البقعة الحمراء
أشارت ساعات البلدة إلى التاسعة والنصف عندما قُدتُ دراجتي عبر جسر بوردر بريدج القديم وانحرفتُ صاعدًا أول منحدرٍ للطريق الذي يمتد بجانب السكة الحديدية في اتجاه تيلموث بارك، والذي، بالطبع، كان هدفي الأول. كانت الليلة حارةً وشديدة الرطوبة، وكان الرعد يدوِّي طوال اليوم، وتوقَّع الناس هطول المطر في أي لحظة، لكن حتى هذه اللحظة لم يهطل، وكان الهواء كثيفًا وخانقًا. وقد تصبَّبتُ عَرقًا قبل أن أقطع مسافةَ ميلَين على الطريق، وشعرتُ بصداعٍ في رأسي من ثقل الهواء، الذي بدا وكأنه يضغط عليَّ حتى كدتُ أختنق. في ظل الظروف العادية لم يكن سيُخرجني أيُّ شيءٍ من المنزل في ليلة كتلك. لكن الظروف لم تكن عادية؛ فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تُتاح لي فيها فرصةَ ربح عشرة جنيهات من خلال أداءِ ما بدا أنه مهمة بسيطة للغاية؛ وعلى الرغم من أنني كنتُ أميل كثيرًا إلى التقرُّب من السيد جيلفرثويت، كان ماله بالتأكيد المُحفِّز الرئيسي للمُضيِّ في المهمة التي أسندها لي في الوقت الذي كان يجب أن يكون فيه جميع الأشخاص المُحترَمين في أسرَّتِهم. وفي هذا الجزء الأول من رحلتي، تركزَتْ أفكاري على ذلك المال، وعلى ما سأفعله أنا ومايسي به عندما يُصبح في جيبي بأمان. كنَّا قد اشترَينا بالفعل أوائل أثاث منزلنا المُرتقَب، وخَزَّناه في مستودعٍ غير مُستخدَم في الجزء الخلفي من منزل والدها؛ وبعد الحصول على الورقة النقدية من السيد جيلفرثويت، التي ترقُد هناك بشكلٍ مُريح في انتظاري، سنُصبح قادرَين على إدخال إضافات كبيرة إلى مخزوننا، وسيكون يوم العرس أقرب.
ولكن انتقالًا من هذه التوقُّعات بدأتُ بعد قليل أُفكِّر في المهمة التي كنتُ حينئذٍ مشاركًا فيها إلى حدٍّ ما. عندما تفكَّرتُ في الأمر، بدا شأنًا غريبًا. فحسبما فهمت، كان الأمر على النحو التالي: كان لدَينا هنا السيد جيلفرثويت، وهو رجل غريب عن بيرويك، وكان يبدو أنه يمتلك الكثير من المال وليس له عمل، ويتلقَّى فجأةً خطابًا طُلِبَ منه فيه مقابلة رجل، قبيل منتصف الليل، وفي أكثرِ مكان منعزل يمكن اختياره في المنطقة كلها. لماذا في مثل هذا المكان، وفي مثل هذه الساعة؟ ولماذا كان هذا اللقاء يُمثِّل أهميةً كبيرة لدرجةِ أن يتعيَّن على السيد جيلفرثويت، نظرًا لعدم تمكُّنه من حضوره بنفسه، أن يدفع مبلغ عشرة جنيهات لشخصٍ آخرَ ليَحضُره بدلًا منه؟ ما كنتُ قد قلتُه لمايسي عن امتلاك السيد جيلفرثويت الكثيرَ من المال لدرجةِ أن عشرة جنيهات لم تكن تُمثِّل له أكثرَ مما تُمثِّله عشرة بنسات لي كان كلُّه، بالطبع، كلامًا فارغًا، قلته فقط لتهدئة مخاوفها وشكوكها؛ إذ كنت أعرف جيدًا بما فيه الكفاية، بعد أن اكتسبتُ بعض الخبرات في مكتبِ محامٍ على مدار السنوات الست الماضية، أنه حتى أصحاب الملايين لا يُبعثرون أموالهم كما لو كانت الجنيهات عبارةً عن قرونِ بازلاء فارغة. كلَّا! لقد كان السيد جيلفرثويت يُعطيني هذا المال لأنه ظنَّ أنني، بصفتي مُتدربًا في مكتب محاماة، سأُدرك الأمر على صورته الصحيحة باعتباره عملًا سريًّا ومهمًّا، وسأُبقيه طيَّ الكتمان. وكنت بالفعل أعتبره عملًا سريًّا؛ لأنه أيُّ شأن عدا ذلك الذي يمكن أن يجعل رجلَين يلتقِيان بالقرب من أطلالٍ قديمة في منتصف الليل، بينما كان يمكن لهما أن يلتقيا في مدينةٍ كان أحدُهما غريبًا عنها، على أي حال، وربما كان الآخر غريبًا عنها بنفس القدر، في وضح النهار وفي مكانٍ أكثرَ ملاءمةً للمقابلة دون أن يكون لدى أيِّ شخصٍ أدنى اهتمام بأفعالهما؟ كان ثمة غموض غريب وغير واضح في كل هذا، وسرعان ما دفعني التفكير والتأمُّل في الأمر إلى التساؤل عن أول نتيجةٍ طبيعية له؛ مَن هو الرجل الذي أنا الآن في طريقي لمقابلته، وما هي طبيعة عمله، ومن أيِّ مكانٍ أتى كي يُجري مقابلةً في بقعةٍ كهذه، وفي تلك الساعة؟
ومع ذلك، قبل أن أقطع ثلاثة أرباع مسافة تلك الرحلة إلى خارج البلدة، لألتقيَ برجلٍ آخر، لا أعرفه إطلاقًا، كان سيدخل في هذه السلسلة غير العادية من الأحداث التي بدأت فجأة، دون إرادةٍ منِّي، أحتار في تفسيرها. تبلغ المسافة، تقريبًا، وبقياسها في خطٍّ مستقيم، حوالي تسعة أو عشرة أميال من بلدة بيرويك إلى جسر تويزل على نهر تيل، حيث كنتُ سأنتقِل من الطريق الرئيسي إلى طريقٍ آخر جانبي، سيقودني إلى الأطلال القديمة، بالقُرب من موقع التقاء نهر تيل مع نهر تويد. بقدرِ ما كانت ليلةً حارة، وكان ركوب الدراجة خلالها غير مُمتع، كان لديَّ الكثير من الوقت قبل موعد المقابلة، وعندما وصلتُ إلى مُفترَق الطرق بين نورهام وجريندون، نزلت من فوق دراجتي وجلستُ على الضفة بجانب الطريق لأخذ قسطٍ من الراحة قبل المُضي قُدُمًا. كانت تلك البقعة هادئة ومنعزلة جدًّا؛ إذ لمسافة ثلاثة أميال أو أكثر لم أكن قد صادفتُ أيَّ شخصٍ في الطريق، وإذ لم يكن يُوجَد تقريبًا أيُّ شيءٍ مثل قرية أو مزرعة بيني وبين كورنهيل، لم أكن أتوقَّع أن أصادف أحدًا في المراحل التالية من رحلتي. لكن بينما أنا جالس هناك على الضفة، تحت سياجٍ شجري كثيف، ودراجتي مُلقاة بجانبي، سمعتُ وقع خطواتٍ قادمة على الطريق في العتمة؛ خطوات سريعة، واثقة، كما لو كانت خطوات رجلٍ يمشي بسرعة، ويضع قدمَيه بثباتٍ كأنه عازم على الوصول إلى مكانٍ ما في أقرب وقتٍ ممكن. وعندما سمعتُ ذلك خلعتُ قُبعتي، ووضعتها فوق مصباح الدراجة — وحتى يومِنا هذا، كثيرًا ما تساءلتُ ما الذي جعلني أفعل ذلك — وجلستُ ساكنًا مثل أيٍّ من المخلوقات الصغيرة التي كانت بلا شك ترقُد ورائي في السياج الشجري.
أتى صوت الخطوات من الاتجاه الذي كنتُ متجهًا إليه. كان يُوجَد في هذه المنطقة تحديدًا القليل من الانحدار في الطريق: أتى بثبات، وبقوة، صعودًا على المنحدر. وبعد برهةٍ — لأننا كنا في ذروة شهر يونيو، حيث لا تكون الليالي حالكةً للغاية — اقتربت هيئة رجلٍ فوق حافة المنحدر، وظهرت بوضوحٍ على خلفية قطعةٍ من السماء الرمادية التي كانت مُحاطة بأصابع من أشجار الصنوبر والتنوب على جانبي الطريق. كانت هيئة رجل قوي البنية، وكما قلتُ من قبل، كان الرجل يخطو بقدمَيه، التي كان من الواضح أنها تنتعِل حذاءً متينًا، في ثباتٍ وسرعة للأسفل، ومع هذا الصوت المتبادل جاء النقر بثباتٍ وسرعة مُماثلة لعصًا ذات طرفٍ حديدي. وبغضِّ النظر عن هوية هذا المسافر الليلي، كان من المؤكَّد أنه يشقُّ طريقه إلى مكانٍ ما دون إضاعة أيِّ وقتٍ في ذلك.
اقترب الرجل مني ومن مَخبئي، ولم يرَ شيئًا، ثم توقَّف في ثباتٍ على بُعد ياردات قليلة. وعرفتُ السبب. كان قد وصل إلى مُفترق الطرق، وكان واضحًا من حركاته أنه مُتحير وغير متأكد. ذهب إلى زوايا كل طريق: بدا لي أنه كان يبحث عن علامة إرشادية. لكن، حسبما كنتُ أعلم جيدًا، لم تكن تُوجَد أي علامة إرشادية في أي زاوية، وبعد برهةٍ عاد إلى منتصف الطرُق مرةً أخرى ووقف، وأخذ ينظر في هذا الاتجاه وذاك، كما لو أنه كان لا يزال مُتشككًا. وعندئذٍ سمعت طقطقةً وحفيفًا مثل صوت الورق المُقوى — كان الرجل على بُعد ما لا يزيد عن اثنتي عشرة ياردة منِّي طوال الوقت — وبعد دقيقة أخرى ظهرت دفقة من لهبٍ مائل إلى الزرقة، ورأيتُ أن الرجل كان قد أشعل ضوء مصباح جيبٍ كهربائي وكان يُسلِّطه على خريطةٍ كان قد فردها وهزَّها، وكان يمسكها بيده اليُمنى.
عند هذه النقطة استفدتُ من درسٍ كان قد تردَّد على مسامعي مراتٍ عديدة منذ الصبا. كان أندرو دنلوب، والد مايسي، أحد أولئك الرجال المُولَعين بشكلٍ غير مألوف بإلقاء النصائح على الصغار بمناسبة وبغير مناسبة. كان يجمع كثيرين منَّا، من الصبية والبنات، معًا في صالونه في الأوقات التي لا يُمارس فيها عمله داخل متجره ويُعطينا تحذيراتٍ بشأنِ ما أسماه الأشياء العملية في الحياة. وكان أحد تعاليمه المفضلة — التي كانت مُوجهةً إلينا نحن الصبية بخاصة — هو «عليك أن تُنمِّي قدراتك على الملاحظة.» تلاءمت هذه النصيحة جيدًا جدًّا مع شئون المهنة التي كنتُ قد حدَّدتها لنفسي؛ إذ يجب أن يكون المحامي بطبيعة الحال رجلًا قويَّ الملاحظة، وقد بذلتُ مجهودًا مُستمرًّا في فعل ذلك كما نصح أندرو دنلوب. لذلك بعينٍ مُلاحِظةٍ بانتباه، وبينما كنتُ مُختفيًا تمامًا، شاهدتُ الرجل بمصباحه الكهربائي وخريطته، ولم أغفل عن ملاحظة أن اليد التي كانت تحمل الخريطة كان ينقصها الأصبعان الوُسطَيان. لكن فيما يتعلَّق ببقيته، باستثناء أنه كان رجلًا طويل القامة، قوي البنية، يبدو — بقدرِ ما استطعتُ أن أرى — في مظهر رجلٍ نبيلٍ يرتدي بدلةً رماديةً من الصوف، لم أستطِع أن أرى شيئًا. لم أتمكَّن مُطلقًا من أن ألمح وجهه؛ لأنه طوال الوقت الذي وقف فيه هناك كان في الظلام.
كما أنه لم يبقَ هناك وقتًا طويلًا. انطفأ ضوء المصباح الكهربائي فجأة، وسمعت طقطقة الخريطة مرةً أخرى وهو يَطويها ويضعها في جيبه. وفجأة أيضًا تحرَّك مرةً أخرى، سالكًا الطريق الجانبي باتجاه الشمال، والذي كان، كما كنتُ أعرف جيدًا، يؤدي إلى نورهام، وإذا كان ذاهبًا بعيدًا، كان يعبُر فوق نهر تويد إلى ليديكيرك. ابتعد بنفس الخطوة السريعة، لكن سطح الأرض في ذلك الطريق الجانبي لم يكن صلبًا ورنَّانًا مثل سطح الطريق الرئيسي، وسرعان ما تلاشى صوت خطواته في صمت، وصار الليل الحار الخانق ساكنًا مثلما كان دائمًا.
بعد برهةٍ ركبتُ دراجتي مرة أخرى ماضيًا قُدُمًا في المرحلة الأخيرة من رحلتي، وبعد أن عبرت جسر تويزل، انعطفتُ عبر الدرب الضيق إلى الأطلال القديمة بالقرب من مَوضع التقاء نهر تيل مع نهر تويد. كانت الأجواء حينئذٍ مُظلمةً أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى في تلك الليلة، وعَمَّقَت الظلمةَ تلك السُّحبُ الرعدية التي خيَّمت على جميع أنحاء الوادي. كانت البُقعة التي سألتقي فيها بالرجل الذي تحدَّث عنه السيد جيلفرثويت كئيبةً ومظلمة. وعلى ضوء مصباح درَّاجتي رأيتُ أن الساعة قد أصبحت للتوِّ الحادية عشرة عندما وصلت إلى البقعة؛ لكن بقدرِ ما استطعت التمييز لم يكن هناك أحد لمقابلته. ومُتذكرًا ما أُوصيتُ بفعله، تحدثتُ بصوتٍ عالٍ.
كرَّرت قائلًا: «من جيمس جيلفرثويت، الذي هو مريض، ولا يستطيع الحضور بنفسه.» وبعد ذلك، إذ لم أحصل على ردٍّ فوري، نطقتُ الكلمة السرية بصوتٍ عالٍ بنفس القدْر. لكن لم يأتِ ردٌّ على ذلك أيضًا، وللحظةٍ فكَّرتُ في أنه كم كان من السُّخف أن أقف هناك وأقول بنما بينما لا يُوجَد أحد.
استنتجت أن الرجل لم يأتِ بعدُ، فقُدت درَّاجتي إلى جانب الدرب الضيق، لأضعها على السياج الشجري وأجلس هناك، وعندئذٍ سقط ضوء المصباح الخفيف على بقعةٍ حمراء كبيرة كانت قد انتشرت، ولا تزال تنتشر، على الأرض الرملية أمامي. وعرفت على الفور أنها بُقعة دم، ولا أظن أنني فوجئتُ عندما رأيت، وأنا أتقدَّم خطوةً أو خطوتَين قُدُمًا، رأيت، على العشب بجانب الطريق عند قدمي، الجثة المُتصلبة والوجه الأبيض لرجل، عرفت بغريزةٍ أكيدة وواثقة، أنه لم يكن ميتًا فحسب، بل قُتل بوحشية.