البرج العتيق
كانت والدتي تمارس أشغال الإبرة، على كُرسيها المُريح، في ركنها الخاص من غرفة المعيشة عندما دخلتُ مُسرعًا، وعلى الرغم من أنها انتفضت عندما رأتني، فقد استمرَّت في التطريز بطريقةٍ منهجية كما لو كان العالَم كله مُتسقًا مثل غُرَزها.
وقالت، مع مسحةٍ من الحدة تتحدَّث بها في بعض الأحيان: «إذن فقد حططتَ على سطح منزلك أخيرًا، يا رجُلي!» ثم أضافت: «سيقول البعض إنك قد نسيتَ الطريق إليه، بحُكم التجربة؛ لماذا لم تُخبرني أنك لن تعود إلى المنزل الليلة الماضية، وأنت في البلدة، حسبما سمعتُ من البعض؟»
فصِحت: «كفى يا أمي.» وتابعت: «كيف يُمكنك طرح مثل هذه الأسئلة وأنت تعرفين ما عليه الأمور! لقد وصلتُ أنا والسيد ليندسي من نيوكاسل في منتصف الليل، وجعلني أبيتُ في منزله، ثم غادرنا مرةً أخرى إلى إدنبرة في الصباح الباكر.»
ردَّت: «أجل، حسنًا، إذا كان السيد ليندسي يُحِب إنفاق أمواله في التجوال حول البلاد، فليفعل ما يحلو له!» وتابعت: «لكنَّني سأُصبح مُمتنَّةً عندما تعود إلى حياتك المُستقرة الآمنة. إلى أين أنت ذاهب الآن؟» تساءلت بحدَّة. وأضافت: «يُوجَد عَشاء دافئ من أجلك في الفرن!»
قلت، وأنا أسحب درَّاجتي من الجزء الخلفي للمنزل: «لقد تناولتُ العشاء في منزل السيد ليندسي، يا أمي.» وتابعت: «يجب أن أخرج من توِّي، سواء أردتُ أم لا، ولا أعرف أيضًا متى سأعود، هل تَظنِّين أن بوسعي النوم في سريري وأنا لا أعرف أين مايسي؟»
أجابت: «لن تفلح أن تفعل، يا هيو، ما فشِلَت فيه الشرطة.» وتابعت: «لقد جاء ذلك الرجل تشيسهولم إلى هنا خلال المساء، وأخبرَني أنهم لم يعثروا على أي أثرٍ لها، حتى الآن.»
صِحت: «إذن تشيسهولم كان هنا؟» وتابعت: «من أجل ذلك فقط؟»
أجابت: «نعم، من أجل ذلك فقط.» ثم أضافت: «ثم في هذه الظهيرة، جاءت تلك السيدة الأيرلندية التي كانت تخدم بمنزل كرون، تسأل عنك عند الباب.»
قلت: «عجبًا، نانسي ماجواير!» وتابعت: «ماذا كانت تريد؟»
ردَّت والدتي: «تُريدك أنت!» ثم أضافت: «صار يأتي إلى بابنا نوعٌ لطيفٌ من الناس هذه الأيام؛ الشرطة، والقتلة، والأيرلنديون …»
قاطعتُها قائلًا: «هل قالت لماذا كانت تريدني؟»
قالت والدتي: «لم أمنحها فرصة.» وتابعت: «هل تظنُّ أنني كنتُ سأخوض في حديثٍ مع مخلوقةٍ مثل هذه على عتبة منزلي؟»
صِحتُ فيها بينما أُغادر: «أنا على استعدادٍ للتحدُّث مع الشيطان نفسه، يا أمي، إذا استطعتُ الحصول على بعض الأخبار عن مايسي!» ثم أضفت: «أنتِ سيئة مِثل أندرو دنلوب!»
كان باب المنزل حائلًا بيني وبينها قبل أن تتمكَّن من الردِّ على ذلك، وفي اللحظة التالية وضعتُ درَّاجتي على الطريق وساقي فوق المقعد، وتردَّدتُ قبل أن أضع قدَمي على البدال. ماذا أرادت منِّي نانسي ماجواير؟ هل كان لديها أي أخبار عن مايسي؟ كان من الغريب أن تأتي إلى منزلي؛ هل من الأفضل أن أقود دراجتي عبر البلدة وأذهب لمُقابلتها؟ لكنني فكَّرتُ في أنه لو كان لديها أي أخبار، وهو ما كان أمرًا غير مُحتمَل للغاية، لكانت ستُبلغها للشرطة؛ وإذ كنت مُتلهفًا للغاية لاختبارِ ما ألمح إليه سكوت، قُدت درَّاجتي دون مزيدٍ من التأخير أو التفكير وذهبت نحو هاثركلو.
وبينما كنتُ أعبر الجسر القديم، في بداية هبوب العاصفة القادمة، شعرتُ باستنارةٍ جاءت فجأة مثلما جاء وَمِيض البرق الذي أعقب ذلك على الفور. لقد كان باعثًا على دهشتي طوال اليوم أن لا أحد، باستثناء رجلٍ واحد في إيست أورد، لاحظ مايسي وهي تسير على طول الطريق بين بيرويك وميندرم في الليلة السابقة، وحينئذٍ تذكَّرت، وأخذتُ ألوم نفسي على أنني لم أتذكَّر من قبل، أنه يُوجَد طريق مختصر، بناءً على حقِّ مرور مُعيَّن، من خلال أراضي هاثركلو هاوس، كان من شأنه أن يوفِّر عليها ثلاثة أميال في رحلتها. من الطبيعي أنها كانت مُتلهِّفة على الوصول إلى عمَّتها في أسرعِ وقتٍ مُمكن، وكانت ستفكِّر في أقرب طريق، وكانت ستسلكه. عندئذٍ بدأتُ أدرك الأمر بِرمَّته: لقد ذهبت مايسي إلى أراضي هاثركلو، ولم تُغادرها أبدًا!
هذا الإدراك جعل الخوف يَعتريني. كانت فكرة أن تكون فتاتي مُحتجزة من قِبَل رجل شرير، بقدر الشر الذي كنت أومن إيمانًا راسخًا بأن الرجل الذي نعرفه باسم السير جيلبرت كارستيرز يتصف به، كافيةً لزعزعة كل عصبٍ في جسدي، لكن التفكير في أنها كانت تحت رحمته لمدة أربعٍ وعشرين ساعة، بمُفردها، بلا حماية، أصابني بدوارٍ يفوق تحمُّلي. فشعرتُ بضعفٍ في جسدي وعقلي. ومع ذلك، يعلم الرب، لم يجُل في خَلدي على الإطلاق أيُّ تفكيرٍ انهزامي. ما شعرتُ به هو أنني يجِب أن أصل إلى هناك، وأن أبذل بعض الجهدِ الذي من شأنه أن يضع حدًّا لقلق كِلَينا. كنتُ قد بدأت في رؤية كيف يمكن أن تكون الأمور؛ فعند مرورها عبر تلك الأراضي ربما يكون قد صادفها شيءٌ ما، أو شخصٌ ما، أو السير جيلبرت نفسه، الذي، بطبيعة الحال، لن يسمح أن يهرُب منه أيُّ شخصٍ يُمكن أن يُخبرنا بأيِّ شيءٍ عن مكان وجوده. ولكن إذا كان في هاثركلو، فماذا عن الحكاية التي أخبرَنا بها هولينز الليلة السابقة؟ كلَّا، ذلك الصباح؛ لأن الوقت كان بعد منتصف الليل عندما جلس هناك في رَدهة السيد ليندسي. وفجأة، خطرَتْ لي فكرة أخرى؛ سواء كانت تلك الحكاية صحيحة، أو كان الرجل يُخبرنا حفنة من الأكاذيب، أكان كل ذلك من أجل غايةٍ ما؟ في مواجهة هذه الفكرة الأخيرة كانت تُوجَد، بالطبع، قصاصة الرسالة المُمزَّقة لدحضها، ولكن … ولكن لنفترض أن هذا كله كان جزءًا من مؤامرة، الغرَض منها خداعنا بينما يهرُب هؤلاء الأشرار — باعتبار أن هولينز كان مشاركًا في لعبة الرجل الآخر — في اتجاهٍ مختلف تمامًا؟ إن كان الأمر كذلك، فقد نجحت؛ لأننا كنَّا قد ابتلعنا الطُّعم، وكان كل الاهتمام مُوجَّهًا إلى جلاسجو، وليس إلى أي مكانٍ آخر، وبقدرِ ما كنتُ أعرف، بالتأكيد ليس إلى ضيعة هاثركلو نفسها، حيث لم يتوقَّع أحد أن يعود السير جيلبرت إليها.
لكن هذه كلها كانت تكهُّنات، وكان الأمر الرئيسي هو الوصول إلى هاثركلو، والتصرُّف بناءً على التلميح الذي كنتُ قد تلقيتُه للتوِّ من سكوت، وإلقاء نظرةٍ في أنحاء الجزء العتيق من المنزل الكبير، قدرَ استطاعتي. لم يكن من الصعب الوصول إلى هناك، على الرغم من أنني كنتُ على درايةٍ بسيطة بالمنزل والأراضي؛ إذ لم أذهب إلى هناك قطُّ إلا ليلة زيارتي للسير جيلبرت كارستيرز. كنتُ أعرف جيدًا المناطق المُحيطة بما يكفي لأن أعرف كيفية الدخول بين الشُّجيرات والنباتات، كان بإمكاني الدخول إلى هناك دون أن يُلاحِظني أحد في النهار، وكانت حينئذٍ ليلة ظلماء. كنتُ قد حرصتُ على إطفاء مِصباحي بمجرد عبوري الجسر الحدودي، والآن، وأنا أقود دراجتي في الظلام، كنتُ في مأمنٍ من ملاحظة أي عدوٍ مُحتمل. وقبل أن أصل إلى الحدود الفعلية لهاثركلو، ترجَّلت عن الدرَّاجة، وأخفيتُها بين الشجيرات على جانب الطريق، وبدلًا من الدخول إلى الأراضي عبر الطريق الخاص الذي كنتُ مقتنعًا بأنه لا بد أن تكون مايسي قد سلكته، تسلَّقت سياجًا وتقدَّمت عبر مجموعةٍ من شجر الصنوبر الصغير في اتجاه المنزل. بعد برهةٍ أصبح لديَّ القدرة على تحديد طريقي نحوه؛ إذ بعدما نزعتُ بهدوءٍ آخِرَ الفروع الخفيفة التي كنتُ قد شققتُ طريقي عبرها بهدوء، وخرجتُ على حافة الحديقة المفتوحة، أظهر لي وميضُ برقٍ قوي المبنى الكبيرَ رابضًا على هضبته أمامي مباشرةً، على بُعد رُبع ميل، بأبراجه وأسطُحه المائلة التي التمعت بوضوحٍ في الوهج. وعندما اختفى ذلك الوهج، بنفس السرعة التي ظهر بها، وسادت الظُّلمة الشديدة مرةً أخرى، بدا وميضٌ من الضوء، قادمًا من نافذةٍ أو أخرى، فاتجهتُ نحوه، بسرعةٍ وصمتٍ فوق المساحة المنبسطة، لا يخلوان من خوفٍ من أنه إذا تصادف وجود أيِّ شخصٍ يحرس المكان فقد يكشف وميضُ برقٍ آخر عن هيئتي بينما أتقدَّم.
لكن لم يكن ثمَّة المزيد من البرق حتى وصلتُ إلى الهضبة التي بُني عليها هاثركلو، ولكن عندئذٍ سطع وميض برق يغشي الأبصار أكثر من الأخير، تبِعَه على الفور هزيم رعد. في ذلك الوميض رأيتُ أنني كنتُ حينئذٍ قريبًا من البقعة التي أردتُها بالضبط، الجزء العتيق من المنزل. رأيت، أيضًا، أنه بين المكان الذي وقفتُ فيه والجدران لم يكن يُوجَد ساتر من الشُّجيرات أو من الأجمات أو الصنوبر، لم تكن تُوجَد سوى مساحةٍ عُشبية مجزوزة يتعيَّن عليَّ عبورها. فعبرتُها في الظلام، في التوِّ واللحظة، مُسرعًا إلى الأمام وبعد قليلٍ لمسَتْ يدايَ الممدودتان البناءَ الحجري. في نفس اللحظة انهمر المطر كالسَّيل. وفي نفس اللحظة، أيضًا، حلَّ شيء آخر أضعفَ معنوياتي أكثرَ من أي مطرٍ يُمكن أن يُبلل بشرتي، مهما كان غزيرًا وثقيلًا، وهو الإحساس بعجزي التام. ها أنا ذا، بعدما تصرفتُ باندفاع، عند سفح كتلةٍ من حجارة رمادية كانت ذات يومٍ منيعة، وكانت لا تزال تبعث على الخوف! لم أكن أعرف كيف أدخُل، ولا كيف أُلقي نظرةً على ما بالداخل، لو كان ذلك مُمكنًا؛ وأدركتُ الآن أنه كان يجب أن آتي برفقة فرقةٍ من الشرطة لها سُلطة تفتيش المكان بأكمله، من أوله إلى آخره ومن أعلاه إلى أسفله. وفكَّرت، مع شعور سخريةٍ كئيب، أنَّ فعْلَ ذلك كان من شأنه أن يكون مهمةً طويلة جدًّا لعشرة رجال؛ إذن، كيف سيكون الحال وقد اضطلعتُ بها بمفردي؟
في هذه اللحظة، بينما كنتُ أتشبَّث بالجدار، مُحتميًا قدرَ استطاعتي من المطر الغزير، سمعت من خلال دقَّاته المُستمرة دقًّا مُستمرًّا بنفس القدر كما لو كان لآلةٍ ما. كان صوتًا خافتًا للغاية، لا يكاد يكون واضحًا، لكنه كان موجودًا، ولا يمكن أن تُخطئه أُذني. وفجأة، رغم أننا في تلك الأيام كنَّا بدأنا مؤخَّرًا نعتاده، عرفتُ ما هو؛ كان صوت مُحرِّكِ نوعٍ من السيارات؛ لكنه لم يكن يعمل، جاء الصوت من الغلايات أو المُكثفات، أو أيًّا كان اسم تلك الأشياء التي يستخدمونها في السيارات البخارية. وكان قريبًا، قريبًا من يدي اليُمنى، على امتداد خطِّ الجدار الذي كنتُ أرتعِد تحته. شيءٌ ما ألهب فضولي! ما الذي تفعله سيارة هناك، في تلك الساعة؛ إذ كان الوقت حينئذٍ يُشارف على منتصف الليل، وبهذا القُرب من مكان شِبهِ مُتهدِّم مثل هذا؟ وعندئذٍ، غيرَ عابئ بالمطر الذي اعتبرتُه ليس أكثر من زخَّات ربيع، بدأتُ ببطءٍ أزحف على طول الجدار في اتجاه الصوت.
وهنا ستفهم وضع الأشياء فهمًا أفضل، إذا قلتُ إن الجزء الصالح للسكنى في هاثركلو كان بعيدًا عن الجزء العتيق الذي أتيتُ إليه. كانت الكتلة الكاملة للمبنى، العتيق والجديد، ذات امتدادٍ شاسع، ويفصل المبنى العتيق عن الجديد جناحٌ مُتهدِّم ومُدَمَّر تمامًا، ومُغطًّى منذ فترةٍ طويلة باللبلاب. أما المبنى العتيق فكان يُوجَد في أحد أركانه بُرج مُربع كبير، له جدران مُمتدة من زاويتَيه؛ وكنتُ حينئذٍ أزحف على امتداد أحد هذه الجدران. وبعد برهةٍ، بينما أخذ صوت النبض اللطيف يتصاعد قليلًا وأنا أشقُّ طريقي، وصلتُ إلى البرج، وإلى البوابة الغائرة فيه، وعرفتُ على الفور أنه في داخل تلك البوابة كانت تُوجَد سيارة موضوعة هناك، وجاهزة للمغادرة.
مُتلمسًا بهدوءٍ بحثًا عن ركن البوابة، نظرتُ حولي، بحذَر، خشيةَ أن يكشف وجودي ضوء مصباح أمامي في السيارة. لكن لم يكن يُوجَد ضوء، ولم يكن يُوجَد صوت سوى الخفقان المُستمر للبخار والهطول المُتواصِل للمطر خلفي. وبعد ذلك، بينما كنتُ أنظر، سطع وميض ثالث للبرق، وأضاء المشهد بأكمله أمامي؛ البوابة الغائرة بسقفها المُتعرِّج والمُقوَّس، والجدران المظلمة على الجانبَين، والبناء الحجري الهائل المُظلم خلفها، وهناك، داخل المَوئل، سيارة صغيرة، جديدة تمامًا، من الواضح أنها قوية وجيدة الصُّنع، أدركَتْ حتى عيناي عديمةُ الخبرة أنها كانت جاهزةً للرحيل من ذلك المكان في أي لحظة. ورأيتُ شيئًا آخر أثناء ذلك الوميض؛ بابًا مواربًا في الحائط الكائن على يسار السيارة، والدرجات الأولى لِسُلَّمٍ حلزوني.
عندما حلَّ الظلام مرةً أخرى، أكثرَ سوادًا من أي وقتٍ مضى، ودوَّى الرعد فوق البرج العتيق، تسللتُ بحذاء الجدار إلى ذلك الباب، عازمًا على الاستماع إن كان ثمة تحرُّكٌ ما في الداخل، أو على السلالم، أو في الغُرَف بالأعلى. وكنتُ قد وضعتُ أصابعي للتوِّ على العمود المُستدير للمدخل، وكان صوتُ الرعد يخفت للتو، عندما قبضت يدٌ على مُؤخِّرة رقبتي كما لو كانت كَلَّابة، وشيءٌ صلب، ومُستدير، وبارد يضغط بإصرارٍ على صدغي الأيمن. حدث كل هذا في نصف ثانية، لكنني عرفت، بوضوحٍ تامٍّ كما لو كنتُ أستطيع رؤيته، أن رجلًا ذا قوة غير عادية قد أمسك بي من رقبتي بيد، وكان مُمسكًا بمسدسٍ يُوجِّهه نحو رأسي باليد الأخرى.