خطط دمشق ومصانعها
والشارع الثاني سوق مدحت باشا يقع إلى الجنوب وداخل السور، وهو جزء من الشارع المستقيم القديم الذي يصل باب الجابية بالباب الشرقي، وتكثر في هذا الشارع متاجر النسيج الوطني والأعبئة والكوفيات والعقل والنحاسون، وبين هذين الشارعين شارع ثالث وهو سوق الحميدية جنوبي القلعة، وينفذ منه إلى جامع بني أمية، وهو من أهم شوارع المدينة، تتمركز فيه الحركة التجارية، وفيه أكبر مخازن المصنوعات الأجنبية، وبين هذا الشارع وشارع مدحت باشا تتجدد اليوم محلة سيدي عمود التي قضى عليها حريق عام ١٩٢٥، ويعارض هذه الشوارع عدد كبير من الطرق والأزقة ليسهل اتصال هذه الشوارع بعضها ببعض. وهنالك عدة شوارع متسلسلة تمتد من شمال المدينة إلى جنوبها، تبتدئ من ساحة الشهداء فتخرق محلة السنجقدار وباب الجابية والسنانية والسويقة وباب المصلى والميدانين التحتاني والفوقاني، وتنتهي عند باب مصر الواقع في أقصى جنوب المدينة، منه كان يخرج حجاج بيت الله الحرام. في هذا الشارع خط ترام طوله ثلاثة كيلومترات ونصف كيلومتر، وفيه عدد كبير من المتاجر البسيطة معظم علاقتها مع القرويين، ولا سيما الميدان وباب المصلى مركز تجارة الحبوب.
وقد حافظ أكثر أقسام هذه الشوارع الأخيرة على حالتها القديمة، ونصيبها من التجدد والعمران ضئيل، ويخيم عليها مظهر الكآبة والفقر، ولولا وفرة الأبنية الأثرية التي تزين هذه الشوارع لما امتازت عن عمران قرية من القرى. وأشهر آثارها إذا ابتدأنا من الشمال جامع درويش باشا وتربته، والمدرسة السباهية «كافل سيباي»، وجامع العجمي، وتربة بهادر آص، والمدرسة الصابونية، وتربة الشيباني، وتربة الشيخ حسن، وجامع جوبان، وجامع صهيب، وجامع منجك، وجامع فلوس، وزاوية سعد الدين، والمدرسة الفونشلية، والمدرسة الرشيدية، وقد أحيطت المدينة القديمة منذ عهد قريب بشوارع جديدة إحاطة السوار بالمعصم؛ حتى يتجه العمران إليها وتخف وطأة الازدحام في شوارع المدينة الرئيسية.
لا يتأتى لمن يجول في المدينة القديمة أن يظفر بجميع محاسنها على وجه السرعة، اللهم إلا ما يشاهده من مساجد وخانقهات وحمَّامات وبيمارستانات عمرت في شوارع ضيقة وبين أبنية وضيعة، قد يستغرب المرء تشييدها بينها، ويدهش للبون الشاسع والتناقض الصريح بين مظهريهما، ولا يمكن أن يدرك سر وجودها في هذا الوسط الحقير بمظهره، ما لم يجتز هذه الجدران البسيطة ويطَّلع على ما وراءها ليرى دورًا شرقية كصور ألف ليلة وليلة، فيها باحات واسعة مرخمة بالمرمر تظللها الأشجار والرياحين، وإيوانات شارعة، وقاعات مزخرفة، وبرك ماء جارية تبهج الأبصار وتنعش النفوس، وعندئذٍ تتجلى له حقيقة دمشق وما كانت عليه من العظمة في العصور القديمة، ويدرك سبب شهرتها وافتتان الناس قديمًا بمحاسنها، وإكثار الشعراء من وصفها.
وعلى ذكر الشوارع لا بد من الإشارة إلى أن بعض أسواق المدينة لا تزال مغطاة غير مكشوفة على نحو ما كانت الشوارع في معظم بلاد الشرق قديمًا، ومن الشوارع المسقوفُ بجملون من حديد أو حجر أو خشب وطين، مثل سوق مدحت باشا، وسوق الذراع، وسوق الأورام، وسوق الحرير والقوافين والسكرية، وسوق القطن، ومصلبة باب السريجة وباب الجابية والسنانية.
وقد امتد البناء الجديد في غرب سفح جبل قاسيون حتى اتصل بمحلة الصالحية وحي الأكراد وساحة الشهداء، وتُقدَّر مساحة ما تجدد من المساكن في هذه المنطقة بثلث مساحة المدينة القديمة، ويربط الأحياءَ القديمة بالأحياء الجديدة خطُّ ترام طوله ٣٢٠٠ متر، يمر من جادة الصالحية حتى المهاجرين، ويتفرع عنه خط ثانٍ من الجسر متجهًا إلى حي الشيخ محيي الدين طوله ١٠٠٠ متر، ومصوَّر الأحياء الجديدة والصالحية يشبه طيارة مطاردة، جناحها الأيمن حي الأكراد والصالحية، وجناحها الأيسر حي المهاجرين، ومؤخرتها محلة عرنوس والشهداء، وهذه الأقسام خالية من كل أثر قديم، أما محلة الأكراد والصالحية فغنية بالأبنية الأثرية، وأشهرها المدرسة العمرية، والتربة الخانوتية، والبدرية، والمدرسة الأتابكية، والجامع المظفري، والمدرسة الجهاركسية، والركنية، والصاحبة، والبيمارستان القيمري، وتربة السيدة حفيظة، والخاتونية، والمدرسة المرشدية، والتربة القيمرية، والتكريتية، وجامع محيي الدين ابن عربي، ومعظم هذه الأبنية من العهد الأيوبي.
وأما أحدث الأبنية وأجمل القصور فتقوم غربي محلتي الشهداء وعرنوس، حيث تنشأ أحياء المدينة القديمة والحديثة عظيمة جدًّا من حيث طراز البناء والعادات، فبينما نرى المدينة القديمة لم تزل حريصة على تقاليدها الشرقية الإسلامية، نرى عكس ذلك في الأحياء الجديدة، حيث أصبح السفور ولبس القبعات وكشف الرأس ولبس «الشورت» وحفُّ الشاربين من الأمور المألوفة التي لا تُنْكَر.
إن الأقسام الجديدة هي مناطق سكن، ليس فيها سوى حوانيت بسيطة في جادة الصالحية، وقد اختار الأجانب هذه المنطقة لسكناهم، وفيها البرلمان السوري، والقصر الجمهوري، ودوائر السلطة الفرنسية، والقنصليات، والمعاهد الأجنبية.
وقد خطت دمشق منذ عشرين سنة خطوات سريعة في سبيل العمران، وأُنشِئت فيها أحياء حديثة وتجددت أخرى، مما يبشِّر المدينة بمستقبل زاهر، لا سيما بعد أن وُضِع لها مخطط رُوعِي فيه أحدث أساليب العمران، وقد أُنجِز أثناء هذه الحرب تنظيم مدخل دمشق، فصار يدخل إليها القادم من بيروت من شارع عريض طوله خمسة كيلومترات بين الحدائق والأشجار، ويطل منه على ملعب المدينة ودار الآثار والجامعة السورية ومدرسة التجهيز وتكيتي السلطانين سليم وسليمان، وهو أحد متنزهات المدينة التي تُغبط عليها، وقد دُعِي مؤخرًا شارع فاروق الأول.
وتمتاز دمشق عن غيرها من المدن بكثرة متنزهاتها، تحدق بها الأشجار من كل جهة، وحيث خرجت منها لا ترى إلا متنزهات، وأشهرها وادي الربوة ودمر والمزة وسهل القابون والغوطة، وأما ملاهي المدينة ودور السينما والفنادق فهي بجوار ساحة الشهداء حيث أكثر المصانع الرسمية، ولا يمضي على دمشق وقت طويل حتى تصبح في طليعة المدن الشرقية عمرانًا وتنسيقًا، وتستعيد مركزها القديم الزاهر تجمع بين القديم والحديث، فيجد فيها كل غاوٍ هواه بعون الله.
بعض الكتابات والنقوش الأثرية
يقول الأثري «فان برشم» إن في الجامع الأموي في دمشق نصوصًا عربية وكتابات عجيبة من عهد السلجوقيين كُتِبت بالقلم الكوفي، وسلسلة من أوامر سلاطين المماليك، وأبواب المدينة عبارة عن متحف لملوك الشام منذ عهد نور الدين والملك العادل إلى زمن الغوري، وفي وقفيات هذه المعاهد المزبورة على المساجد والمدارس والمستشفيات والأديار والقبور تفاصيل غريبة في إدارة هذه الأبنية وجغرافية ضاحية دمشق، وفي هذه المدينة يتيسر للناظر في بعض الكتابات الباقية من عهد نور الدين تعيين الزمن الصحيح الذي خلف فيه الخطُّ المدور الخطَّ الكوفي.
ولقد كشفت في الأعوام الأخيرة واجهة عظيمة من الحائط الغربي في الجامع الأموي معمولة بالفسيفساء، ويرد عهدها إلى أول بناء الجامع، كما كان عُثِر في قبة صحن هذا الجامع على رقوق من أهم ما ظفر به الباحثون، وكانت هذه القبة القائمة على سوارٍ عالية معلقة لم تُفتَح من قرون طويلة، ففُتِحت سنة ١٣١٧ﻫ بأمر السلطان عبد الحميد الثاني العثماني، وإجابة لمقترح الإمبراطور جليوم الثاني الألماني، فوقعوا فيها على قطع من الرقوق كُتِبت فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي، ومنها قطع من مصاحف وربعات ومقاطيع من الأشعار بالأرمية الفلسطينية، وكتابات وأدبيات دينية وقصص رهبانية، ومزامير عربية بالحرف اليوناني، ومقاطيع من شعر أوميروس، وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والأرمنية في موضوعات دينية، وجزازات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة وتقاويم أعياد السامريين، وصلوات وصكوك بيع وأوقاف وعقود زواج، بينها مقاطيع لاتينية وفرنسية قديمة، وقصائد يرتقي عهدها إلى أيام الحروب الصليبية ونسخ إنجيل برقوق.
فأهدى السلطان قسمًا منها إلى إمبراطور ألمانيا، والباقي ما زال مخبوءًا في مستودع وزارة الأوقاف في الآستانة، وأهدى بعض رجال السلطنة في دار الملك وفي عاصمة الأمويين بعض الرقوق من القرآن، منها مجموعة حُفظت في دار الآثار بدمشق بينها قطعة كوفية مكتوبة على رَقٍّ من ربعة شريفة، وقفها عبد المنعم بن أحمد سنة ٢٩٨، وعلى الوجه الثاني نقش مذهَّب باسم واقفها.
وبعدُ، فإن من ألقى نظرة عجل على بعض المساجد الأثرية يقرأ خطوطًا جميلة، ويسقط على نقوش بديعة من صنع أهل الفن من الدمشقيين، ففي جامع التيروزي والدرويشية والسنانية والمرادية وجامع أقوش النجيبي في السويقة نماذج من القاشاني البديع، وفي جامع التبان بالمناخلية عمودان من القاشاني على طول متر وله منبر مهم، وفي مدفن الصحابي بلال الحبشي تابوت صُنِع سنة ٦٢٥، وفيه قاشاني من صنع كوتاهية، وفي جامع تنكز قبران في حجرة واحدة، ولها محراب من الفسيفساء ونافذتان جميلتان، ويكثر القاشاني في الجوامع التي بُنِيت في عهد العثمانيين وفي بعض الدور القديمة التي يرد عهد بنائها إلى أكثر من قرنين، ولا تكاد قاعة قديمة في البيوت القديمة التي بناها أرباب اليسار تخلو من القاشاني البديع، وفي زقاق السقطى في الصالحية بيتان باسم وقف السقطي، تجد في الأول منهما ١٦ قطعة مربعة من القاشاني على صورة محراب كُتِبت عليه أسماء الخلفاء الراشدين، وفي الثانية قطعة مسدسة الشكل و٤ قطع مربعة، وفي جامع الشامية معرشات بديعية وخطوط، وتابوت السيدة سكينة في مقبرة الباب الصغير عُمِل سنة ٥٦٠، ونُقِش بخطوط كوفية داخل حروف ونقوش وحروف أخرى بالكوفية، وتابوت سيد صهيب في الميدان من توابيت القرن السادس، وتابوت بخت خاتون المعروفة بالسيدة حفيظة جميل بديع، وفي الصمادية في حي الشاغور عدة سقوف مهمة، وفي بعض الأحياء القديمة سقوف بديعة باعها أصحابها من عشاق الآثار، كما باعوهم الصناديق القديمة المكتبة، وأكثرها من خشب الجوز المتين، وفي المدرسة التكريتية أمام دار الأشرفية البرانية بالصالحية مقرنصات جميلة ذات تعاريش وكتابات.