السيدة رالستون من كريج
لم يعلِّق السيد ليندسي على هذه الإجابة، وجلس دقيقةً أو دقيقتَين هو والسيد بورتلثورب يتبادلان النظرات. ثم مال السيد بورتلثورب إلى الأمام قليلًا، ويداه على رُكبتَيه، ونظر نظرة متسائلة، ومع ذلك جادَّة نحو السيد ليندسي.
وقال بهدوء: «الآن، لماذا تسأل ذلك السؤال الأخير؟» وتابع: «هل لدَيك هدفٌ ما؟»
أجاب السيد ليندسي: «إن الأمر على النحو التالي.» وتابع: «ها هو ذا رجلٌ يأتي إلى هذه الأنحاء ليرِث لقبًا وأراضي، ومِن المؤكَّد أنه كان بعيدًا عنها لمدة ثلاثين عامًا. وسلوكه الأخير مُريب للغاية؛ فلا أحد يستطيع أن يُنكر أنه ترك مُتدرِّبي هذا ليغرق، دون إمكانية المساعدة! ذلك قتلٌ عمدي! ولذلك أسأل، بصفتك مُحاميه، ماذا تعرف عنه؛ عن شخصيته، وأفعاله خلال الثلاثين عامًا التي قضاها بعيدًا؟ وأنت تُجيب؛ لا شيء!»
قال السيد بورتلثورب مؤكدًا: «هكذا بالفعل!» وأضاف: «ولا أحدَ في هذه الأنحاء يعرف. باستثناء أنه السير جيلبرت كارستيرز، لا أحدَ في هذه الأنحاء يعرف أيَّ شيءٍ عنه؛ وأنَّى لهم أن يعرفوا؟ أظن أنَّنا نعرف أكثرَ من أي شخصٍ آخر؛ ونحن نعرف فقط القليل من الحقائق المجردة.»
قال السيد ليندسي: «أظنُّ أنه سيتعيَّن عليك إخباري بماهية هذه الحقائق المجردة.» ثم أضاف: «ومونيلوز، أيضًا. لدى مونيلوز تهمةٌ مُحدَّدة يوجِّهها لهذا الرجل، وسوف يوجِّهها، إذا كان لي أي شأنٍ بها! وسيُصَعِّد الأمر! — إذا استطاع أن يعثُر على كارستيرز. وأظن أنه من الأفضل أن تُخبرنا بما تعرفه، يا بورتلثورب. يجب أن تتَّضِح الأمور.»
أجاب السيد بورتلثورب: «ليس لديَّ أيُّ اعتراضٍ على إخبارك أنت والسيد مونيلوز بما نعرفه.» وتابع: «ففي نهاية الأمر، إنها، بطريقةٍ ما، معلومات معروفة، لبعض الناس، على أي حال. وبدايةً، لعلك على درايةٍ بأن التاريخ الحديث العهد لعائلة كارستيرز هذه هو تاريخٌ غريب. تعرف أن السير ألكساندر العجوز كان لدَيه ولدان وابنةٌ واحدة، والابنة أصغر سنًّا بكثيرٍ من أخويها. وعندما بلغ الولدان، مايكل وجيلبرت، سنَّ الحادية والعشرين، والثالثة والعشرين، تشاجرا مع والدهما، وهجرا هذه المنطقة تمامًا؛ ويُعتقَد دومًا أن السير ألكساندر أعطى مايكل قدرًا كبيرًا من المال كي يمضي إلى حال سبيله ويعتني بنفسه؛ إذ كان كلٌّ منهما يكره مجتمع الآخر، وأن مايكل هاجر إلى أمريكا. أما جيلبرت، فقد حصل على المال في ذلك الوقت، أيضًا، وتوجَّه جنوبًا، واتُّفِق على أنه درس الطبَّ أولًا ثم أصبح طبيبًا، في لندن وخارج البلاد. لا شك على الإطلاق في أن كِلا الابنَين قد حصلا على أموال، مبالغ كبيرة؛ لأنه منذ وقت مغادرتهما، لم تُدفَع لهما أيُّ إعانة على الإطلاق، ولم يَعُد للسير ألكساندر أيُّ صلةٍ بهما. لا أحد يعلم سبب الشجار؛ لكن الشجار نفسه، والانفصال الذي أعقبه، كانا نهائِيَّين؛ ولم يستأنف الأب وابناه العلاقات مُطلقًا. وعندما كبرت الابنة، التي أصبحت الآن السيدة رالستون من كريج، بالقُرب من هنا، وتزوَّجت، اتبع السير ألكساندر العجوز سياسةً مالية مُماثلة تجاهها؛ فقد أهداها ثلاثين ألف جنيه في اليوم الذي تزوَّجت فيه، وأخبرها أنها لن تحصل على بنسٍ آخر منه مُطلقًا. أؤكد لك أنه كان رجلًا غريب الأطوار.»
تمتم السيد ليندسي: «غريب تمامًا!» وأردف: «ومُثير للاهتمام!»
قال السيد بورتلثورب موافقًا، بضحكةٍ مكتومة: «أوه، مُثير للاهتمام جدًّا!» وتابع: «هو كذلك بشدة. حسنًا، هكذا كانت الأمور حتى نحو عامٍ قبل وفاة السير ألكساندر الذي، كما تعلم، تُوفي منذ أربعة عشر شهرًا. وكما قلت، قبل حوالي ستِّ سنواتٍ من وفاته، جاء إخطار رسمي بوفاة مايكل كارستيرز الذي، بالطبع، كان وريثَ اللقب. وقد جاء الإخطار من محامٍ في هافانا، حيث تُوفي مايكل؛ وقد توفَّرت جميع الأدلة الرسمية. فقد تُوفي وهو غير مُتزوِّج ودون وصية، وبلغت مُمتلكاته حوالي ألف جنيه. وَكَّلَنا السير ألكساندر لتولِّي المسألة؛ وبالطبع، نظرًا لأنه كان أقرب الأقرباء لابنه الأكبر، فقد آلت إليه تركته. ثم أوضحنا له آنذاك أنه بعد وفاة السيد مايكل كارستيرز، يُصبح السيد جيلبرت هو الوريث — سيرث اللقب، على أي حال — وألححْنا بشدة على السير ألكساندر ليُصدِر وصية. وكان دائمًا ينوي فعل ذلك، لكنه لم يفعل أبدًا، ومات بلا وصية، كما تعلم. وعندئذٍ، تقدَّم السير جيلبرت كارستيرز بالطبع، و…»
قاطعه السيد ليندسي قائلًا: «لحظة.» ثم سأل: «هل كان أيُّ أحدٍ يعرف مكانه وقت وفاة والده؟»
أجاب السيد بورتلثورب: «لا أحدَ في هذه الأنحاء، على أي حال.» وتابع: «لا أبوه، ولا أخته، ولا نحن كنَّا نعرف أيَّ أخبارٍ عنه منذ سنواتٍ طويلة. لكنه جاء إلينا في غضون أربع وعشرين ساعة من وفاة والده.»
سأل السيد ليندسي: «ومعه الدليل، بالطبع، الذي يثبت أنه السير جيلبرت كارستيرز؟»
أجاب السيد بورتلثورب: «أوه، بالطبع، دليل كامل!» وتابع: «وثائق، ورسائل، وكل هذا النوع من الأشياء، وكلها مضبوطة. كان أمضى في لندن عامًا أو عامَين في ذلك الوقت؛ ولكن، وفقًا لروايته، كان قد طاف كثيرًا في جميع أنحاء العالم خلال مدة غيابه التي بلغت ثلاثين عامًا. حيث عمل جرَّاحًا على متن سفينة، والتحق بالطاقم الطبي لأكثر من جيشٍ أجنبي، وأدَّى الخدمة العسكرية، وذهب في رحلةٍ أو رحلتَين استكشافيتَين، وعاش فترةً في كل قارة؛ في الواقع، كانت حياته مليئة بالمغامرات، وقد تزوَّج مؤخَّرًا من وريثة أمريكية ثرية.»
قال السيد ليندسي: «أوه، الليدي كارستيرز أمريكية، أهي كذلك؟»
سأل السيد بورتلثورب: «بالفعل؛ ألم تُقابلها؟»
أجاب السيد ليندسي: «لم أُقابلها قط.» وتابع: «ولكن استمِرَّ.»
تابع السيد بورتلثورب: «حسنًا، بالطبع، لم يكن يُوجَد شكٌّ في هوية السير جيلبرت؛ وبما أنه لم يكن يُوجَد شكٌّ أيضًا في أن السير ألكساندر قد مات دون وصية، فقد شرَعنا على الفور في وضع الأمور في نصابها. ورِث السير جيلبرت، بالطبع، كلَّ الأراضي، وتشارك هو والسيدة رالستون في الأموال، والتي كانت، بالمناسبة، كبيرة؛ حيث حصل كلٌّ منهما على ما يقرب من مائة ألف، نقدًا. وهذا هو الحال الذي عليه الأمور!»
سأل السيد ليندسي: «أهذا كل شيء؟»
تردَّد السيد بورتلثورب لحظة، ثم نظر نحوي.
فقال السيد ليندسي: «يُمكن ائتمان مونيلوز على سِر.» وأضاف: «إن كان سرًّا بالفعل.»
أجاب السيد بورتلثورب: «حسنًا، إذن، ليس كل شيء بالضبط. ثمة مُلابسة، لا أستطيع أن أقول إنها أزعجتني، لكنها أثارت قلقي إلى حدٍّ ما. لقد مضى الآن ما يزيد على العام بقليلٍ منذ استحوذ السير جيلبرت كارستيرز على ملكية أراضيه، وخلال ذلك الوقت باع كلَّ ياردة منها تقريبًا باستثناء هاثركلو!»
أطلق السيد ليندسي صفيرًا. لقد كانت المرة الأولى التي تتجلَّى عليه فيها مظاهر الدهشة، وبسرعة ألقيتُ عليه نظرةً خاطفة ورأيتُ على وجهه نظرةً عابرةً تشي بذكاءٍ لا يُوصف ومكرٍ لا يكاد يُنْكَر. لكنها اختفت بسرعةٍ كما ظهرت، وأومأ برأسه فقط، كما لو كان متفاجئًا.
وصاح: «عجبًا.» وتابع: «تصرُّف سريع، يا بورتلثورب.»
أجاب السيد بورتلثورب: «أوه، لقد قدَّم أسبابًا وجيهة!» وتابع: «قال، منذ البداية، إنه كان ينوي فعل ذلك؛ إذ أراد، وأرادت زوجته أيضًا، التخلُّص من هذه المُمتلكات الشمالية الصغيرة والمنفصلة، وشراء ملكية رائعة حقًّا في جنوب إنجلترا، والإبقاء على هاثركلو مقرًّا لقضاء الإجازات. ولم يكن ينوي بيعه مُطلقًا. ولكن — هذه هي الحقيقة! — لقد باع كل شيء آخر تقريبًا.»
قال السيد ليندسي: «لم أسمع قطُّ عن مبيعات الأراضي هذه.»
أجاب السيد بورتلثورب: «أوه، لقد بِيعت جميعًا بمُوجب اتفاقية خاصة.» ثم أضاف: «لقد كانت ملكية كارستيرز عبارة عن أراضٍ مُجزَّأة، هنا وهناك؛ كان آخر بارونين قبل هذا قد اشتريا أراضيَ كثيرةً في أجزاءٍ أخرى. وكانت كلها أراضيَ ذات قيمة؛ فلم تكن تُوجَد صعوبة في البيع للمُلاك المجاورين.»
قال السيد ليندسي: «إذن، إذا كان قد باع كل هذه الأراضي، فلا بدَّ أن لدى السيد جيلبرت مبالغَ كبيرةً من المال تحت تصرُّفه، إلا إذا كان قد اشترى الملكية الجديدة التي تتحدَّث عنها.»
أجاب السيد بورتلثورب: «لم يشترِ أيَّ شيء، حسب علمي.» ثم أضاف: «ولا بدَّ أن لدَيه مبلغًا كبيرًا، كبيرًا جدًّا، من المال في حسابه المصرفي. وكل ذلك»، تابع، وهو ينظر باهتمامٍ إلى السيد ليندسي، «يجعلني مندهشًا تمامًا من سماعِ ما أخبرتني به للتو. إنه أمرٌ خطير للغاية، هذه التهمة التي تلمِّح بها ضده، يا ليندسي! لماذا يُريد أن يودي بحياةِ رجالٍ بهذه الطريقة! رجل في مكانته، وثروته العظيمة …»
قاطعه السيد ليندسي: «يا بورتلثورب! ألم تُخبرني الآن أن هذا الرجل، وفقًا لروايته، عاش حياةً مفعمة بالمغامرة، في جميع أنحاء العالم؟ الأمر الأرجح أنه خلال تلك الحياة تعرَّف على شخصياتٍ غريبة، وربما فعل هو نفسه بعض الأشياء الغريبة؟ ألا يُعَد أمرًا ذا مغزًى أنه، في غضون عام من حيازته اللقبَ والممتلكات، ظهر شخصان غامضان للغاية هنا، ونتج عن ذلك كلُّ هذه الأعمال الشائنة؟ من المُستحيل، الآن، الشكُّ في أن جيلفرثويت وفيليبس قد جاءا إلى هذه الأنحاء بسبب وجود هذا الرجل هنا بالفعل! إن كنت قد قرأتَ كلَّ الأخبار الموجودة في الصحف، وأضفت إليها ما أخبرناك به عن هذه المغامرة الأخيرة على اليخت، فلن يسعك الشكُّ في ذلك، أيضًا.»
قال السيد بورتلثورب: «غريب جدًّا، غريب للغاية؛ كل هذا.» ثم أضاف: «ألا تُوجَد لديك نظريةٌ ما، يا ليندسي؟»
أجاب السيد ليندسي: «لديَّ، نوعًا ما.» وتابع: «أظنُّ أنه من المُحتمَل أن جيلفرثويت وفيليبس كان بحوزتهما بعض الأسرار حول السير جيلبرت كارستيرز، وأنه ربما يكون كرون قد تنامت إليه معرفةٌ ولو طفيفة بها بطريقةٍ ما. الآن، كما نعلم، تُوفي جيلفرثويت فجأة، ومن المُحتمَل أن كارستيرز قتل كلًّا من فيليبس وكرون، كما عمَد بالتأكيد إلى قتْل هذا الفتى. فكيف يبدو لك كل هذا؟»
قبل أن يتمكَّن السيد بورتلثورب من الرَّد على هذا السؤال الأخير، وبينما كان يهزُّ رأسه بسببه، أعلن أحد موظفي المكتب عن وصول السيدة رالستون من كريج وأدخلها إلينا، وعند ذكْر اسمها تقدَّم السيد ليندسي للأمام على الفور. كانت امرأةً ذكية وحسنة المظهر، لم تبلُغ مرحلة الكهولة، وكانت أرملةً منذ أربع أو خمس سنوات، واشتُهرت في منطقتنا بكونها سيدة مجتمع نشطة ومنخرطة في الشأن العام ومنشغلة، بشكلٍ رئيسي، بأعمال الخير والإحسان، وكانت عضوةً بارزة في اللجان والمجالس المُختصة بذلك. وتفحَّصت المُحاميَين كما لو كانا مُرشَّحَين لامتحان، وهي المُمتحن.
وبدأت في الحديث على الفور، قائلةً: «لقد ذهبت إلى الشرطة، لمعرفة حقيقةِ كل هذا الحديث عن السير جيلبرت كارستيرز.» وتابعت: «وأخبروني أنك تعرف أكثرَ مما يعرفون، يا سيد ليندسي. حسنًا، ما قولك عن هذا؟ وما قولك، يا سيد بورتلثورب؟ لا بد أنكما تعرفان أكثرَ من أيِّ شخصٍ آخر. ما مُحصلة كل هذا!»
التفت السيد بورتلثورب، الذي كان وجهه قد صار مُكفهرًّا للغاية عند رؤية السيدة رالستون، إلى السيد ليندسي، كما لو كان يطلب المساعدة. كان واضحًا أنه فوجئ بأسئلة السيدة رالستون، وخاف منها قليلًا؛ لكن السيد ليندسي لم يكن خائفًا أبدًا من أيِّ أحد، وباغتَ زائرته على الفور.
قال: «قبل أن نُجيب على أسئلتك، يا سيدة رالستون، ثمة سؤال واحد أستأذنكِ أن أوجِّهه إليكِ. عندما عاد السير جيلبرت عند وفاة والدك، هل تأكدتِ من أنه أخوكِ؟»
هزَّت السيدة رالستون رأسها بنفاد صبر واضح.
وهي تصيح: «يا له من هراء سخيف، يا سيد ليندسي!» وأضافت: «بحقِّ السماء كيف تظنُّ أنه يُمكنني التأكد من هوية رجلٍ لم أرَه منذ أن كنتُ طفلةً في السابعة من عمري؛ وبالتأكيد لم أرَه منذ ثلاثين عامًا على الأقل؟ بالطبع لم أفعل! إنه أمر مُستحيل!»