كبير الخدم في هاثركلو
غادر ثلاثتنا منزل مدير المصرف وكلٌّ منَّا يُعاني حالةً مزاجية تتواءم مع شخصيته؛ حيث كان السيد بورتلثورب مُنزعجًا بشدة، نظرًا لأنه بطبيعة الحال رجلٌ عصبي، ميَّال لليأس، وأظهر مشاعره في صيحات يأسٍ متنوعة؛ أما أنا، كوني شابًّا صغيرًا، فكنتُ مفعمًا بالذهول من الأخبار التي قُدِّمَت لنا للتوِّ، وبإثارة مطاردة الرجل الذي كنَّا نعرفه باسم السير جيلبرت كارستيرز. لكنَّني لستُ متأكدًا من أن السيد ليندسي عانى كثيرًا من أي شيء؛ فقد كان هادئًا ورابطَ الجأش كالعادة، وبدأ على الفور في التفكير في إجراءاتٍ عملية.
قال، بمجرد أن ركِبنا السيارة التي استأجرناها من محطة نيوكاسل: «اسمع، يا بورتلثورب، علينا أن نشرع في هذا الأمر في الحال، على الفور! يجب أن نصِل إلى إدنبرة في وقتٍ مُبكر قدرَ الإمكان صباحًا. أطعِني فيما سأقوله لك؛ عُد مباشرةً إلى بيرويك، وأمضِ الليلةَ معي في منزلي، وسنذهب إلى إدنبرة على متن أول قطار؛ يُمكننا الوصول إلى هناك مبكرًا، وقت فتْح المصارف. ثمة سببٌ آخر لرغبتي في مجيئك؛ إذ إن لديَّ بعض الوثائق التي أرغب في أن تراها؛ وثائق قد يكون لها صِلة مُهمة جدًّا بهذه القضية. تُوجَد واحدة في محفظتي الآن، وستندهِش عندما تسمع كيف وصلت إلى حوزتي. لكنها ليست مُدهشة بقدرِ أخرى أحتفظ بها في منزلي.»
تذكَّرت حينها أننا كنَّا مشغولين للغاية منذ عودتنا من الشمال في ذلك الصباح لدرجةِ أنه لم يكن لدَينا وقتٌ لمُتابعة أمرِ الرسالة التي عهِد بها السيد جافين سميتون إلى السيد ليندسي؛ وهنا، مرة أخرى، سيتعيَّن إجراء مزيدٍ من التحريات. لكن كان واضحًا أن السيد بورتلثورب لا يستمتع بالألغاز، وليس لدَيه رغبة كبيرة في أن يبرح سريره، حتى من أجل حُسن ضيافة السيد ليندسي، واحتاج الأمر إلى الإصرار حتى يوافق على العودة معنا إلى بيرويك. ومع ذلك فقد عاد، وقبل منتصف الليل كنَّا في بلدتنا مرةً أخرى، وبعدما عبرنا الشوارع الخالية من المارة باتجاه منزل السيد ليندسي، ذهبتُ مع الرجُلَين الآخرين لأن السيد ليندسي أصرَّ على أن الوقت كان قد تأخَّر كثيرًا على عودتي إلى المنزل، وسأُصبح أقرب إلى المحطة إذا نِمت الليلة في منزله. ومباشرةً قبل أن نصل إلى المنزل، الذي كان عبارةً عن فيلا هادئة وسط حديقةٍ خاصة، تقع شمالًا قليلًا من الطرف العلوي من البلدة، استدار فجأة رجل كان يسير أمامنا ببطء، وجاء إلى السيد ليندسي، وعلى ضوء مصباح الشارع تبيَّن لي أنه كبير الخدم في هاثركلو.
تعرَّف السيد ليندسي على الرجل، أيضًا، وكذلك فعل السيد بورتلثورب؛ وتوقَّف كلاهما تمامًا، وهما يُحدِّقان فيه. ونطق كلاهما نفس السؤال، بكلماتٍ مُتطابقة:
«أخبار جديدة؟»
نظرتُ بلهفةٍ إلى كبير الخدَم كما فعَلا. لقد كان حادًّا ومُتعاليًا للغاية في أسلوبه وموقفه تجاهي في تلك الليلة التي زُرت فيها سيده، وفاجأني الآن أن أرى كم كان مُهذبًا ولطيفًا، وبطريقةِ ما، مُتملقًا في سلوكه مع المُحاميَين. كان رجلًا ضخمًا، سمينًا، قويَّ البنية، ذا وجهٍ مُترهل ومُتغضن إلى حدٍّ ما، وبشرة شاحبة، وبدا أكثر شحوبًا بسببِ معطفه وقبَّعته العلوية الأسودين؛ وبينما كان يقف هناك، يفرك يدَيه، وينقِّل بصره بين السيد ليندسي والسيد بورتلثورب، ويتحدَّث بنبراتٍ ناعمة، لزِجة، مُوحية، شعرت أنني أكرهه أكثرَ مما فعلتُ عندما كان يُخاطبني بنبرةٍ مُتغطرسة على أبواب هاثركلو.
أجاب: «حسنًا، ليست أخبارًا بالضبط، أيها السيدان.» وتابع: «في الحقيقة، أردتُ أن أقابلك على انفراد، يا سيد ليندسي، يا سيدي … لكن، بالطبع، ليس لدي أيُّ اعتراضٍ على التحدُّث أمام السيد بورتلثورب؛ لأنه محامي السير جيلبرت. هل يُمكنني الدخول معك، يا سيد ليندسي؟ في الحقيقة، كنت أنتظر في الجوار، يا سيدي؛ قالوا إنك ذهبت إلى نيوكاسل، وربما تعود في هذا القطار الأخير. والأمر — ربما يكون — من الأهمية بمكان.»
قال السيد ليندسي: «تعالَ.» وفتَح لنا الباب بمفتاحِهِ وسمح لنا جميعًا بالدخول إلى منزله، وقادَنا إلى غرفة مكتبه، حيث أغلق الباب. واستطرد، مُلتفتًا إلى كبير الخدم: «والآن.» وتابع: «ما الأمر؟ يمكنك التحدُّث بحرية؛ فنحن الثلاثة جميعنا — السيد بورتلثورب، والسيد مونيلوز، وأنا — على درايةٍ جيدة جدًّا بكلِّ ما يجري، في الوقت الحالي. ولعلِّي لا أكون مُخطئًا عندما أقول إنك تعرف شيئًا ما، أليس كذلك؟»
فرك كبيرُ الخدم، الذي جلس على الكرسي الذي كان قد أشار إليه السيد ليندسي، يدَيه، ونظر إلينا بتعبيرٍ ينمُّ بوضوح عن المكر والخبث.
وقال بنبرةٍ منخفضة، مُوحية: «حسنًا، يا سيدي!» وتابع: «من الطبيعي أن يعرف رجلٌ في مثل وظيفتي أمورًا، سواء أراد ذلك أم لا، في بعض الأحيان. كانت لديَّ أفكار، أيها السادة، لبعض الوقت.»
سأل السيد بورتلثورب: «أن ثمَّة خطْبٌ ما؟»
أجاب كبير الخدم: «شيء قريب من هذا القبيل، يا سيدي.» ثم أضاف: «بالطبع، سوف تضع في اعتبارك أنني، إن صحَّ التعبير، غريبٌ؛ فقد عمِلت لدى السير جيلبرت كارستيرز منذ تسعة أشهر فقط. ولكن … لديَّ عينان. ولديَّ أذنان. وباختصار، أيها السادة، أعتقد أن السير جيلبرت، والليدي كارستيرز، قد رحلا!»
صاح السيد بورتلثورب: «رحلا نهائيًّا؟» وتابع: «عجبًا، يا هولينز! أنت لا تقصد ذلك!»
أجاب هولينز، الذي سمعتُ اسمه الآن للمرة الأولى: «سأفاجأ كثيرًا إذا لم تكن تلك هي الحقيقة، يا سيدي.» وتابع: «وبالمناسبة — إن جاز التعبير — يمكنني القول إنني أظن أنه سيُكتَشَف أن الكثيرَ من المُمتلكات قد اختفت معهما!»
سأل السيد بورتلثورب: «أيُّ ممتلكات؟» وتابع: «مستحيل! لا يمكنهما نقْل الممتلكات، والذهاب كما يبدو أنهما فعلا، أو كما يُقال إنهما قد فعلا!»
سَعَل هولينز مُخفيًا فمه بإحدى يدَيه الكبيرتَين، السمينتَين، ونظر بفطنةٍ نظرةً خاطفةً نحو السيد ليندسي، الذي كان يستمع في صمت، ولكن باهتمامٍ بالغ.
وقال: «لستُ متأكدًا من ذلك يا سيدي.» وتابع: «أنت تعرف أنه كانت تُوجَد بعض المُقتنيات الصغيرة في هاثركلو التي يمكن أن نُطلق عليها ذات طبيعة تراثية، وإن كنتُ لا أستطيع الجزمَ إن كانت مُقتنياتٍ تراثية أم لا؛ الصورة المُصغَّرة للبارونيت الثاني المُرصَّعة بالماس التي قدَّمها له جورج الثالث، والعقد الماسي أيضًا الذي كان يخصُّ ملكة إسبانيا، والصورة الصغيرة التي لا تقدَّر بثمن، والتي منحها قيصر روسيا للبارونيت الخامس، وأشياء مُماثلة، يا سيد بورتلثورب. كذلك، أيها السادة، مجوهرات العائلة! اختفت جميعها. لقد أخذا كلَّ تلك الأشياء!»
سأل السيد ليندسي فجأة: «هل تقصد أن تقول، على حدِّ علمك، إنها ليست موجودة في هاثركلو؟»
أجاب كبير الخدم: «أقصد أن أقول إنها بالقطع ليست هناك، يا سيدي.» ثم أضاف: «لقد كانت محفوظةً في خزينةٍ مُعينة في غرفةٍ صغيرة تستخدمها الليدي كارستيرز مخدعًا لها. وقد غادرت سيادتها على عجلٍ وفي سرِّيةٍ أمس، كما أخبرَتْك الشرطة حسبما فهمت، وبينما هي في عجلة من أمرها، نسِيَت إغلاق الخزينة التي كانت قد فتحتها بلا شك قبل مغادرتها. تلك الخزينة، يا سيدي، خالية من تلك الأشياء على أي حال.»
صاح السيد بورتلثورب، بانفعال شديد: «فليبارك الرب روحي!» ثم أضاف: «هذا أمرٌ فظيع حقًّا!»
سأل السيد ليندسي: «هل يمكنها أن تحمل هذه الأشياء، كلها، على درَّاجتها، التي سمعت أنها غادرت وهي تركبها؟»
أجاب هولينز: «بسهولة يا سيدي.» وتابع: «كان لديها حاملُ أمتعة صغير على درَّاجتها، ويمكن أن يتَّسِع لكل تلك الأشياء. لم تكن ضخمة، بالطبع.»
سأل السيد ليندسي: «ألا تعرف إلى أين ذهبت على تلك الدرَّاجة؟»
ابتسم هولينز بمكر، وسحب كرسيه مُقتربًا قليلًا منَّا.
وأجاب: «لم أكن أعرف، عندما ذهبتُ إلى السيد موراي، في قسم الشرطة، هذا الصباح.» وتابع: «لكن، الآن أعرف. ذلك تحديدًا هو سبب مجيئي لمُقابلتك، يا سيد ليندسي.»
وضع يدَه داخل معطفه وأخرج دفترَ جيب، وسحب منه قصاصةَ ورق.
وتابع: «بعد أن قابلتُ السيد موراي هذا الصباح، عُدت إلى هاثركلو، وأخذتُ على عاتقي تفتيش المكان. ولم أجد أيَّ شيءٍ ذي طبيعة تُثير شكًّا كبيرًا حتى بعد ظُهر هذا اليوم، في وقتٍ مُتأخر، عندما اكتشفتُ ما جرى للخزينة في المخدع؛ أن جميع المُمتلكات التي ذكرتها قد اختفت. ثم بدأتُ بفحص سلَّة المهملات في المخدع؛ إذ كنتُ قد رأيت بنفسي الليدي كارستيرز تُمزِّق بعض الرسائل التي تلقَّتها صباح أمس من خلال البريد الأول، وتُلقي القصاصات في تلك السلة، التي لم تكن قد أُفرِغَت منذ ذلك الحين. ووجدتُ هذه، أيها السادة، وربما يُمكنكم، استخلاصُ استنتاجٍ ما منها؛ فلم أجد صعوبةً في استخلاص واحدٍ بنفسي.»
ووضع على المنضدة قصاصةَ ورقٍ مُمزقة، انحنَينا نحوَها نحن الثلاثة في الحال. لم يكن يُوجَد أكثر من نهايات سطور، لكن الصياغة كانت بالتأكيد موحية:
«… في الحال، بهدوء.
… أفضل وقت سيكون قبل الغداء.
… في كيلسو.
… المكان المُعتاد في جلاسجو.»
انتفض السيد بورتلثورب عند رؤيته خطَّ اليد.
وصاح: «هذا خطُّ يد السير جيلبرت!» وتابع: «لا شك في ذلك. ما الذي نفهمه من ذلك، يا ليندسي؟»
سأل السيد ليندسي، مُلتفتًا إلى هولينز: «ماذا تستنتِج من ذلك؟» وتابع: «أنت تقول إنك قد توصَّلت لاستنتاجٍ ما، أليس كذلك؟»
أجاب كبير الخدم، بهدوء: «لقد توصَّلتُ لاستنتاجٍ بالفعل يا سيدي.» ثم أضاف: «صباح الأمس، كانت تُوجَد أربع رسائل فقط لليدي كارستيرز. اثنتان كانتا من لندن، بخطِّ يد سيدات. وواحدة كانت من تاجر، من نيوكاسل. والرابعة كانت في مظروفٍ مُسجَّل — وقد كُتِب العنوان على الآلة الكاتبة — مع ختم بريد إدنبرة. أنا مُقتنع، يا سيد ليندسي، أن الرسالة المُسجَّلة احتوت على … هذه! رسالة، كما تفهم، من السير جيلبرت، وقد وجدتُ قصاصاتٍ أخرى منها، ولكنها صغيرة جدًّا لدرجةِ أنه من المُستحيل تجميعها معًا، ومع ذلك هي معي هنا. وأستنتج أنه أعطى أوامر لليدي كارستيرز أن تذهب بالدرَّاجة إلى كيلسو، وهي رحلةٌ سهلة عليها، ثم تستقل القطار إلى جلاسجو، حيث سيقابلها هناك. جلاسجو، يا سيدي، مدينة مُلائمة للغاية، على ما أعتقد، للأشخاص الذين يرغبون في الاختفاء. وأقترح التواصُل مع السلطات في جلاسجو.»
سأل السيد ليندسي الذي استمع باهتمامٍ لكلِّ هذا: «هل سبق لك معرفة أن السير جيلبرت كارستيرز قد زار جلاسجو مؤخرًا؟»
أجاب هولينز: «كان هناك منذ ثلاثة أسابيع.»
سأل السيد ليندسي: «و… إدنبرة؟»
قال كبير الخدم: «كان يذهب بانتظامٍ إلى إدنبرة، وفي إحدى المرات، ذهب مرَّتَين في أسبوع واحد.» ثم، دون أن يُدلي السيد ليندسي بأي ملاحظةٍ أخرى، نظر كبير الخدم نحوَه ونحو السيد بورتلثورب. وتابع: «بالطبع، أيها السيدان، هذا كله فيما بيننا. أشعر أن ذلك كان من واجبي، كما تعلمان.»
أجاب السيد ليندسي بأننا جميعًا فهمنا الموقف، وبعد قليلٍ ترك الرجل يُغادر، بعد جملةٍ هامسة أو جملتَين بينهما في الرَّدهة. ثم عاد إلينا، ودون أن ينبس ببنتِ شفة عمَّا حدث للتو، أخرج رسالة سميتون من جيبه.