توقيعات على الوصية
ابتعدتُ عن المسار المعتاد للأمور على خلفية هذه المحادثة مع كرون لدرجةِ أنني غادرتُ ونسيتُ الأشياء التي كنتُ قد اشتريتُها لأقفاص أرانب توم دنلوب ونسيتُ توم نفسه، ونسيتُ مايسي أيضًا، وبدلًا من أن أعود إلى منزل آل دنلوب، سرتُ على ضفة النهر، أُفكِّر. عجزت في تلك اللحظة عن فهْم الوضع الجديد بوضوح. لم أتمكَّن من معرفةِ ما يهدف إليه كرون. كان من الواضح أنه كانت لدَيه شكوك قوية في أن السير جيلبرت كارستيرز كانت له علاقة، أو بعض المعرفة، بمقتل فيليبس، وكان حينئذٍ يعلم أنَّنا نحن الاثنين سيؤكد كلٌّ منَّا شهادةَ الآخر بأن السير جيلبرت كان بالقُرب من موقع الجريمة وقت ارتكابها. فلماذا، إذن، ينصح بالتمهُّل؟ لماذا لا نذهب نحن الاثنين إلى الشرطة ونشهد بما نعرفه؟ ما الذي نصح كرون بضرورة التمهُّل لأجله؟ هل كان ثمة شيءٌ ما يجري، بعض التحريات التي تُجرى في خلفية الأحداث، والتي عرفها ولم يُخبرني بها؟ والتساؤل التالي، هو، على ما أظن، ما كان يدور في ذهني بشكلٍ رئيسي؛ هل كان كرون يلعب لعبةً خاصة به ويُخطِّط ليستخدمني دميةً فيها؟ وذلك لأنه كان ثمة جوٌّ عام من المكر والدهاء يُحيط بالرجل وفرض نفسه عليَّ، مع حداثة سنِّي كما كنتُ آنذاك؛ كما أن الطريقة التي ظلَّ يَرمقني بها أثناء حديثنا جعلتني أشعُر أنه كان يتعيَّن عليَّ التعامُل مع شخصٍ يصعب التحايُل عليه إن تعلَّق الأمر بالخداع. وأخيرًا، بعد الكثير من التفكير، بينما كنتُ أتجوَّل وقت الغسق، خطر لي أنه ربما كان كرون ينوي المشاركة في اللعبة التي كنتُ قد سمعتُ عنها، لكنَّني لم أُشاهدها من قبل؛ لعبة الابتزاز.
كلما كنت أفكِّر في هذه الفكرة، كنت أزداد تيقُّنًا منها. إذ بدا أن تلميحاته حول أموال السير جيلبرت وزوجته الثرية، ونصيحته بالتمهُّل حتى نعرف المزيد، كانت تُشير جميعها إلى هذا؛ ذلك الدليل الذي قد يظهر والذي لن يتطلَّب سوى شهادتنا المشتركة؛ شهادة كرون وشهادتي، لإكماله. إن كان الأمر كذلك، إذن، بالطبع، سنُصبح، كرون أو أنا، أو نحن الاثنين، كما يُحتَمَل أن يكون قد خطَّط، في وضعٍ يسمح لنا بالذهاب إلى السير جيلبرت كارستيرز وإخباره بما نعرفه، وسؤاله كم سيُعطينا لنُمسك ألسنتنا. أدركتُ كامل النظرية أخيرًا، بوضوح كافٍ، وكان هذا بالضبط ما توقَّعته من أبيل كرون، من خلال معرفتي البسيطة به. تمهَّل حتى نتأكد، ثم اضرب! كانت تلك هي لعبته. ولن يكون لي أي علاقة بها.
عُدت إلى البيت ودخلتُ إلى سريري حاسمًا أمري على ذلك. كنتُ قد سمعتُ عن الابتزاز، وكانت لديَّ فكرة جيدة عن شرِّه، وخطرِه، ولم أكن سأُشارك كرون في أي مُجازفة من هذا النوع. ولكن كرون كان حقيقةً واقعية ملموسة تعيَّن عليَّ التعامُل معها، والتوصُّل إلى بعض التفاهم معها، لأنه ببساطة كان يعلَم أن بحوزتي معلوماتٍ كان يتعيَّن عليَّ، بالطبع، أن أُبلغها إلى الشرطة في الحال. وظللتُ مُستيقظًا أثناء الليل، أُقَلِّب الأمور في رأسي، وبحلول وقت نهوضي من الفِراش في الصباح كنتُ قد توصَّلت إلى قرار. سأُقابل كرون في الحال، وسأُعطيه نوعًا من الإنذار النهائي. وسأدعوه أن يأتي، في الحال، معي إلى السيد موراي، ونُخبره بما نعرفه نحن الاثنين وننتهي من الأمر، وإن لم يفعل، فسأذهب بنفسي مباشرة إلى السيد ليندسي وأخبره.
انطلقتُ إلى المكتب في وقتٍ أبكرَ من المُعتاد في ذلك الصباح، وسلكتُ شارعًا خلفيًّا يقع متجر كرون في نهايته أمام النهر. كنتُ أحيانًا أسلك هذا الطريق في الصباح، وعرفتُ أن كرون عادةً ما يكون هناك في وقتٍ مُبكر جدًّا، وسط خُردته القديمة، أو يُمارس لعبته المفضَّلة المُتمثلة في النميمة مع الصيادين الذين كانت قواربهم راسيةً هناك. لكن عندما وصلتُ إلى المتجر، كان لا يزال مُغلقًا، وعلى الرغم من أنني انتظرتُ وقتًا طويلًا قدرَ استطاعتي، لم يأتِ كرون. كنت أعرف المكان الذي يقطن فيه، في أقصى البلدة، وظننتُ أنني سأُقابله أثناء سيري إلى مكتب السيد ليندسي، لكنني لم أُقابله إلى أن وصلتُ إلى باب مكتبنا؛ لذلك نحَّيت الأمر جانبًا حتى الظهر، مُنتويًا أن أتحدَّث معه في طريق عودتي إلى المنزل لتناوُل العشاء. وعلى الرغم من أنه كان بإمكاني فعْل ذلك في الحال، فقد قرَّرتُ ألا أقول أيَّ شيءٍ للسيد ليندسي إلى أن أمنح كرون الفرصة لقول ذلك معي؛ له أو للشرطة. توقَّعت، بالطبع، أن يُجَن كرون غضبًا من اقتراحي؛ وإن حدث ذلك، عندئذٍ سأُخبره، مباشرةً، بأنني سأمضي في طريقي الخاص، وسأمضي فيه في الحال.
ولكن قبل الظهر حدث تطوُّر آخر في هذه القضية. خلال الصباح، طلب منِّي السيد ليندسي أن أذهب معه إلى منزل والدتي، حيث كانت السيدة هانسون قد أمضت الليلة السابقة هناك، وكنا سنتفحَّص مُتعلقات جيلفرثويت معها، حسبما قال، بهدف تمكينها من حيازتها. وقد يُصبح هذا — على الأرجح — عملًا طويلًا وصعبًا، كما أوضح هو، نظرًا لأنه كان يُوجَد الكثير من الغموض حول تحرُّكات أخيها الأخيرة؛ وبما أن المرأة كانت فقيرة فقرًا واضحًا، كان من الأفضل أن نتحرَّك نيابةً عنها. لذلك ذهبنا إلى هناك، وفي رَدهة منزل أُمي الأمامية، وهي نفسها التي كان جيلفرثويت قد اختارها غرفةَ جلوسه، فتح السيد ليندسي الصندوق الثقيل للمرة الثانية، بحضور السيدة هانسون، وبدأتُ أنا في إعداد قائمةٍ بمحتوياته. وعندما رأت المرأة الأموالَ التي كان يحتوي عليها، بدأت ترتجِف.
وصاحت، وهي تكاد تبكي: «آه، يا سيدي! كل هذا المال موضوع هنا، دون نفع! آمُل أن تكون ثمة طريقة يئول بها لي ويُصبح ملكي، يُمكننا أن ننتفع به، أعدك!»
قال السيد ليندسي: «سنبذل قصارى جهدنا يا سيدتي.» ثم أضاف: «حيث أنكِ قريبة من الدرجة الأولى، لن يكون في الأمر صعوبة كبيرة، وسأُعجِّل الأمور لكِ بأسرعِ ما في وسعي. ما أريده هذا الصباح هو أن تُلقي نظرةً على كلِّ ما في هذا الصندوق؛ يبدو أنه لم يكن لديه مُتعلقات أخرى غير هذا وملابسه، هنا في منزل السيدة مونيلوز، على أي حال. وكما ترين، بخلاف المال، لا يُوجَد شيء آخر في الصندوق سوى علب السيجار، وصناديق كثيرة من التُّحَف التي من الواضح أنه جمعها في أسفاره؛ عملات معدنية، وأصداف، وزخارف، وجميع أنواع الأشياء الغريبة، بعضها بلا شك له قيمة. ولكن لا أوراق، ولا رسائل، ولا وثائق من أيِّ نوع.»
فجأة خطرت لي فكرة.
فقلت: «يا سيد ليندسي، أنت لم تفحص محتويات أيٍّ من هذه الصناديق الصغيرة في تلك الليلة. قد تُوجَد أوراق في أحدها.»
فصاح: «فكرة جيدة، يا هيو، يا ولدي!» ثم أضاف: «صحيح — ربما يكون بها أوراق. فلنبدأ إذن، سنفحصها بطريقةٍ منهجية.»
بالإضافة إلى نصف دزينة صناديق مليئة بسيجار هافانا الفاخر، والتي تقع في الجزء العلوي من الصندوق، كان يُوجَد دزينة من صناديق مماثلة، فارغة من السيجار ومُعبَّأة عن آخِرها حرفيًّا بالتُّحف التي تحدَّث عنها السيد ليندسي للتو. وقد أفرغ، وأعاد تعبئة، محتويات ثلاثة أو أربعة منها بعناية، عندما عثر، في قاع أحدها، والذي كان مليئًا بعملات معدنية قديمة، قال إنها كانت مكسيكية وبيروفية، وربما كانت ذات أهمية كبيرة لهواة جمع العملات، على ورقةٍ مطوية ومُصَدَّقٍ عليها بأحرفٍ عريضة. وأطلق صيحةً أثناء إخراج هذه الورقة وأشار لنا نحو المُصادَقة.
وقال: «هل ترون ذلك؟» ثم أضاف: «إنها وصية الرجل!»
كانت المصادقة واضحة للغاية؛ «وصيتي: جيمس جيلفرثويت.» وتحتها كُتِبَ تاريخ، ٢٧-٨-١٩٠٤.
ساد صمت تامٌّ بيننا نحن الأربعة — كانت والدتي معنا طوال الوقت — بينما فتح السيد ليندسي الورقة؛ نصف ورقة، سميكة من الحجم المتوسِّط، وقرأ ما كان مكتوبًا فيها.
«هذه هي وصيتي الأخيرة، أنا جيمس جيلفرثويت، مواطن بريطاني، مولود في ليفربول، وسابقًا من جارستون، في لانكشاير، إنجلترا، ومُقيم الآن مؤقتًا في كولون، في جمهورية بنما. أهبُ وأُورِّث كلَّ مُمتلكاتي ومتعلقاتي، الحقيقية والشخصية، التي قد تكون في حوزتي أو تحقُّ لي، لأختي، سارة إلين هانسون، زوجة ماثيو هانسون، المُقيمة في ٣٧ بريستون ستريت، جارستون، لانكشاير، إنجلترا، بشكلٍّ مُطلَق، وفي حال وفاتها تُمْنَح لأي أطفالٍ ربما تكون قد أنجبتهم من زواجها من ماثيو هانسون، بحصصٍ مُتساوية. وأُعيِّن سارة إلين هانسون المذكورة — أو في حالةِ وفاتها، ابنها الأكبر — مُنفِّذًا لوصيتي هذه، وأُبطِل كلَّ الوصايا السابقة. بتاريخ اليوم السابع والعشرين من أغسطس ١٩٠٤م. جيمس جيلفرثويت. مُوقَّعة من الموصي في حضورنا نحن …»
توقَّف السيد ليندسي فجأة. ورأيت، بينما أنظر إليه، عينيه تدوران في محجرَيهما بدهشةٍ شديدة من شيءٍ رآه. ودون أن ينطق بأي كلمةٍ أخرى، طوى الورقة، ووضعها في جيبه، والتفت إلى السيدة هانسون، وربَّت على كتفها.
وقال بحرارة: «كل شيءٍ على ما يُرام، يا سيدتي!» وتابع: «هذه وصية سليمة، ومُوقَّعة ومُصدَّقة على النحو الواجب، ولن تُوجَد أي صعوبةٍ في الإقرار بصحَّتها؛ اتركيها لي، وسأفعل ذلك، وسأُعطيها لكِ في أقرب وقتٍ مُمكن. وعلينا أن نفعل كلَّ ما بوسعنا لمعرفة ما إذا كان أخوك هذا قد ترك أيَّ ممتلكاتٍ أُخرى؛ وفي غضون ذلك، سنُعيد مرة أخرى كل شيءٍ أخرجناه من هذا الصندوق ونُغلقه.»
كان الوقت قد اقترب من مَوعد العشاء عندما انتهَينا، لكن السيد ليندسي، وهو يُغادر، أشار إليَّ بالخروج إلى الشارع معه. وفي زاوية هادئة، التفت نحوي وأخرج الوصية من جيبه.
وقال: «هيو!» وتابع: «هل تعرف مَن هو أحد الشاهدَين على هذه الوصية؟ أجل، مَن هما الشاهدان؟ يا رجل! لقد كدتُ أُصعق عندما رأيتُ الأسماء! انظر بنفسك!»
سلَّمني الورقة وأشار إلى بند الشهود في نهايتها. ورأيت الاسمَين في الحال؛ جون فيليبس، ومايكل كارستيرز، وأطلقتُ صيحةَ ذهول.
وقال، وهو يأخذ الوصية: «أجل، يحقُّ لك أن تندهش!» ثم أضاف: «جون فيليبس! هو الرجل الذي قُتل في تلك الليلة! مايكل كارستيرز؛ هو الأخ الأكبر للسير جيلبرت هناك في هاثركلو، الرجل الذي كان سيرِث اللقب والمُمتلكات لو لم يكن قد تُوفِّي قبل السير ألكساندر. كيف كان صديقًا لجيلفرثويت؟»
قلتُ مُعلِّقًا: «سمعتُ أن السيد مايكل كارستيرز هذا قد سافر إلى الخارج عندما كان شابًّا، يا سيد ليندسي، ولم يَعُد إلى الوطن مرةً أخرى.» ثم أضفت: «من المُحتمل أنه تقابَل مع جيلفرثويت هناك بالخارج.»
قال: «بالضبط.» ثم أضاف: «ذلك ما حدث، بلا شك. هذا مُؤكَّد! لقد كتب في بند الشهود أنه مايكل كارستيرز، مهندس، الحي الأمريكي، كولون؛ وجون فيليبس موصوف بأنه مقاول من الباطن، من نفس العنوان. لقد كان ثلاثتهم يعملون في أعمالٍ ذات صلةٍ بقناة بنما. ولكن — ليُباركنا الرب! — بعض الحقائق الغريبة تتكشَّف، يا ولدي! يتعرَّف مايكل كارستيرز على جيلفرثويت وفيليبس في ذلك الجزء البعيد من العالم؛ يعود فيليبس وجيلفرثويت، بعد وفاة مايكل كارستيرز، للوطن إلى هذا الجزء من العالَم الذي نشأ فيه مايكل كارستيرز. ويُقْتَل فيليبس بمجرد وصوله إلى هنا، ويموت جيلفرثويت فجأةً حتى إنه لا يستطيع أن يُخبرنا بكلمةٍ عن حقيقة الأمر! ما حقيقة الأمر؛ ومَن الذي سيكشفها لنا؟ يا رجل! — يوجد ما هو أكثر من جريمة قتل وراء كل هذا!»
من العجيب أنني لم أفصح عن كلِّ ما كنتُ أعرفه في تلك اللحظة. وربما كان على طرَف لساني، ولكن حينئذٍ بالضبط دفعني نحو باب منزلنا.
وقال: «سمعتُ والدتك تقول إن الغداء في انتظارك.» ثم أضاف: «ادخل الآن؛ وسنتحدَّث أكثر بعد ظهر اليوم.»
سار مُبتعدًا في الشارع، واستدرتُ وأسرعت في تناول الغداء. أردتُ أن أذهب إلى متجر كرون قبل أن أذهب مرةً أخرى إلى المكتب: ما حدث للتوِّ جعلني أُقرِّر أنني وكرون يجب أن نُفصح عما لدَينا؛ وإن لم يفعل، فسأفعل أنا. وبعد قليلٍ كنتُ أمضي مُسرعًا إلى متجره، وعندما دلفتُ إلى الحارة الخلفية التي تقود إليه، قابلت الرقيب تشيسهولم.
فقال: «ها هو ذا لغطٌ غريب آخر، يا سيد مونيلوز!» ثم أضاف: «أتعرف ذلك الرجل أبيل كرون، صاحب متجر الأدوات البحرية؟ أجل، حسنًا، لقد عُثر عليه غريقًا، منذ أقل من ساعة، ومن كذا وكذا، تُوجَد علامات غريبة عليه، تُشير إلى تعرُّضه للعنف!»