عمران دمشق
لم تُبْقِ الأيام في دمشق من عاديات الأمم البائدة قبل الإسلام سوى مصالح قليلة دائرة يُستدَل منها على مبلغ عنايتها بالعمران، لا جرم أن دولة الرومان التي طال عمرها في هذه الديار كان لها ممَّن تسخرهم من الأسرى والأرقَّاء في إنشاء مصانعها ما لم تكد تصل إليه دولة قبلها ولا بعدها، وعلى هذا الأساس كان حالها في كل قطر استصفته وكل بلد نزلته. ومن آثارها هنا الشارع الأعظم ويُدعى المستقيم، كان ممتدًا من الباب الشرقي إلى باب الجابية، أي من الشرق إلى الغرب، وطوله ١٦٠٠ متر، وفيه طريق للركبان وآخر للمشاة، وقد طُمِر اليوم بما قام عليه من الأنقاض العظيمة، وما برحت بعض عمده مدفونة على أمتار من سطح الأرض تعلوها الدور والحوانيت، ولا يظهر منه إلا الباب الشمالي من الباب الشرقي، وقسم من الباب الأوسط الكبير، أما باب الجابية فبقي جزء صغير منه.
ومن أعظم آثار الرومان اثنان وخمسون حصنًا وقلعة أقاموها بين دمشق وتدمر إلى الفرات؛ لتقف حاميتها على الدوام دون تسرب أهل البادية إلى المعمور من دمشق وأرباضها. وكذلك ما شادوه من حصون على الطريق الممتد بين بُصْرَى قصبة إقليم حوران ودمشق عاصمة القطر الشامي؛ ليأمنوا عيث البادية أيضًا.
ومن آثار الرومان قلعة دمشق في غربها، سماها العرب «الأسد الرابض»، وتعاورها بعض الفاتحين الترميم في أدوار كثيرة، ولا تزال بعض جدرانها قائمة، وأكثرها خراب، وقد اتخذها كثير من ملوك الطوائف ونور الدين وأخلافه دار إمارة، وجاءت بعض العصور وهي أشبه بمدينة فيها جميع المرافق، وأقيم فيها جامع بخطبة. ومن آثار القدماء سور البلد، وهذا أيضًا جار عليه الدهر، فنُقض مرات ورُمِّم مرات في الدول الإسلامية، وهناك بقايا أنقاض بيعة اسمها كنيسة حنانيا، يُرَدُّ عهد بنائها إلى القرن الرابع للمسيح، إلى غير ذلك من الأحجار والتماثيل المهشمة وقليل منها السالم، وقد رمَّ العرب بعض ما عَور من المصانع القديمة، وما أفرطوا في تشييد البناء العظيم؛ لأن الإسلام حظر السخرة، وعاديات القدماء كانت من عمل الرقيق والأسرى، وربما اختار العرب لأول أمرهم البناء بالمدر أي باللبن والطين، ثم تحوَّل البناء إلى الحجر في بعض السنين، وكانوا يؤثرون البناء بالطين والخشب؛ لأنه أدنى إلى السلامة عند حدوث الزلازل من أبنية الحجر.
بنى معاوية قصر الإمارة جنوب المسجد الأموي، وسُمِّي بالخضراء لقبة خضراء قامت عليه، قيل إنه أنفق عليه ثمانية عشر حملًا من الذهب، وبنى الأمويون بيوتهم في جوار الجامع، وكان لمعظمهم قصور في الغوطة، ومنهم من كان يؤثر نزول البادية لئلا يخمل أبناؤهم بعيش الحاضرة.
وجاء الخليفة الوليد بن عبد الملك وكان مولعًا بالعمران، فبنى الجامع الأموي، وصالح النصارى على النصف الذي كان أبقاه لهم الفاتحون، وعوَّضهم عن نصفه أربعين ألف دينار، وكان بدمشق خمس عشرة كنيسة للنصارى صولحوا عليها. قال المؤرخون: وهدم المسلمون واليهود جميع ما جددت النصارى في تربيع الجامع الأموي من المذابح والأبنية والحنايا، حتى بقي عرصة مربعة، ثم شرع ببنائه بفكرة جيدة على الصفة الحسنة الأنيقة التي لم يشهد قبلها مثلها.
وذكر المؤرخون أن الوليد أتى الصناع والمهندسين من الروم، أيْ من الروم الوطنيين، وبناه على أعمدة من الرخام طبقتين، الطبقة التحتانية أعمدة كبار، والتي فوقها صغار، في خلالها صورة كل مدينة وشجرة في الدنيا معمولة بالفسيفساء بالذهب والخضرة والصفرة، وكان ابتداء عمارته في أواخر سنة ست وثمانين، وتكامل في عشر سنين، وقبل أن يكون بيعة للنصارى كان معبدًا للصابئة والكلدان والسريان واليهود.
وكان طول الحرم الأصلي من الشرق إلى الغرب ١٣٠٠ قدم، وعرضه من الشمال إلى الجنوب ١٠٠٠ قدم، فهو ربع مساحة دمشق في تلك الأيام، أنفق الوليد على تشييده وتزيينه خراج الشام سنتين، وقيل أكثر من ذلك، وكان خراجها ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار كل سنة، فجاء أجمل جامع في الإسلام يليق بعاصمة الخلافة الإسلامية، وبقي على جماله إلى سنة ٤٦١ﻫ أيام ذهبت محاسنه في الحريق الذي وقع في دولة الفاطميين، وقد حُرِق ست مرات في عصور مختلفة، وكان آخِر حريق أصابه في سنة ١٣١٠ﻫ، فأُعِيد إلى ما كان عليه كما كان يعاد في كل حريق، وأُصِيب غير مرة بزلازل فتفطرت بعض أركانه وشراريفه ومآذنه الثلاث.
ولنابغة بني شيبان في الوليد باني الجامع الأموي من قصيدة مدحه بها، ويصف بدائع هذا الجامع:
ووصف ابن منقذ الكناني هذا الجامع بقوله:
وفي أيام الوليد كان الناس يتكلمون في البنايات والعمائر لزيادة رغبته في البناء، فبنت الناس المجالس الحسان عملًا بسُنة الخليفة، وهو الذي عمر الضياع، وحفر الآبار، وأقام المنارات في الطرق، وهدم المساجد القديمة وزاد فيها، وشيد دور المرضى، وكان إذا ازدادت أموال الجباية ولم يجد أحدًا يقبل الصدقات يبني بها المساجد، وشيد من جاء بعده الفنادق ودور الضيافة والخانات، وكل ما يسهِّل العيش ويجلب الراحة.
وظل الدمشقيون يسيرون على خطة خليفتهم الوليد في عمارة بلدهم في القرون التالية لم ينزع منهم هذا الغرام، حتى قال بعض المؤرخين إن للدمشقيين في ظاهر مدينتهم وداخلها من القصور الجميلة ما يدل على شدة ولعهم بإتقان مصانعهم والحرص على آثارهم، وهذه الخلة مشاهَدة فيهم إلى اليوم، وعندهم أن من النقص في صاحب السعة ألا يملك دارًا قوراء منجدة بالفرش الجيد، مستجمعة أسباب الراحة والنعيم.
عمرت دمشق في العهد الأموي عمرانًا ما عهدت مثله في القرون الغابرة ولا في القرون اللاحقة، فأبقى كل واحد من خلفاء بني أمية أثرًا فيها، مع أن ملكهم لم يدم أكثر من ألف شهر، وجاء العباسيون فكان بعض المتقدمين من خلفائهم كالرشيد والمأمون يختلفون إليها، كما قال ابن عساكر، طلبًا للصحة وحسن المنظر، فقد أقام بها المأمون وأجرى إليها قناة من نهر منين إلى معسكره بدير مران، وبنى القبة في أعلى الجبل وصيرها مرقبًا يُوقَد في أعلاها النار، لكي ينظر إلى ما في عسكره، وصارت هذه القباب بعد ذلك للإعلام بحركات العدو، وأقام أيضًا مرصدًا فلكيًّا في الجبل.
ومن أهم القصور القديمة القصر الذي بناه المأمون بين دمشق وداريا، ولا يُعرَف اليوم محله، وفيه نزل المتوكل العباسي لما نقل دواوين الخلافة من بغداد إلى دمشق، وكان المأمون معجَبًا بما ترك الأمويون من الآثار، ولا سيما جامعهم، قال صاحب الأغاني: إن المأمون دخل دمشق فطاف فيها، وجعل يطوف على قصور بني أمية ويتتبع آثارهم، فدخل صحنًا من صحونهم، فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله، وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستان على أربع زواياه سروات كأنها قصت بمقراض من التفافها.
كانت صورة دمشق على شكل مربع الأضلاع مستطيل، ولها ثمانية أبواب، وربما زاد عدد الأبواب في بعض العصور، ورُدِمت بعض الأبواب الأخرى، وأحسن بعض المتأخرين من أهل دمشق إذ قال:
وكانت متاجر المدينة وأسواقها داخل السور، والبناء في ربضها يكثر ويقل تبعًا للأمن وقوة السلطان، فقد كانت في القرن السادس أحياءُ العقيبة والشاغور والمزاز وقبر عاتكة والشويكة والقنوات وسويقة صاروجا «سوق ساروجا» والعنابة من الأحياء الخارجة عن السور، ثم اتصلت بالمدينة كما اتصل ميدان الحصا بها، وكان الميدان قرية في الجنوب تربطها بالمدينة تلك الجادة العظمى من باب الجابية إلى باب مصر أو بوابة الله.
وكان الشرف الأعلى والأدنى في غربي المدينة عامرين بقصور الأغنياء ورجال الدولة، وفيها المدارس الحسان والمساجد والأسواق إلى القرن التاسع، فسطا عليها الخراب، وكذلك كان شأن محلة العنابة، فإنها خربت حوالي ذلك العصر، وعمرت الصالحية في سفح قاسيون من الشمال في القرن الخامس والسادس حتى أصبحت بمدارسها وجوامعها وأسواقها وخاناتها مدينة برأسها، ثم تحيَّفها الخراب في العصور التالية، ونهضت قليلًا في العصر الحديث، فالعمران كان يمتد إلى الجنوب وإلى الشمال وإلى الغرب، وربما حال دون امتداده إلى الشرق وجود محلتي النصارى واليهود في ذاك السمت.
وجاء زمن والعمران متصل بدمشق من الغرب إلى الربوة، وكانت هذه عامرة أشبه ببلدة صغيرة فيها مدارس وجوامع وأسواق ومقاصف وحمامات، وفيها قصور الأغنياء، وإلى جنبها قصر الفقراء الذي بناه نور الدين محمود بن زنكي ليصطافوا فيه كما يصطاف السراة، ووقف عليه قرية داريا من أعظم قرى الغوطة، وفي ذلك يقول الوداعي:
وحُرِق قصر الإمارة في فتنة الفاطميين، فبقيت دمشق بدون دار إمارة، ولما ملكها تاج الدولة تتش في سنة ٤٧١ بنى دار الإمارة في القلعة، وزاد فيها شمس الملوك دقاق، وأنشأ بابين للقلعة مع دار المسرة فيها والحمام المحدث على صيغة اخترعها، وبنية افترعها، وصفة آثرها.
ولا أثر لما بناه جعفر بن فلاح لما فتح دمشق للفاطميين سنة ٣٥٨، وكان نزل بظاهر سور دمشق فوق نهر يزيد، وأقام أصحابه هناك الأسواق والمساكن، وصارت شبه مدينة، واتخذ لنفسه قصرًا عجيبًا من الحجارة، وجعله عظيمًا شاهقًا في الهواء، غريب البناء، وهذا القصر من المفقود، كما أنه لا أثر لما بناه الأشرف بن العادل من القصور والمتنزهات الحسنة في القرن السادس، ولم يبقَ أثر لقصور السكسكي التي كانت بهجة الأنظار في القرن الثالث في إقليم بيت لهيا على نحو ميل من شمالي دمشق، وكانت في أملاكه هناك عدة قصور مبنية بالحجارة والخشب الصنوبر والعرعر، في كل قصر منها بستان ونهر يسقيه، وكان كل جليل يقدم من الخضرة أي من بغداد، أو من مصر يريد الخضرة ينزل عنده في قصره، وما خلا عصر من مثل هذه القصور يقيمها أهل اليسار من التجار وغيرهم أو رجال الدولة وأصحاب الوجاهة. وفي العصور الحديثة شُيِّدت قصور كثيرة في المدينة وربضها، ومنها ما أُنفِق عليه من أموال مغصوبة فخربت بعد قليل، «والحجر المغصوب في البناء أساس الخراب» كما قيل. وكان في الصالحية محل يسمى القصر عمَّره أبو البقاء الصفوري سنة ١٠٣٥ﻫ، وكان يقال له صاحب القصر، ولا يعرف هذا القصر ولا القصر الذي كان في الصالحية أيضًا لحسين بن قرنق وعمَّره في سنة ١٠٧٧ﻫ، وكان يُضرَب المثل بقاعته، وكان ابن قرنق صدر دمشق عمَّر الأماكن البهية، ومن جملتها هذا القصر.
ومن أجمل أمثلة البناء الجميل الباقي أكثره دار أسعد باشا العظم في جوار جامع بني أمية، انتهت عمارتها سنة ١١٧٤ﻫ، وهي مثال من هندسة الدور في العهد الأخير، اشترتها حكومة فرنسا من ورثتها وجعلتها معهدًا للدراسات العلمية، وقد حُرِقت في ثورة سنة ١٩٢٥ قاعتها، وكانت أجمل ما حوت تلك الدار.
وفي القرن الخامس دخل دمشق طراز من دور العلم سموه بالمدرسة، وأول مدرسة أُنشِئت للقرآن في سنة ٤٤٤ أنشأها رشأ بن نظيف المقري الدمشقي، وكثرت بعد ذلك دور القرآن ودور الحديث ومدارس الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة والزوايا والرباطات، أنشأها الملوك وأتباعهم من الأمراء والعتقاء والجواري وبعض أهل الخير من التجار والأغنياء، وخُتِم تاريخ المدارس بانقراض ملوك الطوائف ودخول الدولة العثمانية.
ذكر صاحب كتاب الدارس — وهو مما أُلِّف بعد خمس سنين من دخول العثمانيين — أن في دمشق ٧ دور للقرآن، و١٨ دارًا للحديث، و٥٧ مدرسة للشافعية، و٥١ مدرسة للحنفية، و٤ مدارس للمالكية، و١٠ مدارس للحنابلة، وكان بها أربع مدارس للطب، ومدرسة للهندسة، وفي دمشق وصالحيتها ٢٦ خانقًا، و٢٣ رباطًا، و٢٦ زاوية، وجميع هذه المدارس والرابطات خربت على عهد العثمانيين، ولما غادروا دمشق ما كان فيها من تلك المعاهد سوى بضع مدارس أكثرها خراب، سطا عليها أهل الجوار أو باعها أكلة الأوقاف، وكانت هذه المدارس مدة قرون أشبه بكليات لمدرسة جامعة كبرى، تُدرَس فيها بعض علوم القدماء إلى جانب علوم الدين واللغة، ومنها خرج أعاظم الملة، وكانت من أجمل الأدوات في إخراج المسلمين من الأمية، تتعاور هذه الواجبَ مع الجوامع والكتاتيب التي يقفها أهل الخير لتعليم اليتامى والفقراء القرآنَ والخط، وتكون على الأغلب على أبواب الجوامع أو على مقربة منها؛ ليألف الصغار الصلاة منذ نعومة أظفارهم.
ولابن منقذ الكناني في المدارس:
ومن القصور التي كان يقصدها الزائرون من الأقطار قصرُ الأبلق غربي دمشق، وهو قصر عظيم بُنِي من أسفله إلى أعلاه بالحجر الأسود والأصفر بإحكام عجيب، بناه الظاهر بيبرس (٦٦٨)، قالوا: وكان من عجائب الدنيا، فُرِش بالرخام البديع الحسن المؤزر بالرخام المفصل بالصدف والفص المذهب إلى سجف السقف، وكان على واجهته الشرقية مائة أسد، وعلى الشمالية اثنا عشر أسدًا منزلة صورها بأبيض في أسود، والأسد شعار «رنك» الملك الظاهر.
وعلى مثال قصر الأبلق بنى الناصر محمد بن قلاوون القصر الأبلق بقلعة الجبل بالقاهرة، وبقي أبلق دمشق عامرًا إلى دخول العثمانيين، وهو من عمل إبراهيم بن غنائم المهندس مثل المدرسة الظاهرية الباقية إلى اليوم، واسم هذا المهندس العظيم ما برح منقورًا في الحجر في زاوية باب الظاهرية على يسار الداخل إليها.
كثرت الجوامع والمساجد في الدولتين النورية والصلاحية، وزاد عمران هذه المدينة في القرن السادس، وفيه كانت — كما قال الرحَّالة ابن جبير — أكثر مدن الأرض سكانًا، يضاف هذا إلى ما كان لها من الغنى الماثل في مصانعها ومساكنها وجوامعها ومدارسها، ذهب كل هذا في فتن الفاتحين المخربين، ولم يبقَ منه إلا بعضه، وهو على تشعثه وخرابه يدل على ذلك العز الذي كان لدمشق.
ولقد اشتهرت دمشق بحمَّاماتها؛ لتدفق المياه عليها من كل صوب، واشتهرت حمَّاماتها بأناقة بنيانها وحسن نظافتها، وفي حمَّاماتها المحدثة في القرن العاشر وما بعدُ مقاصيرُ من القاشاني البديع، وآخِر ما دثر منها حمَّام القيشاني وحمَّام الخياطين، وكان في دمشق في القرن التاسع مائة حمَّام وأربعة وستون خانًا، وأهم خاناتها القديمة اليوم خان أسعد باشا، وخان سليمان باشا، وخان الحرير.
وعمر السلطان سليم لما فتح دمشق سورًا وأبراجًا من قرية القابون شمالًا إلى آخر المدينة جنوبًا، وجعل في ذلك السور أبوابًا تغلق على المدينة، وعمر جامعًا ومدفنًا على قبر محيي الدين ابن عربي بالصالحية، ومدرسة قرب المدرسة السليمانية التي بناها ابنه السلطان سليمان القانوني مكان القصر الأبلق في المرج الأخضر.
اشتهرت دور دمشق بأن داخلها حوى الجمال برمته، وخارجها لا ينبئ عن شيء كثير، وهذا يوم كان جل الاعتماد في البنيان على الطين والخشب، يوم قال فيها البحتري:
مشرفات على دمشق وقد أعرض منها بياض تلك القصور.
والبيت الدمشقي في العادة عبارة عن صحن أو فناء فسيح في وسطه حوض ماء يتدفق إليه من أنبوب أو فوارة لا تنقطع جريتها، وقد غرست من الرياحين والأشجار المثمرة كل جميل وعطر، وعلى جوانب هذا الصحن المخادع والغرف والقاعات، وفي القاعة بركة ماء أيضًا، وربما جرت على قامة في الجدار لتزيد في رطوبة المحل في الصيف، وفي الطبقة الثانية العلالي وهي خاصة بالشتاء على الأغلب، فبيوت دمشق القديمة حوت جميع المرافق، ومنها الحديقة والأشجار والمياه، والغالب أن الزلازل في الدهر السالف دعت الأهلين ألا يستخدموا الحجر في بنيانهم إلا نادرًا، أما اليوم فالمعمول عليه في البناء الحجرُ والأسمنت المسلح والآجر والقرميد.
لكن الطراز القديم في البناء أقرب إلى حفظ الحرارة واتقاء البرد من الطراز الحديث، وأبان ابن منقذ الكناني عن هذا العمران بقوله:
اشتهرت دمشق بأديارها قبل الإسلام، ومن أعظمها دير مران في السفح الغربي من قاسيون، كان مطلًّا على مزارع الزعفران، وقد ظل عامرًا إلى القرن السابع، وقال فيه الشعراء من القصائد والمقاطيع كل مرقص، وكان مقصد الخلفاء والأمراء وأرباب اللهو والقصف وعشاق الطبيعة، وكان بالسفح في محلة الصالحية أكثر من دير تطل كلها على المدينة وغوطتها، وفيها أشجار السرو، ولا نعلم في أي قرن دثرت، كما أنا نجهل الزمن الذي دثرت فيه أديار الغوطة. أما كنائس دمشق اليوم فكلها محدثة جُدِّدت بعد حوادث سنة ١٨٦٠، وليس فيها من الجمال ما كان للبيع القديمة، وللقديم أبدًا روعة ليس للجديدة.
ومن أجمل ما أبقت الأيام عليه من البناء الفائق بهندسته المستشفى النوري المعروف بالمارستان داخل المدينة، والمستشفى القيمري في السفح، فإنَّ واجِهَتيهما وواجهة المدرسة الظاهرية من أجمل ما سلم من العاديات. قال رحالة كبير قديمًا: إن هذين المستشفيين من مفاخر الإسلام. وقد جرى مؤخرًا ترميم واجهتيهما ترميمًا خفيفًا، وأعيد إلى النحو الذي كانا عليه، كما رُمِّمت عدة جوامع ومآذن وقبور، فعاد إليها بعض رونقها القديم، ورُمِّمت واجهة المدرسة الظاهرية، وفيها دُفِن الملك الظاهر وابنه الملك السعيد.
وفي الظاهرية دار الكتب الوطنية، وهي قبالة العادلية أعظم مدارس الشافعية، حُرِق ثلثها وحُرِقت خزانة كتبها في فتنة تيمورلنك، واستصفى أهل الجوار جزءًا منها بعد حين، والباقي منها متعة الأنظار، وهي اليوم دار المجمع العلمي العربي، وفيها خزانة كتبه ومكتبه وردهة محاضراته. ومن آثار الظاهر بيبرس — عدا المدرسة المنسوبة لاسمه، وعدا القصر الأبلق الدائر — ما جدَّده من شراريف رءوس قلعة دمشق ورءوس أبراجها، وبنى الطارمة التي كانت على سوق الخيل، وبنى حمَّامًا خارج باب النصر، وجدَّد ثلاثة إصطبلات على الشرق الأعلى، وجدد مشهد زين العابدين في الجامع الأموي ورءوس الأعمدة والأساطين وذهَّبها، وجدَّد باب البريد ودور الضيافة للرسل المترددين.
وما خلا عصر المماليك والعثمانيين بعدهم من آثار جميلة، ومنها جامع تنكز سنة ٧٤٠ وهو الآن مدرسة دينية، وكان تنكز كيلبغا وبرسباي وكافل سيباي وجقماق مولعين بإقامة المصانع التي ازدانت بها دمشق، فإن يلبغا أنشأ جامعًا عظيمًا سنة ٨٤٧ وهو اليوم مدرسة نموذجية، وأقام برسباي سنة ٨٥٢ جامعه المعروف بجامع الورد، وأقام كافل سيباي جامعه الذي سماه العلماء «جمع الجوامع» لأن صاحبه لم يترك مسجدًا ولا مدفنًا معمورًا إلا وأخذ من الأحجار والرخام والأعمدة، وهو في باب الجابية، جُعِل مدرسة ابتدائية منذ أواخر القرن الماضي، ومن مشهور جوامعهم جامع التوبة في العقيبة، وجامع منجك في الميدان، ومدرسة الجقمقية، أمام المدرسة السميساطية على الباب الشمالي من الجامع الأموي، والمدرسة الصابونية أمام تربة باب الصغير. ومن مدارس العثمانيين جامع السنانية من إنشاء سنان باشا، وجامع الدوريشية من عمارة درويش باشا، وجامع مراد باشا في السويقة، ومدرسة إسماعيل باشا العظم، ومدرسة عبد الله باشا العظم، ومدرسة سليمان باشا العظم. وأهم مصانعهم التكية السليمانية، والتكية السليمية، وجامع ابن عربي، وفي المعاهد الثلاثة الأخيرة نموذجات مهمة من القاشاني، وللتكية السليمانية — نسبة لسليمان القانوني — روعة عظيمة ولها مئذنتان جميلتان، وقيل إن هذه المدرسة العظيمة من بناء المعمار سنان التركي المشهور، ودُفِن فيها مؤخرًا بعض ملوك بني عثمان، شغلت الجامعة السورية قسمًا منها وبقي القسم الأكبر جامعًا.
ومن المآذن العظيمة المئذنة الغربية بالجامع الأموي، عمَّرها سلوان بن علي المعمار في عهد المماليك، ومئذنة جامعة كافل سيباي، ومئذنة جامع المعلق سنة ١٠٥٨، وهذا الجامع أجمل بناء في دمشق. وأجمل منابر دمشق منبر جامع الجراح في السويقة، ومنبر جامع الحنابلة في السفح، ومنبر جامع مراد باشا ومحرابه، ومحراب جامع التوبة، ومنبر جامع الشيخ عبد الغني النابلسي وسقفه وشعريته في السفح.
كل هذا من عمل الأفراد، ومنه ما عُمِل رجاء الثواب وحب الخير، ومنه ما أُرِيدَ به الظهور وحماية أموال الباني بوقفها على ما بنى، وكان عمران المدينة أيام العثمانيين كئيبًا، وتكدس الناس في رقعة ضيقة يجعلون الأزقة ملتوية ليختبئوا وراءها، وتكون لهم متاريس ساعة يدور القتال في الشوارع والحارات، وكان من نصيب الدور القديمة أن اختبأت في هذه الأزقة، ولا ينمُّ ظاهرها إلا عن فقر وخصاصة.
ومن أهم الآثار النفيسة في العهد التركي الأخير سكة حديد الحجاز، وطولها ١٣٠٣ كيلومترات، كانت تمتد من دمشق إلى المدينة المنورة، عمرت بإعانات العالم الإسلامي، ومحطتها من أجَلِّ الآثار الحديثة هندسة، وبالسكك الحديدية التي ربطت دمشق بحيفا وبيروت وحلب والموصل، وبالترام الذي ربط شمالها بجنوبها وغربها بشمالها الشرقي حتى بلغ دومة حاضرة الغوطة، أصبحت دمشق كالقاهرة مرتبطة مع الضواحي، وتتم هذه الشبكة متى جرى تمديد النور والترام إلى الغوطة الوسطى والغوطة الغربية. ولقد اتسعت المدينة من الشمال منذ أنشئ المستشفيان الإسكتلندي والفرنسي في حي القصاع، ولولا نشوب الثورة السورية سنة ١٩٢٥–١٩٢٦ لبلغ العمران أرض العنابة على ما كان في القرن التاسع.
وامتد العمران في الجنوب فعمرت عدة محلات وأحياء جديدة، وأهم ما تم من العمران كان في الشمال والغرب من دمشق، وفيه قامت الدور الجديدة والقصور المنيفة، منها قصر العابد وهو قصر رئاسة الجمهورية السورية، وقصر ناظم باشا، وغير ذلك من المصانع، وبعضها عمر بأموال التجار على طراز البيوت ذات الطبقات الثلث والأربع، فخرجت هندسة البيوت عن طراز البيوت أمس ذات الطبقتين فقط، ولولا الحرب وصعوبة تناول مواد البناء لبلغت البيوت المنشأة حديثًا نحو ربع أو ثلث المدينة الحالية، هذا والقوم زهدوا في سكنى البيوت العتيقة على جمالها، وكرهوا البيوت الواسعة في أحياء عامة، أزقة ضيقة يقل فيها النور والشمس وتحتاج إلى خدمة كثيرة. وعلى ما خرق في الحارات القديمة من أزقة ومنافذ، لا تزال المدينة تحتاج إلى شوارع صحية ليظهر بها ما بقي فيها من القصور والقاعات المزخرفة بأجمل الصناعات الدمشقية، وما فيها من مدارس وجوامع أثرية.
ومن أهم ما يستلزمه اتساع العمران وفِرَة السكان أن تنشأ لدمشق مقبرة عظيمة بعيدة عن أقصى حدود المدينة، يُلزم الأهلون بأسرهم بالدفن فيها بعد الآن، وتُغرس المقابر القديمة التي أصبحت ممتزجة بالدور والحوانيت أشجارًا ورياحين، بحيث لا يمضي خمسون سنة حتى تندثر معظم القبور القديمة وتبقى قبور العظماء الراقدين في تلك الترب، وبذلك تجمع دمشق إلى رعاية الصحة زينتها بحدائق تليق بعظمتها التاريخية، وهذا من أعمال المجالس البلدية، وقد آن أن يُطلَب منها مثل تلك المطالب بعد أن دخلت في طور البلديات في الجملة، أي أصبحت ذات قانون وذات هندسة ولها تصميمات ومصوَّرات، والواجب على الأهلين أن يعاونوها على تحقيق رغائبها، ولو فعلوا مختارين لا مكرَهين لما قامت بعض العمائر المستحدثة متشابكة متراصة في بنائها. والبلدية هنا خطت خطوات، وقد رأيناها قبل أربعين سنة تبيع العرصات الواقعة في جادة الميدان، وتسمح للأهلين أن يبنوا حواصل وحوانيت ودورًا أمام واجهات الجوامع والمدارس، فتورث تلك الجادة العريضة بشاعة وشناعة. وكان ديوان الحسبة قبل تأسيس البلديات في القرن الماضي يتولى من المدينة كل ما له صلة بالبناء والطرق والصحة وغير ذلك، ثم ضعفت هذه الحركة وضعفت مشخصاتها وأهمها الهندسة، فقد فُقِدت في أكثر ما قام من العمران، فأصبح كل بانٍ يبني كيف يشاء بما شاء من مواد البناء.
ومن الأبنية الحديثة سراي الحكومة، والمجلس البلدي، ودار الشرطة، والثكنة الحميدية، ومدرج الجامعة السورية، ودار التوليد، ودار الآثار، ودائرة الأملاك العقارية، ودار الأوقاف، ودار الصحة، ودار الندوة «البرلمان»، ومدرسة التجهيز، ووكالة العابد. ومن الفنادق الحديثة أوريان بالاس، وفندق أمية، وهما أعظم الفنادق، والفنادق القديمة تتداعى وتخلفها فنادق من الطراز الحديث، كما خربت فنادق القرون الوسطى ودور الضيافة، ولم يُعرَف لها أثر ولا خبر.
عرفنا بما أسلفنا أن عمران دمشق كان يمتد كثيرًا في الأيام التي تنجو فيها من آفات الطبيعة وعدوان الظالمين، ويظهر عليها الغنى والرفاهية، ومن شأن الخلق إذا أمنوا واطمأنوا أن يتوسعوا في عيشهم، ويظهِروا فضل النعم عليهم.