البِركة المُظلمة
بينما كنتُ أدخل ذلك المنزل مع بقيتهم، خطرَ لديَّ انطباعان مفاجئان. أحدهما أنه هنا بجانبي، كان يقف، في شخص السيد جافين سميتون، على الأرجح، مالكه الحقيقي، الحامل الحقيقي للقب العتيق، الذي كان على وشك أن يئول به الحال إلى الحصول على حقوقه المشروعة بهذه الطريقة الغريبة. والانطباع الآخر هو التبايُن بين مجيئي في هذه اللحظة والزيارة التي جئت فيها إلى هنا، قبل بضع أمسياتٍ فقط، عندما كان هولينز ينظر نحوي بشيءٍ من الاستياء وكان المُحتال ودودًا للغاية. أما الآن فكان هولينز جثةً هامدة في المبنى العتيق المُتهدم، والمحتال هاربًا … ومَن يدري أين هو؟
كان موراي قد أتى بنا إلى هناك لفعلِ شيءٍ ما لتسوية تلك النقطة، وبدأ عمله على الفور بجمع كل رجلٍ وامرأة في المنزل، وبمساعدة مُحقِّق لندن، أخضعهم لتحقيق مُدقق حول الأفعال الأخيرة لسيدهم وسيدتهم وكبير الخدم. لكن السيد ليندسي أشار إلى السيد إلفينستون والسيد جافين سميتون وأنا كي نجتمع في غرفةٍ جانبية ونغلق الباب علينا.
وقال وهو يُشير إلينا كي نجلس إلى طاولةٍ مريحة: «يُمكننا أن نترك الشرطة تؤدي عملها.» ثم أضاف: «إن انطباعي هو أنهم سيجدون القليل من المعلومات لدى الخَدَم. وبينما ذلك يجري على قدمٍ وساق، أودُّ أن أحصل على قصتك الموعودة، يا سيد إلفينستون؛ لم يكن لدي سوى فكرة عنها، كما تعلم، عندما جئتَ مع موراي إلى منزلي. ويود هذان الاثنان سماعها؛ أحدهما، على أي حال، مُهتم بهذه القضية أكثر ممَّا تظن أو مما كان هو نفسه يحسب حتى وقتٍ قريب.»
بعد أن أصبحنا في غرفةٍ مضاءة على نحوٍ جيد، ألقيتُ نظرة أكثرَ تدقيقًا على مدير أعمال هاثركلو السابق. كان رجلًا محافظًا على صحته، تبدو عليه أمارات الذكاء، وعمره بين الستين والسبعين؛ كان هادئًا وقويَّ الملاحظة، من النوع الذي يمكن أن تراه يُفكِّر كثيرًا دون أن يقول الكثير. ابتسم قليلًا وهو يضع يدَيه معًا على الطاولة ونظر إلى وجوهنا المُترقبة؛ كانت ابتسامة رجلٍ يعرفُ ما يتحدَّث عنه.
وأجاب: «أجل، حسنًا، يا سيد ليندسي، ربما لن تحوي هذه القضية الكثير من الغموض كما يبدو عليه الأمر بمجرد أن يُصبح لديك فكرة عنها. سأُخبرك كيف وصلت إليَّ فكرتي، وما الذي سينتج عنها. بالطبع، لن تعرف؛ لأني أظنُّ أنك لم تأتِ إلى بيرويك إلا بعد أن غادرتُ أنا المنطقة، لكنني كنتُ على صلةٍ بضَيعة هاثركلو منذ كنتُ شابًّا وحتى خمس عشرة سنة مضت، عندما تخلَّيت عن وظيفة مدير الأعمال وذهبتُ للعيش في بعضٍ من ممتلكاتي الخاصة، بالقُرب من ألنويك. بالطبع، كنتُ أعرف الابنَين، مايكل وجيلبرت؛ وأتذكَّر جيدًا عندما، بسبب تشاجرهما المُستمر مع والدهما، أعطاهما الكثيرَ من المال وغادرا ليسلك كلٌّ منهما سبلًا شتَّى. وبعد ذلك، لم أسمع أن أيًّا منهما عاد مُطلقًا، ولم أقابل أيًّا منهما، إلا في مناسبةٍ واحدة، وهي التي سأشير إليها في وقتها. بعد فترة، كما قلتُ للتو، تقاعدت؛ وبعد فترة أيضًا، تُوفي السير ألكساندر، وسمعت أن السير جيلبرت، إذ كان السيد مايكل قد تُوفي في جزر الهند الغربية، قد ورِث اللقب والأملاك. فكَّرت، مرةً أو مرَّتَين، في القدوم لمقابلته؛ لكن كلما تقدَّم المرء في السن، ازداد تفضيله للبقاء بجانب مِدفأته؛ لذا لم أحضُر إلى هنا، ولم أسمع الكثير عنه، ومِن المؤكَّد أنه لم يُقدِم على أي محاولةٍ لمُقابلتي. وهكذا نصل إلى بدايةِ ما سنُسميه الأزمة الحالية. جاءت تلك البداية مع الرجل الذي ظهر في بيرويك هذا الربيع.»
سأله السيد ليندسي: «هل تقصد جيلفرثويت؟»
وافقه السيد إلفينستون، بابتسامةٍ ماكرة: «نعم، لكنني لم أعرفه بذلك الاسم!» ثم أضاف: «لم أكن أعرفه بأي اسم. ما أعرفه هو ما يلي. لا بدَّ أنه كان قبلَ ما يقرب من أسبوع، بالتأكيد ليس أكثر، من وفاة جيلفرثويت — أنا متأكد من هويته، بسبب وصفه — عندما جاء لزيارتي في منزلي، وبقدرٍ كبير من التلميح وما شابه ذلك أخبرني أنه عميلُ تحقيق خاص، وسأل عما إذا كان يمكنني إخباره بشيء عن الراحل مايكل كارستيرز؟ وهو، كما اتضح، الآتي: هل كنتُ أعرف ما إذا كان مايكل قد تزوَّج قبل مغادرته إنجلترا، وإن كان قد فعل، فأين، وممَّن؟ بالطبع، لم أكن أعرف شيئًا عن ذلك، وبما أن الرجل لم يُعطني أقلَّ قدرٍ من المعلومات فقد صرفته بحدة. والشيء التالي الذي سمعت به كان مقتل جون فيليبس. لم أربط ذلك بزيارة الرجل الغامض في البداية، لكن بالطبع قرأت تفاصيل التحقيق في الصحف، وأدلة السيد ريدلي، وبعد ذلك بدأت أُدرك أن أمرًا غريبًا يحدُث، على الرغم من أنني لم أستطِع حتى تخمين كُنهه. ولم أفعل شيئًا، ولم أقُل شيئًا؛ فقد بدا أنه لا يُوجَد شيء، آنذاك، يمكنني أن أفعله أو أقوله، على الرغم من أنني نويت أن أتقدَّم لاحقًا، إلى أن طالعت قضية كرون في الصحف، وعرفت حينها أن الأمر يحوي أكثرَ مما يظهر على السطح. لذلك، عندما علمت أنه قد قُبِضَ على رجلٍ يُدعى كارتر بتهمة قتل كرون، أتيت إلى بيرويك، وذهبت إلى المحكمة لسماعِ ما قيل عندما مَثُل كارتر أمام القضاة. واخترت مقعدًا هادئًا في المحكمة، وربما لم ترَني.»
صِحت: «أنا رأيتُك!» ثم أضفت: «وأتذكَّرك جيدًا، يا سيد إلفينستون.»
قال بابتسامةٍ مرحة: «أجل!» وتابع: «أنت الفتى الذي تورَّط في الأمر؛ من حُسن طالعك أنك خرجتَ من الأمر سالمًا، يا رجل! حسنًا، لقد كنتُ هناك، وقد أشار رجل كان يجلس بجانبي ويعرف الجميع، وقبل حتى النداء على القضية في المحكمة، نحو السير جيلبرت كارستيرز عند دخوله وقال إنه قد مُنِحَ مقعدًا على المنصة. وعرفت أن ثمَّة لغطًا كبيرًا، وربما لا يعرفه أحد غيري؛ لأن الرجل الذي أُشيرَ إليه لم يكن السير جيلبرت كارستيرز، وليس من عائلة كارستيرز على الإطلاق، ليس هو! لكنني … كنت أعرفه!»
صاح السيد ليندسي: «كنت تعرفه!» وتابع: «عجبًا! هذا هو أول شذرةٍ مباشرة نحصل عليها من الاستنارة الحقيقية! ومَن هو، إذن، يا سيد إلفينستون؟»
أجاب السيد إلفينستون: «تمهَّل!» ثم أضاف: «سيتعيَّن علينا العودة بالأحداث قليلًا: أخرِج أحداث محكمة الشرطة من عقلك لبعض الوقت. لقد مرَّ نحو … لقد نسيتُ حقًّا كم مرَّ من الوقت منذ ذلك الحين، ولكن مباشرةً بعد أن تخلَّيتُ عن وظيفة مدير الأعمال أُتيحت لي الفرصة للذهاب إلى لندن في شأنٍ خاص بي. وهناك، ذات صباح، بينما كنت أتجوَّل في نهاية شارع ريجنت ستريت، قابلت جيلبرت كارستيرز، الذي لم أكن قد رأيته مُطلقًا منذ مغادرته المنزل. فتأبَّط ذراعي على الفور، وطلب منِّي الذهاب معه إلى منزله في شارع جيرمين ستريت الذي كان على مقربة، فواففت. وذهبت، ووجدتُ غرفَ منزله مليئةً بالصناديق، والحقائب، وما شابه؛ حيث قال، إنه وصديق له، سيذهبان في رحلةِ صيد واستكشاف في ناحيةٍ ما من أمريكا الوسطى؛ لا أعرف ما الذي لم يكونا سيفعلانه، لكن من المفترض أنه كان أمرًا كبيرًا، وكانا سيعودان مُحمَّلين بعيناتٍ من التاريخ الطبيعي ويَجنيان أيضًا الكثيرَ من المال من المغامرة. وكان يُخبرني بكل شيء عن ذلك بطريقته المتحمسة، والمنفعلة عندما دخل الرجل الآخر، وقد عرَّفني عليه. وهذا الرجل، أيها السادة، كان هو الرجل الذي رأيته، باسم السير جيلبرت كارستيرز، على منصة المحكمة في بيرويك في ذلك اليوم فقط! كان قد تغيَّر، بالطبع، أكثرَ مما ظننتُ خلال خمسة عشر عامًا؛ لأن تلك تقريبًا هي الفترة التي كانت قد مرَّت منذ أن رأيته مع جيلبرت هناك في جيرمين ستريت، لكنني عرفته ما إن وقعت عيناي عليه، وقد تبخَّرت أيُّ شكوك كانت لديَّ ما إن رأيته يرفع يده اليمنى نحو شاربه؛ لأنه تُوجَد أصبعان مفقودتان في تلك اليد، الأصبعان الوسطيان، وتذكَّرت تلك الحقيقة عن الرجل الذي عرَّفني عليه جيلبرت كارستيرز. عرفت، كما قلتُ لكم، بينما كنتُ جالسًا في تلك المحكمة، أن الرجل الجالس على المنصة يستمع، ما هو إلا مُحتال!»
كنَّا جميعًا مُنحَنِين إلى الأمام عبر الطاولة، نستمع بشغف، وتبادر سؤال إلى أذهاننا، صاغه السيد ليندسي في كلمات.
«ما اسم الرجل؟»
أجاب السيد إلفينستون: «لقد قُدِّم لي، في جيرمين ستريت ذلك الصباح، باسم ميكين، الطبيب ميكين.» ثم أضاف: «كان جيلبرت كارستيرز، كما تعلمون، هو نفسه طبيبًا؛ كان طبيبًا مؤهَّلًا، على أي حال، وكان هذا صديقًا له. ولكن ذلك كان كلَّ ما علمته في ذلك الوقت؛ إذ كانا مُنشغِلَين للغاية في استعداداتهما، حيث كانا سيُغادران إلى ساوثهامبتون في تلك الليلة، وتركتهما وسط ذلك، وبالطبع لم أسمع عنهما أيَّ أخبارٍ مرةً أخرى. لكن الآن بالعودة إلى محكمة الشرطة في ذلك اليوم: أقول لكم، لقد كنت، عمدًا، أجلس في ركنٍ هادئ، وبقيتُ هناك حتى انتهت الجلسة؛ ولكن في نفس اللحظة التي كان فيها الجميع يغادرون، رآني الرجل الجالس على المنصة …»
صاح السيد ليندسي، وهو ينظر نحوي: «أه!» وتابع: «أه! ذلك سبب آخر، ذلك يكمل موضوع فأس الثلج! أجل! لقد رآك يا سيد إلفينستون …»
تابع السيد إلفينستون: «ورأيتُ نظرةً غريبة، مُتحيرةً على وجهه. ونظر مرةً أخرى، نظر بحدَّة. لم أُبدِ ردَّ فعْلٍ على نظرته، مع أنني واصلتُ مُراقبته، وبعد برهةٍ استدار وخرج. لكنني علمتُ أنه تعرَّف عليَّ بصفتي رجلًا رآه في مكانٍ ما. تذكَّر الآن، عندما قدَّمني جيلبرت كارستيرز إلى هذا الرجل، لم يذكر جيلبرت أيَّ صلةٍ لي بهاثركلو؛ لقد تحدَّث عني فقط بصفتي صديقًا قديمًا؛ لذلك، عندما جاء ميكين إلى هذه البلدة، لم يكن يتوقَّع العثور عليَّ هنا. لكنني أدركتُ أنه كان خائفًا، خائفًا بشدة، بسبب تعرُّفه عليَّ وشكِّه بشأني. وكان السؤال التالي هو ماذا كان عليَّ أن أفعل؟ أنا لستُ الرجل الذي يفعل الأشياء بتعجُّل، وكان بوسعي أن أرى أن هذه القضية سيئة، ومُتشعبة، مع احتمال وجود جريمتَي قتْل فيها. غادرتُ وتناولتُ غدائي، وفكَّرت. في نهاية الأمر، بدلًا من الذهاب إلى الشرطة، ذهبت إلى مكتبك، يا سيد ليندسي، وكان مكتبك مُغلقًا، وكنتَ غائبًا طوال اليوم. وعندئذٍ طرأتْ على ذهني فكرة: لدي قريب، الرجل الذي بالخارج مع موراي، وهو ضابط رفيع المستوى في قسم التحقيقات الجنائية في نيو سكوتلاند يارد، سأذهب إليه. لذلك ذهبت مباشرة إلى لندن على متن قطار الجنوب السريع التالي. لماذا؟ لمعرفة إن كان يمكنه تتبُّع أيِّ شيءٍ عن ذلك الرجل ميكين.»
أومأ السيد ليندسي بإعجاب: «أجل!» وتابع: «لقد كنتَ مُحقًّا في ذلك؛ كانت تلك فكرة جيدة. وإلامَ توصَّلت؟»
أجاب السيد إلفينستون: «لم نبدأ من مُقابلتي معه في جيرمين ستريت.» وتابع: «لقد تتبَّعناه في السجل الطبي حتى تلك النقطة. اسمه فرانسيس ميكين، لديه رسائل طبية مختلفة تحمل هذا الاسم. كان في أحد مُستشفيات لندن مع جيلبرت كارستيرز، وتشارك ذلك المنزل في جيرمين ستريت معه. ووجدنا، بسهولة، رجلًا عمِل لديهما خادمًا، وتذكَّر سفرهما في رحلة الصيد، لم يعودا أبدًا، إلى جيرمين ستريت، على أي حال. ولم ترِد أيُّ أخبارٍ عنهما في أماكنهما القديمة في تلك المنطقة منذ ذلك الوقت. وعندما اكتشفنا كلَّ ذلك، جئنا إلى هنا مباشرةً، الليلة الماضية، إلى الشرطة، وهذا كل شيء، يا سيد ليندسي. وبالطبع، الأمر واضح لي، ربما مات جيلبرت أثناء وجوده برفقة هذا الرجل الذي استحوذ على خطاباته وأوراقه وما إلى ذلك، وبمرور الوقت، عندما سمع بما كانت عليه الأمور، وعندما سنحت الفرصة، قدَّم نفسه لمحامي الأسرة بصفته جيلبرت كارستيرز. هل يُوجَد تفسير أكثر وضوحًا من هذا؟»
صاح السيد ليندسي: «كلَّا!» وتابع: «إنها قضية مؤكدة، وبسيطة عندما تراها في ضوء معرفتك؛ قضية انتحال شخصية. لكني أتساءل ما العلاقة بين قضية جيلفرثويت وفيليبس وبين ميكين هذا، إن كان بإمكاننا استيضاحها؟»
قال السيد إلفينستون: «هل أُوضِّح لك نظريتي؟» وتابع: «لقد قرأتُ كلَّ ما ورد في الصحف، بالطبع، وأخبرني موراي بالكثير في الليلة الماضية قبل أن نأتي إليك، وأنت ذكرت اكتشاف السيد ريدلي، حسنًا، إذن، ليس لدي أدنى شك في أن هذا السيد الشاب هو ابن مايكل كارستيرز، ومن ثم هو المالك الحقيقي للَّقب والأراضي! وسأُخبرك كيف أُفسِّر الأمر برمَّته. إن مايكل كارستيرز، حسبما أتذكَّره، ورأيتُه كثيرًا وهو فتًى وشاب، كان ما يمكن أن تدعوه راديكاليًّا عنيفًا في أفكاره. كان شابًّا غريب الأطوار، قاسيًا في بعض النواحي، ولطيفًا للغاية في أخرى. كان لدَيه اعتراض غير عادي على الألقاب، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، كان يرى أنه يجب على كل رجلٍ أن يصنع نفسه، إذا ما أُتيحت له الفرصة. الآن، رأيي هو أنه عندما تزوَّج سرًّا من فتاةٍ كانت أدنى منه كثيرًا في المكانة الاجتماعية، هاجر إلى أمريكا، عازمًا على وضع مبادئه موضعَ التطبيق. من الواضح أنه أراد ألا يدين ابنه بأي شيءٍ لمكان مَولده؛ وعلى الرغم من أنه قدَّم له بالتأكيد دعمًا وافرًا وسخيًّا، ومنحه بدايةً جيدة، فقد أراده أن يُقرِّر طريقةَ حياته ويصنع ثروته بنفسه. ذلك يفسِّر طريقة تنشئة السيد جافين سميتون. أما بخصوص السر فدَعْني أوضح لك. من الواضح أن مايكل كارستيرز كان شخصًا مُحبًّا للتجوال صادف بعض الأشخاص غريبي الأطوار، وكان جيلفرثويت أحدهم، وفيليبس، أيًّا كان، واحدًا آخر. من الواضح جدًّا، مما سمعته منك، أن الرجال الثلاثة كانوا شركاء في وقتٍ ما. وربما، وهو الأرجح، أنه في لحظةِ ثقة، كشف مايكل سرَّه لهذَين الاثنَين، وعندما مات قرَّرا إجراء المزيد من التحريات حول الأمر، ربما لابتزاز الرجل الذي كان قد تقدَّم واستحوذ على اللقب، والذي اعتقدا على الأرجح أنه السير جيلبرت كارستيرز الحقيقي. دعْني أصوغ لك الأمرَ على هذا النحو: بمجرد عثورهما على الدليل المُوثَّق الذي أراداه، وتفاصيل زواج مايكل، وما إلى ذلك، لم يكن عليهما سوى الذهاب إلى السير جيلبرت، حيث ظنَّا أنه كذلك، ويُخبرانه أنه إن لم يدفع لهما ثَمن صمتهما، فسيكشفان الحقيقة لابن أخيه، الذي من الواضح أنهما كانا قد عرفا بالفعل أنه السيد جافين سميتون. ولكن فيما يتعلَّق بقتل فيليبس … أه، هذا في رأيي لُغز من المستبعَد حلُّه! والاحتمال المُرجَّح هو أنه جرى ترتيب لقاء مع السير جيلبرت، وهو ما يعني، بالطبع، مع ميكين، في تلك الليلة، وأن فيليبس قُتِلَ على يده. أما بشأن كرون، ففي رأيي أن مقتل كرون نتج عن جشع وحماقة كرون؛ من المُحتمَل أنه شاهد ميكين في غفلةٍ من الأخير، وأخبره بما عرفه، ودفع حياته ثمنًا لذلك.»
قال السيد جافين سميتون: «ثمة نظرية مُحتملة أخرى حول مقتل فيليبس.» وتابع: «وفقًا لما تعرفه، يا سيد إلفينستون، فإن ميكين هذا رجل سافر كثيرًا إلى الخارج، وكذلك فيليبس. كيف لنا أن نعرف أنه عندما التقى ميكين وفيليبس في تلك الليلة، لم يتعرَّف فيليبس على هوية ميكين الحقيقية؛ وتبعًا لذلك كان لدى ميكين حافز مزدوج لقتله؟»
صاح السيد ليندسي: «أحسنت!» ثم أضاف: «نظرية رائعة! ومِن المُحتمَل أن تكون النظرية الصحيحة. ولكن»، تابع، وهو ينهض ويتوجَّه نحو الباب، «كل النظريات في العالَم لن تساعدنا في القبض على ميكين، وسأذهب لأرى إن كان موراي قد استنتج أيَّ شيءٍ من بحثه واستجوابه.»
لم يكن موراي قد توصَّل إلى أي شيء. لم يكن يُوجَد أيُّ شيء في الغرف الخاصة بالسير جيلبرت كارستيرز المزعوم وزوجته يُشير إلى أيِّ دليلٍ على مكان وجودهما: ولم يكن بإمكان الخَدَم قول أي شيء عن تحركاتهما بخلافِ ما كانت الشرطة تعرفه بالفعل. لم يكن أيٌّ منهم قد رأى السير جيلبرت مُطلقًا منذ صباح اليوم الذي ذهب فيه إلى بيرويك لحضورِ جلسة مُحاكمة كارتر، ولم تُشاهَد الليدي كارستيرز منذ مغادرتها المنزل سرًّا، بعد ذلك بيومين. لم يستطِع أيٌّ من الخَدَم العديدين، رجالًا أو نساءً، أن يقول أيَّ شيءٍ عن سيدهم أو سيدتهم، ولا عن أي أفعالٍ مشبوهة من جانب هولينز خلال اليومَين الماضِيَين، باستثناء أنه كان يُغادر المنزل كثيرًا. وأيًّا كان دور كبير الخدَم في هذه الأحداث الأخيرة، فقد لعبه بمهارة.
لذلك، كما بدا، لم يكن يُوجَد ما يمكن فعْله سوى استكمال البحث في مكانٍ آخر؛ إذ كان انطباع الشرطة أن ميكين قد هرب في اتجاه وزوجته في اتجاه آخر، وأن خُطتهما كانت أن يلقاهما هولينز في مكانٍ ما خارج البلاد في أوروبا؛ وبعد قليل، غادرْنا جميعًا هاثركلو هاوس للعودة إلى بيرويك. وعندما تجاوزنا عتبة الباب، التفت السيد ليندسي إلى السيد جافين سميتون بابتسامةٍ ذكية.
وقال: «في المرة القادمة التي ستخطو فيها هنا، يا سيدي، ستكون عندئذٍ السير جافين كارستيرز!» ثم أضاف: «ونأمُل ألا يتأخَّر ذلك طويلًا!»
أجاب المالك المُستقبلي: «أخشى أنه يُوجَد الكثير ممَّا يتعيَّن فعْله قبل أن ترى ذلك، يا سيد ليندسي.» ثم أضاف: «نحن لم نتجاوز المرحلة العصيبة بعدُ، كما تعلم.»
من المؤكَّد أننا لم نتجاوز المرحلة العصيبة، وعلى حدِّ علمي، ربما كانت تلك الكلمات الأخيرة تحمل نبوءة، مثلما، بعد ذلك بقليل، كنتُ أميل إلى الظن في أن كلمات مايسي كانت كذلك قبل أن تغادر في السيارة. أما البقية، السيد ليندسي ومجموعته، وموراي ورفاقه، فقد قدِموا من بيرويك في أول وسيلةِ نقلٍ تمكَّنوا من أن يجدوها في ذلك الوقت من الليل، وغادروا الآن إلى حيث كانوا ينتظرون في سقيفةٍ مجاورة. وقد أرادوا منِّي أن أُرافقهم، لكنني كنتُ قلقًا بشأن دراجتي، التي كانت آلةً جديدة تقريبًا. كنتُ قد خبأتها بعيدًا في أمانٍ قدرَ استطاعتي تحت بعض الشجيرات الكثيفة على حافة الغابة، لكن هطول الأمطار كان غزيرًا وعرفت أنها لا بدَّ أن تكون غارقة الآن وسط أوراق الشجر، وقد علاها الكثير من الصدأ الذي يجب تلميعه، ناهيك عن مقعدها المُشبع بالماء. لذلك ذهبتُ عبر الحديقة إلى حيث تركتها، وتوجَّه الآخرون إلى بيرويك، وهكذا أخلفنا أنا والسيد ليندسي وعدنا لمايسي. وذلك لأنني الآن كنتُ وحدي، وبالتأكيد لم أكن أتوقَّع المزيد من الخطر.
لكن ليس الخطر فقط، وإنما التهديد بالموت كان يكتنفني وأنا أسير في طريقي. كنَّا قد بقِينا بعض الوقت في هاثركلو هاوس، وكان الفجر قد طلع قبل مُغادرتنا. أقبل الصباح صافيًا ومشرقًا بعد العاصفة، وكانت الشمس التي أشرقت للتو، وكانت الساعة الرابعة بالضبط، والشمس فوق الأفق، تُحوِّل قطرات المطر المُتجمعة على التنوب والصنوبر إلى ماساتٍ متلألئة بينما كنتُ أدخل لأعماق الغابة. لم يكن لديَّ أيُّ تفكيرٍ آخر في تلك اللحظة سوى العودة إلى المنزل وتغيير ملابسي قبل الذهاب إلى منزل أندرو دنلوب لإبلاغ الأخبار، وبينما كنتُ أعبر شقًّا ضيقًا عبر الشجيرات، رأيت، على مسافةٍ بعيدة نوعًا ما، رأسَ رجل ينظر ببطء من بين الأشجار. فتراجعت على الفور، ورحتُ أُراقب. لحُسن الحظ، أو لسوء الحظ، لم يكن ينظر في اتجاهي، ولم يلمحني ولو للحظة، وعندما لوى رقبته في اتجاهي أدركتُ أنه الرجل الذي كنا نتحدَّث عنه، والذي كنتُ أعرف الآن أنه الطبيب ميكين. وخطر لي على الفور أنه كان في الجوار يترقَّب وصول هولينز، ولا يدري أن هولينز كان جثةً هامدةً هناك في البرج العتيق.
إذن، لم يكن هو الذي غرس ذلك السكين القاتل في حلق هولينز!
راقبتُه، وأنا مُختبئ في مأمن. خرج من مَخبئه، وتجاوز الشق، ومرَّ عبر حزام الشجر الذي كنتُ قد مررتُ به للتو، ونظر عبر الحديقة نحو المنزل؛ كل هذا رأيته بالمشي بحذرٍ عبر الأشجار والشجيرات خلفي. كان على بُعد أربعين ياردة مني في ذلك الوقت، ولكن كان بوسعي أن أرى التعبير المُتوتر، والقَلِق على وجهه. كانت مُجريات الأمور قد سلكت مسلكًا سيئًا؛ فلم يُقابله هولينز والسيارة حيث كان يتوقعهما، وكان يحاول معرفةَ ما حدث. وأتى مرةً بحركةٍ كما لو كان سيلتفُّ حول الأشجار ويتَّجه نحو البرج، الذي كان يقع في الجهة المُقابلة تمامًا، ولكن مع وجود مساحة مفتوحة بيننا وبينه، ثم تراجع فجأة، وبدأ في المُضي بعيدًا وسط الأشجار.
تبعته بحذرٍ. كنتُ دومًا فخورًا بعض الشيءٍ بما أسميته مهارة الاختباء في الغابة؛ إذ لعبتُ كثيرًا لعبة الهنود الحمر عندما كنتُ صغيرًا، وحرصتُ على المشي بخفَّة وأنا أتبعه من مجموعة أشجارٍ إلى أخرى. أخذ يسير ويسير، لمسافة طويلة، بعيدًا عن هاثركلو، وفي اتجاه موقع التقاء نهر تيل مع نهر تويد. وأخيرًا أصبح خارج أراضي هاثركلو، وقريبًا من نهر تيل، وفي النهاية اتَّجه نحو حزامٍ رفيع من الأشجار على جانب نهر تيل، بالقُرب من المكان الذي عُثِرَ فيه على جثة كرون، وفي مقابل البقعة ذاتها تقريبًا، على الضفة الأخرى، التي عثرتُ فيها على فيليبس ميتًا؛ وفجأة رأيتُ ما كان يبحث عنه. هناك، أمامنا مباشرة، كان يُوجَد قارب قديم، مربوط بالضفة، وكان يسعى إلى الوصول إليه، ينوي بلا شك وضع نفسه في موضع التقاء النهرين، للوصول إلى الضفة الشمالية لنهر تويد، ومن ثم الهرب بأمان إلى أماكن أخرى.
وهنا ساءت الأمور. كنتُ أتبعه بحذَر، من شجرة إلى شجرة، بالقُرب من ضفة النهر، عندما علقت قدمي في شجيرة من التوت الأسود الأرضي، ووقعتُ على شجيرات الغابة. وقبل أن أقف على قدميَّ، كان قد استدار وجاء يعدو نحوي، ووجهه شاحِب من الغضب والانزعاج، ويحمل مُسدسًا في يده. وعندما رأى هوية مَن يتبعه، صوَّب مُسدسه بكامل طول ذراعه نحوي.
قال، وهو يتوقف بثبات: «تراجع!»
قلت: «كلَّا!»
قال: «إن تقدَّمتَ ياردةً أخرى، يا مونيلوز، سأُرديك قتيلًا!» وأضاف: «أنا أعني ما أقول! تراجع!»
أجبت، وأنا ألزم مكاني: «لن أقترب قَدمًا آخر.» وتابعت: «لكنني لن أتراجع. وكلما تحرَّكت أنت للأمام، سأتبعك. لن أدعك تغيب عن ناظريَّ مرةً أخرى، يا سيد ميكين!»
انتفض قليلًا عند سماع ذلك، ثم بدأ ينظر إلى جميع الاتجاهات من حولي، كما لو كان يريد أن يكتشفَ ما إذا كنتُ بصحبة أحد. وفجأة ألقى عليَّ سؤالًا.
«أين هولينز؟» وتابع: «أنا مُتيقن من أنك تعلم!»
أجبته: «مات!» وتابعت: «مات، يا سيد ميكين! مثل فيليبس، أو مثل أبيل كرون. ورجال الشرطة يلاحقونك، وهم حولك في كل مكان، ومن الأفضل لك أن تقذف هذا الشيء في نهر تيل هناك وتأتي معي. لن تهرب منِّي الآن بسهولةٍ كما فعلت في تلك المرة على يختك.»
عندئذٍ أطلق النار عليَّ، من مسافة اثنتي عشرة أو خمس عشرة ياردة. ولا أعرف إن كان قصد قتلي، أو إعاقتي فقط؛ لكن الرصاصة اخترقت ركبتي اليسرى، عند الحافة السفلية لرضفة الركبة، والشيء التالي الذي عرفته أنني وقعتُ على الأرض على أربع، والشيء التالي، وكان في الثانية التالية، قبل حتى أن أشعر بألم، أنني كنتُ أحدِّق لأعلى وأنا في ذلك الوضع لأرى الانتقام الذي هبط على مَن حاول قتلي في اللحظة ذاتها من محاولته هذه. لأنه ما إن أطلق النار عليَّ وسقطتُ، حتى قفزتِ امرأة من بين الشجيرات إلى جانبه، والتمع سكينٌ في الهواء، ثم وقع هو أيضًا على الأرض مع صيحة يتمزج فيها الأنين بالصراخ، ورأيت أن مُهاجِمَته هي الأيرلندية نانسي ماجواير، وعرفت على الفور مَن الذي قتل هولينز.
لكنها لم تقتل ميكين. إذ نهض مثل كائنٍ مُصاب بجروح خطيرة — حاول النهوض، مثلما رأيت حيواناتٍ عاجزة عن الحركة تنهض، وصرخ مثل وحشٍ في فخ، وهو يُقاتل بيدَيه. فضربتْه المرأة مرة أخرى بالسكين، ووقع مُجددًا، ثم نهض مرةً أخرى، و… أغمضت عينيَّ، وأنا في غاية الرعب، وهي تغرس فيه السكين للمرة الثالثة.
لكن ذلك لم يكن شيئًا مقارنةً بالرُّعب الذي أعقب ذلك. فعندما نظرتُ مرةً أخرى، كان لا يزال يتلوَّى ويصرخ، ويقاتل بشكلٍ أعمى من أجل حياته، فناديتُ عليها لتتركه وشأنه، لأنني أدركتُ أنه سيموت في غضون دقائق معدودة. بلغ بي الأمر أنني بذلتُ مجهودًا للزحف نحوهما، لعلِّي أجرُّها بعيدًا عنه، لكن ركبتي عجزت عن الحركة وعاودت السقوط على ظهري في شِبه إغماءة. ودون أن تُعيرَني أيَّ انتباهٍ كما لو كنتُ أحد الجذوع والحجارة القريبة، أَمسَكَته فجأة، وهو يتلوَّى، من رقبته، وسحبته عبر الضفة بسهولةٍ كما لو كان طفلًا في قبضتها، وتوغَّلت في مياه نهر تيل حتى رُكبتَيها وأبقته تحت الماء حتى غرق.
اجتاحني رُعب غير عادي وأنا مُستلقٍ هناك، عاجزًا عن الحركة، مُستندًا على مرفقي، أُشاهد. التروي والعزم الذي أنهت به المرأة عملها، والصمت المُطبِق من حولنا، الذي لم يقطعه سوى صوتٍ خافت مُتتابع لارتطام مياه النهر بضفته، ومعرفة أن هذا كان عملًا انتقاميًّا، كل هذه الأشياء أنتجت حالةً ذهنية في داخلي كانت أقرب إلى تصوُّري للفظاعة مما تصوَّرتُ على الإطلاق. كان بإمكاني فقط الاستلقاء والمشاهدة، مذهولًا. لكن الأمر قد انتهى أخيرًا، وتَركت الجثة، ووقفَت تُراقبها للحظةٍ وهي تطفو في بِركةٍ مُظلمة أسفل شجيرات الماء؛ ثم، وهي تنفض الماء عنها كالكلب، صعدت إلى الضفة ونظرت نحوي، في صمت.
قلت بصعوبة: «ذلك كان … انتقامًا لكرون.»
أجابت بصوتٍ حاد غريب: «هما مَن قتلا كرون.» ثم أضافت: «دعِ الشرطة تجده في المكان الذي عثروا فيه على كرون! إن إصابتك ليست بليغة، وثمة شخصٌ ما يقترب.»
ثم فجأة استدارتْ واختفت بين الأشجار، ومُستديرًا نحو الاتجاه الذي أشارت إليه، رأيتُ أحد مُراقبي الصيد غير القانوني قادمًا. كان قد ألقى بندقيته بلا عنايةٍ على ثنية ذراعه، وهو يصفر، بمرحٍ ولا مُبالاة.
لديَّ تَذكار دائم لذلك الصباح في رُكبتي المعاقة نوعًا ما. وذات مرة، منذ عامَين، عندما كنتُ في شأنٍ ما في بلدة إنجليزية مُعينة، وفي منطقةٍ فيها لا يتوغَّل فيها سوى عددٍ قليل من قاطنيها، التقيتُ للحظةٍ واحدة، في أحد أركان حيٍّ فقير، بامرأة أيرلندية نحيلة رائعة لاحظَت عرجي الخفيف، وأدارت عينَيها للحظةٍ بنظرة حادَّة فمنحتُها أنا أيضًا نظرةً حادة مُماثلة. وربما كان ثمة تفاهُم وتعاطف مُتبادل في تلك النظرة، وبالتأكيد، بعد أن انتهى تبادل تلك النظرات فيما بيننا، سار كلٌّ منَّا في طريقٍ منفصِل، صامتًا.