الرجل ذو العين الواحدة
وقعت بداية هذه القضية، التي ورطتني، دون أن أدري، في أفحشِ إجرامٍ وشرٍّ سمِع بهما بشَرٌ، بالطبع، مساء يومٍ ربيعي، منذ عشْر سنوات، عندما نظرتُ من نافذة الرَّدهة الأمامية في بيت والدتي بالشارع الرئيسي في بلدة بيرويك أبون تويد ورأيتُ رجلًا يقف أمام المنزل مباشرةً، ويضع رقعةً سوداء على عينه اليسرى، وقد ألقى على كتفَيه، بلا اعتناءٍ، وشاحًا اسكتلنديًّا صوفيًّا قديمًا، وفي يده اليُمنى عصًا غليظة وحقيبة سفر قديمة الطِّراز مصنوعةٌ من قماش الأبسطة. لمحني بينما كنتُ أنظر نحوه، فتحرَّك، واتَّجه على الفور نحو باب منزلنا. لو كنتُ أمتلك القدرة على رؤيةِ أكثرَ مما هو واضح واستشراف المستقبل، لكنتُ حتمًا سأرى السرقة، والقتل، والشيطان ذاته يُرافقه عن كثبٍ وهو يعبُر الرصيف. لكن كما كان الحال، لم أرَ فيه شيئًا سوى أنه كان غريبًا، ففتحتُ النافذةَ وسألتُ الرجلَ عمَّا يريد.
فأجاب: «غرفة مفروشة للإيجار!» وهو يُشير بإبهام غليظة نحو ورقةٍ علَّقتها والدتي في ذلك اليوم على النافذة الصغيرة التي تعلو الباب. ثم تابع: «غرفة مفروشة للإيجار! لديك غرفة لتؤجِّرها لرجلٍ بمفرده. أنا رجلٌ بمفردي، وأريد غرفة. لمدة شهر … وربما أكثر. لا يُهمني سعرها. وأؤكد على مراعاة الاحترام التام … من جانبي. احتياجاتي قليلة ومُتطلباتي متواضعة. من المُستبعَد أن أسبِّب مشكلات. افتحِ الباب!»
مضيتُ في الممرِّ وفتحت له الباب. فدخل، دون أن ينطِق بكلمة، ودون أن ينتظر أن أدعوَه للدخول، وهو يتمايل بشدة — فقد كان رجلًا ضخمًا، ثقيل الحركة — إلى الرَّدهة، حيث وضع حقيبته، ووشاحه، وعصاه، ثم هوى على كرسيٍّ مُريح، وأطلق أنَّةً وهو ينظر إليَّ.
«وما اسمك؟» سألني، كما لو كان لديه الحق في أن يدخل منازلَ الناس ويطرح أسئلته. ثم تابع: «أيًّا كان اسمك، أنت شابٌّ يمكن الاعتماد عليه!»
أجبت، وأنا أظن أنه لا ضررَ من مجاراته: «اسمي هيو مونيلوز.» ثم تابعت: «إن كنتَ تريد أن تعرف معلوماتٍ عن الغرفة يجب أن تنتظر حتى تأتي والدتي. إنها الآن خارج المنزل؛ وستعود بعد قليل.»
أجاب: «لستُ في عجلةٍ من أمري يا ولدي.» «لا شيءَ على الإطلاق. فهذا مُستقَر مريح. وهادئ. والدتك أرملة، أليس كذلك؟»
قلتُ باقتضاب: «أجل.»
سأل: «هل لديك … إخوة وأخوات؟» ثم تابع: «أقصد، بالطبع، أي أطفال صغار في المنزل؟ لأن الأطفال الصغار هم ما لا يُمكنني تحمُّله … إلا من بعيد.»
قلت: «لا أحد إلا أنا وأمي، وخادمة.» ثم تابعت: «هذا منزل هادئ بما فيه الكفاية، إن كان هذا ما تعنيه.»
قال: «هادئ هي الكلمة المناسبة.» ثم أضاف: «غرفة لطيفة، وهادئة، ومحترمة. في بلدة بيرويك هذه. لمدة شهر. إن لم يكن أكثر. كما قلت، مُستقَر مريح. والوقت، أيضًا! — عندما ترى العديد من الأماكن الغريبة مثلما رأيتُ أنا اليوم، أيها الشاب، ستعرف أن السلام والهدوء بمثابةِ اللحم والشراب لرجلٍ مُسنٍّ.»
استرعى انتباهي، بينما كنتُ أنظر إليه، أنه كان بالضبط من ذلك النوع من الرجال الذي تتوقَّع أن تسمع أنه ذهب إلى أماكنَ غريبة … رجل ذو جلدٍ مُتغضِّن وغير حليق الذقن، مع الكثير من الندبات والتجاعيد في وجهه والأجزاء الظاهرة من رقبته، والكثير من الشعر الأشيب، وعين، واحدة فقط مرئية، تبدو كما لو أنها حذرةٌ ومُترقِّبة منذ ولادته. كان رجلًا يتمتَّع بقوة كبيرة واضحة وعضلات قوية، ويداه، اللتان كانتا مُتشابكتَين أمامه وهو جالس يتحدَّث معي، كانتا كبيرتَين بما يكفي لأن تُحيطا برقبةِ رجلٍ آخر، أو لأن تُسقِطا ثورًا صغيرًا. أما عن بقية مظهره، فكان يضع قرطَين ذهبيَّين في أُذنيه، ويلبس سلسلةً ذهبيةً كبيرة وثقيلة، تظهر عبر الصدرية التي كان يرتديها، كما كان يرتدي بدلةً جديدة من صوف السيرج الأزرق، قياسها كبير إلى حدٍّ ما عليه، مما يشير إلى أنه قد اشتراها من متجرٍ لبيع الملابس الجاهزة، من وقتٍ ليس ببعيد.
دخلت والدتي بهدوء قبل أن أتمكَّن من الرد على ملاحظة الغريب الأخيرة، وأدركتُ على الفور أنه رجلٌ يتحلَّى ببعض الأدب والأخلاق، لأنه نهض من كُرسيه وانحنى، بطريقةٍ تقليدية، لتحية والدتي. ودون أن ينتظرني، أطلق لسانه في التحدُّث معها.
وقال: «خادمك، يا سيدتي.» ثم تابع: «أنت سيدة المنزل؛ السيدة مونيلوز. لقد كنتُ أبحث عن غرفة يا سيدة مونيلوز، ورأيت إعلانك فوق نافذة الباب، ووجه ابنك عند النافذة، فدخلت. ما أريده هو غرفة لطيفة، هادئة لبضعة أسابيع، مع القليل من الطهي البسيط … بلا مُبالغة. أما المال، فليس مشكلة! اطلُبي الأجر الذي تُريدين، وسأدفع مقدمًا، قبل أن أسكن، المبلغ المناسب مهما كان.»
ابتسمت والدتي، التي كانت امرأةً ذكيةً صغيرة الحجم، خبرت الكثيرَ منذ وفاة والدي، ابتسامةً خفيفة وهي تنظُر إلى المستأجِر المُحتمَل من أعلى لأسفل.
وقالت: «عجبًا، يا سيدي.» وتابعت: «أودُّ أن أعرف مَن الذي أستقبله في منزلي. وأنت غريب عن البلدة، حسبما أظن.»
أجاب: «لقد مرَّت خمسون عامًا منذ آخر مرةٍ كنتُ فيها هنا يا سيدتي.» ثم تابع: «وكنت آنذاك صبيًّا لا يزيد عمره عن اثني عشر عامًا أو نحو ذلك. ولكن بشأن هويتي وعملي، فاسمي هو جيمس جيلفرثويت. قبطان سابق لسفينةٍ من أروع السفن التي أبحرَ بها بشر. وأنا رجل هادئ، ومُحترم. لا أتفوَّه بألفاظٍ نابية. ولا أُعاقر الخمر — إلا باعتدال. وكما قلت، المال لا يُمثِّل لي أيَّ مشكلة، ويُمكنني دفعه عند طلبه. انظري هنا!»
أدخل إحدى يدَيه الكبيرتَين في جيب بنطاله، وأخرجها مُمتلئةً بعملات ذهبية. وفتح أصابعه ومدَّ كفًّا مملوءة بالذهب نحونا. كنا فقراء آنذاك، وكان مشهدًا غريبًا علينا أن نرى كل هذا المال في يد الرجل، وبدا أنه كان يعتبره كومةً من عملات الستة بنسات لا أكثر.
وصاح قائلًا: «تفضَّلي وخُذي أيَّ مبلغٍ يكفي لإيجار شهر.» ثم أضاف: «ولا تخشَي شيئًا؛ فلديَّ المزيد من المال.»
لكن والدتي ضحكت، وأشارت إليه أن يُعيد ماله إلى جيبه.
قالت: «كلَّا، كلَّا، يا سيدي!» ثم أضافت: «لا داعي لذلك. وكلُّ ما أطلبه منك هو فقط معرفة هوية مَن أستقبله. هل ستُمارس أيَّ عملٍ في المدينة لفترةٍ من الوقت؟»
أجاب: «ليس عملًا بالمعنى المعتاد، يا سيدتي.» وتابع قائلًا: «ولكن لديَّ أقاربُ يرقدون في أكثرَ من مقبرةٍ بالقُرب من هنا، وأنا مُهتم بأن أُلقي نظرة على مقابرهم، تُدركين ما أعني، وأن أتجوَّل في الأحياء القديمة التي كانوا يعيشون فيها. وبينما أفعل ذلك، أريد أن أستأجر غرفةً هادئة، ومحترمة، ومريحة.»
أدركتُ أن العاطفة في خطابه قد أثَّرت في والدتي، التي كانت هي نفسها مولَعة بزيارة المقابر، والتفتت إلى السيد جيمس جيلفرثويت بإيماءةِ إذعان.
وسألته: «حسنًا، الآن، ما الذي قد تُريده في طريقة الإقامة؟» وبدأت تُخبره أنه يمكنه الحصول على غرفة المعيشة تلك التي كانا يتحدَّثان فيها، وغرفة النوم التي تعلوها مباشرةً. تركتهما يرتِّبان شئونهما، وذهبت إلى غرفةٍ أخرى لأعتني ببعض شئوني، وبعد فترة أتت أمي إليَّ. وقالت: «لقد أجَّرتُ له الغرفتَين، يا هيو»، بنبرةِ ارتياحٍ في صوتها دلَّتني على أن الرجل الضخم سيدفع إيجارًا جيدًا. وتابعت: «إن مظهره يُوحي بأنه رجل فظ، لكنه يبدو هادئًا ومتحضرًا في حديثه. وهذه تذكرة لصندوقٍ يخصُّه تركَه في محطة السكة الحديد، وهو مُتعَب، هل يمكنك أن تجعل شخصًا ما يجلبه من أجله؟»
ذهبت إلى رجلٍ يعيش على مقربةٍ منَّا لديه عربة يدٍ خفيفة، وأرسلته إلى المحطة ومعه تذكرة الصندوق؛ فعاد به بعد فترةٍ قصيرة، وتعيَّن عليَّ مساعدته في حمله إلى غرفة السيد جيلفرثويت. ولم أكن قد رأيت أو لمست صندوقًا مثل هذا من قبل، وكذلك الرجل الذي جلبه، أيضًا. كان مصنوعًا من نوعٍ من الخشب الصلب والداكن للغاية، ومُثبَّتًا من جميع الزوايا بالنحاس، وتحته زوج من القضبان الحديدية، وعلى الرغم من أنه لم يكن يزيد عن قدمَين مُربَّعين ونصف، إلا أنه استغرق منَّا وقتًا طويلًا في رفعه. وعندما وضعناه، بناءً على أوامر السيد جيلفرثويت، على حاملٍ قوي بجانب سريره، ظل هناك حتى … ولكن أن أقول حتى متى سيُصبح سابقًا لأوانه.
بعد أن استقرَّ في منزلنا، أثبت المُستأجِر الجديد صحة كلِّ ما قاله عن نفسه. كان بالفعل رجلًا هادئًا، محترمًا، رصينًا، لا يُسبِّب أيَّ مشكلاتٍ ويُسدِّد إيجاره دون سؤالٍ أو همهمةٍ كل صباح يوم سبت وقت إفطاره. مرَّت كلُّ أيامه بنفس الطريقة تقريبًا. كان يخرج بعد الإفطار؛ وقد تراه على الرصيف، أو على أسوار البلدة القديمة، أو يتمشَّى عبر بوردر بريدج؛ وسمِعْنا بين الحين والآخر عن رحلاته الطويلة إلى الريف، على إحدى ضفتَي نهر تويد أو الأخرى. كان يتناول عشاءه في المساء؛ إذ كان قد أجرى ترتيبًا خاصًّا مع والدتي لهذا الغرض، وكم كان مُحبًّا للطعام، ومولعًا بالأشياء الجيدة، التي قدَّمها لنفسه بسخاء؛ وعندما تنتهي تلك الفترة من أحداث اليوم، كان يقضي ساعةً أو ساعتَين في قراءة الصحف، التي كان قارئًا رائعًا لها، بصحبة سيجاره وكأسه. وأنا أشهد له أنه من البداية إلى النهاية لم يصدُر عنه أيُّ شيءٍ قط، وكان دائمًا مهذَّبًا ومتحضرًا، ولم يأتِ يومَ سبتٍ لم يمنح فيه الخادمة رُبع جنيهٍ لشراء هدية لنفسها.
ومع ذلك — قُلنا هذا لأنفسنا لاحقًا، ولكن ليس في البداية — كان ثمَّة جوٌّ من الغموض يحيط بالسيد جيلفرثويت. لم يكن لديه أيُّ معارف في المدينة. ولم يشاهده أحدٌ يُجرِي محادثةً ولو قصيرة مع أيٍّ من الرجال الذين يتسكعون عند رصيف الميناء، أو عند أسوار البلدة، أو بجانب السفن. ولم يذهب إلى الحانات قط، ولم يجلب أحدًا للشرب والتدخين معه. وحتى الأيام الأخيرة من إقامته معنا لم يكن قد تلقَّى أيَّ خطابات.
ثم جاء خطاب وكذلك جاءت معه نهاية الأمور. كانت إقامته قد طالت لتتجاوز فترةَ الشهر الذي كان قد تحدَّث عنه في البداية. وفي الأسبوع السابع منذ مجيئه، عاد إلى المنزل لتناوُل العشاء في إحدى أمسيات شهر يونيو، واشتكى لوالدتي من تعرُّضه للبلل الشديد في عاصفةٍ مفاجئة كانت قد هبَّت بعد ظهر ذلك اليوم بينما كان يتجوَّل في الريف، وفي صباح اليوم التالي لازم فراشه يُعاني ألمًا شديدًا في صدره، ولم يكن قادرًا على الكلام بشكلٍ جيد. فأبقته والدتي في فراشه وبدأت في معالجته؛ وفي ذلك اليوم، قُرب الظهيرة، جاءه الخِطاب الأول والوحيد الذي وصلَه أثناء وجوده معنا؛ خطاب جاء في مظروفٍ مُسجل. صعدت به الخادمة إليه بعد توصيله، وقالت لاحقًا إنه انتفض قليلًا عندما رآه. لكنه لم يقُل شيئًا عنه لوالدتي خلال فترةِ ما بعد ظهيرة ذلك اليوم، ولا لي في الواقع، خاصةً، عندما، أرسل في طلبي، في وقتٍ لاحق لأصعد إلى غرفته. على الرغم من ذلك، إذ كنت قد سمعتُ بأنه تلقَّى خطابًا، كنت متأكدًا من أنه كان لهذا السبب، عندما دخلت غرفته، وأشار لي أنْ أُغلِق الباب علينا ثم أجلس بجانبه وهو مُستلقٍ مستندٌ على وسادته.
همس بصوتٍ أجشَّ: «إنه أمرٌ خاص يا ولدي!» ثم أضاف: «أريد أن أتحدَّث معك على انفراد!»