة تدهور النظام العربي؟

لعل المفارقة الكبرى في التاريخ المعاصر أن هذا العصر والعالم الجديد الذي يوشك على الولادة، هو ثمرة انفجار الإمبراطورية السوفياتية وانفجار النظام العربي معًا، فأصبح الأمر انفجارًا عالميًّا. ذلك أن الاتحاد السوفياتي السابق لم يكن إمبراطورية بالجغرافيا وحدها، وإنما بالسياسة والاقتصاد والثقافة أيضًا، ومن ثَم فانفجاره يتجاوز حدوده إلى التأثير في العالم بأكمله، حتى في خصومه. الانفجار السوفياتي غيَّر خريطة العالم على المستويات كافة، وخاصة على المستوى الاستراتيجي. كذلك النظام العربي؛ فانفجاره الخفي والمعلَن لا يؤثر على حدوده الاستراتيجية وحدها، فهو يتصل بالعالم أوثق الاتصال سواء بطاقاته المادية وفي مقدمتها النفط، أو طاقاته البشرية والروحية وفي طليعتها الإسلام؛ لذلك فإلغاؤه عمليًّا بإحلال نظام الشرق الأوسط مكانه هو تغيير جوهري في البِنية الإقليمية والدولية على السواء.

والمفارقة الأخيرة أن يتفجَّر النظامان، السوفياتي والعربي، في توقيتٍ مشتركٍ فيُحدِث الزلزال انقلابًا عالميًّا بعيد المدى لم تتوقف «توابعه» بعد. نعم، كانت هناك مقدمات وحيثيات ومبررات، ولكن رادارات أهم مراكز الأبحاث في العالم لم تسجل «نقطة التحول» من العالم القديم إلى العالم الجديد على هذا النحو، ولم تُحِطنا مراصد الدنيا لا بموعد الزلزال، ولا بحجمه ولا بقوته التدميرية.

إنه بالطبع تدمير عالم قديم يوشك على الزوال ليُفسِح مكانًا لبناء عالم جديد. والبشرية الآن بأسرها والكون بأكمله في حالة مخاض عسير، هي حالة السيولة الشاملة، سيولة جغرافية وتاريخية وأيديولوجية. وربما كان من أبشع تجلياتها هذا التفتُّت العرقي والطائفي، فلسنا بالقطع في زمن انبعاث القوميات، وإنما هو التشرذم العنصري، وهو التشرذم الذي يرتبط فيه الخطاب الاستهلاكي الجديد بخطاب الإرهاب الجديد، ليس في بلادنا وحدها، وإنما في العالم أجمع.

٥

كان من الطبيعي أن يبدأ تفكك الإمبراطورية السوفياتية من محيطها المباشر في أوروبا الشرقية، من بلد كبولندا مثلًا، فواقع الأمر أن نداء الديمقراطية كان يمكن أن يأتي من براغ ذات الربيع الذي لا يُنسى عام ١٩٦٨م، وكان من الممكن لهذا النداء أن يصل من بودابست ذات المبادرة التاريخية عام ١٩٥٦م حين صدقت المجر «سقوط الستالينية» المدوي بصوت خروشوف أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي. وكانت المجر بالذات مرشَّحة لإصدار هذا النداء بالذات، بعد انفتاحها على الغرب. وكان من الممكن للنداء الديمقراطي أن يُذاع في بلجراد، ويشيع في جمهوريات يوغسلافيا التي تركها تيتو موحَّدة بقيادة جماعية، مستقلة عن موسكو، وتحتل مكانة رفيعة في العالم الثالث وكتلة عدم الانحياز.

كان من الممكن أن يحدث ذلك، لو أن «النداء» قد اقتصر على الديمقراطية السياسية، فأغلب عواصم أوروبا الشرقية كان يعاني من الهيمنة الإمبراطورية القادمة من الكرملين، ومن سطوة النظام الشمولي داخل الحدود.

ولكن النداء جاء من ميناء بولندي يُسمَّى جدانسك، ومن نقابة عمالية تنشد الاستقلال تدعى «تضامن». جاء النداء على مراحل تعددت أشكالها بدءًا من الإضرابات والاعتصامات والمنشورات، وانتهاءً بطلب الاستقلال عن الحزب الشيوعي، وبدءًا من المطالب المهنية الخالصة وانتهاءً بالمطالب السياسية الواضحة، وبدءًا من السجون والمعتقلات وانتهاءً باقتسام السلطة ثم الانفراد بها.

وقد قيل في أحداث بولندا التي سبقت البريسترويكا بخمس سنوات، حين التفَّ عمال جدانسك حول ليش فاليسا عام ١٩٨٠م، إن البابا — البولندي الجنسية — يوحنا بولس الثاني هو الذي دفع الكنيسة الكاثوليكية في وارسو إلى دعم الحركة العمالية، وإن هذا البابا ليس بعيدًا عن الوكالة المركزية للمخابرات الأمريكية. هذا التفسير التآمري لنشأة «تضامن» يعجز عن تفسير الطابع القومي الذي آلت إليه الحركة، والاستمرارية التي وصلت بها إلى «ريادة» التغيير الشامل لشرق أوروبا. وبالطبع، ليس من المستبعَد أن تلعب الكنيسة البولندية دورًا في الأحداث، وليس من المستبعَد أن تكون ثمة علاقة خاصة بين الفاتيكان والولايات المتحدة. ولكن «تركيب» حركة الأحداث على هذا النحو، وكأن ما جرى في البلاد من أقصاها إلى أقصاها مؤامرة أمريكية هو افتئات على الشعب البولندي، وتضخيم لموقع الكنيسة من هذا الشعب، ومبالغة في قدرات المخابرات الأمريكية التي تكشف الوثائق المتاحة على أنها فوجئت تمامًا بما حدث، حتى ولو حاولت اللحاق بركب المتغيرات، وحتى أيضًا لو بذلت الجهود في توجيهها.

إن البداية البولندية التي انتقلت منها الشرارة إلى بقية شرق أوروبا هي التي فرضت، ضمن عوامل أخرى داخل الأقطار الاشتراكية السابقة والاتحاد السوفياتي نفسه، أفكار جورباتشوف. وكأن تلك البداية من الميناء البولندي قد أفضت بالتدريج — عبر تواصل رياح التغيير — إلى محاصرة موسكو ذاتها، فكانت البريسترويكا التي حاولت امتصاص «قوة الغضب» واحتواء كوامن الانفجار، ومن ثَم ساندت سرًّا وعلنًا بوادر التغيير هنا وهناك، ولكن الزمن كان قد فات، وأفلتت حركة الأحداث من جورباتشوف نفسه، وأضحت البريسترويكا في فترة قياسية من الذكريات.

وذلك لأن النداء الديمقراطي القادم من جدانسك لم يكن مجرد نداء سياسي، وإنما كانت السياسة فيه وثيقة الارتباط أكثر من أي وقتٍ مضى بالاقتصاد. كان المشهد العمالي في بولندا مأسويًّا بحق؛ فالحزب الواحد والقائد والحاكم يدَّعى تمثيل العمال، بينما العمال هم قادة الحركة نحو التغيير. وكانت بولندا بحكم موقعها الجغرافي وتاريخها من أكثر أقطار أوروبا الشرقية إطلالًا على الغرب، فأقبلت ثورة الاتصال والمعلومات لتلغي تقريبًا المسافات بينها وبين هذا الغرب الأوروبي، ولم يعد الأمر مقصورًا على تسويق نموذج الحياة الغربية في الطعام والشراب والملبس والرفاهية — وهو جزء مهم من الخطاب الاستهلاكي — ولم يعُد مقصورًا على مبادئ حقوق الإنسان. وإنما تجاوزت ثورة الاتصال والمعلومات هذه «الموضات» الخلَّابة المظهر، أو غيرها من الخدمات الخفية كصناعة الأمن السري احترافًا أو هواية. بل قامت ثورة الاتصال والمعلومات بإعداد السوق على مهلٍ، وشاركت في تغذية الاحتياجات الفعلية والوهمية تغذية استراتيجية بالاقتراحات الهيكلية للإنتاج والبدائل الممكنة للملكية العامة والمفاهيم المحتملة لمجتمع المبادرات الفردية والصياغات المتعددة لاختلاف الطبقات والمستقبلات التي يهيئها الاقتصاد الحر للأجيال الحاضرة والمقبِلة. ولم يكن هذا كله ليتم خارج الإطار السياسي الذي يبدأ بانفصال بولندا عن المركز الشمولي في النظام العالمي، والأخذ — دون مواربة — باقتصاد السوق والتعددية الحزبية.

ولم تكن ثورة الاتصال والمعلومات تخلق شيئًا من العدم، وإنما كان الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة، تعاني من ضمور حقيقي في الوسائل والغايات، ومن ثغراتٍ فادحة الاتساع بين الواقع والشعارات. ولم تفعل هذه الثورة أنها ساعدت المخيِّلة القومية على الحلم وتصور البديل «المنقِذ». كان الارتباط بين الاقتصاد البولندي واقتصاد المنظومة الاشتراكية، وبين حلف وارسو والأمن الإمبراطوري السوفياتي، وبين الفكر المكبوت أو المعلَن أحيانًا، وعقيدة الدولة من أخطر الحواجز وأعلاها بين الناس وأحلامهم. وجاءت حركة «تضامن» العمالية فوق السطح والشعبية تحته، كمحاولة جسورة لاختراق هذه الحواجز. لم تكن بولندا فقيرة، ولم تكن تفتقر إلى القاعدة التكنولوجية للإنتاج، ولكنها بفضل الحواجز أمست عمليًّا دولة فقيرة تابعة مقهورة. هنا برز الخطاب الاستهلاكي في صميم الحركة العمالية الأكثر فقرًا كإجابة على الخطاب الاستهلاكي لفساد الشريحة الحاكمة ونظامها.

غير أن الجواب الاستهلاكي على سؤال الاستهلاك لا يحقق الأحلام على أرض الواقع دفعة واحدة، قد يحقق الاستقلال عن موسكو، والانفصال عن وارسو، ولكنه يمتنع عن تحقيق الإنتاج اللازم لإشباع الاستهلاك. يضاف في الوقت نفسه قوانين السوق العالمية المستعدة دائمًا لإغراق الأسواق الجديدة وزيادة القروض، فتدخل أقطارها عصر الأزمة الدائمة، ولا تخرج مرة أخرى من عنق الزجاجة بل تضرب رءوسها في الحائط المسدود.

وهذا هو السبب الذي عاد من نتائجه الشيوعيون البولنديون واللتوانيون إلى الحكم في انتخاباتٍ حرة، وكأن الناس يستبدلون الحلم القديم باليأس. ولأن الحلم القديم مستحيل، فإن الأوضاع البولندية لا تنتقل إلى شقيقات وارسو القديمة بحذافيرها. ينتقل الخطاب الاستهلاكي المزدوج الدلالة (خطاب الجماعة أو العِرق أو الطائفة، وخطاب الفئة المركزية الحاكمة). ويتخذ مكانه بين عوامل أخرى وتتفاعل فتغدو بولندا في مأزقٍ خانقٍ بينما تتوحد ألمانيا وينفصل التشيك عن السلوفاك سلميًّا، وتستقل أولًا دول البلطيق بعد مصادمات دامية. ثم تستقل بقية الجمهوريات في الاتحاد السوفياتي السابق. وتبدأ الحروب الأهلية بين هذه الجمهوريات وبعضها البعض ثم داخل هذه الجمهوريات بين الأعراق والأديان حتى تصل هذه الحروب داخل الاتحاد الروسي نفسه إلى أن تخترق موسكو ذاتها. وينقلب المشهد المأساوي من «انقلاب» أغسطس (آب) ١٩٩١م حيث كان البرلمان قلعة يلتسين فيصبح هذا البرلمان — البيت الأبيض — بيتًا أحمر من دماء ألف قتيل في مذبحة أين منها دماء ثورة أكتوبر (تشرين الأول) عام ١٩١٧م؟

والجوهر العميق للتفكك الدموي الهائل، هو الخطاب الاستهلاكي الذي استحال عليه استبدال الحلم الجديد بحلمٍ قديم، فربحت الفاشية حربها ضد الشيوعية، دون الحاجة إلى حرب عالمية ثالثة، بل أصبح بعض قادة الشيوعية من أبرز أعلام الفاشية الجديدة.

كان التفاعل بين الخطاب الاستهلاكي والأوضاع الخاصة بكل إقليم قد فعل فعله بدءًا من استقلال القوميات إلى استقلال الأعراق والطوائف بموجب الجغرافيا الأنثروبولوجية. ودفعت هذه القوميات والأعراق والطوائف ثمن الاستراتيجية الستالينية في تذويبها والهيمنة الروسية عليها، عرقيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا.

بدأت البريسترويكا إذن بالاستقلال الديمقراطي، وانتهت عمليًّا بالتفتُّت العِرقي. ولم يعُد الأمر مجرد تفكك إمبراطوري محدود بالإطار الجغرافي للاتحاد السوفياتي السابق وتوابعه في أوروبا الشرقية، بل تفتتًا عرقيًّا ملازمًا لفاشية نظام الحكم. ليست هناك جمهورية واحدة تخلو من الدم في آسيا الوسطى، ومضى خيط الدم فاقعًا إلى أفغانستان حتى وصل إلى البلقان في قلب يوغسلافيا السابقة.

وهكذا ارتبطت أنواع الإرهاب كافة، بدءًا من إرهاب الدولة والدويلات والأعراق والطوائف إلى إرهاب المليشيات والأفراد، بالخطاب الاستهلاكي ارتباطًا وثيقًا، وكانت الجغرافيا البشرية هي الجسر الذي التقى عنده الاستهلاك بالإرهاب.

ما أبعد النهايات عن البدايات، فلم تكن المبادرة البولندية قبل عشر سنوات من الانهيار السوفياتي أكثر من نداء ديمقراطي تداعت له الكوامن العميقة التي تجاوزت الحدود الإمبراطورية إلى أرجاء العالم بدءًا من أحداث لوس أنجلوس في الولايات المتحدة وانتهاءً بالنازية الجديدة في ألمانيا والسويد والفاشية الجديدة في إيطاليا.

ومن ثَم يصبح السؤال: أحقًّا كانت بولندا هي البداية، أم أن الاختلال بين الإنتاج والاستهلاك في العالم المتقدِّم داخله وخارجه، كان البداية والنهاية؟

٦

ربما كانت المرة الأولى الدامغة التي يتنكر فيها الغرب لمبادئه الديمقراطية المعلَنة في وثائقه الدستورية وخطابه السياسي، حين اتخذ موقفًا جماعيًّا ضد البرلمان الروسي لحساب الانقلاب العسكري المكشوف الذي قاده يلتسين والجنرالات ضد الديمقراطية، وهو انقلاب ما زال مستمرًّا من شهر سبتمبر (أيلول) ۱۹۹۳م إلى اليوم والغد.

أقول إنها قد تكون المرة الأولى الدامغة التي يتنكَّر فيها الغرب لمبادئه، لأنني أعلم أن هذا التنكر يكاد يكون يوميًّا، ولكنه في هذه المرة تنكُّر تاريخي بكل معنى الكلمة؛ فقد أعطى المشروعية لجراحة استراتيجية في إحدى أهم مناطق العالم لحساب الفاشية الجديدة. لم ينظر لغير مصالحه الآنية المباشرة، فأعطى الضوء الأخضر لا للمذبحة التي سقط في بحيرتها الدموية ألف قتيل، بل للمذابح المقبلة لا في روسيا وحدها، في مختلف أرجاء العالم.

لم يكن قادة البرلمان من الشيوعيين الجدد؛ فهم أقرب الأصدقاء وأقوى الحلفاء في انقلاب يلتسين على جورباتشوف، وإنما كانوا من القوى القومية التي غيَّرت مثله تمامًا جلودها الحمراء لحساب الاقتصاد الحر. ولكن هذه القوى لاحظت أن يلتسين يركب القطار السريع على جثة الأمن الاجتماعي والأمن الوطني معًا. وظل مطلب البرلمان هو التخفيف قليلًا من سرعة القطار الذي يشاركون في قيادته حتى لا يخرج على القضبان ويفقد الاتجاه فتقع الكارثة للجميع.

ولكن هذا البرلمان، المنتخَب كالرئيس تمامًا بموجب الدستور الذي ما زال يحكم البلاد حتى الآن، فوجئ بالرئيس يحلُّه ويلغيه كأي دكتاتور في العالم الثالث، بل في أسوأ أقطار العالم الثالث. واعترف يلتسين علنًا بخرق الدستور. ولم يسأل كلينتون نفسه، هل يستطيع أن يحل الكونغرس، ولم يسأل ميتران نفسه هل يستطيع أن يحل الجمعية الوطنية، ولم يسأل ميجور نفسه هل يستطيع أن يحل مجلس العموم، بل قام الجميع، والغرب كله من ورائهم، بتأييد الرئيس «الديمقراطي».

ويبدو أن هذا هو الخطأ الأول في حسابات قادة البرلمان، فقد ظنوا أن الغرب إن لم يقف إلى جانبهم فإنه سيقدِّم — على الأقل — حلًّا وسطًا، فبادروا إلى عزل يلتسين على الورق، واعتصموا بمبنى البرلمان، وكان الخطأ الثاني أنهم راهنوا على حياد العسكر جيشًا وقوات أمن ومخابرات. بينما كان يلتسين قد أعدَّ انقلابًا عسكريًّا كامل الأوصاف، شاركت في دعمه المباشر الوكالة المركزية للمخابرات الأمريكية. وكان الخطأ الثالث هو الرهان على «الشارع». وقد وقع البرلمان في فخ الإغراء حين استجابت لنداءاتهم مجموعاتٌ مسلحة أقرب للمليشيات قليلة العدد. أما الشارع فلم يكن على استعدادٍ من قريبٍ أو بعيدٍ للانحياز هنا أو هناك. كان الشارع خاوي البطون جائعًا، وهي الحالة المثلى للإحباط واليأس، وكان الشارع لا يفرق في خاتمة المَطاف بين يلتسين وروتسكوي نائبه الأثير.

وخلال أسبوعين من المناورات لم يتوقف الغرب عن تأييد يلتسين ودعمه بكافة الوسائل، لدرجة أن السفارات الغربية «المحترمة» خانت تعهداتها لقادة البرلمان؛ أنهم عند الاستسلام لن يصيبهم أذًى. ولكن الهجوم المسلح لقوى الانقلاب اكتسح فيما اكتسح هذه التعهدات، ولم يترك البرلمان إلا وقد أصبح خرابة محترقة تلوَّثت جدرانها والشوارع المحيطة بها، باللون الأحمر القاني.

وقطع يلتسين عهدًا أمام الرأي العام المحلي والعالمي، بانتخاباتٍ رئاسية مبكرة، وصفق الغرب طويلًا للزعيم «الديمقراطي»، ولكنه بادر إلى حجب الصحف، ومنع أحزاب المعارضة من الاشتراك في الانتخابات النيابية، وتوَّج هذا التراجع المنظَّم بالإعلان المدوِّي؛ لا للانتخابات الرئاسية المبكرة. وكان إعلان حالة الطوارئ فرصة العمر لاعتقال المعارضين. واستمر الغرب في الدعم والتأييد على حساب المبادئ ولمصلحة استراتيجيته القائمة لا على تعميم الاقتصاد الحر، وما يرتبط به من تعددية سياسية، بل على اعتبار المعسكر الاشتراكي السابق سوقًا وغنيمة الحرب الباردة.

ولكن حسابات الغرب ليست دقيقة؛ فالجيش الذي خرج لإنقاذ يلتسين أصبح من حقِّه المكتسَب — كجيوش العالم الثالث — التدخل في السياسة، والقومية الروسية المستأنَسة في ظل الاتحاد السوفياتي السابق لن تعود كذلك، والحنين إلى الحكم القيصري لن يكتفي برومانسية المظاهر، والقوميات المنتشرة داخل الاتحاد الروسي وخارجه لن تكتفي بالحكم الذاتي. والمليشيات المسلحة لن تعود إلى جحورها سواء تحت رايات الاستيراد والتصدير والتهريب والدعارة وتجارة السلاح والمخدرات، أو تحت رايات العِرق والدين والطائفة.

إن سيولة الحالة الروسية أكثر خطرًا من صلابة الحالة الإيرانية، بالرغم من الطابع الشمولي في كلا النظامين؛ فروسيا تهيمن إلى الآن على الجمهوريات المستقلة بما فيها الجمهوريات الإسلامية. وروسيا لا تزال ترسانة مسلحة قادرة على البيع والشراء من الأبواب الأمامية والخلفية. وتحت ذرائع الجِوار والمصلحة والعِرق حينًا والنفوذ التاريخي أحيانًا، تصل بضاعتها الوحيدة — السلاح — إلى أبعد نقطة في الكرة الأرضية. ولا بأس في هذه الحال من تغذية الصراعات القبلية التي تسود العالم. وفي روسيا أيضًا يجتمع إرهاب الدولة الفاشية الجديدة وإرهاب النزعات والنزاعات السلفية في بواطن الشارع الشعبي وخفاياه الدفينة. لذلك فليس الحكم وحده هو المرشَّح لعودة القيصرية في ثيابٍ فاشية جديدة، وإنما أضحت حالة السيولة الجارفة هي التي تفرض إرهابًا مقابلًا من تحت. لم تتناقض الوسائل مع الغايات، فهذه الأخيرة لا وجود لها إذا غضضنا البصر عن الشعارات اللامعة باقتصاديات السوق. أما الديمقراطية فتشهد مذبحتها على فضيحة العصر حين باركها الغرب في صلواته الصباحية والمسائية.

لذلك فالمشهد الروسي المؤهَّل لأن يكون مخزنًا لتصدير الإرهاب الدولي لم يكن بعيدًا في أي وقتٍ عن الخطاب الاستهلاكي المصنَّع محليًّا وعالميًّا. ومن ثَم لم يكن في أي وقتٍ بعيدًا جدًّا عن مأساة البوسنة والهرسك عبر علاقاته المستمرة مع الصرب تحت رايات «سلافية» زاعقة وكاذبة في آنٍ. ولعله من المثير أن يلتقي العالم كله في الساحة اليوغسلافية السابقة حول العاصمة سرًّا وداخلها دون أن يستطيع هذا العالم أن يحقن الدماء المنزوفة على أطلال الفقر للمسلمين والكاثوليك والأرثوذكس، دماء الفقراء من كل الطوائف، هي الحصاد الذي تجنيه إيران وروسيا من خلف الستار ويجنيه الأوروبيون والأمريكيون في مقدمة المسرح بالصمت أولًا، والمسكنات الحضارية (المعونات) ثانيًا، ويمنع المغلوبين على أمرهم من الدفاع عن أنفسهم ثالثًا. والنتيجة ليست تمزيق يوغسلافيا السابقة وحدها بل تمزيق الدولة الصغيرة، البوسنة والهرسك. هذا التفتيت المتعمَّد والأكثر بشاعة من تمزيق قبرص قبل عشرين عامًا، ومحاولة تمزيق لبنان مرورًا بتمزيق فلسطين وأكلها وهضمها هو الجراحة الاستراتيجية للغرب الذي يمضي بمصالحه في طريقٍ معاكس؛ وحدة ألمانيا ثم توحيد أوروبا. بل إن هذا الغرب يقاتل حتى تستقل أيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة (بريطانيا العظمى سابقًا). وكما أن واشنطن تقاتل من أجل الديمقراطية في هايتي، وتدعم الدكتاتورية في روسيا، كذلك قاتلت بريطانيا لضم جزيرة تبعد عنها آلاف الأميال تجاور الأرجنتين، اسمها فوكلاند، كذلك تقاوم فرنسا — كما سبق أن قاومت في الجزائر — استقلال «كاليدونيا الجديدة» القريبة من أستراليا.

يقاتلون من أجل الوحدة بينهم والضم إليهم، ويقاتلون أيضًا من أجل تفتيت الشعوب، والنتيجة الحتمية لذلك هي استمرار الجيش السري الأيرلندي في عملياته المُسماة إرهابية. واستمرار الفِرق المختلفة في مناطق الباسك خاصة إسبانيا. وهكذا يمتد التفتُّت العِرقي من الشرق الأوسط إلى الاتحاد السوفياتي السابق إلى الاتحاد اليوغسلافي السابق إلى العالم بأكمله، ولأن الخطاب الاستهلاكي هو العنوان الصحيح للإرهاب العالمي، فإن أحداث لوس أنجلوس شمال الولايات المتحدة تكاد تكون الرقم الدقيق لهذا الخطاب؛ فأمريكا الشمالية أغنى مناطق العالم وشمالها أغنى مناطقها، ومع ذلك فإن «الفيلم» الذي صوَّره أحد الهُوَاة لحادث الزنجي والأبيض والمحكمة المنحازة و«الخروج الأسود» الكاسح لفترينات المحال التجارية يبرهن على أن هذا الحدث التاريخي بكل ما يدل عليه هذا المصطلح يقطع بأن زعيمة العالم الحر «ما زالت تنهشها العنصرية» وأن البلد الأكثر ثراءً في العالم ما زال قابلًا للتحطيم على صخرة الخطاب الاستهلاكي، وأن مجتمع الجريمة بامتيازٍ ما زال قادرًا على الإرهاب، حتى ولو كانت أدوات هذا الإرهاب مستورَدة من الخارج. ولكن هذا الاحتمال نفسه ضعيف؛ لأن المخابرات الأمريكية التي مارست الإرهاب في أرجاء العالم كافة هي الأداة الأولى والأخطر شأنًا في تهيئة الإرهاب الداخلي الذي راح ضحيته عدة رؤساء أمريكيين. وهي المخابرات التي لعبت دورًا حاسمًا في تربية الكوادر الإرهابية في بلاد أخرى، ثم قامت بتصديرها إلى المناطق الآمنة لهز استقرار النظم الوطنية. وهي التي قامت باستيرادها لاستخدامها «ورقة» عند اللزوم لتأديب من تشاء تأديبه.

ولعلَّه من المفارقات الساخرة في دلالاتها أن بلدًا كفرنسا تأوي آلافًا ممن تدعوهم بالأصوليين الإسلاميين، ثم تمتنع في الوقت نفسه عن إعطاء تأشيرة لبعض علماء المسلمين. ولم يعُد من الأسرار المقدسة أن زعماء الإسلام السياسي تأويهم أكبر عواصم الغرب، وتمنحهم حرية الحركة، وحيِّزًا مدهشًا من الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب. وأيًّا كانت المصالح المباشرة للغرب من أفقٍ ضيقٍ ونظر قصير، كالحصول على المعلومات والتحسب للمستقبل، فإن ما تدَّعيه من ظروفٍ إنسانية وحقٍّ للجوء السياسي لا يثبت على قدميه لحظة واحدة أمام الممارسات الفعلية؛ حيث تدعم نظمًا تهدر حقوق الإنسان يوميًّا، وحيث تحمي رموزًا للإرهاب والنظام الشمولي باسم الدين.

ولقد كانت ألمانيا التي ترحب بالمهاجرين ولا تزال هي المسرح الدموي لوحشية النازيين الجدد في قتل وحرق الأتراك المسلمين على أرضها. ولا تحاول السياسة الألمانية الحاكمة أن تربط بين حماية مخابراتها لعناصر الإرهاب الأجنبية منذ عشرات السنين، وبين ظهور النازية الجديدة كانعدام ربطها بين الإرهاب والاستهلاك. حتى السويد التي كانت مثلًا بين الدول غير العنصرية أمست مسرحًا لجرائم بشعة ضد الأجانب؛ ذلك أن الخطاب الاستهلاكي الداخلي هو الذي يغذي في أوروبا النزعات العدوانية على الأجانب، ويخلق أوكار الإرهاب. كما أن الخطاب الاستهلاكي العالمي هو الذي يغذي في الأقطار الفقيرة المتخلفة نزعات الهجرة الجماعية إلى الشمال؛ حيث يضيفون للإرهاب المحلي في الغرب وقودًا متجددًا وذرائع جاهزة للعنصرية العمياء … فهي دائرة جهنمية مغلقة عنوانها مكتوب بالتفصيل الدموي على الخطاب الاستهلاكي.

ولكن هذه الأبعاد العالمية للخطاب المزدوج — الاستهلاك والإرهاب — لا تنفصل لحظة واحدة عن الأبعاد المحلية التي تشارك بخصوصيتها في صنع الظاهرة العالمية، ولكن هذه الخصوصية هي التي تستوجب إمعان النظر فيما يجري فوق أرضنا.

۷

لعل النشأة الأولى للخطاب الاستهلاكي هي تلك البيئة قبل الرأسمالية، وما قبل النقود، أي حين كان يتم التبادل السلعي بأسلوب المقايضة. في ذلك الوقت كان الخطاب استهلاكيًّا بدائيًّا على طريقة «من اليد إلى الفم». أما مجتمع الإنتاج الذي اكتشف النقود على نطاقٍ واسعٍ فقد عرف معنى التراكم. وتلازم الإنتاج والاستهلاك منذ ذلك الوقت في توازنٍ يختل أحيانًا حسب أحوال «السوق».

لم يعرف الخطاب الاستهلاكي القديم فكرة الإرهاب الحديثة، لأنها — هذه الفكرة — اقتصرت على جانبٍ واحدٍ هو جانب كبار الإقطاعيين من الفرسان والنبلاء والرهبان من كاردينالات الكنيسة في العصور الوسطى الأوروبية، أو من الملتزمين وعساكر الوالي في العصور العثمانية.

أما الإرهاب الحديث فقد نشأ برفقة التحولات الراديكالية في العصور الحديثة لفكرة الدولة، سواء بواسطة الثورة الفرنسية أو بواسطة الثورة الروسية أو بواسطة ولاية محمد علي باشا على السلطة في مصر، فيما يُعرَف بثورة ١٨٠٥م.

كان هذا أولى بدايات إرهاب الدولة الذي خفَّف من غلوائه ليبرالية الغرب الاقتصادية والسياسية، وشدَّد من قبضته شمولية الستالينية في الشرق، وضاعفت من وحشيته نظم الحكم العثماني في ولايات الإمبراطورية ومن بينها مصر، وكان هو النظام العالمي الوحيد الذي يرتدي عباءة الدين. وبينما كانت المجتمعات الرأسمالية البازغة في الغرب تستطيع أن تنظم العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك عبر السوق فتغدو المبادرة الفردية حافزًا للعرض والطلب، فإن المجتمعات الاشتراكية البازغة كانت تستطيع سد خانات الكَفاف بتوزيع الإنتاج الضعيف والخدمات القوية. ولذلك كان قمع الاستهلاك مضمرًا في خطاب الحرية البرجوازية، ومضمرًا كذلك في الخطاب الأيديولوجي للبروليتاريا.

أما في بلدٍ كمصر، فقد كان الخطاب الاستهلاكي عاريًا من ورقة التوت. كان الأوروبيون في «عصر حديث»، سواء بالإنتاج أو بالتراكم، بالدولة القومية أو بالدولة الاشتراكية. أما في بلادنا فقد كنا نعيش عصرًا ممتدًّا من العصور الوسطى بأغلب ملامحها؛ إمبراطورية تتفكك تعتمد مواردها على استنزاف الولايات التابعة الفقيرة المقهورة المتخلفة. وقد أتيح لمصر أحد الولاة التاريخيين الذي أراد الاستقلال بها عن الإمبراطورية المتداعية الأركان؛ فقامت نهضتها خلال المقاومة على جبهتين: من أجل الشرعية، ومن أجل التحديث. الاستقلال في إطار الشرعية الدينية، وليست الخلافة بالضرورة مرادفًا وتجسيدًا لها. وقطع المسافة بين التخلف والتقدم، وأوروبا بالضرورة أحد مصادره، سواء في نظم الإدارة والتجارة والصناعة والحرب والتعليم، أو في الأفكار التي تدور حول إعمال العقل.

ولم تعرف بلادنا النهضة في خط مستقيم أو في خط حلزوني، فقد كان ما يبنيه محمد علي يهدمه عباس والأوروبيون (اتفاقية ١٨٤١م) وما يبنيه إسماعيل يهدمه توفيق والأوروبيون (الاحتلال البريطاني ۱۸۸۲م) وما يبنيه مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول (ثورة ۱۹١٩م، دستور ۱۹۲۳م) يهدمه الملك فؤاد والإنجليز. وما يبنيه جمال بعد الناصر يهدمه أنور السادات والإسرائيليون والأمريكان. وهكذا كانت مراحل النهضة قصيرة غاية القِصر، ومراحل السقوط أطول. وفي يونيو (حزيران) ١٩٦٧م كان الرصيد دائنًا، ليس على حساب نظام بعينه، وإنما لحساب التراكم الشامل لأزمنة السقوط، فقد فازت على النهضة في خاتمة المَطاف.

ولم تكن الهزيمة حاصل جمع أزمنة السقوط وحدها، وإنما كانت أولًا بسبب جرثومة السقوط في النهضة ذاتها.

كانت النهضة في أكثر عهودها ازدهارًا حاصل جمع السلفية والتغريب. ولكنها السلفية التي تعني البحث عن المبادئ، والشرعية التي تسوِّغ استهلاك تكنولوجيا الغرب لإقامة بِنية إنتاجية. والتغريب الذي يعني تبني القِيَم العامة التي لا يكون الإنتاج من دونها، أي قيم التفكير العلمي في تطوير مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي. فليست السلفية في معادلة النهضة مرادفًا لما ندعوه الآن بالإسلام السياسي، ولم يكن التغريب مرادفًا لاحتذاء أوروبا، وقد كان أمرًا مستحيلًا. وقد كانت النهضة توءم الثورة من أجل الاستقلال الوطني في لحظات صعودها، وكان السقوط حين يحدُث تعبيرًا عن الهزيمة في مقاومة الأجنبي.

وكانت جرثومة السقوط الكامنة في قلب النهضة هي عملية «التوفيق» بين السلفية والتغريب؛ فلم يكن ثمة تركيب لعناصر النهضة المطلوبة من أصول الاحتياجات الحقيقية للتقدم في اتجاه التقدم بالوطن ومجموع الشعب. وكان المشهد الكامن تحت السطح هو الانقطاع التاريخي بين ذروة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وصدمة اللقاء بالغرب. وهو الانقطاع الذي ملأته الخلافة العثمانية بسطوتها وشرعيتها الدينية وتخلُّفها الذي آلت إليه. وهو التخلُّف الذي لم يحُل دون فتوحاتها العسكرية الواسعة، ولكنه حال بشكلٍ أكيد دونها والكشوف العلمية والتقنيات التكنولوجية والفتوحات الفكرية والاجتماعية لانعدام الصلة بينها وبين ما كانت قد وصلت إليه حضارة الإسلام من إنجازات باهرة في العلوم والرياضيات والفلسفة. ولكن النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للخلافة العثمانية لم يرِث هذه الإنجازات العملاقة في تاريخ الحضارة الإنسانية، بل عمل على تبديد التركة العظيمة. واعتمد بدلًا من ذلك على التحالف بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة الدينية. بينما كانت أوروبا أول «من ورث» منجزات الحضارة الإسلامية، وتقدَّم بها حتى سقوط الأندلس، وبدءًا من عصر نهضتها إلى العصر الحديث. وبرهن التاريخ مرة أخرى على أن تعويض سقوط الأندلس بالفتوحات العسكرية لا يعني شيئًا طالما غابت الفتوحات الحضارية الأكثر أهمية في تقدُّم الشعوب. هذه الفتوحات التي تفضي حتمًا إلى الفتوحات العسكرية؛ وهو ما حدث.

هذا الانقطاع التاريخي عن جذوة توهُّج الحضارة الإسلامية كان من شأنه أن يجعل من ابن خلدون وابن رشد ميراثًا عقليًّا لأوروبا، بدلًا من أن يُسهِما في تطوير العقل العربي الإسلامي. أضربهما كمَثَلين بارزين في مجال العلوم الإنسانية (التاريخ الاجتماعي والفلسفة). ومن ثَم فقد كان الفكر الإسلامي الذي يتعيَّن التوفيق بينه وبين قيم الحضارة الجديدة الوافدة في مركزٍ ضعيفٍ شديد، لا بسبب المقومات الأساسية لهذ الفكر، وإنما بسبب المكونات الدخيلة عليه من عصور الانحطاط والآليات التي تمحورت في تركيبه العام من أزمنة التخلف. كان هذا الفكر المرتبط بتخلف المسلمين بعيدًا عن عصور ازدهارهم قد استحال قِيَمًا وسلوكًا وأنماطًا للتفكير، وضوابط للشعور والعادات والتقاليد بين الناس. ولم تكن المدونات وحدها مصدر هذا الفكر بما تشتمل عليه من فتاوى الفقهاء لتبرير كل ما يأتي به السلطان من أفعال. وإنما كانت هناك أكوام من الخرافات وأكداس من الشعوذات التي لا علاقة لها بالقرآن والسنة. هذا هو الفكر الذي أوصلته وحافظت عليه السلطة العثمانية في أدمغة مواطنيها وخيالاتهم وقيمهم المعيارية. لذلك كانت الشرعية ضرورية لإسباغها على تحديث محمد علي وغيره، شرعية الأخذ بمنجزات التقنية الغربية أي شرعية «تسخير» ما ينتجه الغرب لاستهلاكنا؛ كانت إذن شرعية الاستهلاك.

كانت هذه هي بداية الخطاب الاستهلاكي في عصرنا الحديث. وهي بداية مغايرة تمامًا لما جرى في أوروبا لمحتوى هذا الخطاب. كان لا بد من إقناع الناس بأن منجزات الآخرين (الكفرة) مسخَّرة لخدمتنا، ولا يتناقض استهلاكها مع صحيح الدين، وأنها ليست من أعمال العفاريت أو الشياطين، بل من صنع بشر مثلنا، وعلومهم التي نتعلم بعضها نأخذ منها ما «ينفعنا» ونرفض ما يتنافى وعقيدتنا وتقاليدنا. وكان لا بد من أن يقوم بهذه المهمة الصعبة الأزهريون الكبار من الشيخ حسن العطار إلى الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى الشيخ محمد عبده. ولم تخرج اجتهاداتهم جميعًا على التسويغ الشرعي لاستهلاك التكنولوجيا الغربية وتأصيل ذلك في النصوص الدينية المعتمَدة. ولما كان الطهطاوي قد مضى شوطًا أبعد مما دعوناه بالإصلاح الديني في وصف محمد عبده فقد استطاع أن يصل بالترجمة والمطبعة والتأليف إلى بداية البدايات في تأسيس المجتمع المدني، وبالرغم من الفجوات الدورية بين انتصارات النهضة وانكساراتها المطلوبة، فقد تمكَّنت بذور الطهطاوي من أن تجد من يتعهد بعضها بالري كعلي مبارك، وبعضها الآخر بالنمو كسعد زغلول تلميذ محمد عبده، وكطه حسين تلميذ أحمد لطفي السيد، وكعلي عبد الرازق تلميذ الأزهر وشيخه الأكبر فيما بعد. تلك كانت إحدى ذروات النهضة ردًّا على إجهاض الغرب لمبادرات إسماعيل (مجلس الشورى ومسودة الدستور) عام ١٨٦٦م، وردًّا على إجهاض توفيق والإنجليز للثورة العرابية. ولكن ما إن اقترب طه حسين من «العقل»، وما إن اقترب علي عبد الرازق من الحكم، بعد سقوط الخلافة العثمانية في مهدها، حتى كانت النهاية المزدوَجة؛ ضرب العقلانية بمحاكمة طه حسين وعلي عبد الرازق ومصادرة كتابيهما (في الشعر الجاهلي، والإسلام وأصول الحكم)، وولادة التنظيم السياسي الأول لدعاة الدولة الدينية (جماعة الإخوان المسلمين). تم ذلك خلال ثلاث سنوات (١٩٢٥م، ١٩٢٦م، ۱۹۲۸م). وكانت دلالته البعيدة المدى هي أن جرثومة فساد النهضة من داخلها قد كبرت وأعلنت عن نفسها في انفراط معادلة النهضة من أساسها التوفيقي؛ فالسلفية أضحت راديكالية لا ترضى باقتصار الفتوى على تسويغ الحداثة الغربية، وإنما لا بديل للشرع عن اكتماله في نظام الحكم. كذلك فإن الضرورات العملية لاستهلاك التكنولوجيا لا تقتضي الأخذ بأفكار الآخرين أيًّا كان الآخرون، وأينما كانوا، مهما كانت هذه الأفكار الدنيوية والقيم الموضوعية.

منذ تلك اللحظة في أواسط العشرينيات اقترن على الفور الخطاب الديني بالخطاب الاستهلاكي اقتران وجهَي العملة الواحدة. وشاع تحريم الحرية الفكرية؛ ذلك أن «التوفيق» بين ما سُمِّي تراثنا وما سُمِّي الحداثة الغربية كان من الهشاشة والبراجماتية بحيث لم يصمد عند أول احتكاك بين العقل والجمهور الواسع. فليس ازدهار الإخوان المسلمين حينذاك قادمًا من فراغ، ولم تكن محاكمة طه حسين وعلي عبد الرازق ضد «الرأي العام» أو «الجماهير»، وإنما كانت جرثومة الفساد كامنة في عملية التوفيق «ذاتها». وبانتصار السلفية الراديكالية في الإعلان عن نفسها، ثم الالتفاف الجماهيري من حولها، لم يعُد الأمر مجرد محاكمات برلمانية أو صحفية أو أزهرية لطه حسين وعلي عبد الرازق، أو مجرد ردود فقهية عليهما أو مصادرتهما. وإنما أضحى الأمر ردًّا ثقافيًّا سياسيًّا شعبيًّا، يتجاوز الأفراد إلى المجتمع، ويتجاوز المؤلَّفات إلى إعداد البديل للدولة شبه المدنية.

وقد أراد روَّاد النهضة المحدثون في الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن أن ينازلوا روَّاد السلفية الراديكالية على أرضهم، فكتب طه حسين إسلامياته، وكتب العقاد عبقرياته، وكتب هيكل والحكيم وأحمد أمين. ولكن هذه المقاوَمة الجسورة لم تؤثر في غير النخبة، أما الشارع الشعبي فقد ظل نهبًا للخطاب الاستهلاكي-الديني الذي يُعنى نظريًّا بالآخرة، ويلتمس العزاء في الدنيا بالقيم اللاعقلانية والحكم المطلَق، وخيرات الغرب المسخرة لاستهلاكنا دون إنتاج.

ولما حاول جمال عبد الناصر أن يعيد الاعتبار للدولة المدنية، وحاول أيضًا أن يؤسس ثنائية جديدة للنهضة تقول بالقومية العربية والعالم بدلًا من التراث والعصر، فإنه أنشأ المدخل ولم يتم البناء. ولم يتجاوز نظامه — بالرغم من إنجازات الهيكل الإنتاجي الجديد — الحدود الوسطية لمعادلة النهضة القديمة. ومن ثَم كانت الفجوة بين التنمية الثقافية والتنمية الاقتصادية، بحيث تمكنت السلفية الراديكالية من البقاء بالرغم من الضربات الأمنية الموجعة. كان الخطاب الاستهلاكي مضمرًا في الخطاب الديني الشائع، وكان الخطاب الديني قادرًا بذيوعه الشعبي الواسع عبر الإعلام والتعليم والأمية ومحاربة اليسار على الالتفاف من أسفل حول جذور الدولة المدنية. وعند أول رياح عاتية بالهزيمة ورحيل الناصرية كان من الطبيعي أن يكشف الخطاب الديني عن وجهه الاستهلاكي.

ليس ذلك فقط، وإنما كان هذا الخطاب قد ارتبط منذ بدايته بالإرهاب الدموي منذ الأربعينيات إلى اليوم.

٨

ارتبط الخطاب الاستهلاكي بالإرهاب في مصر خلال مفهوم «الجهاد» الذي نادت به جماعة الإخوان المسلمين وبعض الأحزاب الوطنية في فترات متقاربة، ولكن عام ۱۹۲۸م في جميع الأحوال سيظل نقطة بارزة بظهور الإخوان المسلمين. وبالرغم من أن الحزب الوطني و«مصر الفتاة» لم تكن أحزابًا دينية إلا أن الطابع العثمانلي للحزب الأول، والطابع العسكري للحزب الثاني، لم يبتعد بهما عن مفهوم الجهاد. واقترنت منذ ذلك الوقت بين الثلاثينيات والأربعينيات التنظيمات التي داعبت الفاشية والنازية بعمليات الاغتيال السياسي.

كانت أنوار ثورة ١٩١٩م قد أشاعت مناخًا من الحرية الفكرية والسياسية، وما إن تم إجهاضها بالخروج عن الدستور وتقييد الحريات حتى ازدهرت الدعوات الأوتوثيوقراطية التي تمنح العرش صلاحيات مطلَقة. ثم أقبلت الأزمة الاقتصادية العالمية التي انعكست على مصر من خلال تبعيتها الاقتصادية انعكاسات حادة، كان من شأنها إنعاش مفهوم الجهاد عبر الخطاب الاستهلاكي-الإرهابي. ولم تكن مصادفة أن يجرؤ إسماعيل صدقي على الانقلاب الدستوري بإلغاء الملك فؤاد لدستور ۱۹۲۳م واستبدال دستور ۱۹۳۰م به حتى كانت «المسألة المصرية» في عنق الزجاجة.

ولم يكن ثمة التباس فيما يمكن تسميته بالإرهاب الوطني إلا قليلًا، حيث كانت النازية الألمانية والفاشية الإيطالية في صعودها البطيء نحو السلطة والحرب. وكانت المشاعر الوطنية ضد الاحتلال البريطاني قد اختلطت بسطوع نجم هتلر ونجم موسوليني حتى منتصف الأربعينيات. ومن ثَم كان «العنف» الذي اهتدى إليه الإخوان المسلمون في التدريب العسكري للشباب تحت راية الكشَّافة، و«العنف» الذي اهتدت إليه «مصر الفتاة» في تجنيدها لِفِرق «القمصان الخضر».

وليس من المصادفات أيضًا أن تلك الفترة هي التي شهدت في لبنان مولد «حزب الكتائب» الذي درَّب شبابه في ذلك الوقت المبكر تحت راية «الكشَّافة»، ولكنها في واقع الأمر كانت كتائب عسكرية، وكانت هي النواة التاريخية للمليشيات الطائفية المسلحة في حرب لبنان.

وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد تلقَّت عند نشأتها الأولى تبرعًا من الشركة العالمية لقناة السويس مقداره خمسمائة جنيه، وبالرغم من العلاقات الودية المتقطعة مع الإنجليز، فإن الكتائب المسلحة للإخوان وجدت فرصتها في حرب فلسطين لتنفيذ مفهوم الجهاد، باعتبار فلسطين جزءًا محتلًّا من دار الإسلام، وكانت إحدى الفِرق الوطنية الأخرى قد وجدت فرصتها في اغتيال السير لي ستاك والوزير أمين عثمان.

وبالرغم من العلاقات الودية شبه المستمرة بين الإخوان المسلمين والعرش وأحزاب الأقليات السياسية، فإن الاغتيال السياسي من جانب الإخوان لم يُصِب في واقع الأمر سوى الرموز الكبرى لهذه الأحزاب كاغتيال أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي الذي أدَّى إلى رد الفعل المضاد باغتيال حسن البنا.

وإذا كان الإخوان قد اشتركوا مع الفِرق الوطنية المتطرفة في استخدام العنف وكراهية حزب الأغلبية الشعبية (الوفد)، فإن الذين حاولوا اغتيال النحاس باشا كانوا من الفِرق المتطرفة وليسوا من الإخوان. وما إن ألغى النحاس معاهدة ١٩٣٦م حتى انضم الإخوان وغيرهم إلى الحرب الفدائية على ضِفاف القنال عام ١٩٥١م.

وباستثناءات نادرة كانفجار قنبلة في سينما «مترو» أو الاعتداء على بعض الكنائس يمكن القول إن أزمة الثلاثينيات التي امتدت إلى الأربعينيات لم تكن فحسب أزمة اقتصادية-اجتماعية طاحنة، بل كانت أزمة النظام السياسي ككل، فلم يعُد هذا النظام قادرًا على التعبير عن مجمل التطورات التي أعادت تشكيل القوام الاجتماعي المصري. كان النظام الذي تدعمه قوى الاحتلال والعرش وكبار الملاك قد أصبح آيلًا للسقوط. ولم تكن القوى الوطنية قادرة بعد إجهاض اللجنة التنفيذية للطلبة والعمال عام ١٩٤٦م، وسقوط فلسطين في العام التالي، أن تشكِّل البديل؛ ومن هنا كانت «الأزمة» العاتية التي عبَّرت عن نفسها في الاستقطاب بين اليمين واليسار من ناحية، وبروز الخطاب المزدوج للاستهلاك والإرهاب من ناحية أخرى.

وإذا كان هذا الخطاب في حركته قد استخدم آليات مفهوم الجهاد عبر الخطاب الديني فقد ظل العنف في هذا الإطار محصورًا بين الاشتراك في حرب تحرير دار الإسلام من جهة، والاغتيال السياسي من جهة أخرى، ولم يتجاوز هاتين المنطقتين إلا في أضيق الحدود.

كانت الحرب الفدائية على ضفاف القنال ذروة الازدواجية بين الجهاز الوطني الفاعل في صفوف الشعب (حكومة الوفد) وبين السلطة المتداعية للاحتلال والعرش وكبار الملاك. ولم يكن الجهاز الوطني نفسه خاليًا من هذه الازدواجية ذاتها بين الطليعة الوفدية المتجهة يسارًا، وكبار المُلاك المتوجهين يمينًا. وكان لا بد من أن تصل هذه الذروة بمعزلٍ عن الحركة الوطنية، إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه؛ الانفجار، وليس الثورة.

وفي ٢٦ يناير (كانون الثاني) عام ١٩٥٢م عرفت مصر أكبر حادث إرهابي في تاريخها الحديث؛ حريق القاهرة.

وقد اختلف المؤرخون واتفقوا، وسوف يختلفون ويتفقون في المستقبل حول هذا الحادث الحدث، ولكن أحدًا لن يماري في أن النيران المشتعلة في منطقة القناة كان لا بد أن تطفئها نيران القاهرة. وسواء أكان الجالس على العرش والإنجليز أو بعض الفِرق الوطنية قد اشتركوا جميعًا دون تنسيقٍ في إحراق القاهرة، فقد اشتعلت النيران عمليًّا في ثيابهم وأجسادهم وأرواحهم للمرة الأخيرة، ولم يكن الرماد الذي تخلَّف عن الحريق سوى رماد النظام بأكمله.

أي أنه إذا كان العرش والإنجليز قد اتفقوا بليلٍ على إحراق الفدائيين بنيران القاهرة، فقد جاء الحريق على العرش والاحتلال بعد أشهر قليلة. وإذا كانت بعض الفِرق الوطنية قد شاركت دون قصدٍ أو تنسيق، فقد أحرقت النيران أصابعها، باعتبارها — حتى لو كانت في صفوف المعارضة السرية أو العلنية — كانت جزءًا من النظام الآيل للسقوط.

ولكن عينًا أخرى يجب أن تسجل هذا الحريق التاريخي من أسفل؛ فهو لم يكن مجرد احتراقٍ لسلطة محاصَرة أو معزولة، وإنما كانت الفاترينات اللامعة والمحلات «الراقية» والسينمات الملعلعة والبنايات الفاخرة والشوارع المغسولة هي محط أنظار الذين سلبوا ونهبوا وسرقوا واختفوا في الطوفان.

إنه الإرهاب، وليس الثورة، بل هو إسقاط لنظامٍ وإجهاض لثورة، ولكن هذا الإرهاب الجماعي (أو الفوضى) كان عنوانًا دقيقًا لقمع الخطاب الاستهلاكي المنظم. وهو الخطاب الذي أعلن بأفصح بيانٍ إفلاسَ النظام والمعارضة الوطنية معًا. وهو الخطاب الذي حمل أسفله توقيعات الجميع بدءًا من السراي والاحتلال والحكومة، وانتهاءً بقطاعاتٍ لا يُستهان بها من الشعب نفسه. لأهدافٍ متناقضة امتدَّت الأيدي بالبنزين وأعواد الثقاب، وامتدت الأيدي الأخرى بالسلب والنهب في مشهدٍ أسطوري كأنه يوم القيامة.

ولكنه كان يوم السقوط المدوي. أغلقت الأبواب في وجه حرب التحرير، ولم تعُد الاغتيالات الفردية ذات معنًى؛ فكان الإرهاب الجماعي نفيًا للأهداف المعلَنة: إرهابًا للذات والآخر، إرهابًا «للأشياء» ودلالاتها، إرهابًا من اللاوعي الجمعي للوعي الزائف، وإرهابًا من الوسائل لغاياتٍ مختلَطة وشبه معدومة.

وفي ظل الفجوة بين السقوط الفعلي للسلطة والثورة معًا، وفي ظل الفراغ الأسود حيث لا فراغ في السياسة؛ كانت هناك مجموعة من الضباط أقبلت أساسًا من إخفاق حرب فلسطين لتحرير دار الإسلام، ومن إخفاق الاغتيالات الفردية ومن أفكار الإخوان المسلمين ومن المشاعر الوطنية المختلطة بالنازية والفاشية، وفي الأغلب من عائلات متوسطة وأدنى من المتوسطة، وأساسًا من الجيش والانضباط العسكري والتنظيم السري، ومن أزمة شاملة في الدولة والمجتمع.

وكان يسيرًا على هذه المجموعة من العسكريين الشباب أن تلتقط السلطة الملقاة في عرض الطريق، وكان صعبًا لغاية الصعوبة أن تواجه خطاب الاستهلاك الملتبس في المخيِّلة الشعبية بالإرهاب، وأن تواجه الإرهاب الملتبس في المخيلة الوطنية بمفهوم الجهاد.

۹

بالرغم من أن ضباط يوليو (تموز) لم يكونوا مجموعة من الإرهابيين، إلا أن بعضهم قد مارس الإرهاب قبل الثورة بالقول أو بالفعل أو بالتمني، واثنان منهم وصلا إلى قمة السلطة، ولم يكن ماضيهما منزَّهًا عن هوى الإرهاب. أما أنور السادات فلم يعُد من غوامض التاريخ أنه كان عضوًا في تنظيمٍ سري للاغتيالات السياسية. وهو التنظيم الذي نجح مرة في قتل الوزير أمين عثمان، ولم ينجح مرتين في مقتل رئيس الوزراء مصطفى النحاس. ولم يكن السادات بعيدًا عن شبهة الارتباط بالنازية الألمانية، كما كان كغيره من العسكريين المصريين بزعامة عزيز المصري الذي اتجهت عواطفه نحو «المحور» في زمن الحرب، وسقطت به الطائرة التي كان يزمع الهرب بها قرب قليوب.

وأما جمال عبد الناصر، فإنه يقدِّم للتاريخ وثيقة مكتوبة عنوانها «فلسفة الثورة» يقول في جزئها الثاني «حرفيًّا» بدأ اتجاهنا اتجاه جيلٍ بأكمله إلى العنف. وأعترف أن الاغتيالات السياسية توهجت في خيالي المشتعل في تلك الفترة على أنها العمل الإيجابي الذي لا مفر من الإقدام عليه إذا كان يجب أن ننقذ مستقبل وطننا. وفكرت في اغتيال كثيرين وجدت أنهم العقبات التي تقف بين وطننا ومستقبله. ورحت أحصي جرائمهم، وأضع نفسي موضع الحكم على أعمالهم، وعلى الأضرار التي ألحقتْها بهذا الوطن، ثم أشفع ذلك بالحكم الذي يجب أن يصدر عليهم. وفكرت في اغتيال الملك السابق وبعض رجاله الذين كانوا يعبثون بمقدساتنا، ولم أكن وحدي في هذا التفكير. ولما جلست مع غيري انتقل بنا التفكير إلى التدبير. وما أكثر الخطط التي رسمتها في تلك الأيام، وما أكثر الليالي التي سهرتها أعد العُدة للأعمال الإيجابية المنتظرة. كانت حياتنا في تلك الفترة كأنها قصة بوليسية مثيرة، كانت لنا أسرارٌ هائلة، وكانت لنا رموز، وكنا نتستر بالظلام، وكنا نرص المسدسات بجوار القنابل، وكانت طلقات الرصاص هي الأمل الذي نحلم به، وقمنا بمحاولاتٍ كثيرة في هذا الاتجاه، وما زلت أذكر حتى اليوم انفعالاتنا ومشاعرنا ونحن نندفع في الطريق إلى نهايته.

ثم يصوِّر جمال عبد الناصر إحدى هذه المحاولات التي عاد منها راجفًا من أن تكون الضحية قد لقيت مصرعها، ولكنه في الصباح استعاد هدوءه حين أيقن من أن «الهدف» لم يُصَب، ثم بدأت فكرة الاغتيال تتلاشى تدريجيًّا، وتحل مكانها فكرة الثورة.

ولكن هذا لا يمنع أن التكوين النفسي في إحدى أخطر مراحل العمر قد سيطرت عليه فكرة الإرهاب، وإذا أضفنا التأثر العميق خلال سنوات الإعداد للانقلاب الثوري بأفكار الإخوان المسلمين ومصر الفتاة والحزب الوطني. وإذا أضفنا كذلك المناخ العام المواتي للإرهاب بدءًا باغتيال اثنين من ألمع رؤساء الوزارات وانتهاءً بحريق القاهرة، وإذا أضفنا أخيرًا التربية الانضباطية الصارمة في الجيش عمومًا والتنظيم السري خصوصًا، نستطيع أن نتصور على أي وجه من الوجوه كانت ستصبح الحياة السياسية في مصر بعد الثورة. كان إسقاط النظام القديم يعني للضباط الشباب إسقاطًا لبِنيته السياسية ومنظومتها القِيَمية وآلياتها القانونية والدستورية جميعًا. لذلك كان إلغاء الأحزاب سابقًا على إلغاء الملكية ذاتها بالرغم من بقاء الاقتصاد الحر مفتوحًا على مصراعيه طيلة عشر سنوات بعد قيام الثورة. ولذلك أيضًا كان إلغاء الدستور موازيًا لإعلان الحزب الواحد المتعدد الأسماء. وجاء إعدام عاملَين في مصانع كفر الدوار يتزعمان مظاهرة سلمية تطالب بحق الإضراب سابقًا بعامين على هتاف العمال في أزمة مارس (آذار) ١٩٥٤م ضد الحريات الديمقراطية. وجاءت مذبحة الجامعة بفصل أربعة وخمسين من أساتذتها اللامعين لتواكب ضرب قاضي القضاة في مجلس الدولة، وفرض الرقابة على كافة وسائل النشر، حتى انتهى الأمر تدريجيًّا «بتطهير» نقابة الصحفيين من أسماء المعارضين ثم «تنظيم» الصحافة كليًّا بتأميمها عمليًّا. وأقبلت منذ البداية، بداية النظام الجديد، الاعتقالات الدورية لمختلف القوى الحية في المجتمع السياسي حتى اليوم الأخير في حياة هذا النظام.

ولكن البداية الحقيقية كانت عام ١٩٥٤م، لم يقع خلاله فحسب الصراع الكبير على السلطة والتحوُّل النهائي بها إلى الحكم الأوتوقراطي الشمولي. بل وقع حادِثان في هذا العام المشحون بالأحداث الجسام سيفرد أحدها ظلَّه بل ظلاله على تاريخ مصر المعاصر، والآخر يبدو هامشيًّا من خارجه، ولكنه لم يكن كذلك من داخله.

أما الحادث الأول فهو محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ساحة «المنشية» بالإسكندرية، وهي المحاولة التي ثبت أنها من إعداد الإخوان المسلمين وتنفيذهم. وكان الرد الفوري هو إعدام ستة من أقطابهم، وسجن واعتقال عدة ألوف من كوادرهم وأنصارهم.

وأما الحادث الثاني فهو قيام ستة شبابٍ للمرة الأولى في تاريخ الكنيسة المصرية باختطاف البطريرك يوساب الثاني من المقر البابوي تحت قوة السلاح، واستصداره تنازلًا بتوقيعه عن منصبه الرئاسي وإيداعه أحد الأديرة.

وبالرغم من أن جمال عبد الناصر نجا من الاغتيال، وبالرغم من أن الأنبا يوساب عاد إلى مقره، وحوُكِم الجناة في الحادَثين وعوقبوا، بعضهم بالموت والبعض الآخر بالسجن، إلا أن الظلال المشتركة للحادِثَين امتدت والمضاعفات استطالت.

ومن الواضح أن «مفاجأة» الشباب القبطي الشديدة الاستثناء كانت في جوهرها تقليدًا أعمى لفكرة الانقلاب الثوري الذي نفَّذه الضباط الأحرار. ولكن هؤلاء الشباب لم يدركوا أن الضباط وهم يخططون وينفذون كانوا ينطلقون من داخل مؤسسة هي التي استولت فعلًا على السلطة في البلاد. والكنيسة ليست دولة داخل الدولة، بل هي إحدى مؤسسات هذا المجتمع الذي آلت دولته إلى سلطة يوليو (تموز)؛ ومن ثَم فأي تحرُّك، حتى ولو كان قبطيًّا محضًا، لا يمس الكيان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي للدولة الجديدة، فإنه يُعامَل باعتباره خروجًا على الشرعية، ليست الشرعية الكنسية وحدها، بل شرعية الدولة المصرية أولًا؛ لم يخطر هذا الخاطر ببال الشباب القبطي مطلقًا، ولم يتخيلوا قَط أن الشرعية البابوية جزءٌ من شرعية الدولة. بدليل أنه بعد حينٍ من الوقت حين قرر المجمَع المقدس إبعاد البابا يوساب نفسه عن السلطة الكنسية نظرت الدولة إلى الأمر باعتباره من الشئون الداخلية للأقباط، ولكنها «الشئون الداخلية» في إطار الشرعية الدستورية للدولة المصرية.

وهكذا اشترك إبراهيم هلال الشاب القبطي الذي قاد اختطاف البطريرك، ومحمود عبد اللطيف الذي صوَّب رصاص مسدسه إلى جمال عبد الناصر في صفة كاملة الأوصاف هي: الإرهاب. ولكن، لنتأمل ما تحت السطح بعيدًا عن «الحدث الجلل» هنا وهناك. محمود عبد اللطيف عضو التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين بشعارها التقليدي «القرآن دستورنا والرسول زعيمنا والجهاد في سبيل الله أسمى أمانينا»، وإبراهيم هلال قائد «جماعة الأمة القبطية» المنظمة، التي وُلدت فجأة في حادث واحد، وشعارها «الإنجيل دستورنا، والمسيح زعيمنا، والجهاد في سبيل الرب أسمى أمانينا.»

وإذا كان الإخوان المسلمون بعيدين في تحركهم عن المؤسسة الدينية الرسمية — الأزهر — فإن جماعة الأمة القبطية كانت — رغم قِصر عمرها — في مواجهة المؤسسة الدينية الرسمية؛ الكنيسة. وبينما كان الإخوان المسلمون يتمتعون بقدرٍ من الشعبية، فقد كانت الحركة القبطية معزولة وشبه مجهولة، وتلقى على العكس مقاومة شديدة من الأقباط. وبينما استمر الإخوان المسلمون بالرغم من القمع العنيف سواء داخل السجون أو خارج البلاد، فقد انفرطت الحركة القبطية فور اعتقال قادتها.

غير أنه يجمع بين جماعة الإخوان المسلمين ذات الوزن السياسي والعسكري وجماعة الأمة القبطية ذات الحجم الرمزي والنوعية الكاريكاتورية اشتراكهما في دلالاتٍ واحدة أهمها؛ استخدام الاثنين لأسلوب العنف المسلَّح — أي الإرهاب — في محاولة تحقيق الهدف، واختيارهما لرمز السلطة (السياسية في حالة الإخوان والدينية في حالة الأقباط) هدفًا للتغيير العنيف. والدلالة الثالثة والأخيرة إقامة دولة دينية في حالة الإخوان المسلمين، ودويلة طائفية في حالة «الإخوان الأقباط»، والحالة الأخيرة تعني نظريًّا — أي فكريًّا وشعوريًّا — الانفصال من خلال حرب أهلية.

والحالة القبطية في سيرتها القصيرة كانت دون شكٍّ مجرد رد فعل لم يتكرر، تأثَّر بأسلوب الضباط الأحرار في الاستيلاء على الحكم من ناحية، وفوران الدعوة إلى دولة دينية من جانب الإخوان المسلمين من ناحية أخرى. وقد كان المناخ العام الذي كرَّسته أوتوقراطية الحكم الشمولي هو الذي رسم بداية ونهاية الحركة القبطية، بالإضافة إلى أن العقل الجمعي للأقباط كان وما زال يرى نفسه جزءًا لا يتجزَّأ من العقل الجمعي المصري يعتنق «إيمانًا» يرسخ العقيدة بوحدة الشعب والأرض (الوطن)، ويرفض العنف من حيث المبدأ؛ لذلك انتهت الحالة القبطية في مهدها. وبرهن التاريخ القريب بعد مرور ربع قرن على حادث ١٩٥٤م أن الفعل الفاضح والفادح الذي يفترِض استفزازًا للأقباط من جانب دولة السادات والجماعات الإسلامية لا يجد في أسوأ الظروف ردًّا عنيفًا من جانب الأقباط، لقد وقعت أحداثٌ جسيمة في السبعينيات والثمانينيات، وما زالت أصداؤها في التسعينيات تكوي القلوب وتفري الأكباد وتشوي الذكريات شيًّا، ولكن ردود فعل الأقباط التزمت حدود العقل الوطني العام.

أما حركة الإخوان المسلمين فقد تفاعلت مع المناخ العام لنظام الأوتوقراطية الشمولية على نحوٍ مختلف. كان إرهاب الدولة تثقل وطأته على الشارع السياسي دون الشارع الشعبي الذي عرف للمرة الأولى نوعًا من التوازن بين خطاب الإنتاج وخطاب الاستهلاك، بعد تمصير الشركات الأجنبية وفي مقدمتها الشركة العالمية لقناة السويس، وبعد الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية، وبعد التصنيع المكثَّف وحركة التأميمات الواسعة، وإشراك العمال في الإدارة والأرباح وبناء السد العالي، والخلاص التام من النظام الملكي والاحتلال البريطاني، وبعد تقدُّم الخدمات الصحية والتعليمية. وتغيَّر المشهد الاجتماعي تغيُّرات حثيثة، وتغيَّرت برفقته لغة الخطاب الاستهلاكي. تشكَّلت هذه اللغة بآليات الجمهور الجديد للخطاب. كانت الجراحة الاستراتيجية للمشهد الاجتماعي بالتأميمات والمحاكمات والسجون قد طردت أو طاردت خارج الحدود بعض أصحاب الثروات أو الساعين لامتلاكها من المصريين والمتمصرين وبعض الهاربين من جحيم القمع أو الخائفين من لهبه. واتجهت فئاتٌ من المتعلمين الأقباط إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، والقلة القليلة إلى أوروبا دون أية آراء سياسية. واتجهت فئاتٌ من المتعلمين وغير المتعلمين بنسبة أكبر إلى هذه القارات ذاتها مضافًا إليها بلاد النفط. ونشط «الإخوان» المهاجرون أو المطارَدون في العمل السياسي، بينما اندمج الأقباط في مهاجرهم الجديدة دون فقدان لهُويتهم الوطنية الأصلية. وبالرغم من أن الثورة قد كتبت عنوانها على الخطاب الاستهلاكي الخارجي، فإن الخطاب الديني للإخوان المسلمين في المهجر الخليجي أو العربي لم يتخلَّ عن «السياسة» في مواجهة التوازن الطارئ على الخطاب الاستهلاكي داخل الحدود.

وبالرغم من أن الخطة الخمسية الأولى قد بشَّرت المصريين بأن التوازن في خطاب الإنتاج والاستهلاك يمضي بنجاحٍ، وكذلك بالرغم من الخروج الكبير لليسار المصري من السجون والمعتقلات (وهو الخروج الذي انتهى عمليًّا بالتصفية السياسية للتنظيمات الشيوعية)، فقد كان إرهاب الدولة الشمولية ساري المفعول تحت السطح: بالتجرثم الداخلي لانشقاقات الإخوان المسلمين داخل السجون وخارج الحدود، والمحاولة الثانية لاغتيال عبد الناصر، وأيضًا بهزيمة ١٩٦٧م.

كان التوازن قد اختل في النهاية، واكتشف الخطاب الديني طريقَه الجديد للإرهاب عبر الوجه الآخر لخطاب الاستهلاك.

۱۰

لم يكد يفيق المجتمع المصري من أحداث العام المثير ١٩٥٤م حتى استأنف الإرهاب الإسرائيلي نشاطه في غزة مع بداية عام ١٩٥٥م (شهر فبراير (شباط)). كانت الأحوال في مصر قد استقرت لحكم جمال عبد الناصر، بعد صراعٍ ضارٍ على السلطة بين مختلف أجنحة «الثورة»، وبين العسكريين والمدنيين، وبين المثقفين والعمال والحكام، وبين الحكام والإخوان المسلمين. وشهدت الجامعة ومجلس الدولة والصحافة معارك باطشة. ولكن إرهاب الدولة بقوانينها الاستثنائية وسجونها ومعتقلاتها قد استحالت «نظامًا» شرعَت أركانه تعرف الثبات التدريجي.

وفي هذا المناخ الذي يسمونه بداية الاستقرار، راحت إسرائيل تلقي بقنابلها على الضباط والجنود المصريين في قطاع غزة من قبيل التحدي لهذا الاستقرار. وكان عنوان هذا الاستقرار تلبية المطالب الوطنية السابقة على الثورة؛ كالإصلاح الزراعي وتمصير المؤسسات الأجنبية والتصنيع وبناء السد العالي. وكان من بين المبادئ الستة للضباط الأحرار بناء جيش قوي، وقد أقبلت القنابل الإسرائيلية على غزة لتنبِّه الدولة الجديدة إلى ضرورة الإسراع في بناء هذا الجيش.

ولم يكن لدى ثوار يوليو أي مانع في الاعتماد على الولايات المتحدة لبناء السد العالي وتقوية الجيش معًا، ولكن «البساطة السياسية» لهؤلاء الضباط الوطنيين الشباب حجبت عنهم الارتباط الوثيق بين الاستراتيجية الأمريكية والأمن الإسرائيلي. ومن ثَم لم يدخل في حساباتهم أن المصالح الغربية في البترول العربي وحماية إسرائيل وتطويق المعسكر الاشتراكي من البنود الأولى في الاستراتيجية الأمريكية للشرق الأوسط. الأمر الذي ينعكس حتمًا على العلاقة بين الغرب وبلدٍ كمصر. هذه العلاقة التي «يجب» أن توظَّف لمصلحة هذه الاستراتيجية وليس في مواجهتها، ولكن الولايات المتحدة فوجئت بدولة الضباط الأحرار ترفض الأحلاف الأجنبية، ولا تعقد صُلحًا نهائيًّا مع إسرائيل، وتريد في الوقت نفسه تقوية الجيش وبناء السد العالي. لذلك كان الرد الأمريكي الخشن في تصريحات وزير الخارجية الشهير جون فوستر دالاس يرفض تسليح مصر، ورفض المساهمة في بناء السد.

وكان الرد العاجل للدولة الناصرية الاتجاه شرقًا، والاعتماد على السوفييت في تمويل بناء السد العالي وتقوية الجيش. وكان الرد المؤجَّل الذي لم يخطر على بال الغرب هو تلبية مطلب وطني قديم بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس. كلا الردَّين كان تجاوزًا للخط الأحمر الدولي، فإذا كانت البساطة السياسية للعسكريين المصريين قد حجبت عنهم فيما سبق الارتباط الوثيق بين واشنطن وتل أبيب، فإن هذه البساطة المتعمَّدة هذه المرة قد دفعتهم لتجاهل كافة الخطوط الحمراء. ولم يكن في حوزة الغرب سوى الحرب، أقصى درجات الإرهاب الجماعي المسلَّح. كان الغرب قد أدرك أنه يواجِه نوعًا جديدًا من النظم الفرعية التي تنشد الاستقلال، لا يمت بصلة قرابة إلى نُظُم الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية. وهو نظام لا سبيل لاتهامه بالشيوعية بالرغم من اتجاهه نحو السوفيات لتمويل السد وتقوية الجيش. كان تاريخ الضباط الأحرار في غالبيتهم ملفًّا مفتوحًا أمام المخابرات الأمريكية يقول إنهم خصوم، ولكنهم وطنيون. وهي ظاهرة جديدة حيث كان الظن السائد في هذه الدوائر، من تجاربها في مناطق أخرى، أن الوطنية ترادف الشيوعية. وقد أضاف حاضر الضباط الأحرار في مصر شواهدَ جديدة على خصومتهم لليسار المحلي بما اتخذوه فور تولِّيهم الحكم من إجراءاتٍ كالإبقاء على الشيوعيين المسجونين في العهد الملكي، والمزيد من اعتقال زملائهم، وكإعدام العامِلَين خميس والبقري، وكالاستغناء عن الضابط اليساري يوسف صديق، وإبعاد خالد محيي الدين خارج البلاد.

وربما كان هذا التاريخ الممتد في الحاضر لضباط الثورة المصرية هو الذي دفع الولايات المتحدة إلى التعامل المزدوج مع هذه الثورة؛ فهي ترفض تسليح الجيش المصري وتمويل السد العالي، ولكنها لا تؤيد العدوان الثلاثي بعد تأميم قناة السويس. ولم يكد يمضي عامان على هذا العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، حتى غطَّت خصومة اليسار مع الحكم الناصري على خصومته مع الإخوان المسلمين، بالرغم من أن الإخوان هم الذين رفعوا في وجهه السلاح، أما الشيوعيون المصريون والعرب فقد كان مطلبهم هو الديمقراطية في إقامة الوحدة المصرية السورية.

وبالرغم من النهاية الفاجعة للوحدة بالانفصال بعد ثلاث سنوات، وبالرغم من التقارب الموضوعي بين الناصرية واليسار بعد التأميمات الواسعة، فقد دفع الشيوعيون والإخوان المسلمون — على السواء — ثمنًا دمويًّا باهظًا، ودفعت مصر كلها ثمنًا سياسيًّا مروعًا؛ ذلك أن «إرهاب الدولة» الذي اعتمد عليه الحكم أفرغ البلاد من الحياة السياسية التي جعلها احتكارًا لأهل الثقة، رافضًا بذلك الحد الأدنى من المشاركة، سواء من جانب المؤيدين أو المعارضين.

ومن المفارقات المأساوية في التاريخ أن أهل اليسار المؤيدين للخطوات الوطنية هم الذين تمَّت تصفيتهم السياسية بخروجهم عام ١٩٦٤م، وحل تنظيماتهم في العام التالي، والتحاق بعضهم فرادى بالاتحاد الاشتراكي. والمفارقة الثانية أن هذا «العقاب» قد أصاب الذين لم يُشهِروا السلاح على مدى تاريخهم في مصر، فليس لهم في كتاب الإرهاب صفحة واحدة. والمفارقة الثالثة أن هذه التصفية الأليمة كانت توقيعًا على بياضٍ على تكريس غياب الديمقراطية السياسية، والتسليم بقيادة فكرية وتنظيمية واحدة دون الحاجة إلى المنابر المستقلة.

وقد أفضى تفريغ الحياة السياسية من التعددية والتنوع في التعبير عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية إلى ولادة ظاهرتين متلازمتين هما: حالة اللامبالاة العامة لمجموع الشعب، والانكفاء السلبي عن العمل والانطواء الجماعي الشامل عن الاهتمام بمصير الوطن، والاتجاه الواعي وغير الواعي إلى خطاب الاستهلاك الفردي والهموم الضيقة المباشرة. أي أنه بينما كان التخطيط المركزي على الصعيد الوطني يحفظ بالتنمية درجة من التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، كان الغياب المزمِن للديمقراطية السياسية قد أدَّى إلى عكس المراد تمامًا بالإخلال الذي أصاب الإنتاج لحساب الاستهلاك؛ إذ ملأ الخطاب الاستهلاكي فراغ اللامبالاة بالحياة العامة نتيجة احتجاب الديمقراطية.

أما الظاهرة الثانية إلى جانب «النَّهم» الذي أصاب الناس تعويضًا عن غياب حرياتهم فقد كان «الإرهاب»، وبينما خرج الشيوعيون من السجون إلى الشارع في حالة تصفية، فإن مصير الإسلام السياسي لم يكن على هذا النحو.

قرأ جمال عبد الناصر بنفسه كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب ثلاث مرات، وكان قد تم طبعه ونشره عن إحدى مؤسسات الدولة. وكان الكتاب في كل مرة مرفقًا بتقريرٍ أمني يطلب منعه، ولكن عبد الناصر كان يؤشِّر في المرات الثلاث بالموافقة على إعادة الطبع والنشر والتوزيع، وفي المرة الرابعة فقط امتنع عن التأشيرة، وقال شفويًّا: هناك تنظيم مسلح.

كان الإخوان المسلمون، كما سبق أن ذكرنا، يعرفون السلاح في حرب تحرير دار الإسلام أو في الاغتيالات الفردية. ولم يكن «النظام الخاص» بالقتل يستند إلى فكرٍ متماسكٍ أو فتاوى شرعية، حتى إن بعض الأقطاب — ومنهم حسن البنا — أنكر وجوده. وبين عام ١٩٥٤م في حادث المنشية، وعام ١٩٦٥م في الحادث الذي لم يتم اكتشافه قبل وقوعه، لم يرتكب الإخوان ما يَنسب إليهم الإرهاب. كان الخطاب الإنتاجي المتوازن مع الخطاب الاستهلاكي قد أفلح برفقة إرهاب الدولة في سحب البساط من تحت أقدامهم. وظل «التقليد» الإخواني ساري المفعول، منحصرًا في محاولتَي اغتيال عبد الناصر، لأن مسألة تحرير دار الإسلام قد تعقَّدت باستطالة الهدنة الإسرائيلية العربية، وبجلاء بريطانيا عن مصر.

ولكن كتاب سيد قطب خرج على تقليد الإخوان القديم، وقدَّم نظرية متماسكة في الإرهاب تربط بين الشرع وكلٍّ من المجتمع والدولة. واستلهم في بناء هذه النظرية تراث أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي، وزادها بثقافته الفقهية الواسعة تأصيلًا، قال إن المجتمع الإسلامي قد ارتدَّ في مجمله على صحيح الدين فعاد مجتمعًا جاهليًّا يلزمه إعادة الفتح الإسلامي من جديد، والمجتمع الكافر دولته كافرة، والعالم كله كافر، غير أن الفرق كبير بين الكفر الأصلي عند غير المسلمين وبين الارتداد عن الإسلام. هذا النوع الأخير هو الأَولى والأجدر بالمواجهة السريعة الفورية، بوسائل الفتح كافة التي عرفها صدر الإسلام، ومن بينها حروب الردة.

وقد حكموا على سيد قطب وأحد زملائه بالإعدام، وإذا كان هذا الحكم قد صدر بسبب قيادته لتنظيم سري مسلَّح حاول اغتيال رئيس الدولة، فإن التاريخ هو الذي سيفصل في هذه القضية بمزيدٍ من الوثائق والبراهين. أما إذا كان السبب هو كتاب «معالم في الطريق» فإن إعدامه يُضاف إلى الأدلة الدامغة على إرهاب الدولة؛ ذلك أن الكتاب، كان يستوجب مناقشة جادة في زمنه حتى لا يتحوَّل إلى تعويذة يستتر بها كل إرهابي في المستقبل؛ وهو ما حدث. كانت هذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها الإسلام السياسي وثيقة صريحة تبرر حتمية الإرهاب الجماعي دون أن تكون هناك حرب لتحرير دار الإسلام، ودون أن تكون هناك ضرورة للاغتيالات الفردية. لذلك كان الحوار الواسع حول هذه الوثيقة ضرورة قصوى، فإهمالها وتجاهلها لم يلغِ فعاليتها الكبرى داخل السجون وخارجها. بينما كانت المناقشة في ضوء الشمس تُبطِل إلى حدٍّ كبير من «انفجارها». ولكن المجتمع المغلَق على فكر السلطة وحالة اللامبالاة العامة والانحراف بخطة التنمية إلى المجتمع الاستهلاكي هو الذي أدَّى إلى تفجيرها فكرًا مكبوتًا وتنظيمات سرية ومخططات لا سابق لها ولا عهد لنا بها في الإرهاب.

ولم يكن هناك في ذلك الوقت إرهاب دولي، ولا دولة دينية في إيران، ولا حرب أهلية في لبنان، ولا طفرة نفطية في الخليج، ولا إنجليز في مصر. كانت هناك فقط الدولة العبرية تدعمها الولايات المتحدة والغرب في حصار النظام الوطني الذي أصبح «نموذجًا» بسلبياته وإيجابياته حتى إنه امتد إلى اليمن. وكان هناك في الداخل الإسلام السياسي الذي يفكر في كلام سيد قطب تفكيرًا عمليًّا فوق وتحت الأرض. وبين الحصار الخارجي والحصار الداخلي كانت هناك دولة أرادت التوازن بين الإنتاج والاستهلاك في ظل الحكم الشمولي الذي قام بتفريغ الحياة السياسية فأوقع البلاد في اللامبالاة والانكماش حول الخطاب الاستهلاكي.

وبين الحصار الإسرائيلي والحصار الداخلي من الدولة والإسلام السياسي وقعت أكبر عملية إرهابية في التاريخ المعاصر؛ هزيمة ١٩٦٧م.

۱۱

كان أول ما قام به الرئيس السادات خلال الفترة ما بين توليه السلطة وقيامه بانقلاب مايو (أيار) الشهير، هو أنه أخرج قوى الإسلام السياسي من السجون، ومنح شباب هذه القوى حرية العمل «العسكري» في الجامعات بمطاردة زملائهم من الناصريين والماركسيين مطاردة مسلحة. وفي الوقت نفسه أعطى الضوء الأخضر أو إشارة البدء لما سُمي بعصر الانفتاح. وكان آخر ما قام به الرئيس الراحل هو اعتقال مصر، أي رموزها السياسية من أهل اليسار واليمين والوسط، ثم سقط صريع إحدى رصاصات الإسلام السياسي.

وبين أول وآخر ما قام به الرئيس الراحل، وآخر ما وقع له فيما سُمي بحادث المنصة كانت هناك ملحمة الإرهاب الدموي والخطاب الاستهلاكي، وهي الملحمة التي بدأت ولمَّا تنتهي بعد.

وكان الرئيس قد أصبح نجمًا لأغلفة الصحافة الغربية، خاصة بعد أن ألقى بفريقٍ من زملائه في السجون، وطرْده للمستشارين السوفيات، وقيادته لحرب أكتوبر (تشرين الأول)، وبدء رحلة الصلح مع إسرائيل مرورًا بتطبيع العلاقات مع الغرب، وأساسًا مع الولايات المتحدة؛ كان التاريخ المحلي والإقليمي والدولي يفتح صفحة جديدة تكاد تكون نقيضًا للصفحة السابقة من كتاب العصر الجديد.

كان الإرهاب الدولي قد بدأ في السبعينيات يساريًّا محتجًّا على الخطاب الاستهلاكي الغربي، وتصفية انتفاضة ١٩٦٨م الطلابية. وكان العالم العربي نفسه قد شارك في هذه الانتفاضة من زاوية مغايرة نسبيًّا، فقد خرج الطلاب في بيروت والقاهرة وتونس في أعقاب هزيمة ١٩٦٧م، وقد امتزجت احتجاجاتهم بالشعارات الديمقراطية وعناوين الخطاب الاستهلاكي. ولم يكن انبثاق الانتفاضة من هذه العواصم دون غيرها عبثًا. كانت الهزيمة قد أوجعت كلَّ القلوب والعواصم العربية، ولكن لبنان الاستهلاكي كان يغلي تحت الأرض ببركانٍ انفجر بعد سنواتٍ قليلة عام ١٩٧٥م، من موقعة الصيادين في صيدا إلى مواقع حزام البؤس حول بيروت، وكانت تونس تعاني من أهوال المجتمع الاستهلاكي المتخم والمحاصَر من أوروبا والجيران الأقربين والمختل بين الساحل والجنوب. كانت بيروت تكابد أيضًا مشاقَّ ليبرالية الطوائف، وتونس تكابد مصاعب الكاريزما البورقيبية، فاختلطت الشعارات الديمقراطية بأوراق الخطاب الاستهلاكي. وكانت «فتح» قد أطلقت الرصاصة الأولى عام ١٩٦٥م قبل الهزيمة بعامين، وقبل الانتفاضة العالمية بثلاث سنوات، وكان الخطاب الفلسطيني الاستهلاكي مكتوبًا بالسلب في المخيمات والشتات، وقد أضاف إلى الخطاب اللبناني سطورًا جديدة ديموغرافية ومسلَّحة، لذلك ما إن هلَّ الإرهاب الدولي اليساري حتى شارك العرب فيه بخطف الطائرات.

ولكن القاهرة كانت تنتظر شيئًا آخر؛ لأول مرة تتحوَّل مصر إلى محطة استيراد بعد أن كانت جهة التصدير للإسلام السياسي، فبدلًا من الإخوان المسلمين الذين انطلقوا من مصر إلى بقية الأرجاء العربية، أقبل حزب التحرير الإسلامي من المشرق (الأردن تحديدًا) ليجند صالح سرية بعض العناصر من الكلية الفنية العسكرية ليخرجوا في مظاهرة مسلَّحة تستهدف اجتماعًا لأركان الدولة في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، وسقط من سقط من العسكريين الشباب المؤهلين أو قيْد التأهيل لقيادة المستقبل، وشُنق صالح سرية، وأخفقت المحاولة. ولكن الرسالة كانت قد وصلت إلى أهل الحكم. وهي أن حدود الجغرافيا لم تعُد منيعة. ولكن هذه الرسالة فوق السطح قد حجبت عن العيون الوجه الآخر للخطاب؛ وهو الوجه الذي دفع ثمنه سيد قطب دمًا. كان الإعلام قد ترجم المغزى العميق «لمعالم في الطريق» بالتكفير والهجرة، اسم التنظيم الوليد في أحشاء السجون من قبل أن يفرج السادات عن قوى الإسلام السياسي. وفي عام ١٩٧٤م صدرت قوانين الانفتاح الأولى، وقالت الصحافة الغربية التي جعلت من الرئيس المصري نجمًا لأغلفتها «القاهرة تطلق وحوش الغابة». وكان يسيرًا على هذه الصحافة أن تحصي بعض الحوادث: كحريق دار الأوبرا وجمعية الكتاب المقدس وبعض الآثار الفرعونية وإحدى الكنائس. كانت هذه بداية السياق. ولكن عام ١٩٧٤م الذي شهد انطلاق قوانين الانفتاح عرف حادثًا، هو الآخر يقع للمرة الأولى، فقد انطلقت الجماعة الإسلامية المُسماة إعلاميًّا بالتكفير والهجرة إلى اختطاف الشيخ محمد الذهبي العالِم الإسلامي البارز وقتله. كان هذا الحدث أول تطبيق عملي لمبدأ التكفير، حسب اللغة الشعبية السائدة الآن حين يقول لك أحدهم «هات من الآخر» فقد بدأت الجماعة الإسلامية بتكفير وقتل أحد شيوخ الإسلام قبل أن تفعل ذلك جماعاتٌ أخرى بعد خمسة عشر عامًا بفرج فودة والأقباط وكبار الضباط وأصغر الجنود والأطفال والنساء من المسلمين.

كان حادث الكلية الفنية العسكرية يستهدف القيادة السياسية العليا والرئيس السادات نفسه، وكان حادث الشيخ الذهبي يستهدف المؤسسة الدينية الرسمية. وكانت حوادث الأوبرا والآثار تستهدف الحضارة الوطنية المصرية. وقد رافقت هذه الأحداث جميعًا خطوات «انطلاق وحوش الغابة»، هذا التعبير الذي أطلقته الصحافة الغربية ذاتها على عمليتَي المصالحة مع الإسلام السياسي، وصدور قوانين الانفتاح. ولم تكن المصالحة مجرد الإفراج عن المسجونين بل دعمًا وتدريبًا وتسليحًا وتحريضًا. ولن ينسى المصريون أن أحد أركان السادات — محمد عثمان إسماعيل — هو الذي حدَّد الأعداء بثلاثة هم اليساريون والأقباط واليهود. وأما اليهود فقد انتهت مشكلتهم برحلة الصلح، ولا يزال «الدليل التنظيمي» المقترَح من داخل الاتحاد الاشتراكي وقتئذٍ من أهم الوثائق التي تؤكد مشروع الدولة الدينية التي كانت السلطة الجديدة تناور بها أو تلاعب بعض الأطراف. ولكن السحر انقلب على الساحر في محاولة الفنية العسكرية الفاشلة، ومحاولة الشيخ الذهبي الناجحة. وكان هذا كله يحدث للمرة الأولى، ولكنها المرة التي لا تستطيع أن تميِّز فيها خيط الدولة من خيوط الجماعات، وأين يبدأ دور السلطة، وأين ينتهي دور قوى الإرهاب. ولكن المرجح أن النظام لعب بالأوراق الثلاث: الإرهاب والاستهلاك والدين، ومن يتحكم في بداية اللعبة لا يتحكم بالضرورة في نهاياتها.

فتحت حرب أكتوبر (تشرين الأول) بوابات الحدود على مصراعيها، ولم يعُد صالح سرية وحده هو الذي يستطيع العبور، وإنما أموال النفط ورياح الحرب اللبنانية، ثم عقائد الثورة الإيرانية، وأخيرًا — وربما أولًا — إسرائيل والغرب؛ لذلك اختلف الإرهاب في بلادنا عن الإرهاب اليساري العالمي، باختلاف مصادر الرياح التي حطمت بوابات الحدود، ومصادر الانفتاح التي أخذت تحطم قواعد البناء الذي كان.

كان من الطبيعي لأموال النفط وحرب لبنان وثورة إيران أن تصب جميعها في خانات الإرهاب والتكفير الديني. وكانت مصادر الانفتاح قد ربطت بين الإرهاب والاستهلاك والدين. وهكذا تأسست في صمتٍ البنوك الإسلامية التي يشارك في الإشراف الشرعي والدعوة والإعلان عنها مشايخ أجلاء. ثم أفضت المسيرة في امتداداتها الموضوعية إلى شركات توظيف الأموال. وبالرغم من أن الأصول الأصلية لهذه الأموال كانت هي التي تملأ خزائن الغرب ولا تزال، وهي التي تمتزج بالأموال اليهودية ولا تزال، فإن ما أضيف إليها من عرق ودم الكادحين من شعب مصر عرف طريقه النهائي إلى هذه المصارف وتلك في عواصم الغرب نفسه، في أكبر عملية نهب وسرقة علنية عرفها تاريخنا المعاصر.

ولكن كيف تم ذلك؟

بواسطة الخطاب الاستهلاكي المتقَن الصنع من الطمع والتديُّن في آنٍ واحد، الطمع في أعلى نسبة ربح في أقصر وقت، والطمع في الآخرة بما أكده بعض رجال الدين من أن البركة تختلف عن الفائدة؛ وخسر الناس دنياهم على الأقل. ولكن الأموال التي أقبلت أصلًا من خارج الحدود عبر قنوات النفط لم تتوقف عملياتها عند حدود النصب والاحتيال باسم الدين، بل شاركت وما زالت تشارك في بِنية اقتصادية-اجتماعية-ثقافية تزخرف الخطاب الاستهلاكي، وهو نفسه خطاب النظام الاقتصادي للدولة ذاتها. وهذا هو الجذر العميق لاختلاط الأوراق الذي ندعوه أحيانًا، لوهْمنا، بالاختراق. نظن أن عناصر من الإسلام السياسي تخترق بعض أجهزة الدولة أو مؤسسات المجتمع. وليس هذا صحيحًا، وإنما رأس المال لا جنسية له أو دين في الغابة التي انطلقت بين أركانها الوحوش. ولن أنسى ما حييت إعلانًا في الأهرام يقول حرفيًّا «ملابس المحجبات، واردات لندن، الموزع الوحيد حنَّا نيروز». وأعرف أيضًا أن بعض الأقباط فقدوا تحويشة العمر كغيرهم من المسلمين في شركات توظيف الأموال. وقد تبدو هذه مجرد أمثلة كاريكاتورية، ولكنها دالة على أن لعبة الانفتاح الاستهلاكية تشكِّل نظامًا كاملًا، لا ينتمي إلى الرأسمالية المنتجة، وإنما هو نظام «السداح مداح» كما وصفه أحمد بهاء الدين. لذلك تغسل أموال المخدرات نفسها في مصارف الرايات الدينية، وتمنح أموال النفط القليل من خيراتها لتجار السلاح، ويزكي «رجال الأعمال» بفتات موائدهم لنادي البيروقراطية العتيد. وتدخل إسرائيل على أقوى الخطوط دون أموال، وإنما بالسلاح في جنوب لبنان والضفة الغربية وقطاع غزة، وبالخبرة الزراعية والمركز الأكاديمي في مصر، وليس هذا كله اختراقًا من أحدٍ لأحدٍ، وإنما هي شركة كبرى لا جنسية فيها لرأس المال ولا عقيدة، وإنما تحتاج هذه اللعبة لغطاء أيديولوجي من الدولة والمجتمع على السواء، فأنت لا تستطيع أن تدعوها رأسمالية أو ليبرالية أو ديمقراطية، وليس ألمع من الغطاء الديني يساهم الجميع في نسج خيوطه. وفي هذا «النسيج» «ليتنافس المنافسون». أي أن البِنية الأساسية التي أنشأها نظام السادات كانت تلبي هذا الاحتياج لخلق مناخ عام لا تواجه فيه الدولة تيارات الإسلام السياسي التي تشارك غيرها في إنتاج هذه البنية، وما دام كان هناك انفتاح بهذا المعنى، لن يتخلف الإسلام السياسي عن المساهمة، يدًا بيدٍ، مع الدولة ذاتها وغيرها من المصادر. ويبقى التناقض كامنًا بين الأقوى من بين أعضاء الشركة في الإمساك بسلطة القرار والأقل قوة.

لذلك حين قال السادات بأن عام ١٩٨٠م هو عام الرخاء، كان بالفعل قد كرر ما سبق أن قاله عن عام ١٩٧٢م من أنه عام الحرب. وبينما وقعت الحرب بعد سنة من عام «الضباب» كما وصف الحرب بين الهند وباكستان، فإن الرخاء الموعود لم يقع.

وإنما وقعت أحداث أخرى أكثر خطورة، أخفق الخطاب الاستهلاكي في اليوم نفسه الذي تم فيه التطبيع مع إسرائيل، ونجحت الثورة الإيرانية في الاستيلاء على الحكم، ولم يخمدوا الحرب اللبنانية، واجتاحت إسرائيل جنوب لبنان كما لم تفعل من قبل.

ولم تعد الجماعة الإسلامية وحدها في الميدان، بل كبرت في هذا المناخ المواتي، وهو المناخ الذي عبَّر عنه السادات في عبارته التاريخية «الإسلام دين ودنيا ما قلناش حاجة، ولكن لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين.» ولخص بهذه العبارة ذروة التناقض في بِنية النظام الأساسية؛ نظام الاستهلاك دون إنتاج، ولم يجد مفرًّا بعد عام واحد من «اعتقال مصر» حتى أصبح وحيدًا في العراء المطلَق؛ وكان من السهل على أحد جنوده الذين أطلقهم ودرَّبهم أن يجيد إطلاق الرصاصة التي فتحت فصلًا جديدًا في كتاب الإرهاب.

۱۲

فتح الرئيس مبارك صفحة جديدة مع المعارضة، باستقباله رموزها في القصر الجمهوري بعد حوالي ثلاثة أشهر أمضوها في المعتقل اغتيل خلالها الرئيس السادات. وكان حسني مبارك كنائبٍ للرئيس جالسًا إلى جانب الرئيس طيلة المشهد الدامي. وقد مضى على الحادث الرهيب حتى الآن حوالي اثني عشر عامًا، ومن المستحيل ألَّا تكون الدقائق الدامية قد تركت بصمتها في ذاكرة الرئيس الجديد، الذي تولى مقاليد الحكم بعد أيام قليلة من معايشة العنف في حدِّه الأقصى عن قربٍ شديد، خاصة وأن مذابح أسيوط كانت قد توالت، تقريبًا، في الوقت نفسه.

افتتح مبارك إذن عهده بهامشٍ من الديمقراطية على صفحة مجلَّلة بدماء الرئيس الراحل، وعشرات من ضباط الأمن وجنوده. وهي الصفحة التي لا تزال حمراء قانية بدماء فئات أخرى من الرجال والنساء والأطفال، ولكن الهامش الديمقراطي لا يزال هو الآخر صامدًا.

هذه المزاوجة بين إرهاب الجماعات المُسماة إسلامية والديمقراطية المُسماة هامشية تشكِّل عنوانًا ملتبسًا للأزمة الضارية التي تعانيها مصر في الوقت الحاضر. ومن الشعارات ذات الدلالة التي أطلقها الرئيس مبارك في بداية عهده شعار «الانفتاح الإنتاجي» في مواجهة الانفتاح الاستهلاكي. ولكن الوطن، دولة ومجتمعًا، لا يخضع للتفكير بالأماني، ولا يستظل من شمس الصيف أو مطر الشتاء بالشعارات. وإنما هناك آليات ذاتية وأخرى موضوعية تعمل بموجبها أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع فتفرز الظواهر التي لا تزول بمجرد إعلان الرغبة في زوالها، أو حتى بتصميم الإرادة على إزالتها. وتشهد مسلسلات الفساد المخيفة، سواء في المجتمع أو في الدولة، أن آليات الخطاب الاستهلاكي ظلَّت دائمًا أقوى من القانون. وبدءًا من فضيحة توفيق عبد الحي تاجر الدواجن الفاسدة وهروبه، ومن فضيحة السيدة الحديدية وهروبها، وفضيحة الريَّان الذي يدير شئونه المالية الدولية بالتليفون الدولي والفاكس من داخل السجن، وانتهاء باثنين من المحافظين عبثا بالمال العام لدرجة التخمة، واثنين من رؤساء المدن باعا أراضي الدولة لحسابهما، ورئيس المجلس الشعبي الذي أصبح إمبراطورًا في المحافظة، إلى الموظف الذي استطاع أن يربح سبعين مليونًا من الجنيهات في عشر سنوات، مرورًا «بتبييض» أموال المخدرات في البنوك؛ كانت بعض الرموز الدينية تبارك ما يجري من جهة، وكان الإرهاب باسم الدين على قدمٍ وساقٍ من جهة أخرى.

ولكن هذه «الفضائح» كلها لم تكن فحسب خروجًا على الأخلاق والقانون، وإنما كانت ولا تزال إفرازًا طبيعيًّا لآليات النظام العشوائي الذي يعتمد أساسًا على التمويل الخارجي وليس على الثروة الوطنية، كما يعتمد على قاعدة «أكبر ثروة في أقصر وقت» وما يشبه القانون الطردي لرأس المال إلى الخارج مرة أخرى، وهو النظام الذي تختلط في تكوينه الرأسي، أو ما يُسمَّى بالتراكم، أموال المهاجرين بأموال المقيمين بالأموال المتعددة الجنسية بالأموال المتعدة المصادر، دون تصنيف أخلاقي في إطار القوانين الخفية التي تصوغها الحركة الحرة لرأس المال سرًّا وعلنًا. وهكذا تصبح عامرة بأحدث منجزات التكنولوجيا الغربية واليابانية، وأفخر أنواع السلع التي كانت تنتجها المصانع الوطنية منذ سنوات، جنبًا إلى جنبٍ مع أهيف حاجيات أبناء الذوات وأولاد الشوارع على السواء. وتنشأ في ظلال هذه السوق «البيضاء» آلاف الوظائف السرية والحِرف الهامشية والمناطق العشوائية، وبغياب الإنتاج كعمودٍ فقري للبناء الاجتماعي يغيب القانون المكتوب عن تصنيع العلاقات «والقيم الاجتماعية». وتتحوَّل نصوصه ومؤسساته التشريعية والتنفيذية إلى أدوات بيد أحد أطراف اللعبة، ليست هي الدولة بالضرورة، وإنما قد يكون جزءًا منها وأجزاء غريبة عن جسمها المباشر من القوى الفاعلة، محلية كانت أو أجنبية. ومن هنا بالضبط يتولَّد مجتمع العنف، لأن تقنين الحق وسيادة القانون يحتاجان أصلًا إلى النظام الإنتاجي، حتى ولو كان رأسماليًّا متوحشًا. أما تغييب القانون الذي جاء ثمرة النظام العشوائي، فهو الأب الشرعي لمجتمع العنف الذي تغدو فيه الوسائل كافة مشروعة لنوال «الحقوق» أيًّا كانت مشروعة أو غير مشروعة. في هذا المجتمع تصبح الجرائم الشاذة كقتل الأب لولده أو الابن لأبيه والأم لابنتها والابنة لأمها، والتمييز العنصري بين أصحاب الأديان المختلفة، والسرقة بالإكراه والاختلاس والرشوة وركوب الأتوبيس، والسير في الشارع أو على الرصيف والتعامل في المستشفى، كلها وآلاف التفاصيل في الحياة اليومية من مظاهر وتجليَّات السلوك العنيف. مناخ شامل من العنف القاتل، وهو يختلف كليًّا عن المناخ في بلادٍ أخرى حيث يبدو العنف هو الاستثناء وليس القاعدة، ولا يجوز أن نقارن بين ما صرنا إليه والحوادث المتفرقة عند غيرنا، إلا إذا كان غيرنا يشبهنا في النظام العشوائي كالنظام الحالي في روسيا.

فالنظام العشوائي هو نقيض النظام الإنتاجي؛ ومن المؤسف أننا نستدل على العشوائية في حياتنا بأحزمة البؤس حول العاصمة أو أطرافها أو في الصعيد الجواني، بينما العشوائية تميِّز نظامًا اجتماعيًّا كاملًا، حتى ولو سكن أهله في الزمالك وجاردن سيتي ومصر الجديدة. العشوائية هي المزاوَجة بين انفتاح «السداح مداح» والخطاب الاستهلاكي. مصر الراهنة بلدٌ غني بالمال، وليس بالإنتاج. أغنياؤها أكبر خصوم طلعت حرب مؤسس الرأسمالية الوطنية في مصر، وفقراؤها يكتفون بقراءة الخطاب الاستهلاكي في شوارع «الشبح» والفاترينات المتوهجة بعشرات الملايين وإعلانات ومسلسلات وأغاني التليفزيون، وهو خطاب مستورد من ألفه إلى يائه. والأموال التي لا دين لها أو مذهب أو جنسية تتضامن في صُنع هذا الخطاب، وتتصارع داخله أيضًا. يتصارعون لتزويد حِصصهم من الأرباح ومن السلطة والنفوذ. وليس ما يُسمى بالإرهاب أو الجرائم الشاذة أو الإدمان انعكاسًا مباشرًا لفقر الفقراء والاختناق الاقتصادي والبطالة، فهذه كلها عرفناها من قبل، ويعرفها غيرنا من بعد. وهناك ملايين من الشباب المصري العاطل لا يشتغل بالإرهاب ولا يتسلَّى بالإدمان، ولكن واقع الأمر أن صراع رءوس الأموال المتعددة الجنسية والأديان والمصادر هو الذي يخلق مجتمع العنف بأنماطه المختلفة. وعناصره الساعية جميعها إلى المزيد من الأرباح والنفوذ، هي التي تستخدم أنواعًا من المليشيات المسلَّحة، وأنواعًا أخرى من المليشيات الإعلامية، وأنواعًا ثالثة من المليشيات الاقتصادية أو السياسية. يتركز بعضها في مؤسسات المجتمع، والبعض الآخر في أجهزة الدولة؛ بحيث يمكن أن يصطدم أجزاء المؤسسة الواحدة بعضهم ببعض، ويمكن أن يتواجه عناصر الجهاز الواحد وجهًا لوجه. ليس من اختراق خارجي بالمعنى المألوف، وإنما هناك تحالف داخلي، أحيانًا دون تنسيق، بين القوى الخارجية والداخلية صاحبة الغايات المتقاربة أو المتعارضة، خاصة وإن حالة السيولة الإقليمية والدولية قد أذابت كثيرًا من المعاني المستقرة لأزمنة مديدة حول الحدود الوطنية والاستقلال الوطني، ولكنها لم تُذِب المصالح الإقليمية والدولية والاستراتيجيات السياسية.

هذا التحالف العلني حينًا والخفي أحيانًا، الاختياري تارة والاضطراري تارة أخرى، هو الذي يفرز وسائل العنف المناسبة له في التوقيت الأكثر ملائمة لمصالحه واستراتيجياته.

إنهم جميعًا يتفقون على أن النظام العشوائي يناسب مصالحهم، وهم جميعًا يتفقون على أن مجتمع العنف هو الأكثر مواءمة لمزيدٍ من الأرباح والنفوذ، ولكنهم يختلفون بعدئذٍ في الاستراتيجيات.

ليست المليشيات المختلفة إذن إلا أدوات الصراع بين مكونات الخطاب الاستهلاكي وعناصره المحركة. مليشيات المخدرات من المكونات الرئيسية، ومليشيات البيروقراطية الحكومية أيضًا من أهم المكونات، ومليشيات الإرهاب باسم الدين ليست أكثر من واحدة بين هذه المكونات.

هكذا يجب أن نضع هذه المليشيات التي ترفع عاليًا رايات الدين في مكانها الصحيح من السياق الشامل للنظام العشوائي والحدود المفتوحة حتى لا نخطئ في تشخيص المرض واقتراحات الدواء. إنها جزء لا يتجزَّأ من الخطاب الاستهلاكي، ولا علاقة لها من قريبٍ أو بعيدٍ بأية ادعاءات دينية، وهي جزء يبرر بقية الأجزاء ولا ينفيها. بمعنى أنه لا تناقُض بينها وبين ما يُسمَّى بالفنون الهابطة أو القاموس المبتذَل في لغة الحياة اليومية أو ظاهرة الإدمان، أو تعاظم ما نسمِّيه الجرائم الشاذة أو شيوع الدعارة أو الانفجار السكاني، كلها سطور في الخطاب الاستهلاكي الذي نحياه ونموته في شوارع المعروضات المستورَدة أكثر مما نشاهده في الأحياء العشوائية، ونراه في التليفزيون وصفحات الحوادث في الجرائد والمجلات.

وهو سطرٌ بارزٌ بين بقية السطور لأنه صناعة محلية وأجنبية في وقتٍ واحد، ولأنه يتخذ من المقدسات راية تخفي أهدافه، ربما عن حاملي القنابل أنفسهم. ولذلك فالدعوة إلى محاورة من نسميهم بالإرهابين ليست أكثر من دعوة كاريكاتورية. إن من ندعوهم إعلاميًّا برءوس الإرهاب، سواء أكانوا داخل السجون أو خارجها، هم أنفسهم ليسوا أكثر من بعض أدوات الصراع بين مكونات النظام العشوائي. وكذلك الدعوة إلى «هداية» الشباب بصحيح الدين، فإنها تفترض أصلًا أن هناك انحرافًا كالوباء أصاب بضع مئات من الشباب يجب إعادتهم إلى صوابهم. وليس هذا صحيحًا، وإنما هناك نظام عشوائي تهيَّأت له كافة أسباب المشروعية القانونية بتشريعات الانفتاح، فلما أتاحت له آليات النمو السرطاني ضاقت به هذه المشروعية وضاق بها؛ ومن ثَم تولد مجتمع العنف بخلع الثياب القانونية، والصراع المكشوف بين مكونات هذا النظام العشوائي. وبما أنه لا يختلف عنفٌ عن آخر، ولا مليشيات عن أخرى، لإحراز قصب السبق في إنتاج الخطاب الاستهلاكي، فقد اختارت بعض عناصره الداخلية والخارجية وسيلة العنف المسلَّح باسم الدين لأسبابٍ استراتيجية واضحة هي الاستيلاء على كامل الحكم وكامل المجتمع؛ فيزدهر الاستهلاك وقِيَمه وآلياته أكثر من أي وقتٍ مضى على حساب الإنتاج وقِيَمه وآلياته، فلا تنهض مصر كمجتمعٍ ليبرالي الاقتصاد ديمقراطي السياسة. وأيضًا، بل أولًا ليتأسَّس نظام الشرق الأوسط في غيبة نظام عربي وحضور قوي لإسرائيل وإيران وتركيا، ومن ورائهم الغرب في مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥