القسم الثالث

وجوه وأقنعة

(١) من لا يخاف الشيخ الغزالي؟

فوجئت بالدهشة التي وصلت أحيانًا إلى درجة الصدمة عند الكثيرين من فتوى أو شهادة الشيخ محمد الغزالي أمام محكمة أمن الدولة في قضية اغتيال الدكتور فرج فودة.

لم تدهشني الفتوى، أو لم تصدمني الشهادة؛ لأن الشيخ الغزالي لم يقُل شيئًا جديدًا، أو لَم يصدر في كلامه عن موقف جديد.

لم يقل شيئًا جديدًا، فقد سبق له فور اغتيال الكاتب الراحل أن برَّر عملية القتل بما وصف به فرج فودة من كفر وارتداد. ولم يصدر عن موقف جديد، لأن الرجل له مواقف مشهودة منذ خمسة وأربعين عامًا حين أصدر كتاب «من هنا نعلم» ردًّا على كتاب خالد «من هنا نبدأ».

كان خالد محمد خالد ولا يزال رجلًا مسلمًا عميق الإسلام، وكان ولا يزال لا يرى تناقضًا بين الإيمان والديمقراطية. وقد جنَّد كل علمه، وكان عضوًا في هيئة كبار العلماء، لخدمة الإسلام والمسلمين والمواطنين جميعًا. آمن مبكرًا بأن الدين لله والوطن للجميع، وأن حق المواطنة يكفله القانون والدستور، وأنه لا تمييز بين أهل البلاد بسبب الدين أو المذهب. ولكن خالد محمد خالد لم يتخذ من الديمقراطية السياسية إلا مدخلًا للديمقراطية الاجتماعية؛ حيث دعا في ذلك الوقت إلى ضرورة الربط الوثيق بين العدل والحرية.

كان الزمن هو العام ١٩٤٩م، وكان الباشَوات والملك والإنجليز يحكمون مصر بالحديد والنار بعد هزيمة مدوية في فلسطين، وكان الإرهاب قد وصل بالإخوان المسلمين إلى اغتيال الخازندار القاضي الشهير ورئيس الوزراء أحمد ماهر ورئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي. وكان الإرهاب المضاد قد تمكَّن من اغتيال الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين. وكانت البلاد على حافة الحرب الأهلية بأنواعها الاجتماعية والدينية، ووصلنا إلى عصر الاستقطاب العنيف بين من يعيشون تحت خط الفقر، وهم ٩٩٫٥ في المائة من مجموع الشعب، وبين من يعيشون في بحبوحة من الثراء الباذخ، وهم لا يتجاوزون النصف في المائة. وصلنا أيضًا إلى مشارف الفتنة الطائفية في المناطق التي كان يسيطر فيها الإخوان المسلمون على أجزاءٍ من الشارع المصري، وهو «الوقت» الذي كان جهازهم السري — بعد العودة من فلسطين — قد أجاد التدريب والتسليح.

ولولا عودة الوفد إلى الحكم لاحترقت البلاد قبل السادس والعشرين من يناير ١٩٥٢م بعامَين، ولكن الوفد عاد ظافرًا فألغى معاهدة ١٩٣٦م، وأعطى إشارة البدء للحرب الفدائية في القنال. وأفرج عن كتاب «من هنا نبدأ» لخالد محمد خالد الذي كان صاحبه قد حُوكِم، وكان الكتاب نفسه قد صُودِر.

وكان الشيخ الغزالي عضوًا بارزًا في جماعة الإخوان المسلمين، فأصدر في هذا الجو الدموي العاصف كتابه «من هنا نعلم». ولم يحظَ الكتاب آنذاك بالشهرة التي نالها كتاب خالد محمد خالد، ولكنه الوثيقة الوحيدة التي ترد على صاحب «من هنا نبدأ». هناك العديد من الكتب والمقالات التي ردَّت على الشيخ علي عبد الرازق عام ١٩٥٢م حين أصدر كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وهناك العديد من الكتب والمقالات التي ردَّت على طه حسين عام ١٩٢٦م حين أصدر كتابه «في الشعر الجاهلي». وهي وثائق سابقة على ميلاد الإخوان المسلمين وظهور حسن البنا. أمَّا كتاب الشيخ الغزالي فقد كان ولا يزال الوثيقة الأولى والوحيدة التي ردَّت على خالد محمد خالد بعد اثنين وعشرين عامًا على بروز الإخوان، وبعد شهور قليلة من اغتيال قائدها.

جاء الكتاب في وقت محدد ومناسبة محددة؛ إنه الرد الإخواني الصريح والمعلَن على كاتبٍ ينادي بالحرية والعدل في زمنٍ مضطربٍ غاية الاضطراب، عشية لحظة الانتقال المريرة من عصر الاضطهاد والتبعية إلى فجر الديمقراطية والتحرير (١٩٥٠م). ولم يحصل الإخوان في أعظم انتخابات حرة عرفتها البلاد حينذاك على مقعدٍ واحدٍ في البرلمان. وأصدر الغزالي كتابه ليقول بأفصح بيان لا للحرية ولا للعدل كما فهمهما خالد محمد خالد، المسلم الذي لا يشك أحد في إسلامه وولائه للمقدسات الإسلامية كلها، وسعة معرفته بتراث الفقه الإسلامي.

وتحوَّل الكتاب في أيدي خصوم الديمقراطية وأعداء الشعب المصري من السراي إلى أحزاب الأقليات الدستورية إلى سلاحٍ ديني-سياسي، حتى إن الملك فاروق في ذلك الحين أرخى لحيته، وكان هناك في البرلمان من يجرؤ ويسعى إلى تسميته بأمير المؤمنين.

وقُرب نهاية الطريق المسدود أمام النظام بأكمله أحرقوا القاهرة حتى تنطفئ نيران الكفاح المسلَّح في القنال. وقد سُوِّدت آلاف الصفحات حول حريق القاهرة؛ فقيل إن الملك والإنجليز ومصر الفتاة والإخوان المسلمين والضباط الأحرار هم الذين أشعلوا الحريق. ولكن أحدًا لم يشِر بحرفٍ واحدٍ إلى حزب الوفد؛ فقد كان الوفد هو الضحية الأولى للحريق الذي استُبدلت الحرب الأهلية المكبوتة به. كان المطلوب هو إحراق الوفد وإزاحته، ولكن النظام نفسه كان قد سقط، وأقبل البديل من آخر معقلٍ يراود خيال القصر والإنجليز والباشوات، من الجيش، وهذه قصة أخرى، انتصر فيها العدل والاستقلال لوقتٍ من الأوقات، وهُزمَت الديمقراطية طيلة الوقت، فانسحب العدل والاستقلال في خاتمة المَطاف.

لم يتوقف خالد محمد خالد في أسوأ الظروف وأكثرها عصبية وقهرًا عن الوفاء لمبادئه الثابتة، فأصدر منذ بداية الثورة على التوالي «الديمقراطية أبدًا» و«هذا أو الطوفان» و«لكي لا تحرثوا في البحر» و«في البدء كانت الكلمة» و«محمد والمسيح معًا على الطريق». وكان موقفه المشهود في مؤتمر القوى الشعبية لإصدار الميثاق عام ١٩٦٢م، حين كان الوحيد في لجنة المائة الذي أصر على الديمقراطية السياسية إلى جانب العدالة الاجتماعية حتى النهاية.

بعدها بقليلٍ كان يقود مظاهرة المتعصبين ضد حرية المرأة وضد خروجها للعمل وضد انتخابها في البرلمان وضد مساواتها بالرجل في الأجور وضد اختلاطها به في المدارس والجامعات. كان يقود المظاهرة ضد صلاح جاهين لأنه رسم كاريكاتيرًا يناصر الحرية ويعلي من إنسانية الإنسان رجلًا كان أو امرأة، كان يقود المظاهرة — في ظل الحكم الشمولي، أليس كذلك؟ — إلى أبواب جريدة الأهرام في مبناها القديم بشارع مظلوم.

وقد نسي الناس كتاب «من هنا نعلم» لأن كتابًا جديدًا كان قد استولى على عيونهم هو كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب، ولكن فقدان الذاكرة يصيب الأفكار في مقتل، لأنك حين تسأل بعضهم عن موقف الإخوان المسلمين من العنف يُبرِزون لك كتاب المستشار حسن الهضيبي «دعاة لا قضاة» ويتناسَون حتى ننسى كتاب «من هنا نعلم» للشيخ الغزالي. وهو كتاب يفتقد الأسس النظرية أو الفقهية التي بنى عليها سيد قطب أطروحته حول الجاهلية الجديدة المستمدَّة بدورها من أطروحة أبي الأعلى المودودي حول الحاكمية، ولكنه لا يفتقد الإيحاء المبكر بهذه الأطروحة المبنية أساسًا على تسييس الدين، وهو في أغلب صفحاته بذور أولية لمقولات «معالم في الطريق».

ولكن الشيخ الغزالي رجل ذكي، فهو يستطيع أن «يتمايز» عن غيره في الوقت المناسب بالظهور، وكأنه إمام المعتدلين حين يُصدِر كتابًا أو آخر يبدو فيه كما لو أنه من المتحررين المجدِّدين، وهو الأمر الذي سمح له فترة طويلة أن يكون أحد «أقطاب الإجماع» بين مشايخ آخرين لهم بعض صفاته، حتى إن حكومة الجزائر انتدبته في وقتٍ من الأوقات لتأسيس جامعة إسلامية بدافع «حسن الظن» الذي واكب صورته المعتدلة في الإعلام، لمحاصرة تشدُّد الإسلام السياسي الجزائري في بداياته الأولى. وبعد سنواتٍ اكتشف الجزائريون أن الرجل يُشرِف عمليًّا على تفريغ كوادر الإرهاب السياسي باسم الإسلام. وكشف الملف الجزائري، سواء من مناهج التعليم في الجامعة الحديثة الولادة، أو من اللقاءات الخاصة والمحاضرات العامة، أن المعهد العلمي الذي كان يُراد به محاصرة التطرف قد أضحى وكرًا للإرهاب؛ الأمر الذي أدهش المسئولين الجزائريين الذين رغبوا في انتداب شيخ مصري سُمعته هي الاعتدال لإنشاء قلعة إسلامية تشبه الأزهر في مصر. وكانوا كرماء في توديع محمد الغزالي، ولكن الأثر الذي تركه في النفوس كان من المرارة بحيث لم يزايلهم إلى اليوم، بل هم يقولون لكل من يسأل عن شيوع موجة العنف: إنهم تلاميذ الغزالي.

وكانت الأجواء المصرية هي الأخرى منذ بداية السبعينيات قد تلبَّدت بغيوم التطرف والإرهاب الذي افتتح الثمانينيات باغتيال الرئيس السادات نفسه. وفي ظل الضغط العاتي لهذا المناخ كان خالد محمد خالد قد أصدر كتابه عن الدين والدولة الذي تراجع فيه خطواتٍ عن مبادئه الأولى، ولكنه كتاب وحيد لم يعمل منه الرجل تجارة أو شعارًا، بحيث عاد في النصف الآخر من الثمانينيات ليصدر كتابه المهم «دفاع عن الديمقراطية»، ويعود فيه إلى سيرته الأولى. والكتاب هو مجموعة الفصول التي نشرها الرجل في جريدة الوفد لتصل إلى أعرض قطاع جماهيري قارئ قبل أن يضمها بين دفتَي كتاب، أصبح يحدد موقفه القديم الجديد في كل مكان يذهب إليه ليواجه الناس، بما في ذلك حزب التجمُّع اليساري.

أما محمد الغزالي فانصرف إلى موقفٍ مزدوج؛ أحد الوجهَين هو المؤلَّفات ذات الصيغة التجديدية والصبغة العصرية والأحاديث التليفزيونية التي يدعو فيها إلى الهداية. هذا الوجه هو الذي أعطى الرجل سمت الاعتدال، تمامًا كالشيخ الشعراوي والشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد عمارة والشيخ عبد الصبور شاهين وغيرهم، باستثناء مفتي الديار فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي؛ كان للرجل، ولا يزال، وجه واحد يمثِّل الاعتدال المستقيم بحقٍّ. أما الآخرون، فقد كانوا أو ما زالوا يضعون قدمًا في مربع الاعتدال والقدم الأخرى في مربع التطرف. ما زال الشيخ الشعراوي يردد: «أقول للحاكم احكمني أنت بالإسلام، لست أريد أن أحكم، بل أدعوك لحكمي بالإسلام»، ماذا يعني ذلك؟ يعني ببساطة أن الحكم ليس إسلاميًّا، وأن المطلوب هو أن يقوم الحاكم بتغيير الحكم القائم بدلًا من أن يقوم بذلك غيره. ولا يقوم الشيخ الشعراوي مطلقًا بتفنيد أطروحات هذا الغير الذي يرى في الحكم الراهن منكرًا يستوجب تغييره بالعنف.

أما الشيخ الغزالي والشيخ عمارة فهما لا يكفَّان عن تأييد الدعاوى المُسمَّاة إعلاميًّا بالتطرف في المنابر التي يكتبان فيها أو يخطبان. وكان الشيخ عبد الصبور شاهين هو «بطل» الفضيحة الجامعية الخاصة بنصر أبو زيد. هذه هي المواقف الحقيقية، أو الوجه الآخر للعملة، فوجهها الأول يستهدف كسب حماية الدولة. وربما كانوا في ذلك يعبِّرون عن قطاعٍ من أجهزتها، والوجه الآخر هو ممالأة جماعات «التطرف» والتعبير عنها، وربما كان الوجه الأصدق في التعبير عن النفس، وأيضًا عن قطاعٍ في الدولة وأجهزتها، ولكنهما في النهاية وجهان متلازمان حتى يضل المرء بينهما، فأين الاعتدال وأين التطرف؟

غير أنه في اللحظات الحاسمة يغدو «التطرف» هو الاختيار الوحيد، وهكذا كان الأمر في يناير ۱۹۹۲م حين احتشد آلاف المتطرفين والإرهابيين في ساحة المعرض السنوي للكتاب يستمعون ويصفقون للشيخَين الغزالي وعمارة وهما يتهمان فرج فودة بالخروج على صحيح الدين. وفي تلك الليلة بالضبط، اتخذت إحدى الجماعات قرارها بتصفية الكاتب الأعزل تصفية جسدية، وحين تمَّت هذه التصفية لم يتورَّع الغزالي عن تبرير الاغتيال.

جوهر الأمر هو سلطة التكفير التي أعطاها المشايخ لأنفسهم، ثم أعطوها بدورهم لأي مسلم يرى في هذا الشأن أو ذاك مُنكرًا يجب تقويمه باليد، هذا على الرغم من أن الإسلام هو الدين الذي لا يعرف الكهنوت، وليس فيه لله وكلاء ما يربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وليس فيه تراتبية لسلطة دينية.

وبموجب سلطة التكفير المستجدَّة عمليًّا، والكامنة فعليًّا في كتاب «من هنا نعلم» للشيخ الغزالي كان الرجل صادقًا مع نفسه إلى أبعد الحدود حتى أفتى غداة اغتيال فرج فودة بأن: «الشباب نفَّذوا الحد في المرتد». وكان من المستحيل أن يتناقض مع فتواه الأولى حين طلب إليه الدفاع عن أولئك الشباب سماع شهادته فجاءت فتواه الثانية تأييدًا للأولى، وهو أمر طبيعي إلى أقصى الحدود، فلماذا الدهشة التي وصلت أحيانًا إلى درجة الصدمة؟

لأن صورة الشيخ المعتدل كانت قد أضلَّت الناس، والغزالي ليس فردًا، بل هو أحد رموز تيار كامل متهم ظلمًا بالاعتدال؛ فالحق أن الألِف تؤدي إلى الياء، كما قال خروشوف قديمًا لعبد الناصر عن العلاقة بين الاشتراكية والشيوعية. هكذا الأمر تمامًا في الإسلام السياسي؛ فالبداية القائلة بالدولة الدينية لا بد وأن تفضي إلى الإرهاب باسم الدين. لا حلَّ وسطًا بين الدولة المدنية والدولة الدينية، ولا شوطًا في هذا الطريق يتوقف عند المنتصف، بل لا بد لمسيرة «الجهاد» أن تبلغ غايتها، هذا هو درس التاريخ في كل العصور وكل البيئات وكل الأديان.

وقد كان الشيخ الغزالي في فتواه الأخيرة ممثلًا لتيارٍ كامل، ومخلصًا لتاريخه الشخصي وتاريخ جماعته الأولى والأخيرة أيضًا.

وربما كان العنصر الإيجابي الوحيد في هذه الحكاية التي لم تهدر دماء فرج فودة وحده، بل دماء الغالبية العظمى من المثقفين المصريين، بل إنها إشارة البدء لحربٍ أهلية، هي أن هذه الفتوى أو الشهادة قد نزعت بصدمتها المدوية للضمير العام قناع الاعتدال عن الوجه الحقيقي المُسمَّى إعلاميًّا بالتطرف.

إنني شخصيًّا ممن يتحفَّظون على مصطلح التطرف، لأنه يفترض في المقابل مصطلح الاعتدال. وحتى الإرهاب فهو توصيف خارجي لإحدى الوسائل، وهي العنف، أما الغاية فهي الدولة الدينية وعنوانها الإسلام السياسي: لا اعتدال فيه ولا تطرف، وإنما نظام للحكم الشمولي تحت راية الدين.

وهي الراية التي يقف تحتها الجميع؛ من حارس البوابة إلى «أمير المؤمنين».

(٢) بين أقنعة الاعتدال ووجوه التطرف

تُعَد حاشية الأستاذ فهمي هويدي على ما دعاه بشهادة الشيخ الغزالي في قضية اغتيال الكاتب الراحل فرج فودة استكمالًا موضوعيًّا لهذه «الوثيقة» الخطيرة في تاريخنا الفكري والسياسي المعاصر.

وما زال رأيي أن فهمي هويدي رجل هادئ الطباع، هادئ القلم، والهدوء أسلوب في الفكر والحياة، يعني أن الإنسان الذي يتمتع به لا يتخذ قراره أو يبلور وجهة نظره إلا بعد طول تدقيقٍ ورويَّة، ويعني كذلك أنه يبسط هذا القرار أو وجهة النظر من خلال محاولته إقناع الآخرين به، وليس من قبيل تسجيل المواقف أو الشعارات.

هذا هو نوع الهدوء الذي يتمتع به فهمي هويدي في جل، إن لم يكن كل، ما يكتب، تخلو كتاباته من التشنُّج الذي يصيب أحيانًا أصحاب دعوات كريمة يسيئون إليها بالعصبية الشديدة والخروج على حدود اللياقة. وربما كان من مصادر هذا الهدوء أن فهمي هويدي كاتبٌ كفء تيسَّرت له الموهبة والخبرة والثقافة؛ فهو لا يدلي بدلوه في بئرٍ لا يعرف مياهها وعُمقها، كذلك فهو يؤمن بما يقول إيمانًا حارًّا يمنح كتاباته أهم ميزة يجب أن تتوفَّر في كل كاتب، وهي الصدق.

وقد تضافرت هذه العناصر وغيرها في إكساب ما يقول صفة الاعتدال، لعل صورته في الأذهان هي أنه المتحدث الرسمي باسم المعتدلين.

ولكن المعادلة على هذا النحو ليست دقيقة؛ فالهدوء وما يصاحبه من تدقيقٍ وحرارة الإيمان والصدق لا يفضي بالضرورة إلى الاعتدال، إذا كان ثمة أصلًا شيء بهذا الاسم والرسم.

لم يحاول فهمي هويدي في أي وقتٍ أن يخفي أفكاره الأساسية، وهي ذاتها أفكار الإسلام السياسي. ولأن هناك أكثر من «إسلام سياسي» سواء على صعيد الفكر المحض، أو على صعيد التنظيمات الفاعلة، فإننا نقول إن إسلام هويدي السياسي ينتمي إلى الجذور البعيدة والقريبة للإخوان المسلمين. ولكنه ككاتبٍ صحفي لم يتحجر في قوالب جامدة، بل كان يتابع المد والجَزر لحركات الإسلام السياسي في مصر والعالَمين العربي والإسلامي متابعةً تفصيلية، ويتفاعل مع مسيرتها المتعرجة والمعقدة أحيانًا سلبًا وإيجابًا.

وهو لا يختار موقعه في الصحافة إلا من خلال المنابر ذات الشرعية المعترَف بها محليًّا أو إقليميًّا، حتى يغدو واحدًا من أبناء الصف الوطني أو العربي العريض، وإن كان واحدًا متميزًا بصوته الإسلامي الخاص؛ وهكذا فهو من كُتَّاب «الأهرام» و«العربي» و«المجلة» و«الشرق الأوسط»، ونادرًا ما ينشر في الصحف الأكثر قُربًا من آرائه، يحدث ذلك في لحظاتٍ استثنائية عابرة.

وإذا اعتبرنا المنبر، أي منبر، بيئة الكاتب، فإننا نقول إن فهمي هويدي كأي كاتبٍ كان يتبادل التأثير والتأثُّر مع البيئة والزمن، أو مع المنبر والتاريخ. ومن ثَم فإن المرحلة الكويتية في حياته، إن جاز التعبير عن المرحلة التي عمل فيها إلى جانب أحمد بهاء الدين في «العربي» تختلف قليلًا أو كثيرًا عن «النقطة» التي وصل إليها في لندن، وهي مجرد نقطة لأنها مرحلة قصيرة في طريق عودته بعد الاغتراب الخليجي إلى مصر. وهي ليست نقطة تحوُّل تشكِّل قطيعة معرفية مع المرحلة الكويتية، ولكنها نقطة بارزة في سياق التحولات التي طرأت على المنطقة العربية والعالم، ليس أقلها أهمية استتباب نظام الخميني في الحكم الإيراني. كان ما يُسمَّى بالصحوة الإسلامية قد أصبح ظاهرة، وهو أمر يختلف عن المرحلة التي لم تحتَج لغير التركيز على المبادئ السياسية العامة للإسلام. لقد اشتبكت إيران الجديدة غداة الاستيلاء على السلطة مع العراق في حربٍ ضروس. كانت هناك الحرب اللبنانية، وقد اكتست طابعًا طائفيًّا، وكانت أحداث العنف في شوارع دمشق قد أشارت بأصابع الاتهام إلى الإخوان المسلمين. وكانت تونس والجزائر منذ نهاية السبعينيات تراقبان بحذرٍ صعود الاتجاهات الدينية في السياسة. وكان الرئيس السادات الذي استخدم هذه الاتجاهات في بداية حكمه قد انتهى به الأمر إلى القول الشهير «لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين»؛ فاغتيل بأيدي الذين سبق أن استخدمهم لدعمه.

كانت الدنيا قد تغيرت، وعاد فهمي هويدي إلى دنياه، مصر، فإذا بها لا تقل تغيُّرًا. هنا كان «الواقع» بحاجة إلى القلم الواقعي الذي تتطلب منه الأمور اتخاذ المواقف. وهي مرحلة مغايرة كليًّا لمرحلة الدعوة إلى المبادئ السياسية العامة للإسلام. هنا حركة إسلامية نشطة، حركة سلاح وحركة سياسة. ولم يكن ممكنًا لكاتب الإسلام السياسي أن يكون مستقلًّا تمامًا أو مرتبطًا تمامًا؛ فالاستقلال يُفقِده مصداقيته، والارتباط قد يُفقده منبره وقاعدته.

وكانت الدولة من جانبها حريصة على الهامش الديمقراطي الذي افتتح به مبارك عهده، وكانت بعض أجهزتها ولا تزال مقتنعة بإمكانية الحوار مع الإسلام السياسي، وبعضها الآخر يرى العلاج في المزيد من الجرعات الدينية في التعليم والإعلام، وبعضها الثالث لا يرى نفسه في موقعٍ نقيض لهذه التيارات، وبعضها الرابع يحسب حساباته للمستقبل المجهول. هذه هي الفترة التي بدأت بقتل فضيلة الشيخ محمد حسين الذهبي، ولم تنتهِ بتهديد فضيلة الشيخ محمد السيد طنطاوي، والمسافة بينهما امتلأت بظهور وبروز ولمعان أصحاب الفضيلة المشايخ محمد متولي الشعراوي ومحمد الغزالي ومحمد عمارة وعمر عبد الكافي إلى بقية الصف المتهم ظلمًا بالاعتدال.

وقد اختار فهمي هويدي موقعه في هذا الصف، ولموهبته الإعلامية، فقد أصبح المتحدث الرسمي باسم هذا الصف. ولم يكن غريبًا أو مثيرًا للدهشة أن يبدو فيما سُمِّي بالوساطة بين الدولة والجماعات متحدثًا رسميًّا باسم الاجتماعات التي تمَّت بين وزارة الداخلية ومَن يطلقون على أنفسهم صفة المستقلين أو المعتدلين.

وبينما كان المطلوب دائمًا من بعض المشايخ كالشعراوي والغزالي وغيرهما أن يصدروا بيانًا بإدانة العنف وتبرئة الإسلام من أوزاره، فقد كان المفعول دائمًا من هؤلاء المشايخ أنفسهم عكس ذلك تمامًا، في برامج الإعلام والمساجد على السواء. كان الشيخ الشعراوي يستطيع الظهور في إعلانات الصحف مبارِكًا شركات توظيف الأموال، وكان يستطيع في التليفزيون أن يغمز ويلمز من عقائد الآخرين. وكان يستطيع أن يجهر بأنه عام ١٩٦٧م في الجزائر سجد لله ركعتين شكرًا على الهزيمة. وكان الشيخ عبد الحليم محمود يستطيع أن يؤلف كتابًا كاملًا في تشريح المسيحية وتفنيدها، وكان الشيخ الغزالي يستطيع أن يفتي بانتفاء الضرورة لبناء الكنائس وضرورة الضرورة لقتل فرج فودة. وكان الشيخ محمد عمارة «يسامح» طه حسين على كتابه «في الشعر الجاهلي»، ويهدر دم لويس عوض على آرائه في جمال الدين الأفغاني. وكان الشيخ عمر عبد الكافي يدعو إلى عدم مصافحة المسيحيين، وكان الشيخ عبد الصبور شاهين والشيخ مصطفى محمود وغيرهما يدعوان إلى تكفير نصر أبو زيد. هذا هو الواقع الفعلي «للمعتدلين» الذين يرَون «هذه نقرة وتلك نقرة»؛ فلا مانع من إدانة العنف، وأحيانًا العنف المضاد (أي الحكومة). وربما يتهور بعضهم ويُدين الإرهاب باعتباره في الأغلب من صادرات أمريكا وإسرائيل، ولكنهم في معظم الأحيان يصفون الإرهابيين بالشباب المؤمن المتحمس، والتطرف بالغلو في الإيمان والتدين … أما الخطأ فهو خطأ الإعلام والتعليم الذي يفرط في تعاليم الدين، ودائمًا هو خطأ الدولة التي لم تطبق بعدُ كل قوانين الشريعة.

هذا هو «الاعتدال» الذي أشاع في المجتمع بأسره مناخًا متواطئًا مع الإرهاب مغذيًا له بكل بذور الفتنة الكبرى، وليس الفتنة الطائفية وحدها، وهو المناخ الذي يفرز كوادر الإرهاب ويحميها.

أين يجد فهمي هويدي نفسه، وهو الداعية الإعلامي الأول للاعتدال.

أيًّا كانت القضايا والموضوعات المتعددة التي يعالجها، وأيًّا كانت التشابكات المعقَّدة بين المصالح والمطامح، وبين الوسائل والغايات، وبين الظواهر والجواهر، فهناك خط مستقيم من الضوء يخترق كل هذه الظلال:

  • الشعاع الأول من هذا الضوء هو الهدف؛ إقامة الدولة الإسلامية على أنقاض هذه الدولة الوضعية (ونماذج هذه الدولة واضحة في تأييده الثابت لها من إيران إلى السودان).

  • الشعاع الثاني هو ربطه الثابت لصفة الاعتدال بجماعة الإخوان المسلمين أيًّا كانت مواقفهم في الأحداث الجارية، وتصوير خصومهم بالتالي باعتبارهم «أعداء الإسلام» من عملاء الغرب أو من فلول الشيوعيين.

  • الشعاع الثالث هو دعمه الموصول لجماعات الإسلام السياسي المغايرة للإخوان في الأسلوب مع التفرقة بين جماعة وأخرى، والتمييز بين الأفكار أو الانشقاقات المختلفة، ولكنها جميعًا تندرج لديه في خانة الصحوة الإسلامية بما في ذلك الأفغان العرب.

ولكن هذا المثلث من أشعة الخط المستقيم لا يبدو بهذا الوضوح وسط الظلال. فهمي هويدي يسلك إلى هذه الغايات سُبُلًا متعددة. إنه صاحب «التديُّن المنقوص» الذي ينقد فيه بلا هوادة ما يراه تشوشات عالِقة بتديُّن بعض الشباب. وهو أيضًا صاحب «مواطنون لا ذميُّون» الذي يعترف فيه بحق المواطنة للمسيحيين، وهو صاحب التأكيدات المتوالية على أهمية الديمقراطية في ظل الإسلام؛ وبالتالي فهو صاحب الدعوة الملحاحة إلى ضرورة الحوار.

لنحاول إذن الاقتراب من هذه الدعوات في التطبيق. قبل ذلك أحب أن أشير إلى أن فهمي هويدي يحتفل احتفالًا شديدًا بالسياق التاريخي في تحليلاته للظواهر، وأيضًا بالعلاقة الجدلية بين الحدث والنص، ولكنه ينسى أن الواقع السياسي أكثر تعقيدًا من المقولات النظرية الصافية، وأن نقاء التأملات المجردة لا يعرف طريقه إلى نقاءٍ مماثلٍ في الواقع الحي، وأنه — شخصيًّا — لا يملك أي ضمان لتطبيق أفكاره كما تتراءى له في الذهن. ومن ثَم فهو يدعو إلى «تغيير» سوف يفهمه وينجزه آخرون حسب ما يرَونه لحظة الإنجاز من موقع السلطة، وقد يبتعد الإنجاز عما كان يحلم — بالرغم من اختلافنا المبدئي مع الحلم نفسه — فماذا يضمن له أن الحلم قد يستحيل كابوسًا.

ولا يحتاج فهمي هويدي لأن أقول له إن هذا هو درس التاريخ للأسف، وأيًّا كان الثمن الذي دفعه الحالم آنذاك، فإنه لا يستطيع أن يتخلى عن المسئولية؛ فقد كان أحد الذين حشَوا الرءوس بهذا الحلم-الكابوس.

ولنتأمل بعض المقدمات وبعض النتائج. فهمي هويدي يدعو إلى الحوار، وإلى التريُّث في تكفير الناس، وإلى تجنُّب اللجوء إلى العنف باسم الدين، وإلى المساواة بين المواطنين، ويدعم دعواته تلك بفيضٍ زاخرٍ من ثقافته الإسلامية الرفيعة في أصولها.

ومع ذلك، فهو حين يدعو الأقباط مثلًا إلى الحوار لا يختار كتابًا لوليم سليمان قلادة، أو ميلاد حنا أو الأنبا غريغوريوس أو لسميرة بحر أو لأمثالهم ممن يكتبون في شئون الأقباط من المفكرين المسلمين كرفعت السعيد. وإنما هو يختار كتابًا لشابٍّ لا ينتمي إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية (وهي الكنيسة الوطنية الكبرى)، وهو كتاب مليء بالتجريح، ولا يرتفع فوق الشبهات، ولم يحتفل به في مصر سوى عادل حسين رئيس تحرير جريدة «الشعب» السابق، والأستاذ فهمي هويدي، فقط، لماذا؟ لأن المؤلف البروتستانتي يهاجم البابا شنودة ويراه «زعيمًا سياسيًّا» للأقباط، ويرى أن هناك «مسيحية سياسية» لا تحمل السلاح، ولكنها تحوِّل الطموحات السياسية إلى رموزٍ دينية.

وهذا الكلام يُبهج الإسلام السياسي الذي يلتمس في مثل هذا الكاتب والكتاب مبررًا لوجوده، ولكنه يُغضِب الأقباط والمسلمين معًا ممن يرَونه تزويرًا فاضحًا، ومع ذلك فهذا هو «النموذج» الذي اختاره فهمي هويدي للحوار مع الأقباط.

ولا تخلو مقالاته العديدة من الإشادة ببعض كُتَّاب الغرب ممن ينصفون الإسلام والمسلمين وأحيانًا الإسلاميين، بالرغم من أنه يرى الغرب قائدًا للحملة العالمية ضد العالم الإسلامي. أما إذا كان هناك اجتهاد مختلف لمثقف مصري مسلم، فإنه لا يكتفي بالتنديد به وتكفيره — كما حدث في واقعة نصر أبو زيد — وإنما يزف إلى الدنيا قبل أي كاتب آخر بشرى عدم ترقية هذا الأستاذ لإلحاده، ويكرر الكلام الذي لم نكن قرأناه بعد لعبد الصبور شاهين في تقريره التكفيري.

ما هي الديمقراطية التي يجهد نفسه في التأكيد على توفيرها في ظل الدولة التي يحلم بها؟ لقد أجاب في مقاله عن «المنطقة الآمنة» التي يجب الاتفاق عليها بين المثقفين وأهل الفكر، بأن هناك قائمة من المحرمات أو المقدسات لا يجوز الاقتراب منها، ومن بين هذه المحرمات أشخاص العلماء والفقهاء وتراثهم من السلف الصالح إلى اليوم. وليست مصادفة أن ينشر هذه القائمة بعد الضجة التي أثيرت حول الشيخ الغزالي أو «شهادته» في المحكمة؛ فالرجل يطلب العصمة صراحة لبعض الناس، وهو الأمر الذي لا يبيحه الإسلام مطلقًا. أليس هذا هو «حكم رجال الدين» في دولة شمولية؟ كيف يكون الحوار والاجتهاد واحترام العقل، ما دام أي عالِم أو فقيه منطقةً محرمة على النقاش أو المراجعة أو النقد أو الاعتراض؟ ومن أغرب الغرائب أن يستشهد بميلاد حنا في قوله لإحدى المجلات «تُقطَع يد من يطالب البابا بالكف عن رعاية شئون الأقباط» مُوحيًا أنه إذا كان الأقباط يوقرون قياداتهم الدينية على هذا النحو، فالواجب أن يمتد هذا التوقير ليشمل قيادات الأديان جميعًا، وفي مقدمتها علماء الإسلام. وينسى مرة أخرى أن الشاب البروتستانتي الذي احتفل بكتابه قد تجاوز الحدود في نقد رئيس الكنيسة الوطنية، وينسى أن ميلاد حنا نفسه له انتقادات واضحة في الكثير من مقالاته وتصريحاته للصحف. وبعضها ثابت في كتاب عمرو عبد السميع عن «النصارى: حوارات المستقبل»، ومن ثَم فالاعتماد على كلمات ميلاد حنَّا في «روز اليوسف» لا تصلح شفيعًا لتكميم الأفواه بحجة «المنطقة الآمنة» التي تفرض ستارًا حديديًّا على العقل يحُول دونه ومناقشة «علماء الدين».

وإذا كانت هذه المنطقة المحرمة مجرد دعوة و«الدولة» التي يحلم بها فهمي هويدي لم تتحقق بعد، فماذا ستكون عليه الأمور من موقع السلطة؟ هل تكفينا العبارات الشارحة التي تؤكد مجددًا على غياب التناقض بين حرية الرأي والمنطقة الآمنة؟ ألَا تذكِّرنا هذه العبارات بجملة السادات الشهيرة «الإسلام دين ودنيا ما قلناش حاجة، لكن لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة» فأضحك الدنيا على سذاجة التناقض؟

ولكن فهمي هويدي الذي يراه البعض متحدثًا رسميًّا باسم «المعتدلين» يجهد نفسه طويلًا لحل هذه التناقضات أو التوفيق بينها.

وفي واقعتَي عمر عبد الكافي ومحمد الغزالي خير برهان على هذا الجهد المستميت.

عبد الكافي قال للآلاف في المسجد ما يقوله لعشرات الألوف في الكاسيت، وما يكرره لمئات الألوف في الصحافة من أن تحية المسيحيين لا علاقة لها بتحية الإسلام. والرجل فعلًا لم يعتذر عن هذا الكلام في زيارته للبابا شنودة الذي لم يفتح الموضوع أصلًا، وإنما كان محمد علي محجوب وزير الأوقاف هو الذي اعتبر الزيارة بحد ذاتها اعتذارًا عمليًّا. ومع ذلك فالرجل في «آخر ساعة» كرر ما قال، وأصر عليه مقترحًا أنه إذا كان شيخ الأزهر والشيخ الغزالي والشيخ عمارة يرون أنه قد أخطأ فسوف يتراجع علنًا عما قال، ولم يقُل له أحد من هؤلاء إنه أخطأ، وإنما تطوع فهمي هويدي في مقال مستفيض بالأهرام بالتأكيد على أن الشيخ عمر عبد الكافي لم يخطئ، وإنما «شتمك الذي بلَّغك» كما يقول المثل الشعبي، أي مجلة «روز اليوسف» التي قامت بواجبها الإعلامي في فضح أوكار ودهاليز ما يسمونه بالتطرف. هويدي يفترض من العنوان أن الأمر كان يمكن أن يظل في «السر»، ويسلب الإعلام والمواطن حريتهما في الاتصال وحق الحصول على المعلومات. وهو يفترض أن هذا «السر» كان بين عدة عشرات أو مئات من البشر، وليس بين عشرات ومئات الألوف، وهو يفضل كتمان السر على الاستفزاز الطائفي متجاهلًا أن فاعلية هذا السر قد خرجت عن إطار المسجد إلى الشارع، وأنها سمَّمت بالفعل أجواء الوحدة الوطنية بين المصريين من قبل أن تكشف «روز اليوسف» عن هذا السر. وهو يفترض أن هذا السر كالزواج في السر ليس حرامًا ما دام على سنة الله ورسوله. وقد أورد فهمي هويدي من التراث المعتمد الأصيل ما يؤكد صواب الشيخ عبد الكافي الذي أخطأ فحسب في إدراك الملابسات التي أحاطت بهذا التراث. أي أنه أخذ على الشيخ الفهم النصي واستبعاد الظروف، ولما كان تأويل النص من صُنع البشر، فمن حق عبد الكافي أن يفهمه وأن يبلغه كما يشاء. والدليل أن أحدًا ممن طلب بنفسه أن يردوه عن خطئه إذا كان قد أخطأ لم يجِبه على طلبه. ولكن الأهم أن فهمي هويدي زادنا علمًا — وربما زاد علم الشيخ عبد الكافي — بأن هناك تراثًا كاملًا في تحية غير المسلمين.

وخرجنا من المقال لكاتبٍ صناعته الأولى هي الكتابة بأن الصحافة الملعونة هي المتهم الحقيقي، وأما الشيخ عمر فهو «داعية معتدل» يستهدف خدمة الإسلام والوطن.

وهو الأمر نفسه الذي تكرر في واقعة الشيخ الغزالي؛ قامت الدنيا ولم تقعد بسبب «شهادته» في المحكمة، بدءًا من لجنة الفتوى في الأزهر الشريف، وانتهاءً بصفوة من العلماء زملائه وتلامذته. وجاء فهمي هويدي ليقول إن ما قاله الشيخ الجليل ليس فتوى بل شهادة، وأن للفتوى — وهو مثقف إسلامي كبير — أصولها، وإن للشهادة — وهو دارس للقانون — أصولها، وإن ما طُلِب من الشيخ هو الشهادة وليس الفتوى. وأضاف أن الغزالي في المحكمة كان يرد على أسئلة المحامي، لا أكثر ولا أقل، وأن هذه الأسئلة قد صيغت على نحوٍ يحتم الإجابة عليها بما قاله الشيخ لا أكثر ولا أقل.

وأعترف أن الكاتب الحاد الذكاء قد خانه التوفيق، فقد افترض عدة فروض من بينها أنه يلقي محاضرة فقهية لجمهورٍ من الأكاديميين، ثم افترض أن هذا الجمهور لا يدري شيئًا عن القضية التي ذهب من أجلها الغزالي إلى المحكمة، وافترض أخيرًا أن هذه القضية مجرد مَثَل أكاديمي للتدريب؛ فهي ليست قضية حقيقية، بل قضية رمزية مجردة لا علاقة لها بالزمان والمكان.

وهي افتراضات، للأسف، غير دقيقة؛ فالكاتب يعلم أنه يخاطب جمهورًا واسعًا من قراء أكبر صحيفة مصرية، وأن هذا الجمهور يعلم أن المجني عليه في هذه القضية كاتب معروف هو فرج فودة، وأن هذا الكاتب لم يُتهَم من أية جهة قضائية أو دينية رسمية بالكفر أو الارتداد، وأن حكمًا من ولي الأمر أو من ينوب عنه لم يصدر بإعدامه. كذلك فالكاتب يعلم أن الشيخ الغزالي يعلم أنه غداة اغتيال فرج فودة برَّر قتله صراحة، وأن محامي المتهمين لذلك لم يطلب الشيخ الغزالي مصادفةً، وأنه كان يثق بأن شهادة الرجل لن تخرج عن منطوقه السابق، وأن هذا المحامي البارع يسأل الشاهد أسئلة مجردة في محكمة مجسَّدة أمامها جريمة قتل ومتهمون معترِفون وقانون وشهود آخرون، وأن هذا المحامي البارع لا يريد من الشيخ سوى التجريد، وعلى المحكمة التجسيد إذا كان إسلامهما من صحيح الدين.

ليس على المحامي من حرجٍ كما يعرف فهمي هويدي من دراسته للقانون، ولكنه بدلًا من أن يستخلص ما استخلصه أغلب المصريين من شهادة الغزالي باعتبارها عمليًّا فتوى أباحت قتل فرج فودة، وأتاحت للقاتل الافتئات على سلطة ولي الأمر، فإنه اكتفى بلفت الأنظار إلى المحامي الملعون، تمامًا كما فعل مع الشيخ عبد الكافي؛ فقلب الحقائق رأسًا على عقب ملفتًا الأنظار إلى الصحافة الملعونة.

ماذا نسمي هذا الدور؟

لم يمسك فهمي هويدي ورقة واحدة من الأوراق السرية أو العلنية للجماعات المسماة متطرفة ليسلِّط عليها أضواء النقد والمراجعة، ولا نتكلم عن الإدانة، وإنما هو يترصد كل ما يكتبه خصومهم للتشهير بهم، وأحيانًا تكفيرهم.

لم يتوقف مرة واحدة عند «فكر» الإرهاب، وكأن الإرهابيين آلات إلكترونية مبرمَجة من الخارج، بلا تفكير محلي، وإنما هو يبحث في الجذور البعيدة والأسباب العميقة والمصادر الخارجية، وكأنها كلها أو بعضها يبرر القتل، ويضاعف من الجريمة.

وينصب نفسه محاميًا أمينًا عن أفكار «المعتدلين» الذين يهدرون الدم ويشيعون الدمار بفتاويهم وشهاداتهم ودروسهم في السر والعلن … فإذا كان هذا «الاعتدال» قبل بناء دولتهم، فماذا سيكون الأمر إذا تولَّوا مقاليد السلطة؟

(٣) ماذا قال البابا شنودة لعمر عبد الكافي؟

للبابا شنودة الثالث، بطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر، عادات فريدة في القراءة، فهو معني بقراءة التراث، سواء كان عربيًّا إسلاميًّا أو لاهوتًا قبطيًّا. ويتابع ثانيًا منجزات الآثار المصرية القديمة والمسيحية والإسلامية. ومن الفكر الإنساني، خارج حدود المنطقة العربية، يهتم اهتمامًا فائقًا، بكل جديدٍ في علم التاريخ، ولا تخلو مكتبته من أية «دائرة معارف» ذات قيمة في اللغتين الإنجليزية أو الفرنسية، بالإضافة إلى المعاجم العربية بمختلف أنواعها القديمة أو الحديثة.

بالرغم من هذا الطابع الأكاديمي الغالب، فإن البابا شنودة يولي الصحافة عنايته الصباحية الأولى، مهما احتلت الطقوس والشعائر الدينية حيزًا من الوقت، فهو لا ينقطع عن الصلاة في أوقاتها الفردية والجماعية، وإقامة القداس في المناسبات الدينية بأكملها … ولكن قراءة الصحف تأتي في موعدها دون حائلٍ من هذا الظرف أو ذاك.

وهو بالطبع لا يقرأ كل شيء في الصحيفة، فقد يقرأ تعليقًا هنا، وعنوانًا هناك، وتحقيقًا هنالك، ولا يعتمد مطلقًا على الملخصات والتقارير التي تعدها بإتقانٍ السكرتارية البابوية، وإنما هو يقرؤها ويعود إلى الصحف يقرؤها بنفسه، ويعرف مواعيد الكُتَّاب الذين يقرأ لهم يوميًّا أو أسبوعيًّا. ولأنه صحفي قديم؛ فهو لا تغريه العناوين بقدر ما يهمه الموضوع، ويبدأ بالصحافة المصرية، فالعربية، فالإنجليزية والفرنسية. وقد يثير أحد الموضوعات اهتمامه الشخصي، مما يتطلب منه الاتصال بكاتبه أو بأصدقائه من الصحفيين أو ببعض المسئولين ليستكمل معلوماته أو ليستفسر عن خفايا الموضوع ودقائقه، ولا يترك هذه الأمور لغيره ممن يستطيعون القيام بالمهمة — وهم صفوة من الرجال المتخصصين — ولكنه يأخذ زمام المبادرة بنفسه.

في الآونة الأخيرة اهتم البابا شنودة اهتمامًا بارزًا بكل ما نشرته «روز اليوسف» عن شرائط عمر عبد الكافي، وبكل ما دار في مجلس الشورى من مناقشاتٍ حول هذه الكاسيتات التي قرأ أنها تُباع على الأرصفة في الطرقات. وقرأ أن صاحبها يدعو إلى مقاطعة الأقباط وعدم تحيتهم أو مصافحتهم أو مجاملتهم في الأعياد والمناسبات الدينية التي تخصُّهم، وعدم زيارة كنائسهم في احتفالاتهم السارة أو الحزينة.

وفي البداية «استهول» الأمر؛ لم يكذب أو يصدق، ولكنه رأى الأمر من البشاعة والجسامة والخطر بحيث يستدعي التدقيق الشديد قبل «القول الفصل».

في هذا الوقت كان المسلمون قبل المسيحيين قد عبَّروا عن استيائهم البالغ من هذا الذي ظهر في التليفزيون فجأة يقول شيئًا مغايرًا للذي يقوله في المسجد، ويسجله أعوانه على الأشرطة، ويبيعه الآخرون في الأسواق. وكان الحفل الذي أقامه البابا في إحدى ليالي رمضان الماضي عنوانًا رسميًّا لرفض المسلمين لأية دعاوى تمس الأقباط، فقد أقبلوا على مائدة الإفطار التي أقامها البابا في صحن الكاتدرائية المرقسية الكبرى بدءًا من مندوب الرئيس مبارك الدكتور زكريا عزمي ورئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقي ورئيس مجلس الشعب الدكتور أحمد فتحي سرور إلى الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر جاد الحق علي جاد الحق، وفضيلة المفتي الدكتور محمد سيد طنطاوي، ونخبة لامعة من أبرز الوجوه السياسية والثقافية من الوزراء والنوَّاب الحاليين والسابقين ورؤساء الأحزاب وأساتذة الجامعات ورجال القضاء ونقباء المهن المختلفة ورجال الفكر والأدب والفن، ممن يستحيل جمعهم في مكان واحد.

وكان رجال الدين والدولة حريصين جميعًا على إلقاء كلمات في المناسبة، فتحدث شيخ الأزهر وفضيلة المفتي إلى الأقباط وشعب مصر بكلمات المحبة والإعزاز والأخوة الصادقة، كلمات تُدين الفتنة أيًّا كان مصدرها، وأيًّا كان شكلها وحجمها، ولأنها فتنة بين أبناء الشعب الواحد لا تستهدف غير تمزيق الوطن الواحد. وكان الشيخ جاد الحق علي جاد الحق متدفقًا حارًّا حيث ترك انطباعًا عميقًا لدى الحضور بالتأثر، كما كان الدكتور طنطاوي واضحًا دقيقًا مما ترك انطباعًا مماثلًا بالصدق في الالتزام. وعلى الموائد المتناثرة، وبطول وعرض القاعة، كانت الأحاديث الجانبية تدور حول المدى الذي وصلت إليه قوى الإرهاب، وكان الإجماع قاطعًا في أن ما يجري ليس فتنه طائفية بالمعنى الشائع، وإنما هو تمرد سياسي مسلَّح يستهدف الاستيلاء على الحكم.

ولم يأتِ أحدٌ على ذكر عمر عبد الكافي في تلك الليلة المباركة، ولكن «روز اليوسف» بادرت إلى تفريغ أحد الأشرطة المسجَّلة بصوت الرجل في أحد مساجد الدقي، وهو المسجد الذي اتخذ منه مقرًّا للدعوة وتؤمه أعداد غفيرة من المصلين والمريدين رجالًا ونساء. وكانت المجلة المصرية قد أفصحت عن أن «الدكتور» عمر عبد الكافي (الذي كان يعمل في أكاديمية البحث العلمي قبل تفرغه للدعوة والإمامة والخطابة في المسجد، والظهور في برنامج كاريمان حمزة المذيعة الوحيدة المحجبة بالتليفزيون) يحاضِر في بيوت الفنانات المحجبات. ولم يصدر عن عبد الكافي أي تكذيب لما نشرته «روز اليوسف» التي بادر نائب رئيس تحريرها الكاتب المعروف عادل حمودة، وأحد ألمع محرريها الشباب الروائي إبراهيم عيسى بنشر مقال تحت عنوان «حاكِموه أو حاكمونا» في تحدٍّ شجاع لبعض الأصوات التي وصفت عبد الكافي في مجلس الشورى بأنه «رجل معتدل».

حينئذٍ تحوَّل الاستياء لدى الصفوة السياسية والثقافية من المسلمين والأقباط إلى الغضب؛ فثارت الأسئلة في كل مكان: أين الرقابة على المصنفات الفنية؟ وأين وزارة الأوقاف؟ وأين الأمن؟

كانت هذه التساؤلات الغاضبة تصل إلى عيون ومسامع من يهمُّهم الأمر، ومن بينهم الكنيسة. ولكن البابا شنودة خرج على عادته في الاتصال بمن يملكون الجواب؛ واتخذ جانب الصمت، والمتابعة. ولم يعُد سرًّا أن هناك بعضًا من الأقباط يتهمون رئيس الكنيسة المصرية بالسلبية، وأنه يترك كل شيء يمسهم إلى «حكمة رجال الدولة» كما ينقلون عنه. أما البابا شنودة فكان ولا يزال يردِّد: أن قوى التطرف والإرهاب تستهدف مصر ذاتها وطنًا وكيانًا، وبالتالي فمصر دولةً وشعبًا هي التي تدافع عن نفسها، والأقباط جزء لا يتجزَّأ من هذا الشعب الذي له حكومة واحدة يجب أن تقوم بمسئولياتها. أما الكنيسة فهي القيادة الروحية للأقباط، لا دخل لها في السياسة من قريب أو بعيد. ولو كان الأقباط هم الهدف الحقيقي للإرهاب، وليس هذا صحيحًا، لكانت الحكومة أيضًا هي المسئولة عن حمايتهم. ودور الكنيسة المصرية على مر التاريخ هو دعم الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد في مواجهة التحديات الكبرى. أما مسائل التطرف والإرهاب فإنها من صميم عمل الدولة، وليس للكنيسة من دورٍ سوى الدعوة المستمرة للوحدة الوطنية وراء قيادة سياسية مركزية واحدة، هي القيادة الشرعية للبلاد.

لا ينفي هذا الكلام أن البابا شنودة كان حزينًا غاية الحزن حين اطَّلع على نصوص أشرطة عمر عبد الكافي. لم يتصور قَط أن الأمور يمكن أن تصل إلى هذا الحد المؤسف، وكان يشعر بما يعانيه الأقباط من مشاعر مريرة إزاء هذا التحريض الانقسامي المسعور. ولكنه كان يدرك أيضًا حجم الرفض الذي يلقاه هذا التحريض من عامة المسلمين؛ لذلك تحمَّل الاتهام بالسلبية من بعض أبناء الكنيسة، وآثر الصمت واضعًا في اعتباره «الحسابات» التالية:

  • أن مصر في لحظة حرجة من تاريخها المعاصر، داخليًّا وخارجيًّا، ويعوزها المزيد من التآلف والتكاتف، وليس الاستجابة لمشاعر المرارة التي يلهبها تطرُّف المتطرفين.

  • حين يقوم أكبر رجال الدين والدنيا بزيارة الكنيسة، وتناول الطعام على مائدتها، وحين يقابل المواطن المصري المسلم الدعوة إلى مقاطعة أخيه المسيحي بالاشمئزاز، فإن ذلك يعني أن المئات من عبد الكافي لا يستطيعون المساس بجسم مصر وروحها.

  • ليس الأقباط جزيرة مسيجة بأسوارٍ خاصة، فهم كغيرهم من ضحايا التطرف والإرهاب الذي لا تفرق رصاصاته بين الضابط المسلم والضابط المسيحي، كما لم تفرق بين الرئيس السادات والأنبا صموئيل في حادث المنصة، ولا بين المواطن المسلم والمواطن القبطي في ديروط أو إمبابة، الأقباط جزء من كلٍّ، وعليهم تحمُّل ما يقع عليهم لأنه يقع على الجميع دون تمييز.

  • أن التحريض الطائفي يجب أن يقابَل بالمزيد من الالتحام الوطني؛ فالاستجابة الطائفية للتحريض تحقق لأصحابه أغراضهم.

  • الرئيس حسني مبارك قائد وطني مخلص لبلاده، يستحق من جميع المصريين أن يمنحوه ثقتهم.

في ضوء هذه الحسابات لم يفكر البابا شنودة في الاتصال أو الاستفسار عن مرامي عمر عبد الكافي، أو تفصيلات نشاطه، أو ردود الفعل الرسمية على كل ما نشرته «روز اليوسف» في هذا السياق.

إلى أن جاء عيد القيامة، وهو العيد الذي ركز عليه عمر عبد الكافي في إحدى خُطبه المسجَّلة قائلًا إن المسلم الذي يهنِّئ مسيحيًّا بهذا العيد إنما يعترف ضمنًا بصلب المسيح عليه السلام، وهو كفر. ولكن هذا العيد شهد كغيره من الأعياد إقبالًا حاشدًا على المقر البابوي وصلاة الكنيسة من أقطاب الإسلام والمسلمين، بدءًا من مندوب رئيس الجمهورية وليس انتهاءً بفضيلة المفتي مرورًا بجميع قادة الأحزاب بما فيهم الإخوان المسلمون.

ودقَّ جرس التليفون في المكتب الخاص لقداسة البابا، وكان على الطرف الثاني وزير الأوقاف محمد علي محجوب، وظن قداسته أن الوزير الذي لم يحضر ليلة العيد سيقدِّم اعتذاره. ولكنه سمعه يقول إنه يفضِّل تهنئة البابا في صباح العيد كما يفعل جميع المسلمين في مصر مع إخوتهم المسيحيين. أجاب البابا: أهلًا وسهلًا، تفضَّل. بعد برهة من الصمت قال وزير الأوقاف: شكرًا، وأستأذن قداستكم في أن أصطحب معي ضيفًا، أجاب البابا: على الرحب والسعة. ولكن الوزير لم يختم حديثه، بل قال: إنه الدكتور عمر عبد الكافي أحد الدُّعاة، قد تكون سمعت باسمه. فوجئ البابا مفاجأة كاملة، ولكنه بسرعة بديهة خارقة أجاب الوزير: لا مانع من استقباله برفقة الأستاذَين عادل حمودة وإبراهيم عيسى من روز اليوسف. وأدرك الوزير حراجة الموقف فقال: يا صاحب القداسة، واضح أنك تعرف كل شيء، ولا شك أن حكمتكم سوف تسمو على أخطاء الآخرين، خاصة إذا كانت هناك بعض المبالغات في تصويرها. قال البابا: ومن الحكمة أيضًا أن يحضر الكاتبان من روز اليوسف حتى تنتهي هذه المبالغات. وأحس الوزير أن الموقف يتعقد فاستدرك قائلًا: إن مجيء الرجل في صحبتي هو أقوى اعتذار علني، بل وتكذيب. واستطرد البابا في المداعبة المقصودة: تكذيب أم نقد ذاتي؟ أعني تكذيب لروز اليوسف أم للشريط المسجَّل؟ أجاب محمد علي محجوب: إنه اعتذار أمام الرأي العام والشعب المصري، ونفي قاطع لكل ما قيل وتردد. ولا شك أن وطنيَّتكم وسماحتكم سوف تأذن له بتقديم هذا الاعتذار. قال البابا: أبواب الكنيسة مفتوحة للجميع، فنحن ندعو إلى احتفالاتنا حتى الذين يهاجموننا ويبذرون الفتنة الطائفية في مقالاتهم وسياسات أحزابهم.

لم يشأ البابا شنودة أن يفتح مع وزير الأوقاف ملفًّا مغلقًا، هو استيلاء الوزارة على إيجارات بعض الأوقاف الخاصة بالأديرة دون وجه حق. وإنما هو كان قد فوجئ تمامًا بموضوع زيارة عمر عبد الكافي المقترَحة للتهنئة بعيد القيامة في الكاتدرائية المرقسية الكبرى.

والحكاية إن ما نشره عادل حمودة وإبراهيم عيسى في روز اليوسف لم يذهب سُدًى، فالبرغم من «دفاع» البعض في مجلس الشورى عن الرجل باعتباره من المعتدلين، إلا أن صمود روز اليوسف وتحدِّيها المستمر تحت عنوان «حاكموه أو حاكمونا» قد دفع المسألة برمَّتها إلى أعلى مستويات السلطة التي طلبت تحقيقًا متعددًا وشاملًا حول الرجل والأشرطة وردود الفعل الشعبية وأحاديث التليفزيون ومواقف الإدارات المختلفة مما جرى، سواء ما يخص الرقابة على المصنفات أو وزارة الأوقاف. وقد تداخلت المصالح وتناقضت الإرادات، ولكن نتائج التحقيق الواسع انتهت إلى «مشروع اقتراح» باعتذارٍ علني حاسم لا يحتمل التأويل من جانب عمر عبد الكافي. وقد تولت أكثر من جهة صياغة الاعتذار المطلوب، وقد دفعت مناسبة عيد القيامة إلى إخراج الاعتذار في الصياغة الأكثر قبولًا؛ إنه العيد الذي حدده عبد الكافي مثالًا لمقاطعة المسلم للمسيحي حتى لا يكفر، والمكان هو أم الكنائس في المقر البابوي، وكان عبد الكافي قد حرَّم على المسلم دخول أية كنيسة، والبابا شخصيًّا هو المضيف. وكان عبد الكافي قد حرَّم على المسلم ضيافة المسيحي أو مصافحته أو تهنئته، وإذا لم يكن من الأمر بد فلا تقل له السلام عليكم بل «جود مورننج أو بونجور، والأفضل أن تتوِّهه» بالسؤال عن اعتلال صحته، ولماذا هو أصفر الوجه هكذا!

وافق البابا في خاتمة المَطاف على زيارة وزير الأوقاف وبصحبته عمر عبد الكافي. وقد وصلت سيارة الوزير أمام الصرح البطريركي قبل الموعد المحدد بخمس دقائق، ولم يكن مكتب البابا خاليًا؛ فقد سبقت سيارة الوزير سيارة التليفزيون لتسجيل مقابلات البابا في العيد؛ إذ كانت الشخصيات العامة تملأ ردهة المكان في حركة لا تنقطع ممن يجيئون ويذهبون، بالإضافة إلى المذيعين والمذيعات والمصوِّرين والمخرجين والصحفيين من أجهزة الإعلام المصرية والعربية والعالمية، وكذلك الدائرة المضيفة من المطارنة والأساقفة من أعضاء المجمع المقدس ورجال المجلس الملِّي والسكرتارية الخاصة. ولمعت عدسات التصوير وامتدت الميكروفونات أثناء دخول محمد علي محجوب وزير الأوقاف وبرفقته «الرجل» الذي سرعان ما تعرَّف على شخصيته البعض فامتلئُوا بالدهشة والفضول في حدِّه الأقصى. كان الوزير يرسم على شفتيه ابتسامة لا تخلو من الحذر والتوجس، وكان عمر عبد الكافي أقرب إلى حيادية اللون الأبيض، لا تخفي النظارة الطبية قدرًا من الامتقاع. وقد تقدَّم الوزير فاتحًا ذراعيه للبابا الذي أخذه بالأحضان، وجاءت كلماته الخفيضة مسموعة: كل عيد وأنت طيب، ثم كررها وهو يشد على سيدي البابا مصافحًا، وقد اتسعت ابتسامته قليلًا. وقبل أن ينتحي جانبًا قدَّم الرجل: الدكتور عمر عبد الكافي يا صاحب القداسة؛ فتقدم الرجل مصافحًا، وهو يردد: كل عام وأنتم طيبون، بارك الله فيكم، كل عام وأنتم طيبون، عيد سعيد بإذن الله، شكرًا لكم. وكانت عدسات التصوير والميكروفونات في حركة لا تنقطع حتى أشار البابا إلى الوزير أن يجلس على يمينه، وإلى عمر عبد الكافي أن يجلس إلى يساره، وقلة قليلة من الضيوف ما زالت في أماكنها، وحينئذٍ طلبت السكرتارية الخاصة من أجهزة الإعلام أن تترك قاعة الاستقبال بعض الوقت. وحينئذٍ بدأ الوزير كلامه بأن أشاد في حماسٍ وحرارة بالغين بوطنية الأنبا شنودة والكنيسة القبطية والأُخوَّة التاريخية الراسخة بين الأقباط والمسلمين على أرض مصر منذ أربعة عشر قرنًا، وإن أبناء الدينَين السماويين هم أبناء أب واحد وأم واحدة هي أرض مصر وسماؤها.

كان البابا شنودة ينصت باهتمام، يهز رأسه أحيانًا هزات خفيفة علامة الموافقة، بينما كان عمر عبد الكافي يمد رأسه إلى الأمام مستمعًا إلى الوزير وهو يردِّد بصوتٍ خفيضٍ بين الحين والحين: هذا صحيح، هذا حق، لم تقل سوى الصدق. وبعد برهة عابرة من الصمت أضاف: لعن الله من أصاب أرض الكنانة بسوء، ملعون في الأرض وفي السماء. كان يتكلم وهو ينظر إلى أسفل، فما إن رفع عينيه حتى اكتشف أن البابا يحدِّق فيه من علٍ، فاستطرد: كل من يظن بمصر السوء يستحق اللعنة، سواء تطرف في القول أو الفعل. نحن أمة وسط في الدين والدنيا، هكذا يقول الإسلام، وهكذا تقول مصر على طول تاريخها. الاعتدال جوهر حياتنا، ومن ينحرف عن هذا الجوهر فهو ينحرف عن دينه ودنياه. حينئذٍ قال الوزير: نعم يا دكتور عمر، هذا هو الكلام، أليس كذلك يا قداسة البابا؟ ابتسم البابا شنودة مرحبًا: أهلًا وسهلًا، أنتم شرفتم يا أهلًا وسهلًا. قال عمر عبد الكافي: شكرًا لك وللسيد الوزير على إتاحة هذه الفرصة التي تمنيتها كثيرًا وطويلًا؛ فالإسلام كرَّم عيسى عليه السلام، ولم يذكر القرآن من النساء سوى مريم في تبجيل وتوقير، وأوصى دائمًا بأهل الكتاب، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، دون فرقة أو تمييز. وهذه مصر بلادنا معًا لا فضل فيها لأحدٍ إلا بقدر ما يعطي لدينه ووطنه، والعطاء لا يكون إلا خيرًا، وليس خيرًا للفرد وحده، بل للناس جميعًا في دنياهم وآخرتهم. قاطعه الوزير: جميل يا دكتور عمر، ونرجو ألَّا نكون قد أثقلنا على قداسة البابا. علَّق الأنبا شنودة: في الإنجيل آية تقول «كل ما يُعمل، يعمل للخير للذين يحبون الله، أما الشر فمصيره الزوال ولأصحابه الدينونة» ومن يسئ إلى مصر فقد أساء إلى الله، وكانت هذه الكلمات الوحيدة التي علَّق بها البابا على كل ما قيل، وكانت كلمات الختام. وقام الوزير محجوب فعانق الأنبا شنودة مردِّدًا كلمات الشكر، وحين وقف معه عمر عبد الكافي راح يملأ عينيه من القاعة، فما إن انتهى الوزير من المصافحة، ودخلت كاميرات التليفزيون وميكروفونات الإذاعة حتى أمسك بيدَي البابا خفيض الصوت والرأس، وهو يتمتم: كل عام وأنتم بخير، شكرًا لكم، حفظكم الله، شكرًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وخرج الاثنان معًا يصحبهما أحد الكهنة تلاحقهما عدسات المصورين، إلى الباب الخارجي حيث تقف السيارة الحكومية لوزير الأوقاف.

وهمس أحد الصحفيين الأجانب لزميله المصري: ماذا سيقول هذا الرجل لجمهوره يوم الجمعة المقبل؟

(٤) خطاب مفتوح إلى عمر عبد الكافي

هل تقبل يا سيدي خطابًا من مواطن مصري مسيحي آمن دومًا بانتمائه الثقافي إلى الحضارة العربية الإسلامية، وآمن دومًا بانتمائه الوطني إلى مصر ذات التاريخ المتعدد الحلقات من المرحلة الفرعونية إلى المرحلة القبطية إلى المرحلة الإسلامية الممتدة إلى يومنا، والتي تشكِّل هُوية المصريين جميعًا على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم ومذاهبهم؟

هل تقبل يا سيدي أن يتجاوز هذا الخطاب قشور الكلمات لبَّ اللباب؟ أي أن نتجاوز الشكليات والتفاصيل التي قد تسلِّي بعض الوقت، ولكنها لا تثمر في النهاية سوى الأحقاد الصغيرة والمرارات.

وصدقني يا شيخ عمر، لم يكن مطلوبًا منك في أي وقت أن تعتذر لأحدٍ عن رأي تراه، ليكن رأيك ما تشاء، وكيفما كان اجتهادك في قولٍ كما تعتقد. وليس أصعب من أن يحجب الإنسان دخيلة نفسه بالقسر والعسف، يقول لك هذا الكلام مواطن عانى ما عاناه في المعتقلات والمنافي، لا لشيء إلا لأنه يرى رأيًا يختلف مع آراء أخرى كانت تملك السلطة.

لستُ إذن بالرجل الذي يدعوك للاعتذار عن أفكارك أيًّا كانت، غير إنه ما دمنا نعيش أنا وأنت وستون مليونًا فوق أرضٍ واحدة، وتحت سماء واحدة ندعوها «الوطن»، فإنه يحق لنا أن نتأمَّل حياتنا ومصير هذا الوطن، إذا كنا غيورين على هذه الحياة، حريصين على استمرار هذا الوطن.

وكما تعلم، فإن الحياة ليست مفصَّلة تفصيلًا على مقاس الأحياء ورغباتهم وأمزجتهم، فنحن لا نختار أبوينا ولا البلاد التي نُولَد فيها، ولا العقائد التي نرثها مع الصرخة الأولى حين ندلف من رحم الأم إلى رحم الحياة. هناك عندما نكبر ما لا يرضينا أو يوافق أمانينا، وهناك مهما حاولنا، ما يخرج عن نطاق إرادتنا، ولكن هناك أيضًا ما يستجيب لهذه الإرادة بالمقاومة والكفاح من أجل ما قد نراه أكثر صلاحًا وخيرًا.

ومن بين ما يخرج عن نطاق الإرادة الحرة هذا الوطن الذي نعيش فيه؛ إنه كالأب والأم لا نستطيع منه فكاكًا، ولا نملك له تعديلًا، من حيث مقوماته ومكوناته، تاريخه وموقعه، أهله وناسه. وقد شاءت الأقدار لهذا الوطن أن يتصف ببعض الثوابت المستمرة على مر الزمن، بالرغم من المتغيرات التي لحقت به ولاحقته في مختلف العصور.

أول هذه الثوابت هو التعدد؛ تعدد الأجناس والأديان وسُبل العيش. ولأنك رجل عالِم فأنت تعلم أنه ليس من دماء نقية في أي جزء من العالم. وأن الأنثربولوجيا قد أثبتت منذ أزمنة بعيدة أن الأصالة العرقية وهْم عنصري من أوهام الانحطاط في الفكر النازي. وإنما تختلط دماء البشر لأسبابٍ بلا حصر، من بينها التجارة والهجرات والغزوات المضادة. غاية ما هناك أن نسبة التفاعل بين الدماء المختلفة قد تزيد أو تقل في هذه البيئة أو تلك، وفي هذا العصر أو ذاك. ولم تخرج مصر على هذا القانون. وليس اختلاط الدماء في نهاية المَطاف مجرد امتزاج بين الأعراق، وإنما هو أيضًا تفاعل بين كل ما تحمله هذه الدماء في أصحابها من عاداتٍ وتقاليد وقيم وأنماط في التفكير وضوابط للسلوك. لقد دخلت في عروق المصريين دماء الفرس واليونان والرومان والعرب والأتراك والشركس، كما دخلت دماء المصريين في عروق غيرهم، وقد تشكل من ذلك كله شعب مصر الحي بأشكاله الجسمانية المختلفة، وطرائق تفكيره وأمزجته، وأساليبه في الحياة.

وقد تجاور التعدد في الأصول والجذور الجنسية مع تعدد الأديان والمعتقدات والمذاهب، ولم تعرف مصر على مدى تاريخها دينًا واحدًا أو عقيدة واحدة أو مذهبًا واحدًا انفرد بقلوب أهلها وإيمانها. في العصور الوثنية تعددت الآلهة تعدُّد المناطق التي يتكوَّن منها الوادي. وحين ظهرت الدعوة الإخناتونية إلى الإله الواحد، لم تُبطِل عبادة آمون. وحين دخلت المسيحية مصر لم تمُت الديانات الأخرى، بل يذكر التاريخ أن الإمبراطور الروماني دقلديانوس قد أباد عشرات الألوف من المصريين (مسيحيين ووثنيين). ومعنى ذلك أن الوثنية كانت من بين الديانات القائمة في مصر المسيحية. ثم دخل الإسلام، وانخرطت في الإيمان به تدريجيًّا غالبية المصريين، ومع ذلك بقيت المسيحية في مصر. وهكذا لم تعرف مصر مرة واحدة في تاريخها انفراد دين من الأديان أو مذهب من المذاهب، مهما بلغ اضطهاد الحاكمين لهذا الدين أو ذاك المذهب. وليس التعدد الديني والعقائدي والمذهبي إلا تعددًا في الثقافات أيضًا، أو ما نسميه الآن بالخصوصيات الثقافية.

مصر بلدٌ متعددٌ إذن، وهذه طبيعته التي قُدِّر علينا أن نسلِّم بها سواء رغبنا في ذلك أو لم نرغب، فهي من الثوابت التي تخرج عن إرادتنا.

ولكن «الثابت» الآخر — في الوقت نفسه — هو أن مصر، بالرغم من هذا التعدد، فهي بلد واحد موحد، ومن أقدم البلدان على ظهر الأرض توحُّدًا، وحَّدتها الجغرافيا منذ أبعد العصور (النيل)، والسياسة (نظام الدولة المركزية)، والتاريخ (الغياب المثير للحروب الأهلية والمواجهة الجماعية للغزاة). هذه العناصر كان من شأنها تدريجيًّا ودائمًا أن تنجز خاصيتين حاسمتين في البِنية الأساسية للشعب المصري: أن تحمي الخصوصيات الثقافية، وفي طليعتها أساليب التديُّن وتجليات الإيمان، وأن تدعم «المشترَك» في غايات العقل ووسائل الوجدان، دون أي تناقضٍ بين حماية الخصوصية ودعم المشترَك، وكانت الثمرة الطبيعية لهذه العلاقة الحميمة بين الوحدة والتنوع ظهور الشخصية المصرية بسلبياتها وإيجابياتها في إطارٍ وطني عام يمكن تمييزه عن أي إطار وطني آخر، ولكن يصعب التمييز أو يستحيل بين العناصر الداخلية التي أسهمت في تشكيله، وبدءًا من الأشكال الجسمانية وانتهاءً بالخصائص النفسية، مرورًا بالأنماط الاجتماعية والذهنية، يمكن التعرُّف على «المصري» بين بقية الشعوب، ولا يمكن التعرُّف على خصوصياته الثقافية إلا من المظاهر المباشرة. هناك «وحدة» تكوينية في الفرد، وحدة جماعية في المجتمع، ووحدة تأسيسية في الثقافة. هذه الوحدة ليست مفروضة من علٍ أو من الخارج، بل هي حصيلة التفاعل بين عوامل التنوُّع والتعدد وبين عناصر الانجذاب إلى التوحد، وكما أن الأولى عوامل مادية ومعنوية كذلك الأخرى.

أما «الثابت» الثالث فهو نتيجة هذا التكوين الفريد للشخصية المصرية والوطن المصري؛ التمدن والرقي والسماحة والتفاعل الحضاري من موقع «الوطنية» أولًا وأخيرًا. لم ينفصل المصريون حين أتاهم الإسكندر الأكبر غازيًا يعرض عليهم إيمانه بعبادة آمون، ولم ينفصلوا مرة أخرى حين أتاهم بونابرت يعرض عليهم إيمانه بالإسلام؛ وقد انتهى الأمر في الحالَين بخروج اليونان والفرنسيين. ولكن المصريين لم يأنفوا من استخدام الحروف اليونانية لكتابة لغتهم القبطية، ولم يأنفوا مرة أخرى من استخدام المطبعة التي أتى بها الفرنسيون، والنظم الحديثة في الإدارة والسياسة. وكان هؤلاء المصريون على استعدادٍ للتضحية بآلاف الشهداء في زمن دقلديانوس حتى إن التقويم القبطي المستمر إلى اليوم في علاقة الفلاح المصري بالزراعة يُدعَى تقويم الشهداء. ومع ذلك فحين قرر قسطنطين اتخاذ المسيحية دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية رفض المصريون بقاء الاحتلال تحت راية الدين الواحد، واختاروا المذهب الأرثوذكسي تعبيرًا لاهوتيًّا عن مقاومة الاحتلال. وهم أنفسهم الذين دخلوا في الإسلام أفواجًا، ثم رفضوا بعد حين الاحتلال العثماني تحت راية الإسلام. وكانت الكنيسة المصرية هي التي اتخذت من العربية لغة الصلاة؛ فأنجزت المقدمة الحاسمة لتعريب البلاد.

وهكذا كانت السماحة قرين المقاومة انطلاقًا من الوطنية، وكان التفاعل الحضاري قرين الكفاح من أجل الحرية والاستقلال انطلاقًا من الوطنية. إنه التمدن والرقي في علاقة المصري بالمصري أولًا، وفي علاقته بالعالم ثانيًا.

هذه الثوابت الثلاثة يا دكتور عمر تعرضت لامتحاناتٍ عسيرة، وأنت سيد العارفين، تعرضت لامتحانات الطغيان والاستبداد والقهر السياسي من الحكام. وتعرضت لامتحانات الظلم الاجتماعي الفادح من جانب الفئات المهيمنة على الثروة، وتعرضت لامتحانات العبودية من جانب الغزاة. وكان كل حاكم طاغية غازٍ مستبد، وكل استغلالي ظالم يعرف سلفًا مقومات الشعب المصري ومكوناته الأساسية؛ لذلك حاولوا دائمًا إحدى محاولتَين؛ إما تضخيم الخصوصيات الثقافية لدرجة تمزيق شمل الشعب الواحد، وإما إلغاء هذه الخصوصيات لفرض الواحدية الدكتاتورية على الجميع وصبِّهم في قالبٍ واحدٍ لا علاقة له بالدين من قريبٍ أو بعيدٍ، ولكنهم مستعمرون وغزاة وحكام طغاة وجدوا في تأويلات الدين ورجاله سلاحًا سياسيًّا ماضيًا وقادرًا على «توحيد» الناس وراءهم، كان شعارهم إما «فرِّق تسُد»، وإما «الكل في واحد». وقد انتهت هذه الشعارات وأمثالها بالهزائم المدوية، حين روَّج المستعمرون لشعار «فرِّق تسُد» رفض الأقباط مبدأ حماية الأقليات، ورفضوا أي نصٍّ في الدستور عن التمثيل النسبي، وخطب القمص سرجيوس في الأزهر قائلًا «إذا كان تحرير مصر يحتاج إلى مليون شهيد قبطي فإننا على استعدادٍ لدفع هذا الثمن ليخرج الإنجليز من بلادنا.» وخطب مكرم عبيد في حشود المسلمين والأقباط «اللهم اجعلنا نحن النصارى لك وللوطن مسلمين، واللهم اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارًا»؛ وخرج الإنجليز في النهاية من بلادنا، وبقي أصحابها مسلمين وأقباطًا.

وحين أقبل حاكم كالرئيس الراحل أنور السادات ليستخدم الورقة الدينية في السياسة قائلًا في تحدٍّ لم يمارسه حاكمٌ من قبل «أنا رئيس مسلم في دولة إسلامية» كان يحرِّض القتلة باسم الدين على اغتياله لأنه سرعان ما قال «لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة.» ولكن من يبدأ البداية لا يتحكم دائمًا في النهاية؛ لذلك نمَت البذرة التي رعاها بالري والسقيا، وكبرت الثمرة المُرَّة التي غرس شجرتها في أرضٍ لا يرضى لها البعض أن تنعم بالاستقرار والاستمرار؛ وهكذا وصلنا يا شيخ عمر إلى ما وصلنا إليه.

من ينكر أننا نجتاز اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى أحد الامتحانات العسيرة لمقدمات ومكونات هذا الوطن الأساسية؟ إن مصر كانت دائمًا هدفًا لخصومها التاريخيين والعابرين والمستجدين. وقد هيَّأت الظروف الداخلية والخارجية أوضاعًا خطرة خلال السنوات العشرين الأخيرة، من شأن تفاعلاتها أن تعصف بوجودنا ذاته، وجودنا جميعًا، حكامًا ومحكومين، أقباطًا ومسلمين، أغنياء ومعدَمين. ولن تنقذنا في هذا العالم المتغير بسرعة الكمبيوتر والصاروخ أية «ثروة» من هنا أو «ثورة» من هناك؛ كلها تحالفات عابِرة هشَّة لا يفوز بنهايتها سوى الأقوياء.

ونحن، صدقني، من الأقوياء إذا شئنا، ومصدر قوتنا أكبر من الثروات والثورات البعيدة والقريبة. هذا المصدر هو البنية الأساسية للشعب المصري، تلك الثوابت التي حدَّثتك عنها: إذا حافظنا على التعدد والوحدة والتمدن والسماحة والتفاعل الحضاري من موقع الوطنية فنحن أقوياء رغم ضعفنا، وأغنياء رغم فقرنا.

أما إذا حاكينا الطغاة والغزاة، ورفعنا سرًّا أو علنًا شعارات من نوع «فرِّق تسُد» أو «الكل في واحد»، وحاولنا أن نضخم من الخصوصيات الثقافية لدرجة التفرقة والتمييز والعزل وتمزيق شمل الشعب الواحد، أو حاولنا أن نضخِّم من الواحدية الدكتاتورية التي تقسر الجميع في قالبٍ واحد، فإننا نشارك بوعي كامل في محاولاتٍ تستهدف إلغاء هذا الوطن من خريطة الوجود الفعلي للحضارة. وسواء كانت هذه المحاولات من جانب بعض أبناء جلدتنا أو بعض أشقائنا، أو من جانب استراتيجيات أجنبية؛ فإن دعمها بوعي أو بغير وعي يفضي إلى نتيجة واحدة هي الدمار، أما الإسهام في مقاومتها، فإنه يمنح عشرات الملايين من أبناء وبنات هذا الشعب الصابر نورَ الأمل.

وأنت يا دكتور عمر رجل مسئول، لأنك تتمتع بالعلم والمعرفة والموهبة والجمهور الذي يصغي إليك.

أنت مسئول عن الطريق الذي تختاره لنفسك ووطنك ومواطنيك.

ووفقًا لهذه المسئولية سيكون الثمن الحقيقي من الوطن … والتاريخ.

(٥) خطاب مفتوح إلى عمر عبد الرحمن

ها أنت ذا يا سيدي رهين المحبسَين.

ولكن بمعنًى مغاير لشاعر المعرَّة العظيم.

كان يقطر الحكمة لا الفتوى.

وكان زعيمًا للخيال لا للكوابيس.

وكان اسمه أبا العلاء على مُسمًّى، عنوانًا على السمو والرفعة والشموخ.

عقله يخترق الآفاق بنور البصيرة،

وبدنه ارتبط ببدن أهله وناسه، حتى إذا أتاه الموت اكتسى بغلالة من ضوء شفيف ونام، ترنو إليه العصور، تستلهم الروح والضمير والتاريخ، وتنهل من محبة الكون مجد الكلمة سر الوجود.

أما أنت يا سيدي،

فرهين المحبسَين.

بمعنًى عابر، ولكنه ثقيل الوطء والوطأة، الظلام والظُّلمة، فكأنك من ظلامة إلى ظلامة تشهق، ومن مظلمة إلى مظلمة تزفر، ومن أنَّات الوحشة العاتية تتظلم.

من الإسلام الحنيف رضعت المعرفة، ومن الأزهر الشريف تزوَّدت بالعلم. ولم تكن بحاجة إلى البصر لتعرف أن نور العقل يهدي من يشاء، فارتويتَ، وارتويتَ، حتى فاض النهر. كنت تأوي إلى ينبوع الحكمة وتلتذ بنَهم المعرفة وتصقلك روح العلم.

وكان من بين ما تعلَّمت أن الإسلام شيء، وأن تاريخ المسلمين شيء آخر، وأن تأويل الإسلام ميراثٌ بشري يحق فيه الاجتهاد كأي فكرٍ بشري؛ لذلك سالت الدماء في عصورٍ، وازدهرت الحضارة في عصورٍ أخرى.

لم ينجُ من بحر الدماء بعض الخلفاء الراشدين أنفسهم، وهلك في المذابح خلْق كثيرون من المسلمين. في الصراع بين الفِرق والمذاهب كانت «السياسة» هناك و«المصالح» تلعب دور البطولة. كان «النص» واحدًا، والتأويلات عديدة تعدُّد المصالح والسياسات والسلاطين، وكلٌّ يرى أنه على صوابٍ مُطلَق، والآخرون على خطأ مبين. الشيعة والخوارج والمعتزلة والقرامطة وثورة الزنج، وكان ما ندعوه الآن بتوازن القوى هو الذي يحسم الأوضاع والمواقف على أسِنَّة الرماح والحِراب.

وكان خراب الديار الإسلامية في تلك الأيام فادحًا، من تشرذُم وتفرُّق وتبعثُر، عنوانًا على الضعف والتخلف الذي أصاب دار الإسلام من هول الاستبداد ونفي الآخر.

كانت المسافة بين النص والتأويل قد امتلأت بالمصالح المباشرة فضاقت مساحة «السلطة» التي فُصِّلت على قياس الحفنة القليلة من المستفيدين، ولأن السلطة والشرعية تتطابقان فقد تم استبعاد المساحة الأوسع من أصحاب المصالح المغايرة لمصالح السلطة والشرعية. وهكذا سُدَّت أبواب العدل والحرية، وكانت «الفتاوى» تبرر الصواب المطلَق، وتنظِّر للخطأ المطلَق، فأمكن لتناقض التأويل أن يبرر التذابح وأنهار الدم.

وكان هذا هو الباب الواسع أمام الانسحاب والتراجع والتفتُّت، من سقوط الأندلس إلى سقوط الإمبراطورية العثمانية إلى الاستعمار الغربي الحديث.

وكل هذا أنت تعرفه حق المعرفة.

ولكنك تسميه مع آخرين، العصرَ الذهبي.

بينما العصر الذهبي الحقيقي هو الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها؛ حين كانت أوروبا تسبح في بحر الظلمات. كانت أوروبا تُحكَم بموجب الحق الإلهي، وكانت الكنيسة قد تحالفت ببابواتها وكهنتها مع الملوك والنبلاء ضد العلماء والفقراء، فازدادت الإمبراطورية المقدَّسة تخلفًا وتفككًا. ولم ينجُ التاريخ السياسي للمسيحية الغربية من التذابُح على المقاطعات والتناحر الدموي على الإمارات، وقد لُفَّت هذه الحروب أيضًا بورقٍ من السلوفان العقائدي واللاهوتي. وعندما اتجهت رايات الصليب إلى القدس، كانت الحرب الاقتصادية والسياسية قد اتخذت أيضًا أشكالًا عقائدية.

ولكن الحروب الصليبية، والحروب بين الكهنة والعلماء والفقراء، والحروب بين الملوك والنبلاء والبابوات وقد أجهزت على إمبراطوارية الحق الإلهي. وأدركت درس التاريخ، فأنقذت المسيحية من براثن الأحادية ونفي الآخر والجمود، وحوَّلتها إلى مجموعة من القِيَم الخاصة بالمصير الإنساني؛ وازدادت بذلك حياة، بالرغم من أنها فصلت الدين عن الدولة. ولكن الدولة هي دولة المجتمع، الذي لا سبيل لفصله عن الضمير الإنساني. وتمكَّنت الدولة تدريجيًّا من استيعاب التعدُّد في الأعراق والأديان والمذاهب الفكرية والسياسية في إطار الشرعية، وجفَّفت ينابيع العنف.

كانت الحضارة العربية الإسلامية أحد عناصر الطريق إلى نهضة أوروبا.

كانت تملك المَحاور العظمى الثلاثة: العقلانية والحرية والمنظور التاريخي؛ إنه العصر الذهبي حقًّا بين عصور الإسلام والحضارة. وهو العصر الذي عرف الحوار العظيم بين العلم والفلسفة والتاريخ، وأثمر في خاتمة المَطاف جيشًا من العلماء والفلاسفة وكبار المثقفين في مختلف فروع المعرفة حتى ذلك الوقت. كان هذا هو العصر نفسه الذي عرف جيوش الإسلام الفاتحة المظفرة، فالنهضة الكبرى تكاملت بين جيش العقل وجيش الفتح. وبين السلطة والشرعية التي تكفل حياة آمنة للجميع دون نفي للآخر، سواء أكان أجنبيًّا عن دار الإسلام، أو من غير المسلمين الذين يعيشون في هذه الدار، وسواء اختلف المسلم عن الآخر في الرأي أو تباينت المصالح والاجتهادات. لم يكن الحوار بين أهل الدار أقل حدة بين الأهل والجيران، أو بين الأهل والخصوم. كان الحوار إعمالًا للعقل؛ فتوفَّرت العقلانية، وأتيح للإسلام أن يؤسِّس إحدى أعظم إمبراطوريات الدنيا.

هذا عصر ذهبي بين عصورٍ ذهبية عديدة أقامت الحضارة الإنسانية على أُسس من الحق والعدل والحرية والإخاء والمساواة.

وذاك عصر حديدي عمَّت فيه الفوضى والدماء والخراب الذي انتهى بالتراجع والهزائم.

فإلى أي عصرٍ تدعو يا «شيخنا»، وأنت رهين المحبسَين، لا بالمعنى العظيم الذي تجلَّى في أبي العلاء المعري، وإنما بالمعنى الذي تدركه الآن أكثر من أي وقتٍ مضى؛ محبس البصيرة التي استغنى بها أبو العلاء عن نعمة البصر، ومحبَس نيويورك الذي قادك إليه الوهم بأنها أقرب من الوطن نشدانًا لوطنٍ أكبر هو العالم. وفقدتَ أمثولة أبي العلاء مرتين، فلا أنت اخترقت بنور البصيرة الآفاق، ولا أنت حرصت على تراب الأرض التي أنبتتك، حتى ولو أحاطتك الأشواك.

استدرجتك أولًا فِخاخ النشوة بأنك ستغيِّر مجرى التاريخ فاخترت «عصرك الذهبي»، ولا فضل لك فيه، وإنما هي العاهة التي ابتُليت بها، وكان متاحًا لك كأمثالك أن تكون مفتاحًا لينابيع الحكمة والصبر؛ فإذا بها تغلبك على أمرك، ورحت تحلم بدورٍ «خارق» يعوِّضك الإحساس بظلم الطبيعة شهرةً وذيوعَ صيت وهل «أخرق» من الإفتاء بقتل رئيس الجمهورية في حادث المنصة الشهير؟ فأمسيت بين عشية وضحاها من نجوم الاغتيال السياسي، ولكنك لم تدرك أن المسلسل الدموي سوف يقودك من حالٍ إلى حالٍ، حتى أصبح من المحال أن تستقر من عناء الترحال.

واستدرجتك ثانيًا، صورة الخميني اللامعة بين النجف وباريس، فأخذ منك البريق كلَّ مأخذ، حتى إنك لم تفرِّق بين الشيعة والسنة، وبين مصر وإيران، وبين حكم الشاه والحكم في مصر، وبين نظام الملايا والعصابات المسلحة. كل ما أدركته هو «الثورة الإسلامية» و«الدم» جنبًا إلى جنب، ولكن ما لم ترَه كثيرٌ؛ فقد كانت الحرب الإيرانية الأولى ضد بلد عربي مسلم، وكان الغزو الإيراني الأول لثلاث جُزر عربية مسلمة، وكان الرابح الأكبر هو الغرب وإسرائيل.

غير أن ما لم تدركه بعدُ من تاريخ وطنك أن عمر مكرم قد سلَّم السلطة لمحمد علي، وأن الإمام محمد عبده قد شارك في الثورة العرابية ضد توفيق، وأن الشيخ رفاعة الطهطاوي كان إمامًا للتنوير، وأن الشيخ محمود شلتوت كان مجتهدًا من أجل الوطن، وأن كل الأئمة والمشايخ لم يبتغوا الحكم أملًا، ولا السلطة مغنمًا.

تاريخنا مختلف، وفي ثورة ١٩١٩م اتجه علماء الإسلام إلى الكنائس والقساوسة إلى المساجد، لأن تاريخنا مختلف. وحدث أن ساعدنا بلادًا عربية وإسلامية؛ فلم نعرف الغزو للآخرين أو العدوان، لأن تاريخنا مختلف. ولم تُسفك الدماء إلا دفاعًا عن شرف الوطن، لأن تاريخنا مختلف.

فإذا كنت لم تقرأ تاريخ بلادك، واكتفيت بتقليد الخميني، فإن مصيرك قد اختلف: فشتَّان بين من كان بلده هو المستقر، ومن ظل مطاردًا حتى دخل المصيدة بقدمَيه؛ إنها المسافة بين الواقع والأوهام، واقع الحجم والأحداث والزمان والمكان، وأوهام الحلم الضائع.

وقد استدرجك إلى الفخ ثالثًا المساحة الديمقراطية التي تدفع الدولة دفعًا إلى التضحية بها حتى يعم الظلام، فقد برَّأتك المحاكم والقوانين، وخرجت من البلاد معزَّزًا مكرَّمًا، وما زلتَ تفتي بتخريب الاقتصاد الوطني وإسقاط هيبة الدولة الوطن، وكأن الوطن ليس وطنك بل وطن الأعداء، وكأن الدولة هي دولة الاحتلال، وكأن البلاد التي نعمت فيها بسيادة القانون وحرية الحركة هي بلاد استباحها الغزاة فيتَّموا أبناءها، ورمَّلوا نساءها وأضلُّوا شبابها.

والديمقراطية التي تزدرونها بالعنف، وتُهدرونها بالقتل، هي التي تمضون تحت جناحها لوأدها؛ فليس النظام الذي تبغونه على أنقاضها إلا نظام القنانة والعبودية والقهر، ولكم في السودان أُسوة، ولكم في إيران أُسوة، ولكم في أفغانستان أُسوة، وهي البلاد التي أشعلت الحرائق للديمقراطية حتى لأبناء الفريق الحاكم باسم «الإسلام».

ثم استدرجك إلى الفخ رابعًا بريقُ الإعلام في الغرب، وتوهَّمت، وأنت في عقر داره، أنك سيد المكان والزمان؛ وإذا بك في المصيدة رهين المحبسَين. لم تشأ أن تتفقَّه البديهيات، فلم تسأل نفسك السؤال البسيط؛ كيف يمكن للولايات المتحدة أن تكون حامية الإسلام؟ ولكنك، في غمرة انبهارك بالبريق المزوَّر لم تسأل الأسئلة البسيطة، وإنما صرت الأداة الطيِّعة للآلة الجهنمية، حتى إذا أُطفئت الأنوار وأُسدل الستار لم تجد مأوًى سوى السجن، حتى إيران خذلتك.

لأن العنوان الوحيد الصحيح كنت قد فقدته منذ زمن؛ الوطن، ولا شيء غير الوطن، ولأن الوظيفة الوحيدة الصحيحة كنت قد فقدتها منذ زمن، العلم ولا شيء غير العلم؛ فضَّلت أن تهرول من سراب إلى سراب في صحراء لا حياة فيها ولا ماء. شئت أن تمضي في الطريق المعاكس للحضارة الإسلامية في ذروة اكتمالها، شئتَ أن تمضي في طريق الدم إلى النهاية، فإذا بالآخرين يلتقطونك، تارة ضد وطنك، وتارة ضد الإسلام، وتارة ضد نفسك.

ولكنه طريقٌ بلا عودة.

لأنه سرابٌ في سرابٍ،

وما توهَّمته المحطة الأولى لم يكن سوى المحطة الأخيرة.

في اللحظة التي خطوتَ فيها خارج الديار، وظننت أنه الخلاص، وفي اللحظة التي ترجَّلت فيها، وحسبت أنها غاية المراد.

كنت تخطو في واقع الأمر إلى قدرك الذي شاركَت أوهامُك في صُنعه وألعاب الآخرين. ولم تكن بحجم لعبة الأمم؛ فصرتَ رهين المحبسَين، ولكن بمعنًى يختلف والمصير الذي آلت إليه حياة أبي العلاء المعري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥