دوري
كنتُ أعرف منذ بعض الوقت أن السير جيلبرت كارستيرز كان يمتلك يختًا صغيرًا يرسو في أحد المراسي على ضفاف النهر؛ في الواقع، كنتُ قد شاهدت اليخت قبل أن أرى السير نفسه. كان يختًا رشيقًا وأنيقًا، له مظهر قاربٍ بحري ممتاز، وعلى الرغم من أنه بدا وكأنه قارب يمكن أن يتحمَّل طقسًا قاسيًا جدًّا، فإنه كان يتمتع بميزة أن غاطسه كان قليلًا جدًّا — نحو أقل من ثلاثة أقدام — مما كان يُمكِّنه من دخول أكثر الموانئ ضحالة. كنتُ قد سمعتُ أن السير جيلبرت كان يُبحر به باستمرارٍ على طول الساحل، وأحيانًا كان يُبحر به في عُمق البحر. في هذه الرحلات كان يُرافقه عادةً بحَّار شابٌّ تعرَّف عليه بطريقةٍ أو بأخرى: وقد وقف هذا الشاب، واتي ماسون، داخل اليخت عندما وصلتُ إليه، وحدجني بنظرةٍ ساخطة عندما وجد أنني سببُ إبحارِه في هذا الوقت على أي حال. وقد ربض حولنا حتى نزلنا، مثلما يربض كلب جائع حول طاولةٍ مُنتظرًا أن تُلقى له عظمة؛ لكنه لم ينَل أيَّ شكرٍ من السير جيلبرت، الذي، على الرغم من أن الشاب كان مفيدًا جدًّا له من قبل، لم يَنتبه إليه في ذلك اليوم أكثرَ من واحدة من الحصى على الشاطئ. ولو كنتُ ممَّن يَهتمُّون بدراسة الطبيعة البشرية، لحظيتُ بفكرةٍ عن شخصية صاحب عملي المستقبلي من ذلك الموقف البسيط، وكنتُ سألاحظ أنه لم يكن لديه أي شعور أو اعتبار لأي شخصٍ ما لم يكن يخدم غرضه ويُناسبه.
لكن في تلك اللحظة لم أكن أفكِّر في أي شيءٍ سوى الاستمتاع برحلةٍ بحرية في اليخت، بصحبة رجلٍ كنت مُهتمًّا به بطريقة طبيعية. كنت مولعًا للغاية بالبحر، وتعلَّمت بالفعل من بحَّارة بيرويك كيفية التعامُل مع المراكب الصغيرة، وكانت إدارة قارب ثلاثي الشراع مثل هذا مسألة سهلة لي، مثلما أطلعت السير جيلبرت بعد قليل. وبمجرد الخروج من مصبِّ النهر، مع نسيمٍ خفيف يهبُّ من اليابسة، فردْنا الشراع المُربع، والشراع الرئيسي، والشراع الأمامي، وتوجَّهنا مباشرةً نحو البحر في يومٍ رائع وظروفٍ مواتية يتمنَّاها أيُّ قائد يخت؛ وبينما كنَّا نُبحر في سرور طلب مني السير جيلبرت إخراج السلة التي كانت قد وُضعت على متن اليخت من الفندق؛ حيث كان قد مرَّ وقت طويل، كما قال، منذ تناوله الإفطار، وينبغي أن نأكل ونشرب في بداية الرحلة. لو لم أكن جائعًا، كان منظر المؤن في تلك السلة سيجعلني كذلك؛ إذ كان بها كلُّ ما يمكن أن يرغب فيه المرء، من سمك السلمون البارد والدَّجاج البارد إلى اللحم البقري المشوي، وكان يُوجَد الكثير من المشروبات لتجرع الطعام بها. ومع أخذي في الاعتبار السهولة والصحة التي كان السير جيلبرت كارستيرز يتناول بها الطعام والشراب، وكيف كان يتحدَّث ويضحك بينما كنا نتناول الغداء جنبًا إلى جنبٍ تحت تلك السماء الرائعة، وننزلق بعيدًا فوق بحرٍ ناعم بريء المظهر، تساءلت كثيرًا منذ ذلك الحين عما إذا كان ما سيحدُث قبل حلول الظلام قد حدث بنيةٍ مُتعمَّدة من جانبه، أم نتيجة لاستسلامٍ مفاجئ لوساوس الشيطان عندما سنحت الفرصة لحدوثه، وأُقسم بحياتي أنني لا أستطيع أن أُقرِّر! لكن لو أن الرجل كان قد عزم في قلبه على القتل، بينما كان جالسًا بجانبي، يأكل طعامه الجيد ويشرب خمره الفاخر، ويتشارك فيهما معي ويلحُّ عليَّ أن أتناول ما شئتُ من مُؤنِه السخية، لو كان الأمر كذلك، فقد كان، في رأيي، ذا قسوةٍ لا تُوصَف تجعلني أشعر بالرُّعب من التفكير فيها، وأنا أُفضِّل أن أعتقد أن الدافع وراء محاولة قتلي جاء من وسوسةٍ مفاجئة نبعت من فرصةٍ مفاجئة. ومع ذلك، يعلم الرب أنها مُعضلة يصعب حسمها!
لأن هذا ما آل إليه الأمر، وقبل أن يُضفي غروب الشمس حُمرته على السماء باتجاه الغرب خلف تلال تشفيوتس. قطعنا شوطًا طويلًا داخل البحر، أبعدَ بكثيرٍ من خطِّ الثلاثين قامة، والذي، كما يعلم جميع البحَّارة ذوي الخبرة بتلك المياه، يقع على بُعد سبعة أميال من الشاطئ؛ في الواقع، كما علمتُ لاحقًا، كنَّا على بُعد أكثرَ من ضعف تلك المسافة من طرَف رصيف ميناء بيرويك عندما حدث الأمر، وربما أبعد من ذلك. كنَّا قد أخذنا نُبحر طوال فترةِ ما بعد الظهر، أولًا جنوبًا، ثم شمالًا، دون أي هدفٍ مُعيَّن، وإنما على غير هدًى. ولم نرَ شراع أيِّ قاربٍ آخر، وبعد الساعة السابعة مساءً بقليل، عندما كان ثمة بعض الحديث عن العودة والاستفادة من الريح، التي كان قد تغيَّر اتجاهها كثيرًا منذ الظهيرة وأصبح الآن قادمًا أكثرَ من الجنوب الشرقي، كنا في وسط الامتداد الهائل للبحر حيث لم أتمكَّن من رؤية أثرٍ لأي قاربٍ غير قاربنا، ولا حتى أثر دُخان في الأفق. وكانت اليابسة قد اختفت منذ فترةٍ طويلة: لم يكن يظهر فوق خطِّ البحر سوى المُنحدرات العُليا لتلال تشفيوتس على أحد جانبَي نهر تويد وتلال لامرمور على الجانب الآخر. وأظن أنه لم يكن يُوجَد أيُّ شيءٍ مرئي على كل هذا المستوى من الماء الهادئ سوى أشرعتنا، المفرودة لالتقاط أيِّ نسيمٍ يهب، عندما حدث ما لم يضعني على حافة الموت فحسب، بل عرَّضني مجرد حدوثه لأبشع رُعبٍ عرفته على الإطلاق.
كنتُ واقفًا في تلك اللحظة، بقدمٍ واحدة على حافة مقدمة اليخت، والأخرى على الأرضية الخشبية خلفي، أوازن نفسي بلا مُبالاة بينما أخذت أُحملق عبر البحر بحثًا عن شيءٍ ما ادَّعى هذا الرجل، الذي وثقتُ به تمامًا والذي في صحبته كنتُ قد قضيت الكثيرَ من الساعات المُمتعة بعد ظهر ذلك اليوم، والذي كان يقف ورائي في تلك اللحظة، أنه يراه على بُعد، وعندئذٍ مال باتجاهي فجأة، كما لو كان قد انزلق وفقد توازنه. كان ذلك ما اعتقدتُه في تلك اللحظة المروِّعة، ولكن عندما سقطتُ برأسي في البحر من على سطح اليخت أدركتُ أن انزلاقه اقتصر على وقوعه في فتحة تصريف المياه. وقعتُ من على ظهر اليخت! لكنه بقِيَ حيث كان. وسحبني وزني — حيث كنت أزن في ذلك الوقت ثلاثة عشر ستونًا (ما يعادل قرابة ثلاثة وثمانين كيلوجرامًا)؛ إذ كنت شابًّا ضخمًا وثقيلًا — إلى أسفل وأسفل في المياه الخضراء؛ لأنني كنتُ قد دُفِعتُ من على الجانب بقوةِ دفعٍ كبيرة. وعندما طفوت، على بُعد مسافةٍ تبلغ ضعفَي طول اليخت، مُتوقعًا أن أجده يُحاول تقريب اليخت منِّي حتى أتمكَّن من القفز على مَتنه، رأيتُ وأنا في حالة فزعٍ مشوبٍ بالدهشة وعدم التصديق أنه لم يفعل شيئًا من هذا القبيل؛ بدلًا من ذلك، كان يعمل على السطح بأقصى ما يستطيع، كي يفرد ثنيتَين كان قد طواهما في الشراع الرئيسي قبل ساعة؛ وبعد دقيقة كان قد فردهما، فتحرَّك اليخت بسرعةٍ أكبر، وهُرع إلى الدفة، وحَوَّل وجهة اليخت بعيدًا عنِّي مُتعمدًا.
أفترض أنني أدركتُ هدفه على الفور. ربما دفعني ذلك إلى الغضب والجنون والاهتياج. كان اليخت يبتعِد عني بسرعة، وابتعد أسرع؛ وعلى الرغم من أنني كنتُ سبَّاحًا جيدًا، كان من المُستحيل أن ألحق به؛ كان يقطع مسافةً مساوية لطوله مُقابل كل ضربة يدٍ منِّي للماء، وبينما كان اليخت يبتعِد، وقف هناك، واضعًا إحدى يدَيه على الدفة والأخرى في جيبه (تساءلت كثيرًا عما إن كان يُمسك مُسدسًا داخل جيبه!) وتحوَّلت عيناه نحوي بثبات. وبدأتُ أولًا أتوسَّل إليه وأستعطفه ليُنقذني، ثم أخذتُ أصرخ وألعنه؛ وعندئذٍ، وبعد أن أدرك أن التباعُد بيننا كان آخِذًا في التزايُد، تعمَّد وضْع اليخت أكثرَ أمام الريح المنعشة، ومضى بعيدًا بسرعة، ولم يَعُد ينظر نحوي.
إذن فقد تركني لأغرق.
كنَّا قد تحدَّثنا كثيرًا خلال فترةِ ما بعد الظهر عن السباحة، وقد أخبرتُه أنه على الرغم من أنني كنتُ سبَّاحًا منذ الصبا، لم أسبح لمسافةٍ مُتواصلة أكثرَ من ميلٍ واحد، وذلك في النهر فقط. ومن ثَمَّ كان يعلم أنه تركني على مسافةِ أربعة عشر ميلًا من الشاطئ ولا يُوجَد حولي أيُّ قاربٍ على مرمى البصر، ودون أي فرصةٍ لأن يلتقطني أحدٌ. هل كان من المُمكن أن أتمكَّن من الوصول إلى الأرض؟ هل كان يُوجَد أيُّ احتمالٍ أن يراني أي قاربٍ مارٍّ؟ كان يُوجَد احتمال ضئيل، على أي حال؛ لكن الاحتمال الأكبر كان أنه قبل وقتٍ طويل من حلول الظلام سيُصيبني الإعياء، وأستسلم، وأغرق.
يمكنك أن تتخيَّل مدى الغضب، والاستياء البالِغ الذي تملَّكني وأنا أُشاهد هذا الرجل ويخته يبتعِدان عني سريعًا، ومدى اليأس أيضًا. لكن حتى في تلك اللحظة كنتُ مدركًا لحقيقتَين؛ أنني علمتُ الآن أن ذلك الرجل هو القاتل المُحتمَل لكلٍّ من فيليبس وكرون، وأنه تركني لأموت لأنني كنتُ الشخص الوحيد على قيد الحياة الذي يُمكنه إلقاء بعض الضوء على تلك الأمور، وعلى الرغم من أنني كنتُ قد التزمتُ الصمت حتى ذلك الحين، ربما عن طريق الإغراء، أو التحفيز، أو الإجبار على فعل ذلك، كان من شأنه أن يُسكِتَني عندما أُتيحَت له فرصة جيدة جدًّا كهذه. والحقيقة الأخرى، هي أنه مع أن احتمال رؤيتي لبيرويك مرةً أخرى كان مُساويًا لاحتمال أن أصبح مَلِك إنجلترا، إلا أنني يجِب أن أبذل قصارى جهدي لتوفير قوَّتي وإنقاذ حياتي. كان لديَّ الكثير من المُحفِّزات؛ مايسي، ووالدتي، والسيد ليندسي، وشبابي، والرغبة في الحياة، والآن أضيف إليهم حافزًا آخر؛ الرغبة في أن أتغلَّب بدهاءٍ على ذلك الشيطان القاسي، البارد القلب، الذي كنتُ متأكدًا الآن من أنه كان طوال الوقت يُمارس لعبة يائسة، وأن أنتقم منه وأرى العدالة تأخذ مجراها معه. لم أكن سأستسلم دون أن أُقاتل من أجل ذلك.
لكن فرصتي كانت ضعيفة، وكنتُ أُدرك ذلك جيدًا. كان ثمَّة احتمال ضئيل أن تخرج قوارب الصيد أو ما شابه في ذلك المساء؛ واحتمال ضئيل أن ترى أي باخرةٍ ساحلية شيئًا ضئيلًا مثلي. ومع ذلك، كنتُ سأُبقي ذقني مرفوعًا أطول وقتٍ مُمكن، وأول شيء تعيَّن عليَّ أن أفعله هو توفير قُوَّتي. تدبَّرت أمري كي أخلع المعطف الثقيل الذي كنتُ أرتديه والملابس غير الضرورية تحته؛ وتخلصت أيضًا من حذائي. وبعد قليل من الراحة على ظهري وتقدير الأمور، قررتُ أن أحاول الوصول إلى اليابسة، فربما أُقابل بعض القوارب وهي تخرج. رفعت رأسي عاليًا وألقيتُ نظرةً على ما يمكنني رؤيته — واعتراني الإحباط مما رأيته! إذ أصبح اليخت بقعةً على مسافةٍ بعيدة في ذلك الوقت، وبعيدًا خلفه كانت تلال تشفيوتس ولامرمور مجرد أجزاء من خطوطٍ رمادية قبالة السماء ذات اللونَين الذهبي والقرمزي. على الفور راودتني فكرةٌ وأوهنت عزيمتي؛ لقد كنتُ بعيدًا عن الشاطئ أكثرَ مما كنت أعتقد.
بعد مُضي هذه الفترة الطويلة على تلك الواقعة لا يُوجَد لديَّ سوى ذكريات مشوَّشة ومُبهمة عن تلك الليلة. أحيانًا أحلُم بها، حتى الآن، وأستيقظ عرقانَ شاعرًا بالخوف. في تلك الأحلام أرى نفسي أبذل جهدًا حثيثًا عبر بحرٍ أملسَ — إنه دائمًا بحر أملس، زيتي، زلِق — نحو شيء لا أُحقِّق نحوه تقدُّمًا كبيرًا. أحيانًا أتخلَّى عن بذل الجهد بسبب آلامٍ شديدة وباعثة على اليأس في جسدي وأطرافي، وأترك نفسي أنجرف نحو العجز والنوم المُتزايد. وبعد ذلك، في حلمي، أبدأ أجد نفسي أغرق إلى أعماقٍ كهفية غريبة ذات لونٍ أخضر لامع، وأستيقظ، في حلمي، لأبدأ النضال والكدح مُجددًا في مواجهة رغبتي المُلِحَّة في الاستسلام.
لا أدري كم من الوقت ناضلتُ في الواقع؛ لا بد أن ذلك كان لساعات؛ متناوبًا السباحة وإراحة جسدي بالطفو. راودتني أفكار غريبة. كانت في ذلك الوقت حول بعض الرجال الذين يحاولون عبور القنال الإنجليزي سباحةً. أتذكَّر الضحك الكئيب، مُتمنِّيًا لهم السعادة في مُهمتهم، وكنت مرحِّبًا بأن يشاركوني في مُهمتي! أتذكَّر أيضًا أنني شعرتُ أخيرًا في الظلام أنني يجِب أن أستسلم، وأتلو صلواتي؛ وفي نحو ذلك الوقت، الذي كنتُ قد بدأتُ أشعر فيه ببعض خدَر الذهن بالإضافة إلى إرهاق بدني، بينما رُحتُ أسبح بطريقةٍ تلقائية وآخِذة في الضعف حافظتُ عليها بدافعٍ من الإصرار الضئيل الذي كان قد تبقَّى لدي، أتى إليَّ خلاصي؛ على شكل قطعةٍ من الحطام دفعت نفسها تجاهي في الظلام، كما لو كانت كلبًا مُخلصًا، يدفع أنفه في يدي ليُعلِمَني بوجوده. لم تكن أكثر من مُربَّع شبكةٍ خشبية، لكنها كانت ثقيلةً وكبيرة؛ وعندما تشبثتُ بها وتسلَّقت عليها، علمت أنها مثَّلت لي الاختلاف التام بين الحياة والموت.