الاختفاء الثاني
كان السيد ليندسي يتَّسِم دائمًا برباطة الجأش البالِغة عند تلقِّي أخبارٍ ذات طبيعة مذهلة، وحينئذٍ، بدلًا من أن يندفع مُبديًا تعجُّبه، أومأ برأسه فحسب، وتهاوى على أقرب كرسي.
وقال بهدوء: «حقًّا؟» ثم تابع: «إذن فقد اختفت سيادتها أيضًا، أليس كذلك؟ ومتى سمعتَ بذلك؟»
أجاب موراي: «قبل نصف ساعة.» وتابع: «لقد جاء كبير الخدَم في هاثركلو هاوس إلى هنا — وقد هُرع على عجلٍ — ليُخبرنا. ماذا تستنتج من كل ذلك؟»
أجاب السيد ليندسي: «قبل أن أجيب على ذلك، أريد أن أعرف ما كان يحدُث هنا أثناء غيابي.» ثم أضاف: «ماذا حدث داخل مقاطعتك؛ أعني، رسميًّا؟»
أجاب موراي: «لم يحدُث الكثير.» ثم أضاف: «بدأ يُتداول حديث في المساء قبل الماضي، بين الصيادين، عن يخت السير جيلبرت. لقد شوهد، بالطبع، يُبحر مع مونيلوز، منذ يومَين، عند الظهر. وها هو ذا مونيلوز! ألا يعرف أيَّ شيء؟ أين السير جيلبرت، يا مونيلوز؟»
قال السيد ليندسي وهو يلقي نظرةً سريعة نحوي: «سيُخبرك بكل ذلك، عندما أطلب منه أن يفعل.» وتابع: «استمرَّ في قصتك، أولًا.»
هزَّ رئيس الشرطة رأسه، كما لو أن كل هذه الأحداث كانت تفوق استيعابه.
وتابع: «أوه، حسنا!» ثم أضاف: «أقول لك إنه كان ثمَّة حديث، أنت تعرف كيف يثرثرون على الشاطئ هناك. قيل إن اليخت لم يَعُد أبدًا، وعلى الرغم من أن عديدين منهم قد خرجوا للإبحار، لم تقع أعينهم عليه مُطلقًا، وسرعان ما بدأتِ الشائعات تنتشر حوله. لذلك أرسلت تشيسهولم إلى هاثركلو لإجراء بعض التحريات»، وتابع مُلتفتًا إلى الرقيب، «أخبِر السيد ليندسي بما سمعته.» وأضاف: «ليس كثيرًا، على ما أظن.»
أجاب تشيسهولم: «لا شيء تقريبًا.» وتابع: «قابلتُ الليدي كارستيرز. فضحكَت مما قلت. وقالت إنه من المُستبعَد أن يحيق أذًى بالسير جيلبرت؛ فقد كان يبحر باليخوت، الكبيرة منها والصغيرة، لسنواتٍ عديدة، ولا شك في أنه ذهب هذه المرة أبعد مما كان ينوي في البداية. فأوضحتُ أنه قد اصطحب معه السيد مونيلوز، وأنه كان من المُقرَّر أن يذهب إلى عمله في وقتٍ مبكر من ذلك الصباح. فضحكت مرةً أخرى على ذلك، وقالت إنها لا تشكُّ في أن السير جيلبرت والسيد مونيلوز قد سَوَّيا تلك المسألة بينهما، وإذ لم تكن تشعُر بالقلق، كانت متأكدة من أن الناس في بيرويك ليسوا بحاجةٍ للقلق أيضًا. ومن ثَمَّ عُدت إلى هنا.»
قال موراي: «ولم نسمع المزيد حتى وصلتنا برقيتك بالأمس من دندي، يا سيد ليندسي؛ وتبِعَتْها بعد ذلك بوقتٍ قصير برقية من شرطة لارجو، وهي التي أبلغتُك بها.»
سأل السيد ليندسي، بقليلٍ من التعجُّل، كما لو أن شيئًا ما قد طرأ على ذهنه للتو: «الآن، ثمة سؤال مُهم.» وتابع: «هل نَقلْتَ الأخبار الواردة من لارجو إلى هاثركلو؟»
أجاب موراي: «فعلنا ذلك، على الفور.» وتابع: «اتصلتُ فورًا بالليدي كارستيرز، وتحدثتُ معها عبر الهاتف بنفسي، وأخبرتُها بما أفادت به شرطة لارجو.»
سأل السيد ليندسي، بحدة: «متى اتصلتَ بها؟»
أجاب موراي: «في الحادية عشرة والنصف.»
قال السيد ليندسي: «ثم، وفقًا لما قُلتَه لي، غادرَتْ هاثركلو بُعَيدَ اتصالك بها؟»
أجاب موراي: «وفقًا لما أخبرَنا به كبير الخدم هذا الصباح، خرجَت السيدة كارستيرز على درَّاجتها ظهر أمس بالضبط، ولم يرَها أحد أو ترِد عنها أيُّ أخبار منذ ذلك الحين.»
سأل السيد ليندسي: «ألم تترك أيَّ رسالةٍ في القصر؟»
أضاف رئيس الشرطة، بطريقةٍ ذاتِ مغزًى: «لا شيء! ولم تذكر لكبير الخدم أنني كنتُ قد اتصلتُ بها للتو. هذا تصرُّف غريب، حسبما أظن، يا سيد ليندسي. ولكن، ما الأخبار التي لديك؟ وماذا لدى مونيلوز من معلوماتٍ عن السير جيلبرت؟»
لم ينتبه السيد ليندسي للسؤال الأخير. إذ جلس في صمتٍ لبعض الوقت، ومن الواضح أنه كان يفكِّر. وفي النهاية أشار إلى بعض نماذج البرقيات الموضوعة على مكتب رئيس الشرطة.
وقال: «ثمَّة شيء واحد يجب فعْله في الحال، يا موراي؛ وسأتحمَّل مسئولية فعْله بنفسي. يجب أن نتواصَل مع محامِي عائلة كارستيرز.»
قال موراي: «كنتُ سأفعل ذلك، بمجرد أن جلب لي كبير الخدم أخبار الليدي كارستيرز، لكنني لا أعرف مَن هم.»
أجاب السيد ليندسي: «أنا أعرف!» وتابع، وهو يناولني نموذج برقية: «هولمشو وبورتلثورب من نيوكاسل. خُذ.» وأضاف: «اكتب هذه الرسالة: «السير جيلبرت والليدي كارستيرز مفقودان من هاثركلو في ظلِّ ظروفٍ غريبة ويُرجى إرسال شخصٍ مفوَّض إلى هنا في الحال.» وقِّع عليها باسمي، يا هيو، وخُذها إلى مكتب البريد، ثم عُد إلى هنا.»
عندما عُدت، كان من الواضح أن السيد ليندسي قد أخبر موراي وتشيسهولم بكل شيءٍ عن مغامراتي مع السير جيلبرت، وكان الرجلان ينظران نحوي باهتمامٍ جديد كما لو أنني صرتُ فجأة شخصًا في غاية الأهمية. ولامَني رئيس الشرطة في الحال على كِتماني لِما رأيت.
وقال بتوبيخ: «لقد ارتكبتَ خطأً فادحًا، أيها الشاب، بكِتمانك لِما كان يجب أن تُدلي به في التحقيق في قضية فيليبس!» وتابع: «حقًّا، كان يجب أن تُفصح عن ذلك من قبل؛ كان لا بدَّ أن تُخبرنا.»
قال تشيسهولم: «أجل! لو كنتُ علمتُ بكل ذلك القدْر من المعلومات، لاتَّخذتُ …»
قاطعه السيد ليندسي: «كنتَ على الأرجح ستفعل ما فعله بالضبط! كنتَ ستُمسك لسانك حتى تعرف المزيد! لذا تجاوز ذلك الأمر؛ فقد فعل الفتى ما ظنَّ أنه كان سيؤدي إلى أفضل نتيجة. لم يشك أيٌّ منكما في أن للسير جيلبرت أيَّ صلةٍ بتلك القضايا؛ لذا توقَّفا، الآن!»
قال موراي، الذي بدا مُرتبكًا إلى حدٍّ ما من هذا المقطع الأخير: «عجبًا، فيما يتعلَّق بذلك يا سيد ليندسي، أنت نفسك لم تشكَّ فيه؛ أو، إذا كنتَ قد فعلت، فقد التزمتَ الصمت بغرابة!»
سأل تشيسهولم، بقليل من الخُبث: «هل يشك السيد ليندسي به الآن؟» وأضاف: «لأنه إن كان يفعل، فربما سيمدُّ لنا يدَ العون.»
نظر السيد ليندسي إلى كليهما بطريقةٍ كان ينظُر بها إلى الأشخاص الذين لم يكن لديه فكرة جيدة بشأن قُدراتهم، ولكن كان هناك بعض الأناةِ في النظرة هذه المرة.
وقال: «حسنًا، الآن بعد أن وصلَتِ الأمور إلى هذا الحد، وبعد محاولة السير جيلبرت المتعمدة للتخلُّص من مونيلوز — لقتله، في الواقع — لا أُمانع في إخباركم بالحقيقة. أنا بالفعل أشكُّ في أن السير جيلبرت هو مَن قتل كرون؛ ولهذا السبب عرضتُ فأس الثلج تلك في المحكمة في ذلك اليوم. وعندما رأى تلك الفأس، عرف أنني اشتبهتُ فيه، ولهذا السبب أخذ معه مونيلوز، وكان ينوي التخلُّص من رجلٍ يُمكن أن يقدِّم أدلةً ضده. ولو كنتُ أعلم أن مونيلوز سيذهب معه، لكنت على الأرجح سأتَّهِم السير جيلبرت في التو واللحظة! وعلى أي حال، ما كنتُ سأترك مونيلوز يذهب.»
صاح موراي: «عجبًا! هل تعرف شيئًا، إذن؟» وتابع: «هل لدَيك دليلٌ ما لا نعرف عنه شيئًا؟»
أجاب السيد ليندسي: «إليك ما أعرفه، وما سأُفصِح لك عنه، الآن.» وتابع: «كما تعلم، أنا إلى حدٍّ ما مُتسلِّق جبال، وقد أمضيتُ الكثير من عطلاتي في سويسرا، لممارسة التسلُّق. ومن ثَمَّ، أعرف معدَّات التسلُّق وفئوس الثلج. وعندما فكَّرتُ في ملابسات مَقتل كرون، أتذكَّر أنه تصادف أنني كنت، منذ فترة غير بعيدة، أتجوَّل على ضفاف النهر، وقابلتُ بالصدفة السير جيلبرت كارستيرز وهو يسير مُتوكِّئًا على نوعٍ قديم جدًّا من فئوس الثلج ويستخدِمه عصًا للمشي، حيث بإمكانه فعل ذلك، وربما التقطه من قاعةِ قصره مثلما يستخدِم بعض الرجال عصا جولفٍ ليتكئوا عليها أثناء المشي، وقد فعلتُ أنا نفسي ذلك، مئات المرات. وعلمتُ أن لديَّ فأسَ ثلج من ذلك النمط نفسه في المنزل؛ ولذا عرضتها على الطبيب في المحكمة، وسألته إن كان هذا الثقب في رأس كرون يمكن أن ينتج عن ضربةٍ بها. لماذا؟ لأنني كنتُ أعرف أن كارستيرز سيحضُر في المحكمة، وأردت أن أرى ما إذا كان سيُدرك ما أسعى إليه!»
سأل رئيس الشرطة، بلهفة: «وهل تظنُّ أنه فعل؟»
أجاب السيد ليندسي، بفطنة: «راقبت ردَّ فعلِه بطرَف عيني.» ثم أضاف: «لقد أدرك ما كنتُ أسعى إليه! إنه رجل ذكي، لكنه نزع القناع عن وجهه لجزءٍ من ألفٍ من الثانية. رأيت رد فعله!»
كان المُستمعان مندهشَين للغاية من هذا لدرجةِ أنهما جلسا في صمتٍ لفترةٍ من الوقت، وهما يُحدِّقان في السيد ليندسي بذهولٍ فاغرَين فميهما.
تنهَّد موراي أخيرًا، قائلًا: «إنه أمر غامض، للغاية!» وتابع: «ما المعنى الحقيقي لذلك، في رأيك، يا سيد ليندسي؟»
أجاب السيد ليندسي، على الفور: «ثمة سِرٌّ آخِذ في التكشُّف تدريجيًّا.» وأضاف: «هذا هو الحال. ولا يُوجَد ما يمكن فعْله، الآن تحديدًا، عدا الانتظار حتى يأتي شخصٌ ما من مكتب هولمشو وبورتلثورب. هولمشو رجل مُسن؛ لذا من المُحتمَل أن يأتي بورتلثورب بنفسه. ربما يعرف شيئًا؛ فهما مُحامِيا عائلة كارستيرز لسنواتٍ عديدة. لكن انطباعي أن السير جيلبرت كارستيرز قد هرب بعيدًا! وأن زوجته لحقتْ به. وإذا كنتَ تريد أن تفعل شيئًا، فحاوِل معرفةَ المكان الذي ذهبت إليه على درَّاجتها بالأمس؛ فمن المُحتمَل، أنها ذهبت إلى محطة قريبة، ثم استقلت قطارًا.»
بعد ذلك ذهبتُ أنا والسيد ليندسي إلى المكتب، ولم نكن قد أمضينا هناك فترةً قصيرة عندما وصلت برقية من نيوكاسل. كان السيد بورتلثورب سيحضُر بنفسه إلى بيرويك على الفور. وفي منتصف فترةِ ما بعد الظهر، وصل؛ وكان رجلًا في منتصف العمر، عصبيَّ المزاج إلى حدٍّ ما، وكنت قد رأيته مرَّتَين أو ثلاث مرات عندما كان لدَينا عمل في محكمة الجنايات، ومن الواضح أن السيد ليندسي كان يعرفه جيدًا، استنادًا إلى طريقتهما في تبادُل التحية بأُلفة.
سأل السيد بورتلثورب، بمجرد دخوله، ودون أيِّ مقدمات: «ما كل هذا يا ليندسي؟» وتابع: «برقيتُك تقول إن السير جيلبرت والليدي كارستيرز قد اختفيا. هل ذلك يعني …»
قاطعه السيد ليندسي، الذي كان يعلم أن ما كنَّا قد قرأناه في صحيفة «دندي أدفرتايزر» قد نُشِر أيضًا في صحيفة «نيوكاسل دايلي كرونيكل»، وقال: «هل قرأتَ صحيفتك أمس؟» وتابع: «من الواضح أنك لم تفعل، يا بورتلثورب، وإلا كنتَ ستعرِف، جزئيًّا على أي حال، ما تَعنيه برقيتي. لكني سأُخبرك في مائة كلمة، وبعد ذلك سأطرح عليك بضعةَ أسئلة قبل أن نمضي أبعدَ من ذلك.»
قدَّم للسيد بورتلثورب وصفًا مُوجزًا للموقف، واستمع السيد بورتلثورب بانتباهٍ حتى النهاية. ودون إبداء أيِّ تعليقٍ قال ثلاث كلمات:
«حسنًا ما أسئلتك؟»
أجاب السيد ليندسي: «الأول، هو هذا؛ متى كانت آخر مرةٍ رأيتَ فيها السير جيلبرت كارستيرز أو وصلتك أخباره؟»
أجاب السيد بورتلثورب: «منذ أسبوع، في رسالة.»
تابع السيد ليندسي: «الثاني، أهمُّ بكثير جدًّا! ماذا تعرف، يا بورتلثورب، عن السير جيلبرت كارستيرز؟»
تردَّد السيد بورتلثورب لحظة. ثم أجاب، بصراحةٍ وأمانة واضحة.
حيث قال: «أصدقك القول يا ليندسي، أكثر من معرفة أنه السير جيلبرت كارستيرز، لا شيء!»