القبطان الصالح
تشبثتُ بقطعة الحطام التي أرسلتْها لي العناية الإلهية، مُرهقًا ومُنهكًا، حتى بدأ الضوء ينبلج في الشرق. كنتُ أشعر بالخدَر وأرتجف من البرد، لكنني كنتُ على قيد الحياة وآمنًا. كانت تلك القطعة المُربعة من الخشب الجيد والصُّلب عندي بمثابة جزيرةٍ عائمة. وبينما كان الضوء يتزايد، والشمس تبزغ أخيرًا، ككرةٍ من النار تخرج من الأفق البعيد، نظرتُ عبر البحر في جميع الأرجاء، على أملِ أن ألمح شراعًا، أو خيطًا من الدخان، أو أي شيءٍ يدلني على وجود بشرٍ على مقربة. وأدركتُ في الحال حقيقةً واحدة؛ كنتُ بعيدًا عن الشاطئ أكثرَ مما كنتُ عليه عندما بدأت معركتي مع الموت. لم تكن تُوجَد أي علامةٍ على وجود يابسة في الغرب. كانت السماء الآن صافية ومشرقة في جميع الجوانب، لكن لم يكن يُوجَد ما يكسر الخط الذي تلتقي فيه مع البحر. قبل أن يتلاشى الضوء في الليلة السابقة، كنتُ قد تبينتُ بسهولة الهيئةَ المعروفة لتلال تشفيوتس من جهة وتلال سايز لو من جهةٍ أخرى، أما الآن فلم يَعُد يُوجَد أثر لأيٍّ منها. علمت من هذه الحقيقة أنني قد انجرفتُ بطريقةٍ أو بأخرى بعيدًا عن الساحل. وبناءً على ذلك لم يكن أمامي شيء أفعله سوى انتظار فُرصة أن يراني أحد المراكب وينتشلني، وشرعت، قدرَ استطاعتي على طوفي الصغير، في العمل على فرك أطرافي وبث بعض الدفء في جسدي. ولم أُبارك الشمس في حياتي بقدرِ ما فعلتُ في ذلك الصباح؛ لأنها عندما بزغت من مهدِها في سماء الشمال الشرقي، كان هذا بقوَّتها الكاملة والقلبية في أوج الربيع، فأدفأَتْ حرارتها دمي المُتجمِّد وأرسلَتْ وهَجَ أملٍ جديد لقلبي. لكن تلك الحرارة لم تكن نعمةً خالصة؛ فقد أصبتُ بالعطش بالفعل؛ وبينما كانت الشمس ترتفع أعلى فأعلى، وتصبُّ أشعَّتها بكاملها عليَّ، أصبح العطش غير مُحتمَل تقريبًا، وشعرتُ وكأن فمي لم يَعُد قادرًا على احتواء لساني.
بعد مرور ربما ساعة واحدة من شروق الشمس، عندما أصبح عذابي لا يكاد يُحتمَل، لاحظتُ لأول مرة خيطًا من الدخان على الحافة الجنوبية لدائرة البحر التي كانت حينها كلَّ عالمي. لم أُجهد عيني مُطلقًا لرؤية أي شيءٍ مثلما فعلتُ مع تلك الرقعة الرمادية مقابل الزرقة الصافية! أخذت تتزايد أكثر فأكثر؛ وكنتُ أعرف، بالطبع، أنها باخرةٌ ما، تقترب تدريجيًّا. لكن بدا وكأن دهرًا قد مرَّ قبل أن أتمكَّن من رؤية مداخنها؛ ودهرًا قبل أن أرى الجزء الأول من هيكلها الأسود يظهر فوق مستوى الأمواج المُتراقصة. ومع ذلك ظهرَت أخيرًا، بمُقدمتها، مباشرة في اتجاهي. لا بدَّ أنَّ أعصابي قد استسلمت عند مرآها؛ أتذكَّر الدموع وهي تنهمِر على خديَّ؛ وأتذكَّر أنَّني سمعتُ نفسي أُصدِر أصواتًا غريبة، أظن أنها كانت أصوات ارتياحٍ وشكر. ثم داهمني الرعب من ألا يراني طاقمها، وأُترَك لتحمُّل المزيد من عذاب العطش، ومن أن تغيِّر الباخرة مسارها، وقبل وقتٍ طويلٍ من أن تصبح قريبة مني، كنت أحاول موازنة نفسي على المربع الخشبي، كي أتمكَّن من الوقوف منتصبًا وجذب انتباه طاقمها.
كانت باخرةً بطيئة للغاية، وغير قادرة على الإبحار بسرعةٍ أكبر من تِسع أو عشر عُقَد في أحسنِ الأحوال، حتى إنه مرَّت ساعة أخرى قبل أن تُصبح بالقُرب مني. لكن، حمدًا للرب! أصبَحَت على بُعد ميل واحدٍ مني، وتدبَّرت أمري لأقِفَ على الطوف وأُلوِّح لها. وعندئذٍ غيَّرت مسارها وجاءتْ ببطءٍ صَوبي. كانت واحدةً من أبشع السفن التي غادرت حوض بناء سُفنٍ على الإطلاق، لكنني ظننتُ أنني لم أرَ مُطلقًا في حياتي أيَّ شيءٍ بهذا الجمال الذي بدَتْ به في تلك اللحظات، وبالتأكيد لم أكن مُمتنًّا أبدًا لأي شيءٍ بقدرِ امتناني لسطحها الصلب والقذِر عندما ساعدتني الأيدي المُتحمِّسة والطيبة في الصعود عليه.
بعد ذلك بنصف ساعة، مُرتديًا ملابسَ جافة، وأنا أتجرَّع القهوة الساخنة وشراب الرم، جلستُ مع القبطان في مقصورته، أُخبره، تحت تعهُّدٍ صارم بالسرية، بالقدْرِ الذي شعرت بالمَيل إلى أن أشاركه إيَّاه من قصتي. كان رجلًا مُتعاطفًا ومتفهمًا، وأخذ يسبُّ كثيرًا وبحرارة عندما سمع كيف عُومِلتُ بطريقةٍ غادرة، مشيرًا إلى أن أعزَّ أمنيةٍ لقلبه، في ذلك الوقت، أن يقتص من الرجل الذي خدعني.
وقال: «لكنك ستتعامَل معه بنفسك!» وتابع: «يا رجل! لن ترحمه؛ عِدني بذلك! وستُرسِل لي صحيفة تحتوي على سردٍ كامل لكلِّ ما حدث له عندما تجعل القانون يُطَبَّق عليه، ذلك الحقير! أتمنَّى أن يُمزِّقوا أوصاله! لقد كانت أيامًا رائعة عندما كان يُوجَد المزيد من الإباحة والحرية في مُعاقبة المُجرمين … أوه! أودُّ أن أرى هذا الرجل يُلقى في الزيت المُغلى، أو شيءٍ من ذلك القبيل، الشرير القاتل، عديم الرحمة! ستُرسِل لي الجريدة، أليس كذلك؟»
ضحكت، لأول مرةٍ منذ، متى؟ بدا كما لو أنه قد مرَّت سنوات منذ أن ضحكت، مع أنه لم يكن قد مرَّ سوى بضع ساعات، بأي حال.
أجبت: «قبل أن أتمكَّن من تطبيق القانون عليه، يجب أن أصِل إلى اليابسة، أيها القبطان.» ثم أضفت: «ما وجهتك؟»
أجاب: «دندي.» وتابع: «دندي … ونحن الآن على بُعد ما بين ستين أو سبعين ميلًا فحسب، والساعة الآن تقترب من السابعة. سنصل إلى دندي في وقتٍ مُبكِّر من بعد الظهر، على أي حال. وماذا ستفعل هناك؟ هل ستستقلُّ القطار التالي إلى بيرويك؟»
أجبت: «لستُ متأكدًا أيها القبطان.» ثم أضفت: «لا أريد أن يعرف هذا الرجل أنني على قيد الحياة؛ ليس بعد. ستُصبح مفاجأة لطيفة له، لاحقًا. ولكن يُوجَد أشخاص يجب أن أجعلهم يعرفون في أقرب وقتٍ مُمكن؛ لذا فإن أول شيءٍ سأفعله، هو أنني سأُرسل برقية. وفي غضون ذلك، دعني أنَل قسطًا من النوم.»
لم تكن الباخرة التي انتشلتني سوى سفينة شحن بضائع، تُبحر ببطءٍ وهي تحمل شحنةً عامة من لندن إلى دندي، وكان المبيت فيها غير مُريح بقدرِ ما كان قبطانها ودودًا. لكنها كانت في نظري قصرًا حقيقيًّا يتَّسِم بالبهجة والفخامة بعد تلك الليلة الرهيبة، وسرعان ما رُحت في نوم عميق في كابينة القبطان؛ وكنتُ لا أزال نائمًا عندما وضع يده عليَّ ليُوقظني في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم.
وقال: «نحن في نهر تاي، وسنرسو بعد نصف ساعة. والآن، لا يمكنك النزول في المرفأ بملابسك الداخلية، يا رجل! وأين محفظتك؟»
كان مُصيبًا في تقييمه للموقف. فقد تخلَّصتُ من كل شيءٍ عدا ملابسي الداخلية أثناء محاولة النجاة؛ أما محفظتي، فكانت في نفس المكان الذي كانت فيه بقية مُتعلقاتي؛ غارقة أو طافية.
فقال: «أنا وأنت لنا نفس البنية تقريبًا.» ثم أضاف: «سأمنحك بدلةً جيدة لديَّ، وأقرضك أي مال تُريده. ولكن ما الذي ستفعله؟»
سألت: «كم يومًا ستتوقَّف هنا في دندي، أيها القبطان؟»
أجاب: «أربعة أيام.» ثم أضاف: «سأفرغ الحمولة غدًا، وسأُحَمِّل غيرها في اليومَين التاليين، وبعد ذلك سأغادر مرةً أخرى.»
قلت: «أقرضني الملابس وجنيهًا ذهبيًّا.» وتابعت: «سأُرسل برقيةً إلى مديري، ذلك الرجل النبيل الذي أخبرتُك عنه، أطلُب فيها منه أن يأتي إلى هنا على الفور مع الملابس والمال، ومن ثم سأردُّ لك المال وأُعيد لك بدلتك مرةً أخرى صباح الغد، عندما أحضره لمُقابلتك.»
فأخرج على الفور جنيهًا ذهبيًّا من جيبه، واستدار إلى الخزانة، وأخرج بدلةً جديدةً من صوف السيرج الأزرق وقميصًا مناسبًا من الكتان.
وقال، بقليلٍ من التساؤل: «حقًّا؟» وتابع: «ستأتي به إلى هنا؟ ولأي غرض؟»
أجبت: «أريده أن يسمع شهادتك على انتشالي من البحر.» ثم أضفت: «ذلك أحد الأسباب … وتُوجَد أسباب أخرى سنُخبرك بها فيما بعد. ولا تُخبر أيَّ شخصٍ هنا بما حدث، وأبلِغ طاقمك بالتزام الصمت. وسأمنحهم مقابلًا جيدًا عندما يأتي صديقي.»
كان رجلًا لطيفًا، وفهِم أن هدفي هو إخفاء خبر نجاتي عن السير جيلبرت كارستيرز، ووعد بفعل ما طلبته. وبعد قليلٍ — نظرًا لأننا، كما كان قد لاحظ، كنا نرتدي تقريبًا نفس القياس من الملابس، ولأن بدلة صوف السيرج ناسبتني جيدًا — نزلت إلى شوارع دندي، التي لم أكن قد زُرتُها من قبل، بحثًا عن مكتب تلغراف، وأنا أُدير الجنيه الذهبي الذي منحه لي القبطان بين إبهامي وسبابتي بينما أعمل على حلِّ مشكلةٍ تحتاج إلى القليل من التفكير.
يجب أن أُبلغ والدتي ومايسي بنجاتي، على الفور. ويجب أن أُبلِغ السيد ليندسي، أيضًا. كنت أعرف ما لا بدَّ أنه قد حدث هناك في بيرويك. لقد تسلَّل هذا الشرير المُتوحِّش عائدًا للبلدة وقال إن حادثًا مؤسفًا قد حدث لي. أخذت أجزُّ على أسناني وأتلهَّف إلى أن أضع يدي على لسانه الكاذب عندما فكَّرت فيما لا بدَّ أن مايسي وأمي قد كابدَتاه بعد سماع حكاياته وأعذاره. لكنني لم أكُن أُريده أن يعرف أنني نجوت؛ لم أُرِد أن تعرف المدينة. إذا اتَّصلت بمكتب السيد ليندسي، كان من شِبه المؤكَّد أن أحد زملائي الموظفين هناك سيردُّ على الهاتف ويتعرَّف على صوتي. ثم ينكشف كل شيء. وبعد تفكيرٍ عميقٍ في الأمر أرسلتُ إلى السيد ليندسي برقيةً بالكلمات التالية، على أملِ أن يفهم مدلولها كاملًا:
«اكتُم هذا السر عن الجميع. أحضِر بدلةً، وملابس داخلية، ونقودًا، وأمي، ومايسي في القطار التالي إلى دندي. أعطِ موظفي البريد أوامر بعدم إفشاء السر، وهو الأمر الأهم. إتش أم.»
قرأتُ البرقية ستَّ مراتٍ قبل أن أرسِلها في النهاية. بدا الأمر كله خطأ، بطريقةٍ ما؛ وصوابًا بطريقةٍ أخرى. ومع أن صياغتها كانت سيئة، فقد عبَّرت عما أعنيه. لذا سلَّمتُها للموظف، ومعها الجنيه الذهبي الذي اقترضتُه، وأخذتُ منه باقي الجنيه الذي ردَّه لي، وخرجتُ من مكتب التلغراف أُحدِّق فيما حولي.
لقد كان شيئًا غريبًا، لكنني حينئذٍ كنتُ منشرحَ القلب للغاية؛ وجدتُ نفسي أضحك ضحكًا نابعًا من شعورٍ غريب بالبهجة. كانت الحقيقة — إذا كنتَ تريد تحليلَ منبعِ ذلك — أنني شعرتُ بارتياحٍ كبير لقُدرتي على الاتصال بأهلي. في غضون ساعة، وربما قبل ذلك، سيصلهم الخبر، وكنت أعلم جيدًا أنهم لن يُضيعوا وقتًا في القدوم لي. ووجدتُ نفسي في ذلك الوقت بجوار محطة السكك الحديدية البريطانية الشمالية، فدخلتُ وتمكَّنت من معرفةِ أنه إذا كان السيد ليندسي في المكتب عندما تصِله برقيتي، وتصرَّف على الفور وفقًا لها، فسيُمكنه هو وهم الوصول إلى دندي بقطارٍ يصل في ساعةٍ متأخرة من ذلك المساء. بالطبع، جعلتني معرفة ذلك في حالةٍ مزاجية أفضل. لكن كان يُوجَد لديَّ مصدر آخر للرِّضا والابتهاج؛ أصبحت الأمور الآن مواتيةً لي للانتقام من السير جيلبرت كارستير، وما كان غامضًا لم يَعُد كذلك.
عُدت إلى رصيف الميناء حيث تركت باخرةَ الشحن، وأخبرتُ قبطانها الطيب بما فعلته؛ لأنه كان مُهتمًّا جدًّا بالقضية كما لو كان أخي. وبعدما أنجزتُ ذلك، تركتُه مرة أخرى وذهبت لرؤية معالم المدينة، وأنا مُنتعش للغاية وقد استعدتُ عافيتي بعد النوم الجيد الذي حظيتُ به ذلك الصباح. تجوَّلت في جميع أرجاء دندي حتى تعبَتْ قدماي، وكانت الساعة قد شارفت على السادسة مساءً. وفي ذلك الوقت، بينما كنتُ في شارع بانك ستريت، وأثناء بحثي عن مكانٍ يُمكنني فيه الحصول على فنجانٍ من الشاي وبعض الطعام، وقع بصري بالصدفة البحتة على اسمٍ مكتوب على لافتةٍ من النحاس الأصفر، مُثبتة وسط لافتاتٍ أخرى من نفس النوع، على الباب الخارجي لمجموعةٍ من المكاتب. كان الاسم هو جافين سميتون. فتذكَّرته على الفور، وتحرَّكت بدافعٍ مفاجئ، وصعدتُ الكثير من الدرجات إلى مكتب السيد جافين سميتون.